حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٢

وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) من الغزو بتعليمهم ما تعلموه من الأحكام (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢) عقاب الله بامتثال أمره ونهيه ، قال ابن عباس : فهذه مخصوصة بالسرايا والتي قبلها بالنهي عن تخلف واحد فيما إذا خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي الأقرب فالأقرب منهم (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) شدة أي أغلظوا عليهم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣) بالعون والنصر (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) من القرآن (فَمِنْهُمْ) أي المنافقين (مَنْ يَقُولُ) لأصحابه استهزاء (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) تصديقا. قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) لتصديقهم بها (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١٢٤) يفرحون بها (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف اعتقاد (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) كفرا إلى كفرهم لكفرهم بها (وَماتُوا وَهُمْ

____________________________________

علة لمحذوف ، ولا يصح أن يكون علة لقوله : (نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) قوله : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) عطف على قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا) فيه إشارة إلى أنه ينبغي لطالب العلم تحسين مقصده ، بأن يقصد بطلبه العلم تعليم غيره ، واتعاظه هو في نفسه ، لا الكبر على العباد ، والتشدق بالكلام. قوله : (إِذا رَجَعُوا) أي من كان في الغزو ، قوله : (إِلَيْهِمْ) أي إلى من مكث ليتفقه في الدين. قوله : (قال ابن عباس) إلخ ، المقصود من ذلك ، دفع التعارض بين هذه الآية وما قبلها. قوله : (مخصوصة بالسرايا) أي وهي التي أرسلها ولم يخرج معها. قوله : (فيما إذا خرج النبي) أي لأنه لا عذر ، حينئذ لمن يتخلف ، لأن صاحب الشريعة الذي يتعلمونها منه مصاحب لهم.

قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) ليست هذه الآية ناسخة لآية : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) على التحقيق ، بل هذه الآية تعليم لآداب الحرب ، وهو أن يبدأوا بقتال الأقرب فالأقرب ، حتى يصلوا إلى الأبعد ، فبهذا يتمكنون من قتالهم كافة ، لأن قتلهم دفعة واحدة لا يتصور ، ولذا قاتل رسول الله أولا قومه ، ثم انتقل إلى سائر العرب ، ثم إلى قتال أهل الكتاب ، ثم إلى قتال أهل الروم والشام ، ثم بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتقل أصحابه إلى قتال العراق ، ثم بعد ذلك إلى سائر الأمصار. قوله : (يَلُونَكُمْ) من الولي وهو الأقرب ، وفي فعله لغتان : وليه يليه وهو الأكثر ، والثانية من باب وعد ، والآية منها وهي قليلة الاستعمال ، فأصله يوليون ، حذفت الواو لوقوعها بين عدوتيها ، ثم نقلت ضمة الياء إلى اللام بعد سلب حركتها ، فالتقى ساكنان ، حذفت الياء لالتقائهما. قوله : (شدة) أي صبرا وتحملا. قوله : (أي أغلظوا عليهم) أشار بذلك إلى أن في الآية استعمال السبب في المسبب ، لأن وجدان الكفار الغلظة ، مسبب عن إغلاظ المسلمين عليهم.

قوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ) المعنى إذا نزلت سورة من القرآن ، والحال أن المنافقين ليسوا حاضرين وقت النزول ، وليس فيها فضيحة ، وأما ما يأتي فيحمل على ما إذا كانوا حاضرين ذلك ، والحال أن فيها بيان أحوالهم ، فلا تنافي بين المحلين كما يأتي. قوله : (لأصحابه) أي أو لضعفاء المؤمنين. قوله : (يفرحون بها) أي لأنه كلما نزل شيء من القرآن ، ازدادوا إيمانا ، وهذا الحكم باق إلى الآن ، فمن يفرح بكلام الله وبحامليه ، فهو من المؤمنين الصادقين ، ومن ينفر من سماعه ومن حامليه ، فهو إما كافر أو قريب من الكفر. قوله : (كفرا إلى كفرهم) أشار بذلك إلى أنه ضمن الزيادة معنى الضم ، والمعنى زادتهم كفرا

