حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٢

مُسْتَقِيمٍ) (٥٦) أي طريق الحق والعدل (فَإِنْ تَوَلَّوْا) فيه حذف إحدى التاءين أي تعرضوا (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) بإشراككم (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٥٧) رقيب (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) عذابنا (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ) هداية (مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٥٨) شديد (وَتِلْكَ عادٌ) إشارة إلى آثارهم أي فسيحوا في الأرض وانظروا إليها ثم وصف أحوالهم فقال (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ) جمع لأن من عصى رسولا عصى جميع الرسل لاشتراكهم في أصل ما جاؤوا به وهو التوحيد (وَاتَّبَعُوا) أي السفلة (أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (٥٩) معاند للحق من رؤسائهم (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) من الناس (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) لعنة على رؤوس الخلائق (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا) جحدوا (رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً) من رحمة الله (لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) (٦٠) (وَ) أرسلنا (إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ) من القبيلة (صالِحاً قالَ

____________________________________

أصلا. قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) شرط حذف جوابه لدلالة قوله : (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) إلخ عليه ، والتقدير فلا عذر لكم ولا مؤاخذة علي ، فقد أبلغتكم إلخ. قوله : (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي) إلخ ، هذا وعيد شديد مترتب على إعراضهم ، والمعنى فإن تعرضوا عن الإيمان ، فلا مؤاخذة علي ، بل يقبلني ربي ويهلككم ويستخلف غيركم ، ولا تضرونه شيئا بإعراضكم ، بل ما تضرّون إلا أنفسكم.

قوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي فلا تخفى عليه أحوالكم ، بل يجازي كل أحد بعمله. قوله : (عذابنا) أي وهو الريح الصرصر المذكور في قوله تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ) الآية ، فأصابهم صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال ، وكان يدخل في أنف الواحد ، ويخرج من دبره ، فيرفعه في الجو فيسقط على الأرض فتقطع أعضاؤه ، وقد تقدم بسطها في الأعراف. قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي وكانوا أربعة آلاف قوله : (وَتِلْكَ عادٌ) مبتدأ أو خبر على حذف مضاف ، كما أشار له المفسر ، أي آثار عاد. قوله : (في الأرض) أي أرضهم. قوله : (وانظروا إليها) أي لتعتبروا ، وهو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، ولكن المراد الأمة. قوله : (لأن من عصى رسولا) إلخ ، جواب عما يقال لم جمع الرسل ، مع أنهم عصوا رسولا واحدا وهو هود. قوله : (عَنِيدٍ) أي معاند متجاوز في الظلم. قوله : (لَعْنَةً) أي طردا وبعدا. قوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) (لعنة) أي طردا على رحمة الله ، وهي الجنة وما فيها ، لاتصافهم بالشقاوة الدائمة الموجبة للخلود في النار. قوله : (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) هذا بيان لسبب استحقاقهم للعنتين.

قوله : (أَلا بُعْداً لِعادٍ) هذا هو معنى قوله : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) وذكر تأكيدا وإشارة إلى أنهم مستحقون لذلك. قوله : (قَوْمِ هُودٍ) بدل من عاد ، واحترز به عن عاد الثانية المسماة بثمود ، وهي قوم صالح الآتية قصتهم بعد. قوله : (وَإِلى ثَمُودَ) عطف على قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) عطف قصة على قصة ، وقدر المفسر (أرسلنا) إشارة إلى أن قوله أرسلنا الأول مسلّط عليه ، فهو من عطف الجمل ، وثمود هنا يمنع الصرف باتفاق القراء العشرة ، وقرىء شاذا بالصرف ، بخلاف ما يأتي في قوله : (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) فبالصرف وعدمه قراءتان سبعيتان ، وثمود اسم أبي القبيلة ، سميت باسمه لشهرته ، وبين صالح وبينه خمسة أجداد ، وبين صالح وهود مائة سنة ، وعاش صالح مائتي سنة وثمانين سنة.

١٤١

يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ) ابتدأ خلقكم (مِنَ الْأَرْضِ) بخلق أبيكم آدم منها (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) جعلكم عمارا تسكنون بها (فَاسْتَغْفِرُوهُ) من الشرك (ثُمَّ تُوبُوا) ارجعوا (إِلَيْهِ) بالطاعة (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) من خلقه بعلمه (مُجِيبٌ) (٦١) لمن سأله (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا) نرجو أن تكون سيدا (قَبْلَ هذا) الذي صدر منك (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأوثان (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد (مُرِيبٍ) (٦٢) موقع في الريب (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) بيان (مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً) نبوة (فَمَنْ يَنْصُرُنِي) يمنعني (مِنَ اللهِ) أي عذابه (إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي) بأمركم لي بذلك (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) (٦٣) تضليل (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) حال عامله الإشارة (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي

____________________________________

قوله : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ) هذا دليل على كونه هو المستحق للعبادة دون غيره. قوله : (مِنَ الْأَرْضِ) أي مباشرة أو بواسطة ، فالأول كخلق أبينا آدم منها ، والثاني كخلق مواد النطف التي منها النوع الإنساني. قوله : (جعلكم عمارا تسكنون بها) أي خلفاء في الأرض ، ويصح أن يكون المعنى جعلكم معمرين لها بعد أن خربت. قوله : (فَاسْتَغْفِرُوهُ) أي من الذنوب التي مضت. قوله : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي أقلعوا عن الذنوب في المستقبل. قوله : (بعلمه) أي فالمراد قرب مكانة ورفعة ، والمعنى أن الله قريب من خلقه قربا معنويا ، منزها عن الإحاطة والجهة ، فهو أقرب من نور العين لها ، ومن سمع الأذن لها ، ومن لمس الجسم له ، ومن الأنف له سبحانه وتعالى. قوله : (مُجِيبٌ) أي فلا يخيب سائلا. قوله : (نرجو أن تكون سيدا) أي لأنه كان يعين ضعيفهم ويعطي فقيرهم ، وكانوا يرجعون إليه في الأمور قبل تلك المقالة ، فلما حصلت قالوا قد انقطع رجاؤنا فيك. قوله : (الذي صدر منك) أي وهو نهيهم عن عبادة الأوثان.

قوله : (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ) أي أتنهانا عن عبادة الذي كان يعبده آباؤنا ، وقوله : (من الأوثان) بيان لما. قوله : (وَإِنَّنا) هذا هو الأصل ، ويصح وإنا بنون واحدة مشددة ولذا قرىء به في سورة إبراهيم. قوله : (مُرِيبٍ) وصف لشك والإسناد مجازي ، وحق الإسناد لصاحبه. قوله : (موقع في الريب) أي الدائم. قوله : (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني. قوله : (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) أتى بإن مشاكلة ، لاعتقادهم فيه ومسايرة لخطابهم. قوله : (بيان) أي برهان وحجة واضحة. قوله : (أي عذابه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف.

قوله : (إِنْ عَصَيْتُهُ) أي على فرض وقوع المعصية مني ، وإلا فهي مستحيلة عليه ، كبيرها وصغيرها ، قبل النبوة وبعدها. قوله : (بأمركم لي بذلك) أي بعصيانه وموافقتكم. قوله : (تضليل) أي لي إن اتبعتكم ، والمعنى أخبروني إن كنت على بينة ونبوة من ربي ، فلا أحد يمنعني من عذاب الله إن اتبعتكم وعصيته ، وحينئذ أكون خاسرا مضيعا لما أعطاني الله من الحق ، وهل رأيتم نبيا صار كافرا ، وكل هذا تنزل منه لهم. قوله : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ) أي وقد طلبوا منه أن يخرج لهم ناقة من صخرة عينوها ، حيث قالوا : أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة وبراء عشراء ، فدعا الله ، فتمخضت الصخرة كما تتمخض النساء عند الولادة ، فخرجت منها ناقة كما وصفوا ، فولدت الناقة في الحال فصيلا ، قدرها في الجثة يشبهها ، وأضيفت

١٤٢

أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) عقر (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) (٦٤) إن عقرتموها (فَعَقَرُوها) عقرها قدار بأمرهم (فَقالَ) صالح (تَمَتَّعُوا) عيشوا (فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) ثم تهلكون (ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (٦٥) فيه (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاكهم (نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وهم أربعة آلاف (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) نجيناهم (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) بكسر الميم إعرابا وفتحها بناء لإضافته إلى مبني وهو الأكثر (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (٦٦) الغالب (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) (٦٧) باركين على الركب ميتين (كَأَنْ) مخففة واسمها محذوف أي كأنهم (لَمْ يَغْنَوْا) يقيموا (فِيها) في دارهم (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (٦٨) بالصرف وتركه على معنى الحي والقبيلة (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) بإسحاق ويعقوب

____________________________________

الناقة لله تشريفا ، أي لا اختصاص لأحد بها.

قوله : (تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أي من العشب والنبات ، وفي الكلام اكتفاء ، أي وتشرب من ماء الله ، على حد (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد. قوله : (قَرِيبٌ) أي عاجل لا يتأخر عنهم إلا ثلاثة أيام. قوله : (عقرها قدار) أي ابن سالف ، حيث ضربها في رجليها ، فذبحوها واقتسموا لحمها ، وقدار هذا من أشقى الأشقياء.

