حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٢

(عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٠) يتدبرون آيات الله (قُلِ) لكفار مكة (انْظُرُوا ما ذا) أي الذي (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) جمع نذير أي الرسل (عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١) في علم الله أي ما تنفعهم (فَهَلْ) فما (يَنْتَظِرُونَ) بتكذيبك (إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم أي مثل وقائعهم من العذاب (قُلْ فَانْتَظِرُوا) ذلك (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (١٠٢) (ثُمَّ نُنَجِّي) المضارع لحكاية الحال الماضية (رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) من العذاب (كَذلِكَ) الإنجاء (حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٣) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حين تعذيب المشركين (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) أنه حق (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره وهو الأصنام لشككم فيه (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) يقبض أرواحكم (وَأُمِرْتُ أَنْ) أي بأن (أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٤) (وَ) قيل لي (أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) مائلأ إليه (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ

____________________________________

أن تؤمن في حال من الأحوال ، إلا في حال إرادة الله الإيمان لها. قوله : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) معطوف على محذوف ، والتقدير فيريد الله الإيمان للبعض ويجعل الرجس ، إلخ. قوله : (قُلِ انْظُرُوا) بضم اللام وكسرها ، قراءتان سبعيتان ، فالضم على نقل ضمة الهمزة إلى اللام ، والكسر على أصل التخلص ، والمعنى تفكروا وتأملوا واتعظوا. قوله : (من الآيات) بيان لما. قوله : (وَما تُغْنِي الْآياتُ) أي المذكورة في قوله : (ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ففي الكلام إظهار في مقام الإضمار ، والمعنى لا تنفع الآيات والنذر قوما لا يؤمنون. قوله : (أي مثل وقائعهم من العذاب) أي وهو القتل بالسيف. قوله : (فَانْتَظِرُوا) (ذلك) أي مثل وقائع الأمم السابقة.

قوله : (ثُمَّ نُنَجِّي) بالتشديد باتفاق العشرة ، وثبوت الياء لفظا وخطا. قوله : (رُسُلَنا) أي على سبق على محمد. قوله : (كَذلِكَ) صفة لمصدر محذوف ، أي إنجاء مثل ذلك الإنجاء ، والعامل فيه (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) و (حَقًّا عَلَيْنا) جملة معترضة بين العامل والمعمول. قوله : (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) بالتخفيف والتشديد ، تحذف منه الياء لفظا وخطا. قوله : (حين تعذيب المشركين) أي في الدنيا والآخرة. قوله : (أي أهل مكة) أي الكفار المعارضون. قوله : (مِنْ دِينِي) أي الذي جئت به عن ربي قوله : (إنه حق) بدل من ديني ، والمعنى إن كنتم في شك من حقية ديني وصحته ، فلا أعبد الخ. قوله : (لشككم فيه) أي في دين الحق ، أي فالحامل لكم على عبادة غير الله ، شككم في حقيقة ديني ، وأما أنا فليس عندي شك في حقّيته فلذلك لا أعبد غير الله ، فكفرهم بالشك لأنه لا يا أتي منهم إنكار كون الله حقا ، ودين الإسلام حقا ، على سبيل الجزم بذلك ، لقيام الأدلة العقلية على ذلك. قوله : (الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) خص هذا الوصف بالذكر ، تهديدا وتخويفا لهم.

قوله : (أَنْ أَكُونَ) أن مصدرية مجرورة بالباء المقدرة كما قال المفسر ، أي بكوني من المؤمنين المصدقين بما جاء من عند الله ، لأنه مرسل لنفسه ، فهو واجب عليه الإيمان بما أرسل به. قوله : (أَنْ أَقِمْ) قدر المفسر القول إشارة إلى أن (أَنْ) وما دخلت عليه ، في محل نصب مقول لذلك القول. قوله : (مائلا إليه) أي مخلصا له العمل ظاهرا وباطنا ، فعلى المكلف أن يتخلق بخلق رسول الله ، بأن لا يميل

١٢١

الْمُشْرِكِينَ) (١٠٥) (وَلا تَدْعُ) تعبد (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ) إن عبدته (وَلا يَضُرُّكَ) إن لم تعبده (فَإِنْ فَعَلْتَ) ذلك فرضا (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ) (١٠٦) يصبك (اللهُ بِضُرٍّ) كفقر ومرض (فَلا كاشِفَ) رافع (لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ) دافع (لِفَضْلِهِ) الذي أرادك به (يُصِيبُ بِهِ) أي بالخير (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٠٧) (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لأن ثواب اهتدائه له (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) لأن وبال ضلاله عليها (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٨) فأجبركم على الهدى (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ) على الدعوة وأذاهم (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) فيهم بأمره (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩) أعدلهم وقد صبر حتى حكم على المشركين بالقتال وأهل الكتاب بالجزية.

____________________________________

لغير الله ظاهرا وباطنا ، يكون كله لله ، فلا يشرك معه غيره أصلا ، لا في الظاهر ، ولا في الباطن ، فكما أن الخالق لا شريك له فيما خلقه ، كذلك ينبغي للمخلوق أن لا يشرك في عبادته غيره.

قوله : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره. قوله : (فرضا) جواب عما يقال : إن عبادة النبي غير الله مستحيلة ، فكيف يخاطب بذلك ، أجاب المفسر : بأن ذلك على سبيل الفرض والتقدير وأجيب أيضا : بأن الخطاب له والمراد غيره. قوله : (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي لا دافع ولا مانع له ، إلا الله حقيقة ، فنسبة النفع أو الضر لغير الله ، باعتبار أن الله أجرى على أيديهم ذلك ، لا باعتبار أنهم الخالقون له ، فإن ذلك لهم من هذه الحيثية كفر.

قوله : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) عبر في جانب الخير بالإرادة دون المس ، إشارة إلى أن الخير ، لا يتوقف إتيانه على سبب وتهيىء من العبد ، بخلاف الضرر ، فلا بد من تقدم سببه ، قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ). قوله : (وَهُوَ الْغَفُورُ) أي الستار للذنوب الماحي لها. قوله : (الرَّحِيمُ) أي المنعم الغفور المنجي من النار ، بسبب محو الذنوب ، والرحيم المدخل للجنة بسبب الإنعام والإحسان. قوله : (الْحَقُ) أي القرآن ومن جاء به ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (لأن ثواب اهتدائه له) أي فلا يصل لله ممن كفر ضر ، ولا ممن آمن نفع ، تنزه سبحانه وتعالى عن أن يتكمل بمخلوق. قوله : (لأن وبال ضلاله عليها) أي عذاب ضلاله على نفسه ، فلا يشاركه أحد لا في هداية نفسه ، ولا في ضلاله ، بل كل امرىء بما كسب رهين. قوله : (بِوَكِيلٍ) أي بحفيظ موكول إلى أمركم ، وإنما أنا بشير. قوله : (فأجبركم على الهدى) أي أكرهكم عليه.

قوله : (ما يُوحى إِلَيْكَ) أي من القرآن. قوله : (على الدعوة) أي دعائك إياهم للإيمان. قوله : (وأذاهم) أي لك ، فكان رسول الله يسمع سبه بأذنه ولا يتكلم قوله : (أعدلهم) أي فلا يخطىء في حكمه أصلا ، وأما غيره فتارة يخطىء في حكمه ، وتارة يعدل ، فأفعاله سبحانه وتعالى دائرة بين الفضل والعدل ، فإثابته المؤمن بالفضل ، وتعذيبه العاصي بالعدل. قوله : (بالقتال) أي الجهاد ، وأشار المفسر بذلك إلى قول ابن عباس : إن هذه الآية منسوخة بآية القتال ، والله أعلم.

١٢٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة هود

مكيّة

إلا (أَقِمِ الصَّلاةَ) الآية. أو إلا (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ) الآية. و (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) الآية وهي مائة واثنتان أو ثلاث وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر) الله أعلم بمراده بذلك هذا (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) بعجيب النظم وبديع المعاني (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بينت بالأحكام والقصص والمواعظ (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة هود مكية

إلا (أَقِمِ الصَّلاةَ) الآية. أو إلا (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ) الآية. و (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) الآية.

وهي مائة واثنتان أو ثلاث وعشرون آية

بالصرف وتركه ، فإن لوحظ أنه اسم للسورة منع الصرف ، وإن لوحظ أن المراد السورة المذكورة فيها هود صرف ، ومثل ذلك يقال في سورة نوح ، لأن الأسماء مصروفة ، وسورة مبتدأ أخبر عنه بخبرين : قوله : (مكية) وقوله : (مائة). قوله : إلا (أَقِمِ الصَّلاةَ) التلاوة بالواو ، فالصواب أن يقول إلا وأقم الصلوة إلخ ، وهذا قول ابن عباس : وقوله : وإلا (فَلَعَلَّكَ) إلخ ، هو قول مقاتل ، فالحاصل أن المدني عند ابن عباس آية واحدة وهي وأقم الصلاة الآية ، وعند مقاتل آيتان. قوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) الآية. وقوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) الآية. قوله : (الله أعلم بمراده بذلك) تقدم أن هذا هو الأسلم في تفسير الحروف المقطعة.