٨١

كافِرُونَ) (١٢٥) (أَوَلا يَرَوْنَ) بالياء أي المنافقون والتاء أيها المؤمنون (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) يبتلون (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) بالقحط والأمراض (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) من نفاقهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦) يتعظون (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) فيها ذكرهم وقرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) يريدون الهرب يقولون (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) إذا قمتم فإن لم يرهم أحد قاموا وإلا ثبتوا (ثُمَّ انْصَرَفُوا) على كفرهم (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) عن الهدى (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧) الحق لعدم تدبرهم (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي منكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَزِيزٌ) شديد (عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي عنتكم مشقتكم ولقاؤكم المكروه (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أن تهتدوا (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ) شديد الرحمة

____________________________________

مضموما إلى كفرهم ، لأن كفرهم يزيد بزيادة جحدهم المنزل ، وسمي الكفر رجسا ، لكونه أقبح الأشياء ، والرجس هو الشيء المستقذر. قوله : (بالياء) أي فالاستفهام حينئذ للتوبيخ ، قوله : (والتاء) أي فالاستفهام للتعجب ، لأن الخطاب حينئذ للصحابة.

قوله : (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) أي لا يرجعون عما هم عليه. قوله : (فيها ذكرهم) أي بيان أحوالهم قوله : (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي يتغامزون بالعيون. قوله : (يريدون الهروب) أي خوفا من الفضيحة التي تحصل لهم. قوله : (ويقولون) أشار بذلك إلى أن قوله : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) مقول لقول محذوف. قوله : (ثُمَّ انْصَرَفُوا) (على كفرهم) عبارته تفيد أن قوله : (ثُمَّ انْصَرَفُوا) ليس مرتبا على كونهم (لم يرهم أحد) وليس كذلك ، فكان المناسب أن يقول : (قاموا) وهو بمعنى (ثُمَّ انْصَرَفُوا). قوله : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) إخبار أو دعاء. قوله : (لا يَفْقَهُونَ) (الحق) أي لا يفهمونه.

قوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ) اللام موطئة لقسم محذوف ، أي وعزتي وجلالي (لَقَدْ جاءَكُمْ) إلخ. قوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) خطاب للعرب ، قال ابن عباس : ليس قبيلة من العرب إلا وقد ولدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وله فيها نسب ، و (أَنْفُسِكُمْ) بضم الفاء باتفاق السبعة ، وقرىء (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) بفتح الفاء من النفاسة ، والمعنى جاءكم رسول من أشرفكم وأرفعكم قدرا ، لما في الحديث : «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى بين هاشم من قريش ، واصطفاني من بني هاشم ، فأنا خيار من خيار من خيار».

قوله : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) يصح أن يكون (عَزِيزٌ) صفة لرسول ، و (ما) مصدرية أو بمعنى الذي ، والمعنى يعز عليه عنتكم أو الذي عنتموه ، ويصح أن يكون (عَزِيزٌ) خبرا مقدما ، و (ما عَنِتُّمْ) مبتدأ مؤخرا. قوله : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي يحافظ على هداكم ، لتكون لكم السعادة الكاملة. قوله : (أن تهتدوا) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف ، أي (حريص على هدايتكم). قوله : (رَؤُفٌ) بالمد والقصر ، قراءتان سبعيتان ، والرؤوف أخص من الرحيم ، قال الحسن بن المفضل : لم يجمع الله لأحد من أنبيائه اسمين من أسمائه تعالى ، إلا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسماه رؤوفا رحيما ، وقال : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ).

٨٢

(رَحِيمٌ) (١٢٨) يريد لهم الخير (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإيمان بك (فَقُلْ حَسْبِيَ) كافي (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) به وثقت لا بغيره (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ) الكرسي (الْعَظِيمِ) (١٢٩) خصه بالذكر لأنه أعظم الخلوقات. وروى الحاكم في المستدرك عن أبيّ بن كعب قال : آخر آية نزلت (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) إلى آخر السورة.

____________________________________

قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي جميع الخلق ، مؤمنهم ومنافقهم وكافرهم. قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هذا كالدليل لما قبله. قوله : (لا بغيره) أخذ هذا الحصر من تقديم المعمول. قوله : (الكرسي) مرور على القول باتحاد العرش مع الكرسي وهو خلاف الصحيح ، والصحيح أن العرش غير الكرسي فالعرش جسم عظيم ، محيط بجميع المخلوقات ، والكرسي أقل منه. قوله : (الْعَظِيمِ) بالجر باتفاق السبعة ، صفة للعرش ، وقرىء شذوذا بالرفع ، صفة للرب. وقوله : (خصه بالذكر) جواب عما يقال : إن الله رب كل شيء ، فلم خص العرش بالذكر. قوله : (آخر آية) مراده الجنس ، وإلا فهما آيتان ، وهذا القول ضعيف لما تقدم أن آخر آية نزلت (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) وعلى ما قاله المفسر يكونان مدنيتين ، وهو أحد قولين ، حكاهما المفسر أول السورة ، وهاتان الآيتان بهما الأمان من كل مكروه ، وقد ورد : من قرأهما ، ويكرر الآية الثانية سبعا صباحا ، وسبعا مساء ، أمن من كل مكروه حتى الموت ، فمن أراد الله موته أنساه قراءتها.