قوله : (فِي دارِكُمْ) أي أرضكم. قوله : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) والحكمة في ذلك ، بقاء الفصيل ينوح على أمه ثلاثة أيام ، ثم فتحت له الصخرة ، ودخل فيها ، قالوا : وما العلامة؟ قال : تصبحون في اليوم الأول وجوهكم مصفرة ، وفي اليوم الثاني وجوهكم محمرة ، وفي اليوم الثالث وجوهكم مسودة. قوله : (غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (فيه) أشار المفسر بتقدير فيه ، إلى أنه من باب الحذف والإيصال. قوله : (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) أي وهي الإيمان. قوله : (مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) أي يوم إهلاكهم بالصيحة. قوله : (لإضافته إلى مبني) أي فهي من أسباب البناء. قوله : (وهو الأكثر) أي عربية ، وأما في القراءة فمستويان.

قوله : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) حذفت تاء التأنيث من الفعل ، إما لكون المؤنث مجازيا كما يقال طلع الشمس ، أو للفصل بالمفعول ، كأتى القاضي بيت الواقف. قوله : (الصَّيْحَةُ) أي مع الزلزلة فتقطعت قلوبهم ، والمراد صيحة جبريل عليهم من السماء ، فسمعوا صوت كل شيء فماتوا جميعا. قوله : (أَلا بُعْداً) أي طردا دائما عن رحمة الله ، فقد نزعوا من دائرة الحلم والرحمة. قوله : (بالصرف وتركه) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (على معنى الحي) راجع للصرف ، وقوله : (والقبيلة) راجع لتركه ، فهو لف ونشر مرتب ، وقد تقدم بسط تلك القصة في الأعراف.

قوله : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا) أتى هنا بقصة إبراهيم توطئة لقصة لوط لا استقلالا ، لأن الهلاك هنا لم يكن لقوم إبراهيم ، ولذا غاير الاسلوب ، فلم يقل وأرسلنا إبراهيم إلى قومه مثلا ، ورسلنا بضم السين وإسكانها ، قراءتان سبعيتان في جميع القرآن ، متى أضيفت رسل للضمير ، فإن أضيفت للظاهر قرىء بضم السين لا غير ، واختلف في عدة الرسل الذين جاؤوه ، فعن ابن عباس ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ، وقيل تسعة ، وقيل اثنا عشر ، وقيل غير ذلك ، وعاش إبراهيم من العمر مائة وخمسا وسبعين

١٤٣

بعده (قالُوا سَلاماً) مصدر (قالَ سَلامٌ) عليكم (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (٦٩) مشوي (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) بمعنى أنكرهم (وَأَوْجَسَ) أضمر في نفسه (مِنْهُمْ خِيفَةً) خوفا (قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) (٧٠) لنهلكهم (وَامْرَأَتُهُ) أي امرأة إبراهيم سارة (قائِمَةٌ) تخدمهم (فَضَحِكَتْ) استبشارا بهلاكهم (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ) بعد

____________________________________

سنة ، وبينه وبين نوح ألفا سنة وستمائة وأربعون سنة ، وابنه إسحاق عاش مائة وثمانين سنة ، ويعقوب بن إسحاق عاش مائة وسبعا وأربعين سنة. قوله : (بِالْبُشْرى) هي الخبر السار ، سميت بذلك لانبساط البشرة عند حصولها. قوله : (بإسحاق ويعقوب بعده) أفاد المفسر أن المراد بالبشرى هنا هي ما يأتي في قوله : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) إلخ ، ويحتمل أن المراد هنا بقوله هنا : (بِالْبُشْرى) ما هو أعم من ذلك ، فيشمل بشراه بنجاة لوط ، وهلاك الكافرين ، وغير ذلك.

قوله : (قالُوا سَلاماً) هذه تحيتهم الواقعة منهم ، وهو منصوب بفعله المحذوف ، والتقدير سلمنا عليك سلاما. قوله : (مصدر) أي نائب عن لفظ الفعل. قوله : (قالَ سَلامٌ) إنما أتى إبراهيم بالجملة الإسمية في الرد ، لتفيد الدوام والثبوت ، فيكون الرد أحسن من الابتداء ، لأن الجملة الإسمية أشرف من الفعلية ، وقوله : (عليكم) قدره المفسر إشارة إلى أن السّلام مبتدأ ، والخبر محذوف ، والمسوغ للابتداء بالنكرة التعظيم ، على حد أشر هر ذا ناب ، أو الدعاء. قوله : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ) ما نافية ، ولبث فعل ماض ، وأن جاء في تأويل مصدر فاعل ، والمعنى لم يتأخر مجيئه بعجل حنيذ. قوله : (مشوي) أي على الحجارة المحماة في حفرة الأرض ، وهو من فعل أهل البادية ، وكان سمينا يسيل منه الودك كما في آية الذاريات ، وكان عامة مال إبراهيم البقر.

قوله : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ) هذا مرتب محذوف ، كما في الآية الأخرى ، فقربه إليهم فقال ألا تأكلون ، فلما رأى الخ ، في بعض الروايات قالوا : لا نأكل طعاما إلا بثمن ، قال : فإن له ثمنا ، قالوا : وما ثمنه؟ قال : تذكرون اسم الله على أوله ، وتحمدونه على آخره ، فنظر جبريل إلى ميكائيل قال : وحق لهذا أن يتخذه ربه خليلا. قوله : (خوفا) أي من أجل امتناعهم من طعامه فخاف منهم الخيانة ، على عادة الخائن ، أنه لا يأكل طعام من أراد خيانته. إن قلت : كيف يخاف إبراهيم منهم ، مع كونه خليل الرحمن ، وهم محصورون في بيته؟ أجيب : بأن خوفه لما رأى فيهم من جلال الله وهيبته ، فخوفه من ربه لا من ذواتهم.

قوله : (قالُوا لا تَخَفْ) أي جوابا لقوله لهم كما في سورة الحجر (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ). قوله : (إِلى قَوْمِ لُوطٍ) أي وهو ابن أخي إبراهيم الخليل ، وهو أول من آمن به ؛ وأبوه هاران أخو إبراهيم. قوله : (لنهلكهم) أخذ هذا المقدر من قوله في سورة الذاريات (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً) الخ. قوله : (سارة) بالتخفيف والتشديد ، وهي بنت عمه. قوله : (تخدمهم) أي على عادة نساء العرب ، لا يتحاشون خدمة الضيوف. قوله : (فَضَحِكَتْ) في سبب ذلك الضحك أقوال ، قيل : للبشرى بهلاك قوم لوط ، كما قال المفسر ، وقيل : من خوف إبراهيم ، وهو في خدمه وحشمه ، وقيل : سرورا بالولد ، وقيل : تعجبا من إتيان الولد على كبر ، وقيل : لموافقة مجيء الملائكة بهلاك قوم لوط لما قالته لإبراهيم ، فإنها قالت

١٤٤

(إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) (٧١) ولده تعيش إلى أن تراه (قالَتْ يا وَيْلَتى) كلمة تقال عند أمر عظيم والألف مبدلة من ياء الإضافة (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) لي تسع وتسعون سنة (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) له مائة أو وعشرون سنة ونصبه على الحال والعامل فيه ما في ذا من الإشارة (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) (٧٢) أن يولد ولد لهرمين (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) قدرته (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ) يا (أَهْلَ الْبَيْتِ) بيت إبراهيم (إِنَّهُ حَمِيدٌ) محمود (مَجِيدٌ) (٧٣) كريم (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) الخوف (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) بالولد أخذ (يُجادِلُنا) يجادل رسلنا (فِي) شأن (قَوْمِ لُوطٍ) (٧٤) (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) كثير الأناة (أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (٧٥) رجاع ، فقال لهم : أتهلكون قرية فيها ثلثمائة مؤمن؟ قالوا لا قال : أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا لا قال : أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟ قالوا لا قال : أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنا؟ قالوا لا قال أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد قالوا لا قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها الخ فلما أطال مجادلتهم قالوا (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الجدال (إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بهلاكهم (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ

____________________________________

له قبل مجيء الملائكة : اضمم إليك ابن أخيك لوطا ، فإن العذاب نازل بقومه ، وقيل غير ذلك.

قوله : (فَبَشَّرْناها) إنما نسبت البشارة لها دونه ، لأنها كانت أشوق منه إلى الولد ، لأنه لم يأتها ولد قط بخلافه هو ، فقد أتاه إسماعيل قبل إسحاق بثلاثة عشر سنة. قوله : (بِإِسْحاقَ) ولد بعد البشارة بسنة ، فإسماعيل أسن منه بأربعة عشر سنة. قوله : (يَعْقُوبَ) بالرفع والنصب ، قراءتان سبعيتان. قوله : (كلمة تقال) أي على سبيل التعجب من مخالفة العادة لا من قدرة الله ، فإن ذلك كفر ، حاشاها منه. قوله : (عند أمر عظيم) أي خيرا كان أو شرا ، ولكن المراد هنا الخير. قوله : (والألف مبدلة من ياء الإضافة) أي فيقال في إعرابها ويلتي منادى منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفا ، منع من ظهورها اشتغال المحل بالفتحة النائبة عن الكسرة لمناسبة الألف وويلتى مضاف ، والألف مضاف إليه مبني على السكون في محل جر وترسم بالياء وتقرأ بالألف والإمالة. قوله : (وَهذا بَعْلِي) سمي الزوج بذلك ، لأن البعل هو المستعلي على غيره ، ولا شك أن الزوج مستعل على المرأة ، قائم بأمورها.