قوله : (كِتابٌ) خبر المحذوف قدره المفسر بقوله : (هذا) يدل عليه قوله في آية أخرى (ذلِكَ الْكِتابُ) واسم الإشارة يصح عوده على ما ذكر في هذه السورة فقط ، أو على جميع القرآن ، وتقدم ذلك. قوله : (أُحْكِمَتْ) صفة لكتاب ، إما من الإحكام أي الإتقان ، ففعله متعد ، والمعنى أتقنت آياته لفظا ومعنى ، فلا يحيط بمعنى آيات القرآن غيره تعالى ، ولم يوجد تركيب بديع الصنع عديم النظير نظير القرآن ، أو الهمزة للنقل من حكم بضم الكاف ، بمعنى جعلت حكمية. قوله : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) يحتمل أن ثم لمجرد الإخبار ، والمعنى أخبرنا الله بأن القرآن محكم أحسن الإحكام ، مفصل أحسن التفصيل ، كما تقول : فلان

١٢٣

خَبِيرٍ) (١) أي الله (أن) أي بأن (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ) بالعذاب إن كفرتم (وَبَشِيرٌ) (٢) بالثواب إن آمنتم (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) من الشرك (ثُمَّ تُوبُوا) ارجعوا (إِلَيْهِ) بالطاعة (يُمَتِّعْكُمْ) في الدنيا (مَتاعاً حَسَناً) بطيب عيش وسعة رزق (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو الموت (وَيُؤْتِ) في الآخرة (كُلَّ ذِي فَضْلٍ) في العمل (فَضْلَهُ) جزاءه (وَإِنْ تَوَلَّوْا) فيه حذف إحدى التاءين أي تعرضوا (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (٣) هو يوم القيامة (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤) ومنه الثواب والعذاب. ونزل كما رواه البخاري عن ابن عباس فيمن كان يستحيي أن يتخلى أو يجامع فيفضي إلى السماء ، وقيل في المنافقين (أَلا إِنَّهُمْ

____________________________________

كريم الأصل ، ثم كريم الفعل ، ويحتمل أنها للترتيب الزماني بحسب النزول لأنها أحكمت أولا حين نزلت جملة واحدة ، ثم فصلت ثانيا ، بحسب الوقائع. قوله : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) صفة ثانية لكتاب ، وفيه طباق حسن ، لأن حكيم يناسب أحكمت ، وخبير يناسب فصلت ، ويصح أن يكون من باب التنازع ، أعمل الأول وهو أحكمت ، وأضمر في الثاني وحذف ، والأحسن الأول.

قوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا) الأحسن أن «أن» تفسيرية لوجود ضابطها ، وهو تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه ، وهو قوله : (ثُمَّ فُصِّلَتْ). قوله : (مِنْهُ) يصح عود الضمير على الله ، أو على الكتاب. قوله : (إن كفرتم) أي دمتم على الكفر. قوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا) عطف على قوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا) والسين والتاء للطلب ، والمعنى اسألوه الغفران لذنوبكم فيما مضى ، وقوله : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي في المستقبل ، لأن شرط التوبة الندم على ما فات ، والإقلاع في الحال ، والعزم على عدم العود في المستقبل ، فلا يقال : إن الاستغفار هو التوبة ، بل بينهما التغاير.

قوله : (يُمَتِّعْكُمْ) جواب الأمر. قوله : (بطيب عيش) أي في أمن وراحة ورضا ، فمن تاب في ذنوبه وأخلص عبادة ربه عاش في أمن وراحة ورضا ، وإن ضيقت عليه الدنيا ، فهي رفع درجات له ، بوجود رضا الله عليه ، ومن لم يتب وأصر على المعاصي والكفر ، عاش في خوف ونصب وسخط ، وإن وسعت عليه ملاذ الدنيا ، ألا لا خير في عيش بعده النار ، وحينئذ فلا ينافي هذا ، كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. قوله : (فيه حذف إحدى التاءين) أي والأصل تتولوا. قوله : (أي تعرضوا) أي عن الأوامر والنواهي ، وتدوموا على الكفر ، وجواب الشرط محذوف ، والتقدير فلا تلوموا إلا أنفسكم ، وقوله : (فَإِنِّي أَخافُ) إلخ تعليل للجواب المحذوف.

قوله : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أي فلا مفر لكم منه. قوله : (ومنه الثواب) أي من الشىء المقدور عليه. قوله : (فيمن كان يستحيي) أي من المسلمين. قوله : (أن يتخلى) أي يقضي حاجته من البول والغائط. قوله : (فيفضي) معطوف على (يتخلى) وتنزيل الآية على حكم هذا القول ، باعتبار تعليم التوحيد والمراقبة ، كأن الله يقول لهم : لا تظنوا أن تغطيتكم تحجبكم عن الله ، بل الله يعلم ما تسرون وما تعلنون ، فلا ينافي أن التغطية عند التخلي والجماع مندوبة ، وليس المراد ذمهم على هذا الفعل ، إذ هو مطلوب حياء من الله والجن والملائكة. قوله : (وقيل في المنافقين) قال ابن عباس : نزلت في الأخنس بن شريق في منافقي مكة ، وكان رجلا طلق الكلام ، حلو المنظر ، وكان يلقى رسول الله بما يحب ، وينطوي

١٢٤

يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي الله (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) يتغطون بها (يَعْلَمُ) تعالى (ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) فلا يغني استخفاؤهم (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٥) أي بما في القلوب (وَما مِنْ) زائدة (دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) هي ما دب عليها (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) تكفل به فضلا منه تعالى (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) مسكنها في الدنيا أو الصلب (وَمُسْتَوْدَعَها) بعد الموت أو الرحم (كُلٌ) مما ذكر (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦) بين هو اللوح المحفوظ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ

____________________________________

بقلبه على ما يكره ، وقيل : كان الرجل من الكفار ، يدخل بيته ، ويرخي ستره ، ويحني ظهره ، ويستغشي بثوبه ، ويقول الكفر ، ويظن أن الله لا يعلمه في تلك الحالة.

قوله : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) من الثني وهو طي الشيء ليكون مستورا ، فالمراد يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر ليكون مخفيا مستورا وأصله يثنيون ، نقلت ضمة الياء إلى ما قبلها ، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو ، وهذا المعنى على أن سبب النزول في المنافقين ، وأما على أنه فيمن يستحي ، حال قضاء الحاجة والجماع ، فالمراد بثني الصدر ، انحناؤه بظهره حال قضاء الحاجة ، وتغطيته بثوبه حين قضاء الحاجة والجماع ، فتأمل. قوله : (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) هذا هو علة ثني الصدر على ما فيه.

قوله : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي يأوون إلى فراشهم ويرتدون ثيابهم. قوله : (ما يُسِرُّونَ) أي في قلوبهم وقوله : (وَما يُعْلِنُونَ) أي بأفواههم. قوله : (أي بما في القلوب) أي فالمراد بالصدور والقلوب وما فيها هو الخواطر ، فأطلق المحل وأريد الحال فيه. قوله : (وما من دابة) النكرة في سياق النفي تعم ، فدخلت جميع الدواب عاقلة وغير عاقلة. قوله : (وهي ما دب عليها) أي مشى وسار. قوله : (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ليس المراد أن ذلك واجب عليه ، تنزه وسبحانه وتعالى ، بل المراد أنه التزم به وتكفل به التزاما لا يتخلف ، ففي الحقيقة على بمعنى من ، إنما التعبير بعلى ، ليزداد العبد ثقة بربه توكلا عليه ، وإن أخذ في الأسباب فلا يعتمد عليها ، بل يثق بالله ويعتمد عليه ، وليكن أخذه في الأسباب امتثالا لأمره تعالى ، لأن الله يكره العبد البطال ، وخص دواب الأرض بالذكر ، لأنهم المحتاجون للأرزاق ، وأما دواب السماء ، كالملائكة والحور العين ، فليسوا محتاجين لذلك ، بل قوتهم التسبيح والتهليل.

قوله : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) أتى بذلك دفعا لما يتوهم من كونه متكفلا لكل دابة في الأرض برزقها ، أنه ربما يخفى عليه بعض أماكن تلك الدواب ، فدفع ذلك التوهم بأنه يعلم مكان كل دابة ، فلا تخفى عليه خافية ، والمعنى أنه أحاط علمه بمكان كل دابة وزمانها. قوله : (بعد الموت) أي وهو القبر. قوله : (كُلٌ) (مما ذكر) أي من الدابة ورزقها ومستقرها ومستودعها ، فاللوح المحفوظ ، أحاط بجميع أرزاق الدواب وأمكنتها وأزمنتها وأحوالها ، وهذا من باهر قدرته تعالى ، لزيادة طمأنينة العبيد ، ومراجعة الملائكة الموكلين بالأرزاق ، لا خوفا من نسيانه ، إذ هو مستحيل عليه. قوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) هذا بيان لكونه قادرا على جميع الممكنات ، وما تقدم بيان لكونه عالما بالمعلومات كلها.

قوله : (وَالْأَرْضَ) أي وما فيها من الأقوات والحيوانات وغير ذلك ، والكلام على التوزيع ، إذ خلق السموات في يومين ، والأرض في يومين ، والأقوات في يومين ، كما يأتي في سورة فصلت. قوله :

١٢٥

فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها الأحد وآخرها الجمعة (وَكانَ عَرْشُهُ) قبل خلقهما (عَلَى الْماءِ) وهو على متن الريح (لِيَبْلُوَكُمْ) متعلق بخلق أي خلقهما وما فيهما منافع لكم ومصالح ليختبركم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي أطوع لله (وَلَئِنْ قُلْتَ) يا محمد لهم (إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ) ما (هذا) القرآن الناطق بالبعث والذي تقوله (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) بين ، وفي قراءة ساحر ، والمشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى) مجيء (أُمَّةٍ) أوقات (مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَ) استهزاء (ما يَحْبِسُهُ) ما يمنعه من النزول ، قال تعالى : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً) مدفوعا (عَنْهُمْ وَحاقَ) نزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨) من العذاب (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ)

____________________________________

(أولها الأحد) تقدم أن هذا مشكل ، لأنه لم يكن ثم زمان فضلا عن تفصيله أياما ، فضلا عن تخصيص كل يوم باسم ، وتقدم الجواب عنه ، بأن ذلك باعتبار ما تعلق به علمه سبحانه وتعالى ، لأن كل شيء كان أو يكون ، فهو في علمه على ما هو عليه ، فالمعنى أولها الأحد الذي علم الله أنه يكون.