٨٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة يونس

مكيّة

إلا (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) الآيتين أو الثلاث. أو (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) الآيه

وهي مائة وتسع أو عشر آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر) الله أعلم بمراده بذلك (تِلْكَ) أي هذه الآيات (آياتُ الْكِتابِ) القرآن والإضافة بمعنى من (الْحَكِيمِ) (١) المحكم (أَكانَ لِلنَّاسِ) أي أهل مكة استفهام إنكاري والجار والمجرور حال من قوله (عَجَباً) بالنصب خبر كان بالرفع اسمها والخبر

____________________________________

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة يونس مكية

إلا (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) الآيتين أو الثلاث. أو (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) الآية :

وهي مائة وتسع أو عشر آيات

سميت بذلك لذكر اسمه فيها وقصته ، وقد جرت عادة الله بتسمية السورة ببعض أجزائها. قوله : (مكية) أي لنزولها قبل الهجرة. قوله : (أو الثلاث) أو لتنويع الخلاف ، وسببه : الخلاف في أن آخر الآية الثانية من الخاسرين أو الأليم. قوله : (أو ومنهم) إلخ ، أي فيكون المدني ، إما ثلاثا أو أربعا بزيادة (ومنهم) إلخ ، وقال القرطبي نقلا عن فرقة إن من أولها نحوا من أربعين آية مكي ، وباقيها مدني. قوله : (الله أعلم بمراده بذلك) هو أحد أقوال تقدمت في البقرة ، وهو أتمها وأسلمها. قوله : (أي هذه الآيات) يحتمل أن يكون اسم الإشارة عائد على ما تقدم من أول القرآن إلى هنا ؛ ويحتمل أنه عائد إلى الآيات التي سنذكرها في هذه السورة ، وأتى باسم الإشارة البعيد ، إشار إلى بعد رتبته عن كلام البشر ورفعة قدره.

قوله : (آياتُ الْكِتابِ) خبر اسم الإشارة. قوله : (والإضافة) أي في قوله : (آياتُ الْكِتابِ) والمعنى تلك آيات من الكتاب ، لأن المشار إليه بعض القرآن. قوله : (المحكم) أشار بذلك إلى أن فعيلا بمعنى مفعول ، ومعناه : الذي لا يتطرق إليه الفساد ، ولا تغيره الدهور ، ولا يعتريه الكذب ولا التناقض ، ويصح أن يكون بمعنى فاعل ، أي الحاكم ، أي ذو الحكم ، لاشتماله على الأحكام الدينية المتعبد بها. قوله : (استفهام إنكاري) أي والمعنى لا يليق ، ولا ينبغي لأهل مكة أن يتعجبوا من إرساله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قالوا : العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب.

قوله : (عَجَباً) العجب استعظام أمر خفي سببه. قوله : (خبر كان) أي المقدم عليها. قوله :

٨٤

وهو اسمها على الأولى (أَنْ أَوْحَيْنا) أي إيحاؤنا (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَنْ) مفسرة (أَنْذِرِ) خوف (النَّاسَ) الكافرين بالعذاب (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَ) أي بأن (لَهُمْ قَدَمَ) سلف (صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي أجرا حسنا بما قدموه من الأعمال (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا) القرآن المشتمل على ذلك (لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢) بين وفي قراءة لساحر والمشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) من أيام الدنيا في قدرها لأنه لم يكن ثم شمس ولا قمر ولو شاء لخلقهن فى لمحة ، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استواء يليق به (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) بين الخلائق (ما مِنْ) زائدة (شَفِيعٍ) يشفع لأحد (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) رد لقولهم إن الأصنام تشفع لهم (ذلِكُمُ) الخالق المدبر (اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) وحدوه