قوله : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ) هذا دعاء من الملائكة لهم. قوله : (أَهْلَ الْبَيْتِ) أشار المفسر بتقدير (يا) إلى أن أهل البيت منصوب على النداء ، ويصح أن يكون منصوبا على الاختصاص. قوله : (حَمِيدٌ) أي كثير الحمد. قوله : (مَجِيدٌ) أي عظيم شريف. قوله : (فَلَمَّا ذَهَبَ) جوابها محذوف ، قدره المفسر بقوله : (أخذ). قوله : (وَجاءَتْهُ الْبُشْرى) أي بعد الروع. قوله : (يجادل رسلنا) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ) أي فالحامل له على المجادلة حلمه ورقة قلبه ، فغرضه تأخير العذاب عنهم ، لعلهم يؤمنون ويرجعون عما هم عليه من القبائح. قوله : (كثير الإناة) أي التأني في الأمور وعدم العجلة. قوله : (أَوَّاهٌ) في تفسيره أقوال كثيرة ، تقدم بعضها في سورة براءة. قوله : (فقال لهم) هذه صورة المجادلة ، والحاصل أنه سألهم خمسة أسئلة وأجابوه عنها. قوله : (إلخ) أي إلى آخر

١٤٥

عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (٧٦) (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) حزن بسببهم (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) صدرا لأنهم حسان الوجوه في صورة أضياف فخاف عليهم قومه (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (٧٧) شديد (وَجاءَهُ قَوْمُهُ) لما علموا بهم (يُهْرَعُونَ) يسرعون (إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ) قبل مجيئهم (كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) وهي إتيان الرجال في الأدبار (قالَ) لوط (يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي) فتزوجوهن (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) تفضحون (فِي ضَيْفِي) أضيافي (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ

____________________________________

ما في سورة العنكبوت. قوله : (أَمْرُ رَبِّكَ) أي قضاؤه وحكمه. قوله : (غير مردود) أي غير مصروف عنهم ، فإنه قضاء مبرم لا محيص عنه.

قوله : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا) أي الملائكة الذين كانوا عند إبراهيم ، والمعنى أنهم ارتحلوا من عند إبراهيم حتى أتوا قرية لوط ، وتسمى سدوم بلد بحمص ، وبينها وبين الخليل أربعة فراسخ ، نصف النهار ، فوجدوا لوطا يعمل في أرض له ، وقيل كان يحتطب ، وقد قال الله للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فاستضافوه فانطلق بهم ، فلما مشى بهم ساعة قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا : وما أمرها؟ قال : أشهد بالله أنها أشر قرية في الأرض عملا ، قال ذلك أربع مرات ، فمضوا معه حتى دخلوا منزله ، وقيل إنه مرمع الملائكة على جماعة من قومه ، فتغامزوا فيما بينهم ، فقال لوط : إن قومي شر خلق الله ، فقال جبريل : هذه واحدة ، فمر على جماعة أخرى فتغامزوا ، فقال مثله ، ثم مر على جماعة أخرى ففعلوا ذلك ، فقال لوط مثل ما قال أولا ، حتى قال ذلك أربع مرات ، وكلما قال لوط هذا القول ، قال جبريل للملائكة اشهدوا ، وقيل إن الملائكة جاؤوا إلى بيت لوط ، فوجدوه في داره ، فدخلوا عليه ولم يعلم أحد بمجيئهم إلا أهل بيت لوط ، فخرجت امرأته الخبيثة فأخبرت قومها وقالت : إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط ولا أحسن منهم.

قوله : (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) الأصل فيه ، أن البعير يذرع بيده في سيره ذرعا على قدر سعة خطوته ، فإذا حمل عليه ضعف ومد عنقه وضاق ذرعه ، فأطلق الذرع وأريد منه الصدر ، فالمراد ضاق صدره ، لعدم الخلاف من ذلك المكروه. قوله : (فخاف عليهم قومه) منصوب بنزع الخافض أي من قومه. قوله : (عَصِيبٌ) مأخوذ من العصب وهو الشدة ، ومنه العصابة التي يشد بها الرأس. قوله : (لما علموا بهم) أي إما لأنهم رأوهم مع لوط في الطريق ، أو أعلمتهم زوجته. قوله : (يُهْرَعُونَ) أي يسوق بعضهم بعضا. قوله : (كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي فلا حياء عندهم منها لاعتيادهم لها.

قوله : (قالَ يا قَوْمِ) هذا الخطاب وقع من لوط ، وهم خارج الباب. قوله : (هؤُلاءِ بَناتِي) (فتزوجوهن) أي وكان في شرعه يجوز تزوج الكافر بالمسلمة ، وقيل : عرض بناته عليهم بشرط الإسلام ، وقيل : قال ذلك لتخليص أضيافه ، لا إباحة لتزويجهم بهن ، لعلهم إذا رأوه قد فدى أضيافه ببناته ، ينزجروا ويرتدعوا ويتركوا هذا الأمر ، وقيل : المراد ببناته نساء قومه وأضافهن إليه ، لأن كل نبي لقومه كالأب لأولاده ، في الشفقة واللطف بهم. قوله : (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) إن قلت : إن تلك الفعلة لا طهارة فيها. أجيب : بأن أفعل التفضيل ليس على بابه ، نظير قوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ). قوله : (تفضحون) أي تعيبوني. قوله : (في ضيفي) أي في شأنه.

١٤٦

رَشِيدٌ) (٧٨) يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) حاجة (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) (٧٩) من إتيان الرجال (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) طاقة (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (٨٠) عشيرة تنصرني لبطشت بكم فلما رأت الملائكة ذلك (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) بسوء (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ) طائفة (مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم (إِلَّا امْرَأَتَكَ) بالرفع بدل من أحد وفي قراءة بالنصب استثناء من الأهل أي فلا تسر بها (إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ) فقيل لم يخرج بها وقيل خرجت والتفتت فقالت واقوماه فجاءها حجر فقتلها وسألهم عن وقت هلاكهم فقالوا (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) فقال أريد أعجل من ذلك قالوا (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (٨١) (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاكهم (جَعَلْنا عالِيَها) أي قراهم (سافِلَها) أي بأن رفعها جبريل إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها

____________________________________

قوله : (أَلَيْسَ مِنْكُمْ) استفهام توبيخ. قوله : (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) أي لو ثبت أن لي بكم قوة ، أو أني آوي جواب لو محذوف ، قدره المفسر بقوله : (لبطشت بكم) وإنما قال ذلك ، لأنه لم يكن من قومه نسبا ، بل كان غريبا فيهم ، لأنه كان أولا بالعراق مع إبراهيم ببابل ، فهاجر إلى الشام بأمر من الله ، فنزل إبراهيم بأرض فلسطين ، ونزل لوط بالأردن ، فأرسله إلى أهل سدوم ، فمن ذلك الوقت ، لم يرسل الله رسولا إلا من قومه.

قوله : (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ) أي فافتح الباب ودعنا وإياهم ، ففتح الباب ودخلوا ، فاستأذن جبريل ربه في عقوبته فأذن له ، فتحول إلى صورته التي يكون فيها ، ونشر جناحيه فضرب بهما وجوههم ، فأعماهم وطمس أعينهم ، حتى ساوت وجوههم ، فصاروا لا يعرفون الطريق ، فانصرفوا وهم يقولون : النجاة النجاة في بيت لوط سحرة ، قد سحرونا يا لوط ، سترى منا غدا ما ترى.

قوله : (فَأَسْرِ) بقطع الهمزة ووصلها ، وفعله أسرى وسرى ، وهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بِأَهْلِكَ) أي وهم بنتاه ، فخرجوا وطوى الله لهم الأرض ، حتى وصلوا إلى إبراهيم في وقته. قوله : (بِقِطْعٍ) الباء للمصاحبة ، والمعنى نصف الليل. قوله : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ) خطاب له ولبنتيه. قوله : (بالرفع) بدل من أحد ، أي والمعنى : ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (فقيل لم يخرج بها) راجع لقراءة الرفع. قوله : (وقيل خرجت والتفتت) راجع لقراءة النصب. قوله : (بأن رفعها جبريل إلى السماء) أي بأن أدخل جناحيه تحتها ، وهي خمس مدائن ، أكبرها سدوم ، وهي المؤتفكات المذكورة في سورة براءة ، ويقال كان فيها أربعة آلاف ألف ، فرجع جبريل المدن كلها ، حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ، ولم ينكب لهم إناء ، ولم ينتبه لهم نائم ثم قلبها.

قوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) أي على أهلها الخارجين عنها في الأسفار وغيرها ، وقيل على القرى بعد قلبها ، فمن جملة ما وقع ، أن رجلا منهم كان في الحرم ، فجاءه حجر ووقف في الهواء أربعين يوما ينتظر

١٤٧

حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) طين طبخ بالنار (مَنْضُودٍ) (٨٢) متتابع (مُسَوَّمَةً) معلمة عليها اسم من يرمى بها (عِنْدَ رَبِّكَ) ظرف لها (وَما هِيَ) الحجارة أو بلادهم (مِنَ الظَّالِمِينَ) أي أهل مكة (بِبَعِيدٍ) (٨٣) (وَ) أرسلنا (إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) نعمة تغنيكم عن التطفيف (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن لم تؤمنوا (عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (٨٤) بكم يهلككم ووصف اليوم به مجاز لوقوعه فيه (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) أتموهما (بِالْقِسْطِ) بالعدل (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) لا تنقصوهم من حقوقهم شيئا (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٨٥) بالقتل وغيره من عثي بكسر المثلثة أفسد ومفسدين حال مؤكدة لمعنى عاملها تعثوا (بَقِيَّتُ اللهِ) رزقه الباقي لكم بعد إيفاء

____________________________________

ذلك الرجل ، حتى خرج من الحرم فسقط عليه فقتله. قوله : (متتابع) أي في النزول. قوله : (عليها اسم من يرمى بها) أي مكتوب على كل حجر اسم صاحبه الذي يرمى به. قوله : (الحجارة أو بلادهم) هذان تفسيران في مرجع الضمير ، قيل : يعود على الحجارة لأنها أقرب مذكور ، وقيل : يعود على القرى المهلكة ، وعلى الأول فهو وعيد عظيم لكل ظالم من هذه الأمة ، ففي الحديث : سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل عن المراد بالظالمين ، فقال له جبريل : يعني ظالمي أمتك ، ما من ظالم منهم ، إلا وهو بعرض حجر ، يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. قوله : (بِبَعِيدٍ) أي بمكان بعيد ، بل بمكان قريب يمرون عليها في أسفارهم.