قوله : (عَلَى الْماءِ) أي لم يكن بينهما حائل ، بل هو في مكانه الذي هو فيه الآن ، وهو ما فوق السماوات السبع ، والماء في المكان الذي هو فيه الآن ، وهو تحت الأرضين السبع ، وذلك أن أول ما خلق الله النور المحمدي ، ثم خلق منه العرش ، ونشأ الماء من عرق العرش ، فخلق الله منه الأرضين والسماوات فالأرضون من زبده ، والسماوات من دخانه. قوله : (ليختبركم) أي ليتميز المحسن من المسيء بتلك النعم ، فمن شكر فهو المحسن ، ومن كفر فهو المسيء ، والمعنى ليظهر بين الناس المطيع فيثيبه في الآخرة على طاعته ، والعاصي فيعاقبه في الآخرة على عصيانه. قوله : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) مبتدأ وخبر ، والجملة في محل نصب معمولة (لِيَبْلُوَكُمْ) علق عنها بالاستفهام. قوله : (وَلَئِنْ قُلْتَ) اللام موطئة لقسم محذوف ، وإن حرف شرط ، وقوله : (لَيَقُولَنَ) جواب القسم ، وحذف جواب الشرط لتأخره ، قال ابن مالك :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخرت فهو ملتزم

وكذا يقال فيما بعده. قوله : (إِلَّا سِحْرٌ) أي كالسحر ، فالكلام على التشبيه البليغ ، من حيث إنه كلام مزين الظاهر ، فاسد الباطن ، قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) أي الذي استعجلوه. قوله : (إِلى أُمَّةٍ) أي طائفة من الأزمنة. قوله : (معدودة) أي قليلة. قوله : (لَيَقُولُنَ) الفعل مرفوع بالنون المحذوفة لتوالي الأمثال ، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعله ، وأعرب مع وجود نون التأكيد ولم يبن ، لأن نون التوكيد تباشرة ، إذ الأصل ليقولونن حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال ، فالتقى ساكنان ، حذفت الواو لالتقائهما والمحذوف لعلة كالثابت ، وهذا بخلاف ليقولن المتقدم ، فإنه مبني لمباشرة النون في اللفظ والتقدير. قوله : (ما يَحْبِسُهُ) أي أي شيء يمنعه من النزول؟ وهذا الاستفهام على سبيل السخرية.

قوله : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ أَلا) أداة افتتاح ، داخلة على ليس في المعنى ، و (يَوْمَ) معمول لخبر ليس ، واسمها ضمير فيها يعود على العذاب ، وكذلك فاعل (يَأْتِيهِمْ) ضمير يعود على العذاب ،

١٢٦

الكافر (مِنَّا رَحْمَةً) غنى وصحة (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ) قنوط من رحمة الله (كَفُورٌ) (٩) شديد الكفر به (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ) فقر وشدة (مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ) المصائب (عَنِّي) ولم يتوقع زوالها ولا شكر عليها (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) بطر (فَخُورٌ) (١٠) على الناس بما أوتي (إِلَّا) لكن (الَّذِينَ صَبَرُوا) على الضراء (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في النعماء (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١١) هو الجنة (فَلَعَلَّكَ) يا محمد (تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) فلا تبلغهم إياه لتهاونهم به (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) بتلاوته عليهم لأجل (أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا) هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يصدقه كما اقترحنا (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) فلا عليك إلا البلاغ لا الإتيان بما اقترحوه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١٢) حفيظ فيجازيهم (أَمْ) بل أ(يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي

____________________________________

والتقدير ألا ليس هو أي العذاب ، مصروفا عنهم يوم يأتيهم العذاب ، ففي هذه الآية تقدم معمول خبر ليس عليها. قوله : (من العذاب) بيان لما.

قوله : (ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) أي أخذناه قهرا. قوله : (قنوط) أي لقلة صبره وعدم رجائه في ربه. قوله : (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) أي على حسب عادة الدهر ، ولا ينظر لفضل الله في ذلك ، فهو مغضوب عليه على كل حال. قوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) مستثنى من قوله : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) إلخ ، وقد أشار المفسر ، إلى أن هذا الاستثناء منقطع ، حيث عبر بلكن ، ويصح أن يكون متصلا ، باعتبار أن المراد بالإنسان الجنس لا واحد بعينه. قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي لذنوبهم. قوله : (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي عظيم مدخولهم في الآخرة.

قوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ) لعل تأتي للترجي في الأمر المحبوب ، كما تقول : لعل الحبيب قادم ، وتأتي للتوقع في الأمر المكروه ، كما تقول : لعل العدو قادم ، والآية من هذا الثاني ، غير أن التوقع ليس على بابه ، إذ مستحيل على رسول الله كتم بعض ما أمر بتبليغه والعزم على ذلك ، بل المقصود منه الاستفهام الإنكاري ، والتحضيض على التبليغ ، مع عدم المبالاة بمن عاداه ، كأن الله يقول لنبيه : بلغ ما أمرت به ، ولو كره المشركون ذلك ، ولا تترك التبليغ محافظة على عدم استهزائهم ، وذلك أن رسول الله ، كان إذا قرأ آية فيها سب المشركين وآلهتهم ، نفروا وقالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، ونحن نتبعك ، فرد الله عليهم ذلك ، حيث حضه على التبليغ ، ونهاه عن الكتم. قوله : (بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) أي وهو ما فيه سب آلهتهم.

قوله : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي لا يكن منك ضيق صدر ، بسبب استهزاء الكفار بك ، فإن الله حافظك وناصرك عليهم وخاذلهم. قوله : (أَنْ يَقُولُوا) أي فقد قالوا : إن كنت صادقا في الرسالة من عند الله الذي تصفه بالقدرة التامة ، وأنك حبيبه وعزيز عنده ، مع أنك فقير ، فهلا أنزل عليك ما تستغني به أنت وأصحابك؟ وهلا أنزل. عليك ملك يشهد لك بالرسالة؟ قوله : (كَنْزٌ) أي مال كثير ، وسمي بذلك لأن شأنه أن يكنز. قوله : (فلا عليك إلا البلاغ) أي فلا تبال بقولهم ، ولا تغنم منهم. قوله : (حفيظ) أي فيحفظك ويجازيهم.

١٢٧

القرآن (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) في الفصاحة والبلاغة (مُفْتَرَياتٍ) فإنكم عربيون فصحاء مثلي. تحداهم بها أولا ، ثم بسورة (وَادْعُوا) للمعاونة على ذلك (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣) في أنه افتراء (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) أي من دعوتموهم للمعاونة (فَاعْلَمُوا) خطاب للمشركين (أَنَّما أُنْزِلَ) ملتبسا (بِعِلْمِ اللهِ) وليس افتراء عليه (وَأَنْ) مخففة أي أنه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤) بعد هذه الحجة القاطعة

____________________________________

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ أَمْ) منقطعة بمعنى بل والهمزة ، والإضراب انتقالي ، والهمزة للتوبيخ والإنكار والتعجب. قوله : (افْتَراهُ) أي اختلقه من عند نفسه. قوله : (قُلْ فَأْتُوا) إلخ رد لما قالوه ، والمعنى أنكم عربيون مثلي ، فائتوا بكلام مثل هذا الكلام الذي جئت به ، فإنكم تقدرون على ذلك ، بل أنتم أقدر مني ، لممارستكم الأشعار والوقائع. قوله : (مِثْلِهِ) نعت لسور ، وإن كان بلفظ الإفراد ، فإنه يوصف به : المثنى والجمع والمذكر والمؤنث. قوله : (تحداهم بها أولا) أي بعد أن تحداهم بجميع القرآن كما في سورة الإسراء ، قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) الآية ، ثم تحداهم بعشر سور كما هنا ، ثم بسورة كما في البقرة ويونس فالإسراء قبل هود نزولا ثم هود ثم يونس ثم البقرة. قوله : (على) أي الإتيان. قوله : (أي غيره) أي من الأصنام أو من جميع المخلوقات.

قوله : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) أي أيها المشركون ، وقوله : (أي من دعوتموهم) تفسير للواو في (يَسْتَجِيبُوا). قوله : (بِعِلْمِ اللهِ) أي فكما أن علمه لا يشابهه علم ، كذلك كلامه لا يشابه كلام ، لأن الكلام على حسب علم المتكلم ، فكلما كان المتكلم متسع العلم ، كان كلامه فصيحا بليغا ، ولا أوسع من علم الله ، لأنه أحاط بكل شيء علما. قوله : (مخففة) أي واسمها ضمير الشأن. قوله : (أي اسلموا) أي فهو استفهام فيه معنى الطلب ، لزوال العذر المانع من ذلك.

قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا) اختلف في سبب نزولها ، فقيل في اليهود والنصارى ، وقيل في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع رسول الله الغنائم ، لأنهم كانوا لا يرجون ثواب الآخرة ، وقيل في المرائين ، والحمل على العموم أولى ، فيندرج فيه الكافر والمنافق والمؤمن ، الذي يأتي بالطاعات على وجه الرياء والسمعة. قوله : (وَزِينَتَها) أي ما يتزين به فيها ، من الصحة والأمن والسعة والرياسة ، وغير ذلك. قوله : (بأن أصروا على الشرك) هذا شامل للقولين المتقدمين. قوله : (وقيل هي في المرائين) أي ومعنى قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) أي ابتداء ، ثم بعد استيفاء ما عليه يخرج منها ، ويدل على أن له هذا الوعيد الشديد ما روي ، يقول الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه ، وهذا القول اختاره البيضاوي لحديث : «يقال لأهل الرياء : حججتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال ذلك ، فقد قيل ذلك ، ثم قال : إن هؤلاء أول من تسعر بهم النار» رواه أبو هريرة ثم بكى بكاء شديدا ، ثم قال : صدق رسول الله (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا) إلخ.

١٢٨

أسلموا (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) بأن أصر على الشرك ، وقيل هي في المرائين (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) أي جزاء ما عملوه من خير كصدقة وصلة رحم (فِيها) بأن نوسع عليهم رزقهم (وَهُمْ فِيها) أي الدنيا (لا يُبْخَسُونَ) (١٥) ينقصون شيئا (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ) بطل (ما صَنَعُوا) ه (فِيها) أي الآخرة فلا ثواب له (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦) (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ) بيان (مِنْ رَبِّهِ) وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو المؤمنون وهي القرآن (وَيَتْلُوهُ) يتبعه (شاهِدٌ) له يصدقه (مِنْهُ) أي من الله وهو جبريل (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي القرآن (كِتابُ مُوسى) التوراة شاهد له أيضا (إِماماً وَرَحْمَةً) حال كمن ليس كذلك لا (أُولئِكَ) أي

____________________________________

قوله : (نُوَفِ) بالنون مبنيا للفاعل وفيه ضمير يعود على الله ، وبالياء مبنيا للمفعول و (أَعْمالَهُمْ) بالرفع نائب فاعل ، والفاء مشددة على كل حال قراءتان : الأولى سبعية ، والثانية شاذة. قوله : (أي جزاء ما عملوه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله : (بأن نوسع عليهم رزقهم) أي فهذا جزاء أعمالهم الحسنة في الدنيا ، وأما في الآخرة فليس لهم في نظير ذلك شيء ، قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) فجزاء الآخرة بالجنة ونعيمها مخصوص بالمؤمن. قوله : (فلا ثواب له) أي لأنهم استوفوا في الدنيا جزاء أعمالهم الحسنة ، فليس لهم في الآخرة إلا العذاب ، قال تعالى (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ). قوله : (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي في الدنيا من الخيرات.

قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) لما تقدم ذكر أوصاف أهل الدنيا الغافلين عن الآخرة وعاقبة أمرهم ذكر أوصاف أهل الآخرة ، الذين يريدون بأعمالهم وجه ربهم ، واسم الموصول مبتدأ خبره محذوف ، قدره المفسر فيما يأتي بقوله : (كمن ليس كذلك) وجواب الاستفهام محذوف قدره بقوله : (لا) وقد صرح بهذين المحذوفين في قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ). قوله : (بيان) أي نور واضح ودليل ظاهر ، وذلك نظير قوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ). قوله : (وهو النبي) أي وعليه فالجمع للتعظيم في قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ، وقوله : (أو المؤمنون) والجمع فيها ظاهر ، وفي نسخة والمؤمنون ، وهي ظاهرة. قوله : (وهو القرآن) تفسير للبينة ، وقد أخذ هذا التفسير مما يأتي في سورة البينة في قوله تعالى : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ).

قوله : (وَيَتْلُوهُ) الضمير عائد على من. قوله : (وهو جبريل) تفسير للشاهد ، والمعنى من كان متمسكا بالحق ، والحال أنه يتبعه شاهد من الله يصدقه على ذلك وهو جبريل ، لأنه مقوي ومصدق للرسول ، ويصح أن يكون المراد بالشاهد معجزات القرآن ، والضمير في (مِنْهُ) إما عائد على الله أو على القرآن ، والمعنى على هذا ، ويتبعه شاهد يشهد بكونه من عند الله وهو الإعجاز في نظمه واشتماله على عجائب المغيبات في معناه ، فلا يستطيع أحد أن يأتي بمثله ، كلا أو بعضا ويصح أن يراد بالشاهد ، المعجزات الظاهرة على يد رسول الله مطلقا.

قوله : (وَمِنْ قَبْلِهِ) الجار والمجرور حال من كتاب موسى ، الواقع معطوفا على شاهد. قوله : (شاهد له أيضا) الأوضح أن يقول يتلوه أيضا ، إذ هو المسلط عليه. قوله : (إِماماً) أي مقتدى به. قوله :

١٢٩

من كان على بينة من ربه (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي القرآن فلهم الجنة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ) جميع الكفار (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) شك (مِنْهُ) من القرآن (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أي أهل مكة (لا يُؤْمِنُونَ) (١٧) (وَمَنْ) أي لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك والولد إليه (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) يوم القيامة في جملة الخلق (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) جمع شاهد وهم الملائكة يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الكفار بالتكذيب (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٨) المشركين (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دين الإسلام (وَيَبْغُونَها) يطلبون السبيل (عِوَجاً) معوجة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ) تأكيد (كافِرُونَ) (١٩) (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ) الله (فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (مِنْ أَوْلِياءَ) أنصار يمنعونهم من عذابه (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) بإضلالهم غيرهم (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) للحق (وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (٢٠) أي لفرط

____________________________________

(وَرَحْمَةً) أي إحسانا ولطفا لمن أنزل إليهم. قوله : (أي من كان على بينة من ربه) أشار بذلك إلى أن اسم الإشارة عائد على قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ).

قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) اسم الموصول راجع لقوله : (كمن ليس كذلك) فهو لف ونشر مرتب. قوله : (فَلا تَكُ) أصله تكون ، دخل الجازم فسكنت النون فالتقى ساكنان ، حذفت الواو لالتقائهما ، وحذفت النون تخفيفا. قوله : (فِي مِرْيَةٍ) بكسر الميم باتفاق السبعة ، وقرىء شذوذا بضمها وهي لغة قليلة ، وهو خطاب للنبي والمراد غيره. قوله : (إِنَّهُ الْحَقُ) أي الثابت والذي لا محيص عنه. قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) يفيد أن الأقل مؤمن ، وهو كذلك في كل زمن إلى يوم القيامة ، وإنما خص المفسر أهل مكة ، لكون أصل الخطاب لهم. قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، وهذا شروع في ذكر أوصافهم ، وقد ذكر منها هنا أربعة عشر وصفا أولها قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ) وآخرها قوله : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ).

قوله : (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) أي عرض فضيحة وهتك ستر. قوله : (وهم الملائكة) أي والنبيون والأصفياء. قوله : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ) هذا من كلام الله تعالى بقوله لهم يوم القيامة ، فيطردون بذلك عن الرحمة الصالحة في الآخرة ، وليس المراد أنهم يطردون عن رحمة الدنيا. قوله : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يمنعون الناس عن الدخول في دين الإسلام ، والمعنى أنهم كما ضلوا في أنفسهم ، يضلون غيرهم. قوله : (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ينسبونها للاعوجاج ، والحال أنه قائم بقلوبهم.

قوله : (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ) أي فارين من عذاب الله ، لأن الله وإن أمهلهم لا يهملهم. قوله : (مِنْ أَوْلِياءَ) من زائدة في اسم كان ، والمعنى ليس لهم أنصار من غير الله ، يمنعون عذاب الله عنهم. قوله : (بإضلالهم غيرهم) أشار بذلك إلى جواب سؤال ، وأراد على الآية. وحاصله ، أن المضاعفة مخصوصة بالحسنات ، وأما السيئات فلا تضاعف. قال تعالى : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) فأجاب المفسر : بأن معنى المضاعفة الشدة ، لأنهم يعذبون عذابين ، عذابا على ضلالهم في أنفسهم ، وعذابا في إضلالهم غيرهم. قوله : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) أي لم يقبلوه لوجود الحجاب على

١٣٠

كراهتهم له كأنهم لم يستطيعوا ذلك (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم (وَضَلَ) غاب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢١) على الله من دعوى الشريك (لا جَرَمَ) حقا (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٢٢) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا) سكنوا واطمأنوا أو أنابوا (إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٣) (مَثَلُ) صفة (الْفَرِيقَيْنِ) الكفار والمؤمنون (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) هذا مثل الكافر (وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ) هذا مثل المؤمن (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) لا (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٤) فيه إدغام التاء في الأصل في الذال تتعظون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا

____________________________________

قلوبهم. قوله : (ما كانُوا يُبْصِرُونَ) أي لم يقدروا على ذلك.