____________________________________

(بالرفع اسمها) هذه القراءة شاذة ، فكان المناسب للمفسر أن ينبه عليها. قوله : (والخبر) مبتدأ ، وجملة (أَنْ أَوْحَيْنا) خبره ، وقوله : (وهو اسمها على الأولى) اعتراض من بين المبتدأ والخبر. قوله : (مفسرة) أي بمعنى (أي) وضابطها أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه. قوله : (أَنْذِرِ) (الناس) أي إن استمروا على الكفر. قوله : (قَدَمَ صِدْقٍ) من إضافة الموصوف للصفة ، وسمي الأجر الحسن (قَدَمَ صِدْقٍ) لأن الخير قد سبق لهم عند الله ، والشأن أن السعي يكون بالقدم ، فسمي المسبب باسم السبب ، كما سميت النعمة يدا ، لأنها تعطى بها. قوله : (أجرا حسنا) هذا أحد أقوال في تفسير قوله : (قَدَمَ صِدْقٍ) وهو لابن عباس ، وقيل هو الأعمال الصالحة ، وقيل شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل السعادة المكتوبة لهم أزلا في اللوح المحفوظ ، وقيل منزلة رفيعة في الجنة ، وكل هذه التفاسير ترجع إلى ما قاله المفسر.

قوله : (قالَ الْكافِرُونَ) أي حيث رد عليهم في تعجبهم بأبلغ رد. قوله : (المشتمل على ذلك) أي الإنذار والتبشير. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (المشار إليه) أي من القراءة الثانية. قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) هذا رد عليهم في تعجبهم ، والمعنى لا ينبغي لكم التعجب من إرسال الرسول. لأن (رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلخ ، فمن كان قادرا على ذلك ، فلا يستغرب عليه إرسال رسول. قوله : (أي في قدرها) جواب عن قوله : (لم يكن ثم شمس) إلخ. قوله : (لتعليم خلقه التثبت) أي التأني والتمهل في الأمور ، وتخصيص الستة بذلك ، ولم تكن أقل ولا أكثر مما استأثر الله بعلمه. قوله : (استواء يليق به) هذه طريقة السلف في تفويض علم المتشابه إلى الله تعالى ، وطريقة الخلف ، يؤولونه بالاستيلاء والقهر والتصرف ، وإلى هاتين الطريقتين أشار صاحب الجوهرة بقوله :

وكل نص أوهم التشبيها

أوله أو فوض ورم تنزيها

فالاستواء كما يطلق على الركوب ، يطلق على الاستيلاء ، وهو المراد هنا ، ومنه قول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

قوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يتصرف في الخلائق بأسرها ، ولا يشغله شأن عن شأن. قوله : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي لا يشفع أحد عنده ، إلا أن يأذن له في الشفاعة. قوله : (رَبَّكُمُ) أي

٨٥

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣) بادغام التاء في الأصل في الذال (إِلَيْهِ) تعالى (مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران منصوبان بفعلهما المقدر (إِنَّهُ) بالكسر استئنافا والفتح على تقدير اللام (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي بدأه بالإنشاء (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بالبعث (لِيَجْزِيَ) يثيب (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) ماء بالغ نهاية الحرارة (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤) أي بسبب كفرهم (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) ذات ضياء أي نور (وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ) من حيث سيره (مَنازِلَ) ثمانية وعشرون منزلا في ثمان وعشرين ليلة من كل شهر ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما أو ليلة إن كان تسعة وعشرين يوما (لِتَعْلَمُوا) بذلك (عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) المذكور (إِلَّا بِالْحَقِ) لا عبثا ،

____________________________________

خالقكم ومربيكم. قوله : (بإدغام التاء في الأصل) أي فأصله تتذكرون ، قلبت التاء ذالا ، وأدغمت في الذال. قوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) رد على منكري البعث قالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا ، نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر. قوله : (بفعلهما المقدر) أي وعدكم وعدا ، وحقه حقا. قوله : (بالكسر) أي وهي القراءة السبعية. قوله : (والفتح) أي وهي شاذة ، فكان عليه أن ينبه عليها. قوله : (بِالْقِسْطِ) أي العدل المصحوب بالفضل ، أو المراد بالقسط : عدل العبيد ، بامتثالهم المأمورات ، واجتنابهم المنهيات ، فتكون الباء سببية.