قوله : (وَإِلى مَدْيَنَ) معطوف على قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) عطف قصة على قصة ، ومدين اسم قبيلة ، سميت باسم جدهم مدين بن إبراهيم ، ويسمى شعيب خطيب الأنبياء ، لحسن مراجعته قومه. قوله : (أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي في النسب لا الدين ، لأنه ابن ميكائيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم. قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) أمرهم بالتوحيد أولا لأنه أهم الأشياء وأصلها ، وغيره فرع ، فإذا صلح الأصل صلح الفرع. قوله : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) نقص يتعدى لمفعولين : فالمفعول الأول قوله : (الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) والمفعول الثاني محذوف تقديره شيئا ، والمعنى لا تنقصوهما شيئا أصلا عند الأخذ ولا عند الدفع ، فنقصهما عند الدفع ظاهر ، ونقصهما عند الأخذ بأن يزيد على حقه في المبيع ، وهو في الحقيقة نقص الثمن ، قال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ).

قوله : (إِنِّي أَراكُمْ) أي فاقتنعوا بما أعطاكم الله ، ولا تطففوا الكيل والميزان. قوله : (ووصف اليوم به) أي بقوله محيط. قوله : (مجاز) أي عقلي في الإسناد للزمان. قوله : (وَلا تَبْخَسُوا) كرر ذلك ثلاث مرات ، أولها قوله : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) ، وثانيها قوله : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) ، وثالثها قوله : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) تأكيدا لكونهم مصرين على ذلك العمل القبيح منهمكين فيه. قوله : (أَشْياءَهُمْ) أي أموالهم ، ودخل في ذلك من يسوم السلع ينقص قيمتها ، وهو مشهور تقتدي به الناس ، فالواجب إعطاء كل سلعة قيمتها ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وحينئذ فهو عطف عام على خاص.

قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) هذا أعم مما قبله ، والمعنى لا تكونوا من المفسدين في الأرض بالمعاصي ، بل كونوا مصلحين لدينكم ودنياكم. قوله : (بَقِيَّتُ اللهِ) ترسم بالتاء المجرورة ، وعند

١٤٨

الكيل والوزن (خَيْرٌ لَكُمْ) من البخس (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٨٦) رقيب أجازيكم بأعمالكم إنما بعثت نذيرا (قالُوا) له استهزاء (يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) بتكليف (أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام (أَوْ) نترك (أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) المعنى هذا أمر باطل لا يدعو إليه داع بخير (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (٨٧) قالوا ذلك استهزاء (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) حلالا أفأشوبه بالحرام من البخس والتطفيف (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ) وأذهب (إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) فأرتكبه (إِنْ) ما (أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) لكم بالعدل (مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي) قدرتي على ذلك وغيره من الطاعات (إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨) أرجع (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) يكسبنكم (شِقاقِي) خلافي فاعل يجرم والضمير مفعول أول والثاني (أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من العذاب (وَما قَوْمُ لُوطٍ) أي منازلهم أو زمن هلاكهم (مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (٨٩) فاعتبروا (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) بالمؤمنين (وَدُودٌ) (٩٠) محب لهم (قالُوا) إيذانا

____________________________________

الوقف عليها للاضطرار ، يجوز بالتاء المجرورة أو المربوطة ، وليس في القرآن غيرها. قوله : (خَيْرٌ لَكُمْ) أي لوجود البركة فيه. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي مصدقين بما أمرتكم به ونهيتكم عنه ، وهو شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، أي فارضوا بما قسم الله لكم من الحلال. قوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي حافظ لكم من القبائح ، ولا حافظ عليكم النعم ، إنما أنا مبلغ لكم الأحكام.

قوله : (يا شُعَيْبُ) خاطبوه باسمه من غير اقتران بالتعظيم ، لقباحتهم وسوء فعلهم. قوله : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) أي وكان كثير الصلاة ، وقيل المراد بها الدين ، وخصت بالذكر لأنها أعظم الشعائر. قوله : (بتكليف) قدره دفعا لما يقال : إن الترك من وصفهم وفعلهم لا فعل شعيب ، والإنسان يؤمر بفعل نفسه لا فعل غيره. قوله : (من الأصنام) بيان لما. قوله : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ) قدر المفسر (نترك) ، إشارة إلى أنه معطوف على (ما يَعْبُدُ آباؤُنا). قوله : (قالوا ذلك استهزاء) إلخ ، أي أو أرادوا السفيه الغاوي ، من باب تسمية الأضداد ، أو المراد الحليم الرشيد في زعمك. قوله : (أَرَأَيْتُمْ) أي اخبروني. قوله : (عَلى بَيِّنَةٍ) أي نبوة وصدق. قوله : (أفأشوبه) أي أخلطه ، قوله : (من البخس والتطفيف) بيان للحرام.

قوله : (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ) أي فأنا آمركم بما آمر به نفسي ، وليس قصدي أن أنهاكم عن شيء وأفعله. قوله : (مَا اسْتَطَعْتُ) أي مدة استطاعتي. قوله : (وَما تَوْفِيقِي) أي وما كوني موفقا. قوله : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي فوضت أموري إليه. قوله : (يكسبنكم) أي فهو متعد لمفعولين : الأول للضمير ، والثاني أن وما دخلت عليه ، والمعنى لا يكن شقاقي مكسبا لكم إصابة مثل ما ذكر ، فلا تستمروا على مخالفتي ، حتى يصيبكم بسبب تلك المخالفة مثل ما أصاب إلخ. قوله : (أي منازلهم) أي لأنهم كانوا مجاورين لقوم لوط ، وبلادهم قريبة من بلادهم ، وقوله : (أو زمن هلاكهم) أي فقد كان زمن هلاك قوم لوط ، قريبا من قوم شعيب.

قوله : (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي اطلبوا منه المغفرة لذنوبكم. قوله : (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي ارجعوا

١٤٩

بقلة المبالاة (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) نمفهم (كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) ذليلا (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) عشيرتك (لَرَجَمْناكَ) بالحجارة (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) (٩١) كريم عن الرجم وإنما رهطك هم الأعزة (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) فتتركوا قتلي لأجلهم ولا تحفظوني لله (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) أي الله (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) منبوذا خلف ظهوركم لا تراقبونه (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٩٢) علما فيجازيكم (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) حالتكم (إِنِّي عامِلٌ) على حالتي (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ) موصولة مفعول العلم (يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا) انتظروا عاقبة أمركم (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (٩٣) منتظر (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاكهم (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) صاح بهم جبريل (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) (٩٤) باركين على الركب ميتين (كَأَنْ) مخففة أي كأنهم (لَمْ يَغْنَوْا) يقيموا (فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٩٥) (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٩٦) برهان بين ظاهر (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (٩٧) سديد (يَقْدُمُ) يتقدم

____________________________________

إليه بفعل الطاعات. قوله : (وَدُودٌ) صيغة مبالغة ، إما بمعنى فاعل أي محب لهم ، كما قال المفسر ، أو بمعنى مفعول أي إن عباده يحبونه ، ويمتثلون أوامره ، ويجتنبون نواهيه. قوله : (ضَعِيفاً) أي لا قوة لك. قوله : (لَرَجَمْناكَ) أي رميناك بالحجارة ، وقيل المعنى لشتمناك وأغلظنا عليك بالقول. قوله : (هم الأعزة) أي لموافقتهم لهم في الدين. قوله : (ظِهْرِيًّا) منسوب للظهر ، والكسر من تغيرات النسب ، والقياس فتح الظاء ، والهاء مفعول أول ، وظهريا مفعول ثان لاتخذوا ، ووراءكم ظرف له. قوله : (منبوذا خلف ظهوركم) أي جعلتموه نسيا منسيا.

قوله : (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) هذا وعيد عظيم وتهديد لهم. قوله : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) استئناف بياني ، كأن قاتلا قال : فماذا يكون بعد ذلك؟ قوله : (موصولة) أي بمعنى الذي. قوله : (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) معطوف على قوله : (مَنْ يَأْتِيهِ) والمعنى سوف تعلمون الذي يأتيه عذاب يخزيه وتعلمون الكاذب. قوله : (صاح بهم جبريل) أي فخرجت أرواحهم جميعا ، وهذا في أهل قريته ، وأما أصحاب الأيكة ، فأهلكوا بعذاب الظلمة ، وهي سحابة فيها ريح طيبة باردة ، فأظلتهم حتى اجتمعوا جميعا ، فألهبها الله عليهم نارا ، ورجفت الأرض من تحتهم ، فاحترقوا وصاروا رمادا. قوله : (أَلا بُعْداً) أي هلاكا. قوله : كما (بَعِدَتْ ثَمُودُ) أي كما هلكت ثمود ، والتشبيه من حيث إن هلاك كل بالصيحة.