قوله : (أُولئِكَ) أي الذين لا يستطيعون السمع ولا الإبصار. قوله : (من دعوى الشريك) بيان لما. قوله : (لا جَرَمَ) اختلف العلماء في معنى لا جرم ، على ثلاثة أوجه ، أولها : أن لا نافية لأماني الكفار ، وجرم فعل ماض بمعنى حق وثبت ، وقوله : (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) الجملة في محل رفع فاعل بجرم ، ويصير المعنى لا عبرة بأمانيهم بل حق ، وثبت خسرانهم في الآخرة ، وهذا الوجه أحسنها. ثانيها : أن لا كذلك ، وجرم بمعنى كسب ، وأن وما دخلت عليه ، في تأويل مصدر مفعوله ، والفاعل ما دل عليه السياق ، والمعنى ما كسب لهم كفرهم وأمنياتهم إلا خسرانهم في الآخرة. ثالثها : أن لا جرم بمعنى لا بد ، أي لا بد أنهم في الآخرة هم الأخسرون ، فلا نافية للجنس وجرم اسمها مبني معها على الفتح ، وجملة أنهم في محل رفع خبرها إذا علمت ذلك ، فقول المفسر حقا لم يوافق واحدا من هذه الثلاثة ، إلا أن يقال إنه مر على الأول ، ويكون حقا مفعولا مطلقا لفعل محذوف ، والتقدير حق حقا ، وقد وردت هذه اللفظة في القرآن في خمسة مواضع ، ويقال في كل واحد منها ما قيل هنا.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) لما ذكر الله أحوال الكفار ، وما آل إليه أمرهم ، أتبعهم بذكر المؤمنين ، وما آل إليه أمرهم. قوله : (وَأَخْبَتُوا) من الإخبات وهو الخشوع والخضوع ، ويتعدى باللام وإلى ، فإن عدى باللام ، فمعناه خشع وخضع ، وإن عدى بإلى ، فمعناه اطمأن وسكن ، وقد اقتصر المفسر على هذا الثاني. قوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) التعبير بأصحاب ، إشارة إلى أن أهل الجنة ، مالكون لمنازلها ملكا لا يحول ولا يزول. قوله : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) لما ذكر أحوال الكفار ، وما هم عليه من الصمم والعمى عن اتباع الحق ، وذكر أحوال المؤمنين ، وما هم عليه من التبصر وسماع الحق واتباعه ، أتبع ذلك بذكر مثل لكل فريق.

قوله : (كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) هذا كناية عن كون الله سلبهم الانتفاع بالحق لسبق شقاوتهم في علم الله ، والمراد من الأعمى والأصم ذات واحدة اتصفت بهذين الوصفين ، فإنه هو الذي لا يقبل الهدى لمقصوده بأي وجه كان ، ومثل ذلك يقال في نظيره ، وهو البصير والسميع. قوله : (مَثَلاً) تمييز محول عن الفاعل ، والأصل هل يستوي مثلهما. قوله : (لا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير : أعميتم وتركتم الهدى فلا تذكرون ، فهو خطاب للمشركين الذين كانوا في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (فيه إدغام التاء) إلخ ، أي والأصل تتذكرون ، أبدلت التاء الثانية ذالا ، وأدغمت في الذال ، وفي قراءة سبعية بحذف إحدى التاءين تخفيفا.

١٣١

نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي) أي بأني وفي قراءة بالكسر على حذف القول (لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢٥) بين الإنذار (أَنْ) أي بأن (لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن عبدتم غيره (عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٢٦) مؤلم في الدنيا والآخرة (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) وهم الأشراف (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) ولا فضل لك علينا (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) أسافلنا كالحاكة والأساكفة (بادِيَ الرَّأْيِ) بالهمز وتركه أي ابتداء من غير تفكر فيك ونصبه على الظرف أي وقت حدوث أول رأيهم (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) فتستحقون به الاتباع منا (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) (٢٧) في دعوى الرسالة ، أدرجوا قومه معه في الخطاب (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني

____________________________________

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) جرت عادة الله في كتابه العزيز ، أنه إذا أقام الحجج على الكفار ، ووبخهم وضرب لهم الأمثال ، يذكر لهم بعض قصص الأنبياء المتقدمين وأممهم ، لعلهم يهتدون ، وفي هذه السورة سبع قصص ، الأولى : قصة نوح مع قومه ، الثانية : قصة هود مع قومه. الثالثة : قصة صالح مع قومه. الرابعة : قصة إبراهيم مع الملائكة. الخامسة : قصة لوط مع قومه. السادسة : قصة شعيب مع قومه. السابعة : قصة موسى مع فرعون. وذكر هذه القصص على حسب الترتيب الزماني ، وتقدم أن نوحا اسمه عبد الغفار ، ونوح لقبه ، سمي بذلك لكثرة نوحه ، لما ورد أنه رأى كلبا مجذوما فقال له : إخسأ يا قبيح ، فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب ، فكان ذلك عتابا له ، فاستمر ينوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه ، فسمي بذلك. قوله : (أي بأني) أشار بذلك إلى أن قراءة الفتح ، على إضمار حرف الجر. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (على حذف القول) أي ومتى وقعت إن بعد القول كسرت. قوله : (مُبِينٌ) أي بيّن الإنذار وواضحه.

قوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) هذا في قول التعليل لقوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ). قوله : (أَلِيمٍ) صفة لليوم ، وأسنده له مبالغة على سبيل المجاز العقلي ، وحق الإسناد للعذاب. قوله : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) أعلم أنهم احتجوا عليه بثلاث حجج ، أولها قوله : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) وآخرها قوله : (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) وقد أجابهم عنها إجمالا بقوله : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) إلخ. وتفصيلا بقوله : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) الخ. قوله : (إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) أي آدميا مثلنا. قوله : (ولا فضل لك علينا) أي لا مزية لك علينا ، وهذا من فرط جهلهم ، استبعدوا فضل الله على البشر ، وظنوا أن الرسل لا يكونون إلا من الملائكة.

قوله : (أَراذِلُنا) إما جمع الجمع فهو جمع أرذل بضم الذال جمع رذل بسكونها ، ككلب وأكلب وأكالب ، أو جمع المفرد وهو أرذل ، كأكبر وأكابر وأبطح وأباطح. قوله : (كالحاكة) جمع حائك وهو القزاز. قوله : (والأساكفة) جمع إسكاف وهو صانع النعال ، وهذه عادة الله في الأنبياء والأولياء ، أن أول من يتبعهم ضعفاء الناس لذلهم ، فلا يتكبرن عن الإتباع. قوله : (بالهمز وتركه) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (من غير تفكر فيك) أي ولو تفكروا لما اتبعوك. قوله : (مِنْ فَضْلٍ) أي مزية من مال وغيره. قوله : (في الخطاب) أي في قوله : وما نرى لكم بل نظنكم.

قوله : (قالَ يا قَوْمِ) هذا خطاب في غاية التلطف بهم. قوله : (بيان) أي حجة وبرهان. قوله :

١٣٢

(إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) بيان (مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً) نبوة (مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ) خفيت (عَلَيْكُمْ) وفي قراءة بتشديد الميم والبناء للمفعول (أَنُلْزِمُكُمُوها) أنجبركم على قبولها (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (٢٨) لا نقدر على ذلك (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على تبليغ الرسالة (مالاً) تعطونيه (إِنْ) ما (أَجرِيَ) ثوابي (إِلَّا عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) كما أمرتموني (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) بالبعث فيجازيهم ويأخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) (٢٩) عاقبة أمركم (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي) يمنعني (مِنَ اللهِ) أي عذابه (إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أي لا ناصر لي (أَفَلا) فهلا (تَذَكَّرُونَ) (٣٠) بإدغام التاء الثانية في الأصل في الذال تتعظون (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا) إني (أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) بل أنا بشر مثلكم (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي) تحتقر (أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) قلوبهم (إِنِّي إِذاً) إن قلت ذلك (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٣١) (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) خاصمتنا (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) به من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣٢) فيه (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ)

____________________________________

(فَعُمِّيَتْ) أي النبوة أي خفيت عليكم. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (والبناء للمفعول) أي والأصل أعماها الله عليكم أي أخفاها ، فأطلق العمى وأريد لازمه وهو الخفاء ، لأن الأعمى عليه الأشياء ، فلا يهتدي ولا يهدي غيره ، قوله : (أنجبركم على قبولها) أي لا قدرة لنا على إلزامكم إياها ، والحال أنكم كارهون لها ، بل الإيمان إنما هو بالرضا والتسليم الباطني ، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة من ربي وأعطاني نبوة من عنده ، فأخفاها عليكم ، أأجبركم على قبولها والإيمان بها ، والحال أنكم كارهون منكرون لها ، لا أستطيع ذلك ، بل لا قدرة لي إلا على البلاغ.

قوله : (إِلَّا عَلَى اللهِ) أي فهو المتكفل لي بالثواب والعطايا. قوله : (كما أمرتموني) أي فقد قالوا لي : امنع واطرد هؤلاء الأسافلة عنك ونحن نتبعك ، فإنا نستحي أن نجلس معهم في مجلسك ، وهذا كما قالت قريش لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في سورة الأنعام ، فنزل ردا عليهم (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الآية. قوله : (فيجازيهم) أي على ما قدموا من الأعمال الصالحة. قوله : (تَجْهَلُونَ) أي لا تحسنون خطابا. قوله : (أي لا ناصر لي) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري. قوله : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير أتأمروني بطردهم أفلا تذكرون.

قوله : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) هذا رد لقولهم : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) والمراد بخزائن الله ، مغيباته التي لا يعلمها ولا يطلع عليها إلا هو. قوله : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) رد لقولهم : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ) إلخ ، والمعنى ما قلت لكم إني أعلم الغيب فأطلع على بواطنكم. قوله : (لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) رد لقولهم : (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا). قوله : (تَزْدَرِي) أصله تزتري فقلبت تاء الافتعال دالا.