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) غاير الأسلوب ، إشارة إلى أنهم مستحقون العذاب بسبب أعمالهم ، وأما المؤمنون فثوابهم بفضل الله ، وإلى أن المقصود من البدء والإعادة إنما هو الثواب ، وأما العقاب ، فكأنه عرض للكفار من سوء اعتقادهم وأفعالهم. قوله : (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) أي غير الشراب. قوله : (أي بسبب كفرهم) أشار بذلك إلى أن الباء سببية ، وما مصدرية.

قوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) هذا من جملة أدلة توحيده. قوله : (ذات ضياء) أشار بذلك إلى أن ضياء مصدر ، ويحتمل أنه جمع ضوء ، والمعنى ذات أضواء كثبرة ، والضوء النور القوي العظيم ، فهو أخص من مطلق نور ، وقيل الضياء ما كان ذاتيا ، والنور ما كان مكتسبا من غيره ، فما قام بالشمس يقال له ضياء ، وما قام بالقمر يقال له نور. اعلم أن الشعاع الفائض من الشمس : قيل جوهر ، وقيل عرض ، والحق أنه عرض لقيامه بالإجرام. قوله : (وَالْقَمَرَ) معطوف على (الشَّمْسَ) ، و (نُوراً) على (ضِياءً) ففيه العطف على معمولي عامل واحد ، وهو جائز بلا خلاف.

قوله : (وَقَدَّرَهُ) الضمير عائد على (الْقَمَرَ) فقط ، وخص بالذكر وإن كانت الشمس لها منازل أيضا ، لأن سير القمر في المنازل أسرع ، وبه يعرف انقضاء الشهور والسنين ، لأن المعتبر في مثل الصيام والحج السنة القمرية ، ويحتمل أن الضمير عائد على كل من الشمس والقمر ، وأفرد باعتبار ما ذكر ، والأقرب الأول. قوله : (ثمانية وعشرون منزلا) أي وهي منقسمة على اثني عشر برجا ، وهي : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت ، لكل برج منزلان وثلث ، فيكون إقامته في كل برج ستة وخمسين ساعة ، وانتقالات الشمس في هذه الأبراج مرتبة على الشهور القبطية ، لكن الشهر : نصفه الأول من آخر برج ، ونصفه الآخر من أول برج آخر ، فيكون نصفه الأول من نصف السنبلة الأخيرة ، ونصفه الأخير من نصف الميزان الأول ، وهكذا. قوله : (ويستتر

٨٦

تعالى عن ذلك نفصل بالياء والنون (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥) يتدبرون (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ) من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك (وَ) في (الْأَرْضِ) من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغيرها (لَآياتٍ) دلالات على قدرته تعالى (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦) فيؤمنون ، خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) بالبعث (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) بدل الآخرة لإنكارهم لها (وَاطْمَأَنُّوا بِها) سكنوا إليها (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) دلائل وحدانيتنا (غافِلُونَ) (٧) تاركون للنظر فيها (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨) من الشرك والمعاصي (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ) يرشدهم (رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) به بأن يجعل لهم نورا يهتدون به يوم

____________________________________

ليلتين) أي لا يرى ، وإن كان سائرا.

قوله : (لِتَعْلَمُوا) هذا هو حكمة التقدير. قوله : (وَالْحِسابَ) معطوف على عدد مسلط عليه تعلموا ، ولا يجوز جره عطفا على السنين ، لأن الحساب لا يعلم عدده ، ولذا سئل أبو عمرو عن الحساب ، أتنصبه أم تجره؟ فقال : ومن يدري ما عدد الحساب؟ كناية عن كونه لا يجوز جره. قوله : (المذكور) أي من كونه (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً). قوله : (بالياء والنون) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وعلى النون فيه التفات من الغيبة إلى التكلم. قوله : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) خصوا بالذكر ، لأنهم هو المنتفعون بذلك.

قوله : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي في كون أحدهما يخلف الآخر ويعقبه. قوله : (بالذهاب والمجيء) تصوير للاختلاف. قوله : (والزيادة والنقصان) أي فكل واحد يزيد بقدر ما نقص من الآخر. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي لا يخافونه ولا يؤمنون به. قوله : (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي فعلوا فعل المخلدين فيها. قوله : (أُولئِكَ) مبتدأ ، و (مَأْواهُمُ) مبتدأ ثان ، و (النَّارُ) خبر الثاني ، والثاني وخبره الأول ، والجملة خبر (إِنَ). قوله : (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب كسبهم. قوله : (من الشرك والمعاصي) بيان لقوله : (يَكْسِبُونَ).