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى) هذه هي القصة السابعة. قوله : (بِآياتِنا) أي التسع ، تقدم منها ثمانية في الأعراف ، والتاسعة في يونس ، وتقدم الكلام عليها. قوله : (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) قيل : المراد بالعصا ، وخصت بالذكر لكونها أكبرت الآيات وأعظمها ، وقيل : المراد به المعجزات الباهرة والحجج الظاهرة ، وسميت الحجة سلطانا ، لأن بها قهر الخصم ، كما أن السلطان به قهر غيره ، فيكون عطف عام. قوله : (وَمَلَائِهِ) أي جماعته وأتباعه. قوله : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أي ما هو عليه من الكفر بتلك الآيات العظيمة. قوله : (سديد) أي صائب محمود العاقبة ، بل لا يدعو إلى خير.

١٥٠

(قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيتبعونه كما اتبعوه في الدنيا (فَأَوْرَدَهُمُ) أدخلهم (النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (٩٨) هي (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) أي الدنيا (لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) لعنة (بِئْسَ الرِّفْدُ) العون (الْمَرْفُودُ) (٩٩) رفدهم (ذلِكَ) المذكور مبتدأ خبره (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) يا محمد (مِنْها) أي القرى (قائِمٌ) هلك أهله دونه (وَ) منها (حَصِيدٌ) (١٠٠) هلك بأهله فلا أثر له كالزرع المحصود بالمناجل (وَما ظَلَمْناهُمْ) بإهلاكهم بغير ذنب (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالشرك (فَما أَغْنَتْ) دفعت (عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ) يعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (مِنْ) زائدة (شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) عذابه (وَما زادُوهُمْ) بعبادتهم لها (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١٠١) تخسير (وَكَذلِكَ) مثل ذلك الأخذ (أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى) أريد أهلها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) بالذنوب أي فلا يغني عنهم من أخذه شيء (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢) روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ، ثم قرأ رسول

____________________________________

قوله : (يَقْدُمُ) مضارع قدم كنصر ، ومصدره قدم كقفل ، وقدوم بمعنى يتقدم. قوله : (كما اتبعوه في الدنيا) أي في دخول البحر والكفر والضلال. قوله : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) الورود في الأصل يقال للمرور على الماء للاستقاء منه ، فشبه النار بماء يورد ، وطوى ذكر المشبه به ، ورمز له بشىء من لوازمه وهو الورود ، فإثباته تخييل ، وشبه فرعون في تقدمه على قدمه إلى النار ، ممن يتقدم على الواردين إلى الماء ليكسر العطش على سبيل التهكم. قوله : (هي) قدره إشارة إلى المخصوص بالذم محذوف. قوله : (لَعْنَةً) أي طردا وبعدا عن الرحمة. قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) هذا وقف نام ، وقدر المفسر لعنة ، إشارة إلى أن فيه الحذف من الآخر ، لدلالة الأول عليه.

قوله : (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) المراد بالرفد اللعنة الأولى ، وقوله : (الْمَرْفُودُ) أي المعان باللعنة الثانية ، والمعنى أن اللعنة الأولى ، أرفدت بلعنة أخرى تقويها وتعاونها ، وتسميتها رفدا تهكم. قوله : (ذلِكَ) أي ما تقدم في هذه السورة من القصص. قوله : (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) أي أخبار أهل القرى ، وهم الأمم الماضية. قوله : (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) أي لتخبر به قومك لتعتبروا. قوله : (مِنْها قائِمٌ) أي أثر قائم موجود. قوله : (حَصِيدٌ) (هلك بأهله) أي محي فلم يبق له أثر ، وفيه تشبيه القائم والحصيد بالزرع ، الذي بعضه قائم على ساقه ، وبعضه قد حصد وذهب أثره. قوله : (لَمَّا جاءَ) أي حين جاء.

قوله : (وَما زادُوهُمْ) الضمير المرفوع للأصنام ، والمنصوب لعابديها ، وعبر عنها بواو العقلاء لتنزيلهم منزلتهم. قوله : (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) التباب الخسران ، يقال تببته وتبت يده ، تتب بمعنى خسرت. قوله : (وَهِيَ ظالِمَةٌ) الجملة حالية. قوله : (أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أي غير مرجو الخلاص منه. قوله : (إن الله ليملي للظالم) أي يمده بطول العمر وسعة الرزق ونفوذ الكلمة. قوله : (ثم قرأ) الخ ، أي فيؤخذ من ذلك ، أن من قدم على ظلم ، يجب عليه أن يتوب ، ويرجع عما هو عليه ، ويرد المظالم لأهلها ، لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم ، فإن هذه الآية ليست مخصوصة بالأمم الماضية ، بل هي عامة في كل ظالم ، غير أن

١٥١

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) الآية (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من القصص (لَآيَةً) لعبرة (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ) أي يوم القيامة (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ) فيه (النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١٠٣) يشهده جميع الخلائق (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) (١٠٤) لوقت معلوم عند الله (يَوْمَ يَأْتِ) ذلك اليوم (لا تَكَلَّمُ) فيه حذف إحدى التاءين (نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) تعالى (فَمِنْهُمْ) أي الخلق (شَقِيٌّ وَ) منهم (سَعِيدٌ) (١٠٥) كتب في الأزل (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) في علمه تعالى (فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) صوت شديد (وَشَهِيقٌ) (١٠٦) صوت ضعيف (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي مدة دوامهما في الدنيا (إِلَّا) غير (ما شاءَ رَبُّكَ) من الزيادة على مدتهما مما لا منتهى له والمعنى خالدين فيها أبدا (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٠٧) (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) بفتح السين وضمها

____________________________________

هذه الأمة المحمدية ، لا ينزل بها عذاب على سبيل الاستئصال إكراما لنبيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (من القصص) أي السبع.

قوله : (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي لأنه إذا تأمل ما حصل لهؤلاء في الدنيا من العذاب ، كان ذلك باعثا له على الخوف من ذلك اليوم. قوله : (فيه) أشار بذلك إلى أن اللام بمعنى في ، والمعنى أن يوم القيامة تجمع فيه الخلائق من الأنس والجن وغيرهما. قوله : (يشهده) أي يحضره. قوله : (وَما نُؤَخِّرُهُ) أي ذلك اليوم وهو يوم القيامة. قوله : (لوقت معلوم) أي وهو مدة الدنيا. قوله : (يَوْمَ يَأْتِ) (ذلك اليوم) إن قلت : إن اليوم لا يصلح أن يكون ظرفا لليوم ، وإلا لزم تعيين الشيء بنفسه. وأجيب : بأن الكلام على حذف مضاف ، أي هوله وعذابه ، أو المعنى حين يأتي ذلك اليوم إلخ.

قوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي فجميع الخلائق يسكنون في ذلك اليوم ، فلا يتكلم أحد إلا بإذنه. إن قلت : كيف يجمع بين ما هنا وبين قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) وقوله تعالى حكاية عن الكفار : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)؟ أجيب : بأن القيامة مواطن مختلفة ففي بعضها لا يقدرون على الكلام لشدة الهول ، وفي بعضها يحتاجون ويتجادلون ، أو المراد لا تكلم نفس بما ينفع وينجي ، بل قد يتكلم الكفار بكلام لا نفع به ، بل لإظهار بطلان حججهم. قوله : (كتب كل في الأزل) أي وظهرت الخاتمة على طبق ما كتب. قوله : (في علمه) أي وهم من ماتوا كفارا وإن تقدم منهم إيمان.

قوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) الزفير في الأصل ترديد النفس في الصدر ، حتى تنتفخ منه الأضلاع ، والشهيق رد النفس إلى الصدر ، وهذا التفسير الذي ذكره المفسر لابن عباس ، وقيل : الزفير أول صوت الحمار ، والشهيق آخره ، وقيل : الزفير صوت الحمار ، والشهيق صوت البغل ، وقيل غير ذلك. قوله : (أي مدة دوامهما) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية ظرفية ، ودام تامة لأنها بمعنى بقيت أو مقدار دوامهما. قوله : (في الدنيا) أي فالمراد سماوات الدنيا وأرضها. قوله : (غير) (ما شاءَ رَبُّكَ) أفاد أن (إِلَّا) معنى غير ، والمعنى أنهم يخلدون في النار مقدار مكث الدنيا ، غير لزيادة التي شاءها الله ، وما شاء الله قد بين في آيات أخر ، منها ، قوله : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ، ومنها (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) ، ومنها قوله : (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) دفع بذلك ما يتوهم من التعبير بالمشيئة أنها قد تتخلف. فأجاب

١٥٢

(فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا) غير (ما شاءَ رَبُّكَ) كما تقدم ودل عليه فيهم قوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨) مقطوع وما تقدم من التأويل هو الذي ظهر وهو خال

____________________________________

بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فلا تخلف لمشيئة الله بخلود الكافر ، لأنه متى أراد شيئا حصل ولا بد ، وما قيل إن وعيده قد يتخلف ، فالمراد وعيد العاصي لا وعيد الكافر. قوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) هذا مقابل قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) وفي هذه الآية من المحسنات البديعية ، الجمع والتفريق والتقسيم ، فالجمع في قوله : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) والتفريق في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، والتقسيم في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) إلخ (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) إلخ. قوله : (بفتح السين وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، فالفتح من قولهم : سعد الرجل بمعنى قامت به السعادة ، والضم في قولهم : سعده الله أي أسعده ، فالأول قاصر ، والثاني متعد ، والمعنى : إن الذين سبقت لهم السعادة من الله بموتهم على الإيمان ، وإن سبق منهم الكفر في الدنيا ، فهم في الجنة ، والمراد بالسعادة رضا الله على العبد ، وعلامة ذلك أن يكون العبد محبا لربه ، ساعيا في مرضاته ، دائم الإقبال على طاعته ، راضيا بأحكامه.