قوله : (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) أي توفيقا وهدى. قوله : (اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) أي من إيمان وكفر. قوله : (قَدْ جادَلْتَنا) أي شرعت في جدالنا. قوله : (به) قدره إشارة إلى أن عائد الموصول محذوف ، ويصح أن تكون ما مصدرية ، والمعنى بوعدك إيانا. قوله : (فيه) أي في الوعد. قوله : (تعجيله) إشارة

١٣٣

تعجيله لكم فإن أمره إليه لا إليّ (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٣٣) بفائتين الله لا (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي إغواءكم وجواب الشرط دل عليه ولا ينفعكم نصحي (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٤) قال تعالى : (أَمْ) بل أ(يَقُولُونَ) أي كفار مكة (افْتَراهُ) اختلق محمد القرآن (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) إثمي أي عقوبته (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) (٣٥) من إجرامكم في نسبة الافتراء إليّ (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ) تحزن (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦) من الشرك فدعا عليهم بقوله رب لا تذر على الأرض ، الخ فأجاب الله دعاه وقال (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) السفينة (بِأَعْيُنِنا) بمرأى منا وحفظنا

____________________________________

بذلك إلى أن مفعول شاء محذوف. قوله : (بفائتين الله) أي بفارين من عذابه. قوله : (وجواب الشرط) أي الأول ، وهذا مرور على مذهب البصريين القائلين : إن جواب الشرط لا يتقدم عليه ، وجوزه الكوفيون ، وحينئذ يكون تقدير الكلام : إن كان الله يريد أن يغويكم ، فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي ، وذلك لأن القاعدة إذا اجتمع في الكلام شرطان ، وجواب يجعل الجواب للثاني ، والشرط الثاني وجوابه ، جوابا عن الأول. قوله : (أي كفار مكة) هذا أحد قولين ، والثاني وعليه أكثر المفسرين ، أن هذه الآية من جملة قصة نوح. ويكون الضمير في (افْتَراهُ) عائدا على الوحي الذي جاءهم به نوح. قوله : (أي عقوبته) أشار بذلك إلى الكلام على حذف مضاف.

قوله : (وَأُوحِيَ) الجمهور على أنه مبني للمفعول ، وأنه بالفتح في تأويل مصدر نائب فاعل ، وقرىء شذوذا بالبناء للفاعل ، وأنه بالكسر ، إما على إضمار القول : أي أوحى الله إلى نوح قائلا له إنه إلخ ، أو بتضمين الإيحاء معنى القول. قوله : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) أي لن يستمر على الإيمان إلا من ثبت إيمانه وحصل ، فاندفع ما يقال إن فيه تحصيل الحاصل. قوله : (فدعاهم) عليهم أي بعد اليأس من إيمانهم ، وحصول غاية المشقة له منهم ، فكانوا يضربونه حتى يسقط ، فيلقونه في اللبد ويلقونه في بيت يظنون موته ، فيخرج في اليوم الثاني ، ويدعوهم إلى الله تعالى ، وكانوا يخنقونه حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، وكان الوالد منهم يوصي أولاده بعدم اتباعه ويقول : قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا ، فلا يقبلون منه شيئا. فلما أوحي إليه بعدم إيمانهم دعا عليهم كما قال المفسر.

قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) يطلق مفردا وجمعا ، والمراد هنا المفرد ، ، وكان طولها ثمانين ذراعا ، وعرضها خمسين ، وطولها لجهة العلو ثلاثين ذراعا والذراع إلى المنكب ، وهذا أشهر الروايات ، وقيل كان طولها ألفا ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وقيل غير ذلك ، جعلها ثلاث طبقات ، فالسفلى للوحوش والسباع والهوام ، وفي الوسطى الدواب والأنعام ، وركب هو ومن معه في العليا ، وقيل السفلى للدواب والوحوش ، والوسطى للإنس والعليا للطير ، وأول ما حمله نوح الدرة ، وآخر ما حمل الحمار ، فلما أراد أن يدخل الحمار ، أدخل صدره فتعلق إبليس بذنبه ، فاستثقل رجلاه ، وجعل نوح يقول : ويحك ادخل ، فينهض فلا يستطيع حتى قال له : ادخل ولو كان الشيطان معك فدخل ، فقال له نوح : ما أدخلك علي يا عدو الله؟ قال : ألم تقل أدخل وإن كان الشيطان معك؟ قال : اخرج عني يا عدو الله ، قال : لا بد أن

١٣٤

(وَوَحْيِنا) أمرنا (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) كفروا بترك إهلاكهم (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (٣٧) (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) حكاية حال ماضية (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ) جماعة (مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) استهزؤوا به (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) (٣٨) إذا نجونا وغرقتم (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ) موصولة مفعول العلم (يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُ) ينزل (عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٩) دائم (حَتَّى) غاية للصنع (إِذا جاءَ أَمْرُنا) باهلاكهم (وَفارَ التَّنُّورُ) للخباز بالماء وكان ذلك علامة لنوح (قُلْنَا احْمِلْ فِيها) في السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) أي ذكر وأنثى أي من كل أنواعهما (اثْنَيْنِ) ذكر وأنثى وهو مفعول وفي القصة أن الله حشر لنوح السباع والطير وغيرهما فجعل يضرب بيديه في كل نوع فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملها في

____________________________________

تحملني معك ، هكذا قيل ، وقيل إنه لم يحمله معه في السفينة وهو الصحيح ، لأنه لم يثبت في حمله خبر صحيح ، ومكث في صنع السفينة مائتي سنة ، مائة في غرس الأشجار ، ومائة في عملها وهي من خشب الساج. قوله : (بمرأى منا وحفظنا) دفع بذلك ما يقال إن ظاهره مستحيل لاستحالة الأعين ، بمعنى الجارحة المعلومة على الله. فأجيب : بأن أطلق الملزوم وأراد اللازم ، لأنه يلزم من كون الشيء بالأعين ، أنه مبالغ في حفظه.

قوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لا تراجعني في شأنهم ، فإن الهلاك لا بد لهم منه ، قوله : (حكاية حال ماضية) أي فالمضارع بمعنى الماضي. قوله : (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ) الجملة حالية ، والتقدير يصنع الفلك ، والحال أنه كلما مر الخ استهزؤوا به ، أي فقالوا صرت نجارا بعد أن كنت نبيا ، وكان يعمل السفينة في برية لا ماء فيها ، واستهزاؤهم إما لكونهم لا يعرفون السفينة ولا الانتفاع بها ، أو لكونهم يعرفونها ، غير أنهم تعجبوا من صنعه لها في أرض لا ماء بها. قوله : (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) أي أنتم محل السخرية والاستهزاء ، لأن من كان على أمر باطل فهو أحق بالاستهزاء والسخرية ، ولا حاجة لكون الكلام من باب المشاكلة. قوله : (موصولة) أي وعلم عرفانية تنصب مفعولا واحدا ، ويصح أن تكون استفهامية ، وعلم على بابها من كونها متعدية لاثنين ، ويكون الثاني محذوفا. قوله : (عَذابٌ) أي وهو الغرق. قوله : (غاية للصنع) أي في قوله ويصنع الفلك.

قوله : (وَفارَ التَّنُّورُ) وكان من حجارة ورثه من أمه حواء ، والأشهر أنه كان بالكوفة ، على يمين الداخل مما يلي باب كندة ، والتنور مما اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون. قوله : (للخباز) أي وهي امرأة نوح ، وكان فورانه وقت طلوع الفجر. قوله : (وكان ذلك) أي فوران التنور وغليانه. قوله : (علامة لنوح) أي على الطوفان ، وكان في ثالث وعشرين من أبيب في شدة القيظ. قوله : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) المراد بالزوجين كل اثنين ، لا يستغني أحدهما عن الآخر ، كالذكر والأنثى وقال لكل منهما زوج ، والمعنى من كل صنف زوجين ذكر وأنثى ، قال الحسن : لم يحمل نوح معه إلا ما يلد أو يبيض ، وأما ما سوى ذلك ما يتولد من الطين كالبق والبعوض ، فلم يحمل منه شيئا ، وروى بعضهم : أن الحية والعقرب أتيا نوحا وقالا : احملنا معك ، فقال : إنكما سبب البلاء أحملكما ، فقالا : احملنا ونحن نضمن لك أن لا نضر أحدا ذكرك ، فمن قرأ حين يخاف مضرتهما : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) ، لم يضر. قوله : (وهو مفعول) أي لفظ

١٣٥

السفينة (وَأَهْلَكَ) أي زوجته وأولاده (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي منهم بالاهلاك وهو زوجته وولده كنعان بخلاف سام وحام ويافث فحملهم وزوجاتهم الثلاثة (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (٤٠) قيل كانوا ستة رجال ونساءهم ، وقيل جميع من كان في السفينة ثمانون نصفهم رجال ونصفهم نساء (وَقالَ) نوح (ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) بفتح الميمين وضمهما مصدران أي جريها ورسوها أي منتهى سيرها (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤١) حيث لم يهلكنا (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) في الارتفاع والعظم (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) كنعان (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) عن السفينة (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) (٤٢) (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي)

____________________________________

اثنين ، وقوله : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) حال منه مقدم عليه. قوله : (أي زوجته) أي التي أسلمت ، لأنه كان له زوجتان ، إحداهما آمنت فحملها ، والأخرى لم تؤمن فتركها. قوله : (وأولاده) أي الثلاثة وزوجاتهم.

قوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي القضاء بالغرق. قوله : (أي منهم) أخذ هذا التقييد من سورة المؤمنون. قوله : (وهو زوجته) أي التي لم تؤمن واسمها واعلة ، وقيل واعكة ، ورد أنه قبل مجيء الطوفان بأربعين سنة أصيبوا بالعقم ، فلم يلدوا في تلك المدة ، كي لا تصيبهم الرحمة من أجل وجود ، الصغار بينهم. قوله : (بخلاف سام) وهو أبو العرب ، وحام أبو السودان ، ويافث وهو أبو الترك. قوله : (ثمانون) أي اثنان وسبعون من الأمة ، وهو وأولاده الثلاثة وزوجاتهم.

قوله : (وَقالَ ارْكَبُوا) خطاب لمن معه. قوله : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) حال من الواو في اركبوا ، والتقدير قائلين بسم الله إلخ. وبسم الله خبر مقدم ، وقوله : (مَجْراها وَمُرْساها) مبتدأ مؤخر ، روي أنه كان إذا أراد أن تجري قال : بسم الله ، فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله فرست. قوله : (بفتح الميمين) سبق قلم إذ فتح مرساها شاذ ، فالصواب أن يقول بضم الميمين ، أو فتح الأولى مع ضم الثانية. قوله : (مصدران) راجع لكل من الفتح والضم. قوله : (أي جريها) هذا يناسب الفتح ، وأما الضم فيقال في تفسيره ، أي إجراؤها وإرساؤها.

قوله : (كَالْجِبالِ) روي أن الله أرسل المطر أربعين يوما وليلة ، وخرج الماء من الأرض ، قال تعالى : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعا ، حتى أغرق كل شيء ، وروي أنه لما كثر الماء في السكك خافت أم صبي على ولدها من الغرق ، وكانت تحبه حبا شديدا ، فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه لحقها الماء ، فارتفعت حتى بلغت ثلثيه ، فلما لحقها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبتها رفعت الصبي بيديها حتى ذهب بهما الماء فأغرقهما ، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي ، ولا ينافي ما تقدم من أنهم أصابهم العقم أربعين سنة ، لجواز أن يكون هذا الولد ابن أكثر من أربعين.

قوله : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) أي قبل سير السفينة. قوله : (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) الجملة حالية من ضمير ابنه ، وقوله : (يا بُنَيَ) إلخ ، هذه هو المنادى به بثلاث ياءات الأولى ياء التصغير ، والثانية لام الكلمة ، والثالثة ياء المتكلم ، تحركت ياء المتكلم وانفتح ما قبلها ، قلبت ألفا فالتقى ساكنان ، حذفت لالتقائهما ، وأدغمت إحدى الياءين في الأخرى ، فيقرأ بفتح الياء وكسرها قراءتان سبعيتان ، وقوله :

١٣٦

يمنعني (مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) عذابه (إِلَّا) لكن (مَنْ رَحِمَ) الله فهو المعصوم قال تعالى : (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (٤٣) (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) الذي نبع منك فشربته دون ما نزل من السماء فصار أنهارا وبحارا (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أمسكي عن المطر فأمسكت (وَغِيضَ) نقص (الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) تم أمر هلاك قوم نوح (وَاسْتَوَتْ) وقفت السفينة (عَلَى الْجُودِيِ) جبل بالجزيرة بقرب الموصل (وَقِيلَ بُعْداً) هلاكا (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤)

____________________________________

(ارْكَبْ مَعَنا) بإظهار الياء وإدغامها في الميم سبعيتان.

قوله : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) أي في البعد عن الركوب معنا ، إن قلت : لا يخلو الحال ، إما إن يكون هذا الولد مسلما أو كافرا ، فإن كان مسلما فيبعده كونه في معزل ، وإن كان كافرا ، فلم عطف عليه وناداه مع علمه بكفره؟ أجيب : بأنه ذكر العلماء أنه كان منافقا ، يظهر الإسلام ويخفي الكفر ، فعند مجيء الطوفان أظهر ما كان يخفيه ، ولا مانع من كون الله يخرج الكافر من المؤمن وبالعكس ، وهذا الولد قيل كان من صلبه وهو الراجح ، وقيل ابن زوجته من نكاح غيره ، وقيل كان ولد خبث ، ولدته زوجته على فراشه ولم يعلم به ، وهذا القول غير وجيه ، لقول ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط. قوله : (سَآوِي) أي ألتجىء. قوله : (مَنْ رَحِمَ) عبر المفسر بلكن ، إشارة إلى أن الاستثناء منقطع ، لأن ما بعد إلا هو المعصوم ، وما قبلها هو العاصم ، ولا شك أنه غيره.

قوله : (وَحالَ بَيْنَهُمَا) أي بين نوح وابنه. قوله : (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) أي الهالكين بالماء ، ورد أنه أوى إلى جبل عال ، فدخل في غار منه ، وسد على نفسه من كل جهة ، فغرق في بوله وغائطه. قوله : (وَقِيلَ يا أَرْضُ) إلخ ، أي أمر الله الأرض بذلك ، والمراد تعلقت قدرته بزوال الماء على حد قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وهذا القول وقع يوم عاشوراء ، ونزل نوح السفينة لعشر خلون من رجب ، فكان مكثهم في السفينة ستة أشهر ، فلما نجوا صاموا جميعا ، حتى الطيور والوحوش يوم عاشوراء ، شكرا لله على النجاة ، ومرت السفينة بهم بالبيت الحرام ، فطافت به سبع مرات ، وأودع الله الحجر الأسود في جبل أبي قبيس ، وورد أن نوحا حمل أباه آدم معه في السفينة. قوله : (فصار أنهارا وبحارا) أي فماء السماء ، بقي في أماكن من الأرض أنهارا وبحارا ، وماء الأرض ابتلعته الأرض في باطنها. قوله : (نقص) أي ولم يذهب بالكلية ، لما علمت من بقاء ماء السماء. قوله : (جبل بالجزيرة) هي مدينة العراق ، روي أن الله أوحى إلى الجبال ، أن السفينة ترسي على واحد منها ، فتطاولت وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله ، فاستوت السفينة عليه وبقيت على أعوادها ، وفي الحديث : «بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة» ورد أنهم لما خرجوا من السفينة ، بنوا قرية وسموها الثمانين ، لأنهم كانوا ثمانين.

قوله : (وَقِيلَ بُعْداً) منصوب على المصدر بفعل مقدر ، أي بعدوا بعدا ، فهو مصدر بمعنى الدعاء عليهم. قوله : (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فهلكوا جميعا ، حتى البهائم والطيور والأطفال ، على القول بأنهم لم يعقموا ، ولا يسأل عما يفعل ، وهذا الغرق عقوبة للمكلفين لا غيرهم ، قال بعضهم : هذه الآية أبلغ آية في القرآن ، لاحتوائها على أحد وعشرين نوعا من أنواع البديع ، والحال أن كلماتها تسعة عشر ، وخوطب في الأرض أولا بالبلع ، لأن الماء نبع منها أولا ، قبل أن تمطر السماء.

١٣٧

الكافرين (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي) كنعان (مِنْ أَهْلِي) وقد وعدتني بنجاتهم (وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) الذي لا خلف فيه (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) (٤٥) أعلمهم وأعدلهم (قالَ) تعالى : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) الناجين أو من أهل دينك (إِنَّهُ) أي سؤالك إياي سؤالك إياي بنجاته (عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) فإنه كافر ولا نجاة للكافرين وفي قراءة بكسر ميم عمل فعل ونصب غير فالضمير لابنه (فَلا تَسْئَلْنِ) بالتشديد والتخفيف (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) من إنجاء ابنك (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٤٦) بسؤالك ما لم تعلم (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ) من (أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ما فرط مني (وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤٧) (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ) أنزل من السفينة (بِسَلامٍ) بسلامة أو بتحية (مِنَّا وَبَرَكاتٍ) وخيرات (عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ

____________________________________

قوله : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) أي قبل سير السفينة. قوله : (فَقالَ) هذا تفصيل للنداء. قوله : (وقد وعدتني بنجاتهم) أي المدلول عليها بقوله : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) قوله : (الناجين أو من أهل دينك) أشار المفسر إلى أن الكلام ، إما على حذف الصفة ، أو على حذف المضاف ، قوله : (أي سؤالك) أشار بذلك إلى أن الضمير في أنه عائد على نوح على حذف المضاف ، والمعنى قال الله : يا نوح ، إن سؤالك عمل غير صالح أي غير مقبول ، لأن الله لا يقبل الشفاعة إلّا في المسلمين ، فسؤالك خطأ ، وذلك نظير استغفار ابراهيم لأبيه ، وهذا غير قادح في منصب النبوة الأن نوحا كان يظن إسلام ولده ، لأنه كان يظهره ، ومن المعلوم أن الرسل يحكمون بالظاهر ، وقيل إن الضمير عائد على الولد ، ويقال في الإخبار عنه بعمل ما قيل في زيد عدل وهو الراجح. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (ونصب غير) أي على المفعولية لعمل. قوله : (بالتشديد والتخفيف) أي فعلى التخفيف تسكن اللام ، وعلى التشديد تفتح اللام وفي قراءة التخفيف وجهان : حذف الياء وإثباتها ، وفي قراءة التشديد ثلاث : فتح النون مع حذف الياء لا غير ، وكسر النون مع حذف الياء وإثباتها ، وكل هذا في حال الوصل ، وأما عند الوقف فلا تثبت أصلا.

قوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي ما لا تعلم أنه صواب أم لا. قوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) هذا العتاب فيه رفق وتلطف ، والمعنى كأن الله يقول له : إن مقامك عظيم ، فشأنك أن لا تسأل ولا تشفع ؛ إلا فيمن يرجى فيه النجاة ، وأما فيمن تجهل قبول الشفاعة فيه ، فلا يليق منك أن تقدم على السؤال فيه. قوله : (إِنِّي أَعُوذُ بِكَ) أي أتحصن بك. قوله : (أَنْ أَسْئَلَكَ) أي بعد ذلك. قوله : (ما فرط مني) أي تقدم وسلف ، وهو الإقدام على سؤال ما ليس به علم ، وهذا لا يقتضي صدور ذنب من نوح ، إذ هو معصوم من الذنوب ، كبيرها وصغيرها ، لأن الله وعد نوحا عليه‌السلام ، بأن ينجيه وأهله ، فأخذ نوح بظاهر اللفظ واتبع التأويل ، حيث ظن أن ولده من جملة اهله الناجين ، فلما عاتبه ربه ، رجع على نفسه باللوم والندم مما وقع منه ، وسأله المغفرة والرحمة ، وذلك كما وقع لآدم في الأكل من الشجرة ، وليست هذه ذنوبا ، بل هي من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.

قوله : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ) أي سلامة وأمن ، ودخل في هذا السّلام ، وكل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، وفيما بعده من المتاع والعذاب ، كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. قوله : (انزل من السفينة) ورد أنه لما نزل منها ، أراد أن يبعث من يأتيه بخبر الأرض ، فقال له الدجاج أنا ، فأخذوه وختم

١٣٨

مَعَكَ) في السفينة أي من أولادهم وذريتهم وهم المؤمنون (وَأُمَمٌ) بالرفع ممن معك (سَنُمَتِّعُهُمْ) في الدنيا (ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٨) في الآخرة وهم الكفار (تِلْكَ) أي هذه الآيات المتضمنة قصة نوح (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أخبار ما غاب عنك (نُوحِيها إِلَيْكَ) يا محمد (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) القرآن (فَاصْبِرْ) على التبليغ وأذى قومك كما صبر نوح (إِنَّ الْعاقِبَةَ) المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) (٤٩) (وَ) أرسلنا (إِلى عادٍ أَخاهُمْ) من القبيلة (هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحدوه (ما لَكُمْ مِنْ) زائدة (إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ) ما (أَنْتُمْ) في عبادتكم الأوثان (إِلَّا مُفْتَرُونَ) (٥٠) كاذبون على الله (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على التوحيد (أَجْراً إِنْ) ما (أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) خلقني (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٥١) (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا

____________________________________

على جناحه وقال لها : أنت مختومة بخاتمي لا تطيري أبدا تنتفع بك أمتي فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها فاحتبس ، فلعنه ودعا عليه بالخوف ، فلذلك يقتل في الحل والحرم ولا يألف البيوت ، وبعث الحمام فلم تجد قرارا ، فوقفت على شجرة بأرض سبأ ، فحملت ورقة زيتون ، ورجعت إلى نوح ، فعلم أنها لم تتمكن من الأرض ، ثم بعثها بعد ذلك ، فطارت حتى وقفت بوادي الحرم ، فإذا الماء قد ذهب موضع الكعبة ، وكانت طينتها حمراء ، فاختضبت رجلاها ، ثم جاءت إلى نوح فقالت : بشراي منك ، أن تهب لي الطوق في عنقي ، الخضاب في رجلي ، وأن أسكن الحرم ، فمسح يده على عنقها وطوقها ووهب لها الحمرة في رجليها ، ودعا لها ولذريتها بالبركة. قوله : (أي من أولادهم) إلخ ، أشار بذلك إلى أن من تبيعضية ، والكلام على حذف مضاف ، والمعنى وعلى أمم من ذرية من معك. قوله : (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) يقال فيه ما قيل فيما قبله ، أي وامم من ذرية من معك سنمتعهم إلخ. والمعنى أن ذرية الأمم الذين معه ، بعضها مؤمن فعليه السلام ، وبعضها كافر فيمتع في الدنيا ، ثم يمسه العذاب الأليم في الآخرة ، والذرية المذكورة لم تكن إلا من أولاده الثلاثة كما تقدم ، فهو الأب الثاني للخلق بعد آدم. قوله : (تِلْكَ) مبتدأ ، أخبر عنه بثلاثة أخبار. قوله : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها) أي تفصيلا. قوله : (فَاصْبِرْ) هذا هو المقصود من ذكر تلك القصة ، أي فتسل ولا تحزن على عدم إيمان المشركين ، ولا تنزعج من أذاهم. قوله : (إِلى عادٍ) الجملة معطوفة على جملة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) عطف قصة على قصة ، وأخر هودا لأنه متأخر عن نوح في الزمن ، إذ هو من أولاد سام بن نوح ، وبين هود ونوح ثمانمائة سنة ، وعاد اسم قبيلة تنسب إلى أبيها عاد ، من ذرية سام بن نوح ، وهود ينسب له لأنه من تلك القبيلة ، لأن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وهود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد ، وعاش هود أربعمائة سنة وأربعا وستين سنة. قوله : (وحدوه) أي وسمى التوحيد عبادة ، لأنه أساسها ورأسها. قوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) ما نافية ، ولكم خبر مقدم ، وإله مبتدأ مؤخر ، وغيره صفته ، ومن زائدة كما قال المفسر. قوله : (كاذبون على الله) أي حيث ادعيتم أن لله شركاء وعبدتموهم. قوله : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) أي ليس مقصدي من تبليغ التوحيد ، والأحكام لكم ، أنكم تعطوني أجرا على ذلك من مال أو غيره ؛ والمقصود من ذلك الخطاب ، إراحة قلوبهم واللطف بهم ، عسى أن يقبلوا ما جاء به بقلب سليم ، وعبر هنا بأجر ، وفي قصة نوح بما لا تفتنا .. قوله : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) أي لأنه هو المعطي المانع ، الضار النافع ، المقدم المؤخر ، أطلب من

١٣٩

رَبَّكُمْ) من الشرك (ثُمَّ تُوبُوا) ارجعوا (إِلَيْهِ) بالطاعة (يُرْسِلِ السَّماءَ) المطر وكانوا قد منعوه (عَلَيْكُمْ مِدْراراً) كثير الدرور (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى) مع (قُوَّتِكُمْ) بالمال والولد (وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (٥٢) مشركين (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) برهان على قولك (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) أي لقولك (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (٥٣) (إِنْ) ما (نَقُولُ) في شأنك (إِلَّا اعْتَراكَ) أصابك (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) فخبلك لسبك إياها فأنت تهذي (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ) علي (وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٥٤) به (مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي) احتالوا في هلاكي (جَمِيعاً) أنتم وأوثانكم (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) (٥٥) تمهلون (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ) زائدة (دَابَّةٍ) نسمة تدب على الأرض (إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي مالكها وقاهرها فلا نفع ولا ضرر إلا بإذنه وخص الناصية بالذكر لأن من أخذ بناصيته يكون في غاية الذل (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ

____________________________________

غير. قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ، والتقدير أجهلتم وعميتم فلا تعقلون.

قوله : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي من كل ذنب مضى ، وقوله : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي أقلعوا واعزموا على عدم الرجوع في المستقبل. قوله : (وكانوا قد منعوه) أي ثلاث سنين. قوله : (مِدْراراً) حال من السماء ، أي كثيرة النزول والتتابع. قوله : (كثير الدرور) أي فيقال : دريدر درا ودرورا ، فهو مدرار. قوله : (بالمال والولد) أي وكانت قد عقمت نساؤهم ثلاثين سنة لم تلد.

قوله : (قالُوا يا هُودُ) أي استهزاء وعنادا. قوله : (بِبَيِّنَةٍ) أي معجزة ، وكانت معجزته التي قامت بها الحجة عليهم ، ما يأتي في قوله : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) فعصمته منهم هي معجزته ، وكذا معجزة نوح التي قامت بها الحجة عليهم هي قوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) الآية ، وأما الريح والطوفان ، وإن كان كل معجزة فيهم هلاكهم ، لا إقامة الحجة عليهم. قوله : (برهان) أي دليل واضح على صحته. قوله : (أي لقولك) أشار بذلك إلى أن عن بمعنى لام التعليل. قوله : (إِنْ نَقُولُ) أي في شأنك. قوله : (فخبلك) أي أفسد عقلك. قوله : (لسبك) علة لقوله فخبلك. قوله : (فأنت تهذي) أي تتكلم بالهذيان ، وهو الكلام الساقط الذي لا معنى له.

قوله : (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي خالص ومتبرىء من جميع ما تشركونه مع الله. قوله : (فَكِيدُونِي) بإثبات الياء وصلا ووقفا هنا لجميع القراء ، والتي في المرسلات بحذفها لجميعهم ، وأما التي في الأعراف فمن ياءات الزوائد ، فتحذف وقفا ، ويجوز حذفها وإثباتها في الوصل. قوله : (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أي لا تؤخرون حتى آتي بشيء يحفظني من قراءة أو سلاح أو غير ذلك ، وهذا من شده وثوقه بربه واعتماده عليه.

قوله : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ) أي فوضت أموري إليه واعتمذت عليه. قوله : (رَبِّي وَرَبِّكُمْ) هذا تبكيت عليهم. قوله : (فلا نفع ولا ضرر إلا بإذنه) أي وأنتم من جملة الدواب ، فليس لكم تأثير في شيء

١٤٠