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) هذا مقابل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) إلخ. و (إِنَ) حرف توكيد ونصب ، و (الَّذِينَ) اسمها ، و (آمَنُوا) صلته ، وجملة (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) خبر (إِنَ) قوله : (آمَنُوا) أي صدقوا بالله ورسوله واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره ، حلوه ومره. قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال المرضية لله ورسوله. قوله : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) أي يوصلهم لدار السعادة وحذف المعمول للعلم به. قوله : (بِإِيمانِهِمْ) أي بسبب تصديقهم بالله ورسله ، أي وبسبب أعمالهم الصالحة أيضا ، فالإيمان والأعمال الصالحة ، سببان موصلان لدار السعادة ، أو المراد بالإيمان الكامل ، ليشمل الأعمال. قوله : (بأن يجعل لهم نورا يهتدون) أي وتصور لهم الأعمال الصالحة بصورة حسنة ، عند خروجهم من القبور ، وتقول لصاحبها : كنت أسهرك في الدنيا ، وأتعبك فيها ، فاركب على ظهري ، وذلك قوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) بخلاف الكافر ، فيحشر يوم القيامة أعمى ، لا يهتدي إلى مقصوده ، ويأتيه عمله السيىء فيقول له : كنت متلذذا بي في الدنيا ، فأنا أركبك اليوم ، وذلك قوله تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ).

٨٧

القيامة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٩) (دَعْواهُمْ فِيها) طلبهم لما يشتهونه في الجنة أن يقولوا (سُبْحانَكَ اللهُمَ) أي يا الله فإذا ما طلبوه بين أيديهم (وَتَحِيَّتُهُمْ) فيما بينهم (فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ) مفسرة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠) ونزل لما استعجل المشركون العذاب (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ) أي كاستعجالهم (بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ) بالبناء

____________________________________

قوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي بساتين التنعم ، وهذا الاسم يطلق على جميع الجنات ، والمعنى أن المؤمنين العاملين للصالحات يوصلهم ربهم لدار كرامته ومحل سعادته ، تجري الأنهار بجانب قصورهم ، ينظرون إليها من أعلى أماكنهم. قوله : (طلبهم لما يشتهونه في الجنة أن يقولوا) إلخ ، أي فهذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في جميع ما يطلبونه ، فإذا أرادوا الأكل مثلا قالوا سبحانك اللهم ، فيأتونهم بالطعام على الموائد ، كل مائدة ميل في ميل ، في كل مائدة سبعون ألف صحفة ، في كل صحفة لون من الطعام ، لا يشبه بعضها بعضا ، فإذا فرغوا من الطعام ، وحمدوا الله على ما أعطاهم ، وذلك قوله : (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) والمراد بما يشتهونه في الجنة ، ما كان محمودا في الدنيا ، فلا يقال : إن نفوس الفساق قد تشتهي اللواط مثلا فيفيد أنه يحصل في الجنة ، لأنه يقال : المراد بما يشتهونه ، ما ليس بشهوات شيطانية لأنهم عصموا منا بالموت ، فلا تخطر ببالهم في الجنة ، ولا يميل إليهم طبعهم ، وكذلك يقال في شهوة المحارم ، كالأم والبنت ، وأيضا أهل الجنة ، لا أدبار لهم ، ولا يتغوطون فيها ، لما في الحديث : «أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ، ولا يبولون ، ولا يتغوطون ، ولا يتمخطون ، قالوا فما بال الطعام؟ قال : جشاء ، ورشح كرشح المسك ، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس.

قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) التحية ما يحيا به الإنسان من الكلام الطيب. قوله : (فيما بينهم) أي أو تحية الملائكة لهم. قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أو تحية الله لهم. قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ). قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أي خاتمة تسبيحهم في كل مجلس أن يقولوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وليس معناه انقطاع الحمد ، فإن أقوال أهل الجنة وأحوالها لا آخر لها. قوله : (مفسرة) اعترض بأن ضابط المفسرة مفقود هنا ، إذ ضابطها أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه ، وهنا تقدمها مفرد ، فكان المناسب أن يقول مخففة من الثقيلة ، ويكون اسمها ضمير الشأن ، وجملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبرها.