قوله : (فَفِي الْجَنَّةِ) المراد بها دار النعيم بجميع دورها ، فشمل جنة الفردوس وغيرها. قوله : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي مدة دوامهما في الدنيا ، والمعنى قدر مكث السماوات والأرض ، من أول الدنيا إلى آخرها. قوله : (كما تقدم) أي فيقال غير ما شاء ربك من الزيادة التي لا منتهى لها ، فالمعنى خالدين فيها أبدا ، ويدل ذلك على قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) فالزيادة التي شاءها الله ، فسرت في آيات أخر بالخلود المؤبد ، قوله : (ودلّ عليه) أي على الخلود المؤبد ، وقوله : (فيهم) أي السعداء.

قوله : (عَطاءً) مفعول مطلق لفعل محذوف وتقديره أعطاهم ذلك العطاء ، وعطاء اسم مصدر أعطى ، والمصدر إعطاء. قوله : (مقطوع) أي ولا ممنوع ، بل هو عطاء دائم ، لا يزول ولا يحول. قوله : (هو الذي ظهر) أي من نحو عشرين وجها في تفسير تلك الآية ، منها أن المراد بالسماوات والأرض سقف الجنة والنار وأرضهما ، ويحتمل الاستثناء في جانب أهل الشقاوة على عصاة الأمة فيكون المعنى خالدين فيها أبدا ، إلا عصاة المؤمنين الذين نفذ فيهم الوعيد ، فلا يخلدون أبدا ، بل يخرجون بشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والاستثناء حينئذ ، إما منقطع لعدم دخول هؤلاء في الأشقياء ، أو متصل بجعل هؤلاء أشقياء باعتبار ، وسعداء باعتبار آخر ، وفي جانب أهل السعادة على عصاة المؤمنين أيضا ، لكن باعتبار تعذيبهم أولا ، فيتأخرون في الدخول مع السابقين ، فتحصل أن الاستثناء في كل محمول على العصاة ، لكن في جانب أهل الشقاوة مستثنون من الخلود ، وفي جانب أهل السعادة مستثنون من المبدأ. كأنه قال : فأما الذين سعدوا ففي الجنة من أول الأمر ، إلا ما شاء ربك من العصاة ، فليسوا في الجنة من أول الأمر ، بل هم في النار يعذبون ثم يخرجون. ومنها : أن المراد بالذين شقوا الكفار ، وبالذين سعدوا المؤمنون ، والاستثناء باعتبار أن بعض الكفار ، قد ينقل من النار إلى غيرها كالزمهرير ، وبعض المؤمنين قد ينقل من النعيم ، فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، إلى أعلى منه ، وهو رؤية وجه الله الكريم ومخاطبته ، ومنها : أن الاستثناء راجع لمدة تأخرهم عن دخول الجنة والنار ، كمدة الدنيا والبرزخ ، لأنهم لم يدخلوها حين خلقوا سعداء وأشقياء. ومنها غير ذلك. وما تقدم من أن نعيم الجنان وعذاب النار دائم ، هو ما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، ووراء ذلك أقوال يجب تأويلها ، والأخذ بظاهرها كفر ، فمنها ما قيل إن الجنة والنار ينقضيان بدليل ظاهر

١٥٣

من التكلف والله أعلم بمراده (فَلا تَكُ) يا محمد (فِي مِرْيَةٍ) شك (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) من الأصنام أنا نعذبهم كما عذبنا من قبلهم وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ) أي كعبادتهم (مِنْ قَبْلُ) وقد عذبناهم (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ) مثلهم (نَصِيبَهُمْ) حظهم من العذاب (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) (١٠٩) أي تاما (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) بالتصديق والتكذيب كالقرآن (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) في الدنيا فيما اختلفوا فيه (وَإِنَّهُمْ) أي المكذبين به (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١١٠) موقع في الريبة (وَإِنَ) بالتخفيف والتشديد (كُلًّا) أي كل الخلائق (لَمَّا) ما

____________________________________

هذه الآية ، ومنها أن أهل النار تنقلب عليهم النار نعيما ، حتى لو صب عليهم ماء الجنة يتأذون ، ومنها أن النار تخرب حتى لا يصير فيها أحد ، ومنها غير ذلك ، وهذه الأقوال باطلة ، ونسبتها المحيي الدين بن العربي كذب ، وعلى فرض صحة نقلها عنه يجب تأويلها.

قوله : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) هذا شروع في ذكر أحوال المخالفين من هذه الأمة ، إثر بيان المخالفين من غيرهم ، وهذا الخطاب للنبي والمراد غيره. قوله : (من الأصنام) بيان لما. قوله : (ما يَعْبُدُونَ) أي فليس لهم في ذلك إلا محض تقليد آبائهم. قوله : (وقد عذبناهم) أي آباءهم ، وإنما قدره لتتم المشابهة. قوله : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ) أي هؤلاء. قوله : (أي تاما) أشار بذلك إلى أن قوله : (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال من نصيب مبينة له. قوله : (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي فلا تحزن على ما وقع لك ، فإنه قد وقع لغيرك. قوله : (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لجوزي المحسن على إحسانه ، والمسيء على إساءته في الدنيا. قوله : (أي المكذبين به) أي بالقرآن.

قوله : (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي من القرآن. قوله : (موقع في الريبة) أي لأنهم إذا نظروا لآبائهم وما كانوا عليه قالوا : لو كان ما هم عليه ضلالا ما اجتمعوا عليه ، وإذا نظروا إلى النبي ومعجزاته الظاهرة قالوا إنه لحق ، وما جاء به صدق ، فهم في شك ، ولا شك أنه كفر ، وكل ناشىء من الطبع على قلوبهم ، وإلا فالحق ظاهر لما تدبره.

قوله : (وَإِنَّ كُلًّا) أي من الطائعين والعاصين ، وأتى بالجملة الإسمية المؤكدة بإن ، ولام القسم زيادة في تأكيد بشرى المطيع ووعيد العاصي. قوله : (بالتشديد والتخفيف) أي ولما كذلك فتكون القراءات أربعا وكلها سبعية. قوله : (أي كل الخلائق) أشار بذلك إلى أن التنوين عوض عن المضاف إليه. قوله : (ما زائدة) أي والأصل ليوفينهم ، فاستثقل اجتماع اللامين فوسطت بينهما ما ، لدفع ذلك الثقل. قوله : (واللام موطئة) أي والأخرى للتأكيد. قوله : (أو فارقه) أي أتى بها فرقا بين المهملة والنافية ، وفيه أن إن عاملة على كل حال ، فليست حينئذ فارقة ، فكان المناسب حذف قوله أو فارقة ، إلا أن يقال إنها مهملة ، و (كُلًّا) منصوب بفعل مقدر تقديره وإن يرى كلا ، وفيه أن هذا تكلف ، وما لا كلفة فيه خبر مما فيه كلفة ، وما ذكره المفسر من الإعراب ، مبني على قراءة تشديد إن وتخفيفها مع تخفيف لما ، وتوضيحه أن يقال إن حرف توكيد ونصب ، وكلا اسمها ، واللام موطئة لقسم محذوف ، وما زائدة ،

١٥٤

زائدة واللام موطئة مقدر أو فارقة وفي قراءة بتشديد لما بمعنى إلا فإن نافية (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) أي جزاؤها (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١١) عالم ببواطنه كظواهره (فَاسْتَقِمْ) على العمل بأمر ربك والدعاء إليه (كَما أُمِرْتَ وَ) ليستقم (مَنْ تابَ) آمن (مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) تجاوزوا حدود الله (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٢) فيجازيكم (وَلا تَرْكَنُوا) تميلوا (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم (فَتَمَسَّكُمُ) تصيبكم (النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (مِنْ)

____________________________________

واللام الثانية للتأكيد ، ويوفينهم فعل مضارع مبني على الفتح ، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ، والهاء مفعول ، وربك فاعل ، وجملة القسم في محل رفع خبر إن. قوله : (بمعنى إلا فإن نافية) هذا ظاهر على قراءة تخفيف إن ، وحينئذ فيقال إن نافية ، وكلا منصوب بفعل مقدر ، والتقدير إن يرى كلا إلا ليوفينهم إلخ ، ولم يتكلم على تشديد هما ، هذا حاصل تقرير المفسر ، ولا يخفى عليك ما فيه من المناقشة والكلفة والإعراب السالم ، من ذلك كله أن يقال : إن القراءات السبعية أربع ، تخفيفهما وتشديدهما وتخفيف إن فقط ، وتخفيف لما فقط ، مع نصب كلا في الجميع ، فعلى الأولى إن مخففة من الثقيلة ، وكلا اسمها ، واللام الأولى لام الابتداء ، وما اسم موصول ، واللام الثانية موطئة لقسم محذوف ، ويوفينهم جواب القسم ، وجملة القسم وجوابه صلة الموصول ، والموصول وصلته خبر إن ، وعلى الثانية إن عاملة ، ولما أصله لمن ما بدخول اللام على من الجارة ، قلبت النون ميما لتوالي الأمثال ، حذفت إحدى الميمات ، وأدغمت إحدى الميمين في الأخرى ، فما اسم موصول ، وجملة ليوفينهم قسمية صلة الموصول ، وهو وصلته خبر إن ، وعلى الثالثة فإن المخففة عاملة ، وأصل لما : لمن ما ، فعل بها ما تقدم ، وعلى الرابعة إن المشددة عاملة ، واللام لام الابتداء ، وما اسم موصول في جميع الأوجه كلها. واللام الثانية موطئة للقسم ، والأولى لام الابتداء فتأمل ، وما قررناه زبدة كلام طويل في هذا المقام فليحفظ. قوله : (أي جزاؤها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف.

قوله : (فَاسْتَقِمْ) أي دم على الاستقامة التي أمرت بها في خاصة نفسك ، كقيام الليل ، وتبليغ ما أمرت بتبليغه للخلق ، وعدم فرارك من قتال الكفار ولو اجتمعت أهل الدنيا ، وغير ذلك من التكاليف العامة له ولغيره والخاصة به. قوله : (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) قدر المفسر قوله : (ليستقم) جوابا عما يقال إن. قوله : (مَنْ تابَ) معطوف على الضمير المستتر في استقم ، فيلزم عليه أن فعل الأمر قد رفع الظاهر ، فأجاب المفسر : بأن ذلك من عطف الجمل ، والمحذور إنما يلزم لو كان من عطف المفردات ، ويجاب أيضا : بأنه قد يغتفر في التابع ، ما لا يغتفر في المتبوع.

قوله : (وَلا تَطْغَوْا) خطاب للنبي والأمة ، ولكن المراد الأمة ، فإن الطغيان مستحيل علي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي الآية صعبة التكليف ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شيبتني هود وأخواتها». قوله : (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي بالكفر أو بالمعاصي. قوله : (بمودة) مصدر وادد كقاتل ، أي محبة. قوله : (أو مداهنة) أي مصانعة ، فالمداهنة بذل الدين لإصلاح الدنيا. قوله : (أو رضا بأعمالهم) أي وتزيينها لهم ، ولا عذر في الاحتجاج بضرورات الدنيا ، فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. قوله : (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) أي لأن المرء

١٥٥

زائدة (أَوْلِياءَ) يحفظونكم منه (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (١١٣) تمنعون من عذابه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) الغداة والعشي أي الصبح والظهر والعصر (وَزُلَفاً) جمع زلفة أي طائفة (مِنَ اللَّيْلِ) أي المغرب والعشاء (إِنَّ الْحَسَناتِ) كالصلوات الخمس (يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) الذنوب الصغائر. نزلت فيمن قبل أجنبية فأخبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ألي هذا؟ فقال : «لجميع أمتى كلهم» رواه الشيخان (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١٤) عظة للمنعظين (وَاصْبِرْ) يا محمد على أذى قومك أو على الصلاة (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١١٥) بالصبر على الطاعة (فَلَوْ لا) فهلا (كانَ مِنَ الْقُرُونِ) الأمم الماضية (مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) أصحاب دين وفضل (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) المراد به النفي أي ما كان فيهم ذلك (إِلَّا) لكن (قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) نهوا فنجوا ومن

____________________________________

يحشر مع من أحب. قوله : (يحفظونكم منه) أي من عذاب النار.

قوله : (طَرَفَيِ النَّهارِ) منصوب على الظرفية ، لإضافته إلى الظرف. قوله : (الغداة والعشي) تفسير للطرفين. قوله : (أي الصبح) راجع للغداة ، وقوله : (والظهر والعصر) راجع للعشي. قوله : (وَزُلَفاً) بضم ففتح كغرف ، وقوله : (جمع زلفة) أي كغرفة.

قوله : (الْحَسَناتِ) أي الواجبة أو المندوبة. قوله : (نزلت فيمن قبل أجنبية) أي وهو أبو اليسر ، قال : اتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت لها : إن في البيت تمرا أطيب من هذا ، فدخلت معي البيت فقبلتها ، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال : استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا ، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال : استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدا ، فلم أصبر حتى أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك له فقال : أخنت رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا ، وأطرق طويلا حتى أوحي إليه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) إلى (الذَّاكِرِينَ) ، فقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : ألي هذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال : بل للناس عامة. قوله : (ذلِكَ) أي المذكور من الأمر بالاستقامة وما بعده. قوله : (وَاصْبِرْ) أي ولا تنزعج من قومك. قوله : (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي بل يعطيهم فوق ما يطلبون.

قوله : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ) إلخ ، لما بيّن سبحانه وتعالى ما حل بالأمم الماضية من عذاب الاستئصال ، بيّن هنا أن السبب في ذلك أمران ، الأول : عدم وجود من ينهى عن الفساد. الثاني : عدم رجوعهم عما هم فيه. قوله : (فهلا) أفاد المفسر أن لو لا تحضيضية ، والمراد بها النفي. قوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة للقرون ، و (أُولُوا) ، فاعل كان ، وقوله : (مِنَ الْقُرُونِ) حال من فاعل (كانَ). قوله : (أصحاب دين وفضل) أي وسموا (أُولُوا بَقِيَّةٍ) لأن أهل البقاء بربهم لا يتحولون عما هم عليه من الدين والصلاح ، فلهم البقاء والنجاة من الهلاك. قوله : (والمراد به) أي بالتحضيض المستفاد من لو لا. قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) هذا استثناء منقطع ، ولذا عبر المفسر بلكن ، فالمستثنى منه القرون المهلكة بالعذاب ، لعدم نهيهم عن المنكر ، والمستثنى من انجاء الله من العذاب ، بسبب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

١٥٦

للبيان (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالفساد وترك النهي (ما أُتْرِفُوا) نعموا (فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (١١٦) (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) منه لها (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (١١٧) مؤمنون (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أهل دين واحد (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١١٨) في الدين (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أراد لهم الخير فلا يختلفون فيه (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي أهل الاختلاف له وأهل الرحمة لها (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وهي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ) الجن (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩) (وَكُلًّا) نصب بنقص وتنوينه عوض عن المضاف إليه أي كل ما يحتاج إليه (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ

____________________________________

قوله : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي داموا على شهواتهم ولم يتذكروا عذاب الله. قوله : (نعموا) أي من النعيم الذي يغضب الله تعالى ، فالمعنى أن سبب هلاكهم انشغالهم بالشهوات المغضبة لله تعالى وعدم رجوعهم عنها. قوله : (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) الجملة حالية أي والحال أنهم فاعلون الجرائم مصرون عليها.

قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى) هذا كالدليل لما قبله ، والمعنى ما صح أن يهلك القرى بظلم منه ، والحال أن أهلها مصلحون ، وسمي الأخذ من غير ذنب ظلما تكرما منه ، وإلا فحقيقته الظلم التصرف في ملك الغير من غير إذنه ، ولا ملك لأحد معه ، وهو بهذا المعنى مستحيل عقلا من الله ، وأما أخذه بغير ذنب ، فهو وإن كان جائزا عقلا فمستحيل شرعا ، لأنه سماه ظلما تفضلا منه ، ونزه نفسه سبحانه عنه ، كما ألزم نفسه بالرحمة تفضلا منه. قوله : (منه لها) ويصح أن يكون المعنى بظلم منهم ، ويراد بالظلم الشرك ، والمعنى أنه لا يهلك أهل القرى بمجرد شركهم ، إذا كانوا مصلحين فيما بينهم ، لفرط مسامحته تعالى في حقوقه ، ولذلك تقدم حقوق العبادة على حقوق خالقهم.

قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي لكنه لم يشأ ذلك ، فلم يجعلهم أمة واحدة ، فلو امتناعية ، والمعنى امتنع ذلك لعدم مشيئة الله له. قوله : (أهل دين واحد) أي وهو دين الإسلام. قوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) أي على أديان شتى ، واستفيد من هذا ، أن الاختلاف كما كان حاصلا في الأمم الماضية ، لا يزال مستمرا في هذه الأمة ، فمنهم الكافر والمؤمن والطائع والعاصي ، ولذلك ورد في الحديث : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وستفترقون ثلاثا وسبعين ، اثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، والمراد بالفرقة الواحدة ، أهل السنة والجماعة». قوله : (فلا يختلفون فيه) بل هم على دين واحد لا يتفرقون ، قال تعالى : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ). قوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) اللام للعاقبة والصيرورة ، والمعنى : خلق أهل الاختلاف ، لتكون عاقبة أمرهم هو الاختلاف ، وخلق أهل الرحمة ، لتكون عاقبة أمرهم الرحمة.

قوله : (وَتَمَّتْ) أي حقت ووجبت. قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) أي حتى تقول قط قط ، بمعنى يكفي يكفي كما في الحديث ، وذلك بعد أن تمد أعناقها وتطلب الزيادة ، فيتجلى الله عليها بصفة الجلال ، فتخضع وتذل وتقول قط قط. قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) أي الكفار منهم ، لأن الامتلاء على سبيل الخلود ، لا يكون إلا من الكفار. قوله : (نصب بنقص) أي على أنه مفعول له.

١٥٧

ما) بدل من كلا (نُثَبِّتُ) نطمن (بِهِ فُؤادَكَ) قلبك (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) الأنباء أو الآيات (الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠) خصوا بالذكر لانتفاعهم بها في الإيمان بخلاف الكفار (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) حالتكم (إِنَّا عامِلُونَ) (١٢١) على حالتنا تهديد لهم (وَانْتَظِرُوا) عاقبة أمركم (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٢٢) ذلك (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي علم ما غاب فيهما (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ) بالبناء للفاعل يعود وللمفعول يرد (الْأَمْرُ كُلُّهُ) فينتقم ممن عصى (فَاعْبُدْهُ) وحده (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) ثق به فإنه كافيك (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣) وإنما يؤخرهم لوقتهم وفي قراءة بالفوقانية.

____________________________________

قوله : (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) أي أخبارهم. قوله : (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي القصص والأخبار التي بها يزداد فؤادك ثباتا على أداء الرسالة ، وتحمل أذى قومك ، وعلما بفضل أمتك وشرفها ، حيث انقاد منها خلق كثير في مدة يسيرة ، بخلاف الأمم الماضية. قوله : (الأنباء) أي الأخبار ، وقوله : (أو الآيات) تفسير ثان ، والمراد بالآيات آيات هذه السورة وخصت بالذكر ، وإن كان جاءه الحق في جميع السور تشريفا لها ، لكونها جمعت من قصص الأمم الماضية ما لم يكن في غيرها. قوله : (وَمَوْعِظَةٌ) أي اتعاظ ، وقوله : (وَذِكْرى) أي تذكر وتدبر. قوله : (حالتكم) أي وهي الكفر. قوله : (على حالتنا) أي وهي الإيمان. قوله : (تهديد لهم) أي تخويف ، وليس المراد الأمر بدوامهم على الكفر ، بل هو على حد : إذا لم تستح فاصنع ما شئت. قوله : (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (ذلك) أي عاقبة أمركم.

قوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال كعب الأحبار : خاتمة التوراة هي خاتمة سورة هود. قوله : (أي علم ما غاب فيهما) أي فلم يكلفنا بمعرفته. قوله : (للمفعول) أي فهما قراءتان سبعيتان والمعنى واحد. قوله : (الْأَمْرُ كُلُّهُ) أي أمر الخلائق كلهم في الدنيا والآخرة من خير وشر. قوله : (فينتقم ممن عصى) أي ويثيب من أطاع. قوله : (فَاعْبُدْهُ) هذا مفرع على قوله : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلخ ، أي فحيث كان هو العالم بما غاب في السماوات والأرض ، وإليه مرجع الأمور كلها ، فهو حقيق بعبادته هو لا غيره ، وحقيق بالتوكل عليه وتفويض الأمور إليه. قوله : (ثق به) أي اعتمد عليه ولا تلتفت لغيره ؛ فإنه لا يضر ولا ينفع ، بل الضار النافع ، المعطي المانع ، هو الله ، وبهذا تعلم أن التوكل أمر زائد على التوحيد ، فالتوحيد ينفي الشرك ، والتوكل ينفي الأوهام المعطلة على مراتب الأخيار. قوله : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ما) حجازية ، و (رَبُّكَ) اسمها ، و (بِغافِلٍ) خبرها منصوب بفتحة مقدرة على آخره ، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (بالفوقانية) أي خطابا للنبي والمؤمنين.

١٥٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة يوسف

مكيّة

وآياتها إحدى عشرة ومائة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر) الله أعلم بمراده بذلك (تِلْكَ) هذه الآيات (آياتُ الْكِتابِ) القرآن ، والإضافة بمعنى من (الْمُبِينِ) (١) المظهر للحق من الباطل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) بلغة العرب (لَعَلَّكُمْ) يا أهل مكة (تَعْقِلُونَ) (٢) تفهمون معانيه (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ)

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة يوسف

مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية

مناسبة هذه السورة لما قبلها ، جمع قصص الأنبياء ، فإن ما قبلها ذكر فيها سبع قصص للأنبياء ، وهذا من محاسن قصص الأنبياء ، وأيضا ليتسلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما وقع للأنبياء من أذى الأقارب والأباعد ، على ما وقع له من أذى قومه الأقارب والأباعد ، وحكمة قص القصص عليه ، ليتأسى بهم ويتعلق بأخلاقهم ، فيكون جامعا لكمالات الأنبياء. وسبب نزول هذه السورة ، أن اليهود سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : حدثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف ، وهذه السورة فيها من الفوائد الشريفة والحكم المنيفة ، ما لا يدخل تحت حصر ، ولذا قال خالد بن معدان : سورة يوسف وسورة مريم ، تتفكه بهما أهل الجنة في الجنة ، وقال عطاء : لا يسمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها. قوله : (مكية) خبر أول عن سورة ، وقوله : (مائة) إلخ ، خبر ثان.

قوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) مبتدأ وخبر ، وأشير إليها بإشارة البعيد ، إشارة لبعد رتبتها عن كلام الحوادث وعلو شأنها. قوله : (هذه الآيات) أي آيات هذه السورة. قوله : (المظهر للحق) أي فهو مأخوذ من أبان المتعدي ، ويصح أخذه من اللازم ، ويكون المعنى البين حلاله وحرامه.

قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي نحن بعظمتنا وجلالنا. قوله : (عَرَبِيًّا) نعت للقرآن ، والعربي منسوب للعرب لكونه نزل بلغتهم ، والمعنى أن القرآن نزل بلغة العرب ، فليس فيه شيء غير عربي. فإن قلت : قد ورد في شيء غير عربي ، كسجيل ومشكاة واستبرق وغير ذلك. أجيب : بأن هذا مما توافقت فيه اللغات ،

١٥٩

أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا) بإيحائنا (إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ) مخففة أي وإنه (كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣) اذكر (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) يعقوب (يا أَبَتِ) بالكسر دلالة على ياء الإضافة المحذوفة والفتح دلالة على ألف محذوفة قلبت عن الياء (إِنِّي رَأَيْتُ) في المنام (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً

____________________________________

والمراد أن تراكيبه وأساليبه عربية ، وإن ورد فيه غير عربي ، فهو على أسلوب العرب ، وعلى أسلوب غيرهم ، وإنما كان عربيا ، لأن تلك اللغة أفصح اللغات ، ولأنها لغة أهل الجنة في الجنة. قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) علة لكونه عربيا ، والمعنى لكي تفهموا معانيه وتتأملوا فيها ، فتعلموا أنه من عند الله.

قوله : (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) صفة لمصدر محذوف مفعول مطلق ، والتقدير قصصا أحسن القصص ، والقصص في اللغة من قص الأثر تتبعه ، سمي الكلام الذي يحكي عن الغير بذلك ، لأن المتكلم يقص الخبر شيئا فشيئا ، والمعنى نحن نبين لك أخبار الأمم السابقة أحسن البيان ، وقيل المراد خصوص قصة يوسف ، وإنما كانت أحسن القصص ، لما فيها من الحكم والنكت ، وسير الملوك والمماليك والعلماء ، ومكر النساء والصبر على الأذى ، والتجاوز عنه أحسن التجاوز ، وغير ذلك من المحاسن. قوله : (بإحيائنا) الباء سببية ، وأشار بذلك إلى أن ما مصدرية ، والجار والمجرور متعلق بنقص. قوله : (هذَا الْقُرْآنَ) اسم الإشارة مفعول لأوحينا ، والقرآن بدل من اسم الإشارة ، أو عطف بيان أو نعت. قوله : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) الجملة حالية. قوله : (لَمِنَ الْغافِلِينَ) أي لم تخطر ببالك تلك القصة ولم تسمعها قط ، بل كنت خالي الذهن منها ، وهذا من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث يخبر عن المتقدمين والمتأخرين ، بأحسن تعبير وأبلغ وجه ، ولذا قال البوصيري :

كفاك بالعلم في الأميء معجزة

في الجاهلية والتأديب في اليتم

فأكبر دليل على فضل الإنسان ، غزارة علمه وسعة اطلاعه ، على ما أعطاه الله من العلوم اللدنية والمعارف الربانية. قوله : (اذكر) قدره إشارة إلى أن (إِذْ) ظرف لمحذوف ، وقيل معمول لقوله تعالى : (يا بنيّ) وهو الأولى لما فيه من عدم الحذف. قوله : (يُوسُفُ) اسم عبراني ممنوع من الصرف ، وعاش من العمر مائة وعشرين سنة ، وعاش أبوه مائة وسبعا وأربعين سنة ، وعاش جده إسحاق مائة وثمانين سنة ، وعاش جده إبراهيم مائة وخمسا وسبعين سنة. قوله : (بالكسر) أي وأصلها يا أبي ، حذفت الياء وعوض عنها تاء التأنيث ، ونقلت كسرة ما قبلها لها ، وفتحت الياء لمناسبة تاء التأنيث ، وتقول في إعرابها : يا حرف نداء ، وأبت منادى منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم ، المعوض عنها تاء التأنيث. قوله : (والفتح) أي وأصلها أبي ، بكسر الباء وفتح الياء ، ففتحت الباء ثم تحركت الياء ، وانفتح ما قبلها ، قلبت ألفا ، حذفت الألف وعوض عنها تاء التأنيث ، وفتحت للدلالة على الألف المحذوفة ، وتعويض تاء التأنيث عن ياء المتكلم مختص بلفظين : أبت وأمت ، وهذان الوجهان زائدان على أوجه المنادى المضاف لياء المتكلم وهي خمس ، جمعها ابن مالك في قوله :

واجعل منادى صح إن يضف ليا

كعبد عبدي عبد عبدا عبديا

فيكون في أبت وأمت سبعة أوجه ، يجوز منها وجهان قراءة لا غير. قوله : (إِنِّي رَأَيْتُ) هذه الرؤية كانت ليلة الجمعة ليلة القدر ، وكان سنه إذ ذاك اثنتي عشرة ، وقيل سبع سنين ، وقيل سبع عشرة سنة ،

١٦٠