قوله : (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي فأهل الجنة يبتدئون مطالبهم بالتسبيح ، ويختمونها بالتحميد. فتلذذهم بالأكل والشرب وسائر النعيم لا يشغلهم عن ذكر الله وشكره. قوله : (ونزل لما استعجل المشركون العذاب) أي لما بين الله سبحانه وتعالى ، أن يجيب الداعي بالخير. أدب عباده بأنهم لا يطلبون الشر ، بل يطلبون الخير فيعطون ، وقوله : (لما استعجل المشركون) قيل : النضر بن الحرث وغيره حيث قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء.

قوله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) أي الذي طلبوه لأنفسهم. قوله : (أي كاستعجالهم) أشار بذلك إلى أن استعجالهم مصدر ، والأصل استعجالا مثل استعجالهم ، حذف الموصوف ، وأقيمت الصفة

٨٨

للمفعول وللفاعل (إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) بارفع والنصب بأن يهلكهم ولكن يمهلهم (فَنَذَرُ) نترك (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١) يترددون متحيرين (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) الكافر (الضُّرُّ) المرض والفقر (دَعانا لِجَنْبِهِ) أي مضطجعا (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) أي في كل حال (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) على كفره (كَأَنْ) مخففة واسمها محذوف أي كأنه (لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ) كما زين له الدعاء عند الضر والإعراض عند الرخاء (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ) المشركين (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢) (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ) الأمم (مِنْ قَبْلِكُمْ) يا أهل مكة (لَمَّا ظَلَمُوا) بالشرك (وَ) قد (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الدالات على صدقهم (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) عطف

____________________________________

مقامه ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه. قوله : (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لهلكوا جميعا ، والمعنى أن الناس عند الغضب والضجر ، قد يدعون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم بالموت ، وتعجيل البلاء كما يدعونه بالرزق والرحمة ، فلو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلونه به مثل ما يجيبهم إذا دعوه بالخير ، لأهلكهم ، ولكنه من فضله وكرمه يستجيب للداعي بالخير ، ولا يستجيب للداعي بالخير ، ولا يستجيب له بالشر ، فالعبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، قوله : (بالبناء للمفعول وللفاعل) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله : (بالرفع والنصب) لف ونشر مرتب ، فالرفع نائب فاعل ، والنصب مفعول به. قوله : (بأن يهلكهم) أي قبل قوتهم. قوله : (ولكن يمهلهم) أي فضلا منه وكرما إلى أن يأتي أجلهم ، فإذا جاء لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، فالمؤمن يلقى النعيم الدائم ، والكافر يلقى العذاب الدائم.

قوله : (الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي الذين لا يخافون عقابنا ، ولا يؤمنون بالبعث بعد الموت. قوله : (فِي طُغْيانِهِمْ) أي الذي هو انكار البعث والمقالات الشنيعة. قوله : (يَعْمَهُونَ) حال على فاعل (يَرْجُونَ). قوله : (يترددون متحيرين) أي في الفرار من العذاب ، فلا يجدون لهم مفرا. قوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ) وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما وبخهم على الدعاء بالشر لأنفسهم ، بين هنا غاية عجزهم وضعفهم ، وأنهم لا يقدرون على إيجاد شيء ولا إعدامه. قوله : (الكافر) مثله ناقص الإيمان ، المنهمك في المعاصي. قوله : (لِجَنْبِهِ) حال من فاعل (دَعانا) ، واللام بمعنى على. قوله : (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) يحتمل أن أو على بابها ، لأن المضار ، إما ثقيلة تمنعه القيام والقعود ، أو خفيفة لا تمنع ذلك ، أو متوسطة تمنعه القيام دون القعود. ويحتمل أن أو بمعنى الواو ، فهو إشارة لتوزيع الأحوال ، وإلى هذا أشار المفسر بقوله : أي في جميع الأحوال. قوله : (مَرَّ) (على كفره) أي استمر عليه. قوله : (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) الجملة في محل نصب حال من فاعل (مَرَّ) والمعنى استمر هو على كفره ، مشبها بمن لم يدعنا أصلا أي رجع إلى حالته الأولى ، وترك الالتجاء إلى ربه. قوله : (لِلْمُسْرِفِينَ) أي المتجاوزين الحد. قوله : (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي عملهم فالواجب على الإنسان ، دوام الدعاء والتضرع والالتجاء لجانب الله في كل حال ، سيما في حال الصحة والغنى ، لأنه يشدد عليه فيهما ، ما لا يشدد عليه في غيرهما.

قوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. قوله : (لَمَّا ظَلَمُوا) أي حين ظلمهم. قوله : (وَجاءَتْهُمْ) قدره المفسر إشارة إلى أن الجملة حالية من فاعل (ظَلَمُوا). قوله : (عطف على ظلموا) أي كأنه قيل : حين ظلموا ، وحين لم يكونوا مؤمنين. والمعنى أن

٨٩

على ظلموا (كَذلِكَ) كما أهلكنا أولئك (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (١٣) الكافرين (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) يا أهل مكة (خَلائِفَ) جمع خليفة (فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٤) فيها وهل تعتبرون بهم فتصدقوا رسلنا (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) القرآن (بَيِّناتٍ) ظاهرات حال (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) لا يخافون البعث (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) ليس فيه عيب آلهتنا (أَوْ بَدِّلْهُ) من تلقاء نفسك (قُلْ) لهم (ما يَكُونُ) ينبغي (لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ) قبل (نَفْسِي إِنْ) ما (أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بتبديله (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥) هو يوم القيامة (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ) أعلمكم (بِهِ) ولا نافية عطف على ما قبله وفي قراءة بلام جواب لو أي لأعلمكم به على لسان غيري (فَقَدْ لَبِثْتُ) مكثت (فِيكُمْ

____________________________________

سبب إهلاكهم شيئان : ظلمهم وعدم إيمانهم. قوله : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) عطف على (أَهْلَكْنَا). قوله : (خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي متخلفين من بعد القرون ، بسبب أن الله أورثكم أرضهم وديارهم ، فمن يوم بعث الله محمدا فجميع الخلق الموجودون من يومئذ إلى يوم القيامة من أمته مسلمهم وكافرهم ، وهم خلفاء الأرض. قوله : (لِنَنْظُرَ) أي ليظهر متعلق علمنا ، ونعاملهم معاملة من ينظر ، وفي الكلام استعارة تمثيلية ، حيث شبه حال العباد مع ربهم ، بحال رعية مع سلطانها في إمهالهم لنظر ماذا تفعل ، واستعير الاسم الدال على المشبه به للمشبه ، على سبيل التمثيل والتقريب ، ولله المثل الأعلى. قوله : (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي فهل تصدقون رسلنا أو تكذبونهم.

قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) فيه التفات من الخطاب للغيبة. قوله : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) أي من عند ربك ، إن كنت صادقا في أنه من عند الله. قوله : (أَوْ بَدِّلْهُ) أي بأن تجعل مكان سب آلهتنا مدحهم ، ومكان الحرام حلالا ، وهذا الكلام من الكفار ، يحتمل أن يكون على سبيل الاستهزاء والسخرية ، ويحتمل أنه على سبيل الامتحان ، ليعلموا كونه من عند الله فلا يقدر على تغييره ولا تبديله أو من تلقاء نفسه فيقدر على ذلك ، والأول هو المتبادر من حالهم. قوله : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) إلخ. أي لا يليق مني ولا يصح. قوله : (إِنِّي أَخافُ) تعليل لما قبله.

قوله : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ) مفعول شاء محذوف ، أي عدم إنزاله. قوله : (وَلا أَدْراكُمْ) أدرى فعل ماض ، وفاعله مستتر يعود على الله ، والكاف مفعول به. قوله : (ولا نافية) أي وجملة (أَدْراكُمْ) مؤكدة لما قبلها ، عطف عام على خاص ، والمعنى لو شاء الله عدم إنزاله ما تلوته عليكم ولا أعلمكم به مني ولا من غيري. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (بلام) أي وهي للتأكيد ، والمعنى لو شاء الله عدم تلاوتي ما تلوته عليكم ولا أعلمكم به غيري ، بأن ينزله على لسان نبي غيري ، ونتيجة هذا القياس محذوفة ، تقديره لكن شاء الله إنزاله علي ، فأنا أتلوه عليكم ، وأنا أعلمكم به.

قوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) هذا هو وجه الاحتجاج عليهم ، والمعنى أن كفار مكة شاهدوا رسول الله قبل مبعثه ، وعلموا أحواله ، وأنه كان أميا لم يقرأ كتابا ولا تعلم من أحد. وذلك مدة أربعين سنة ، ثم بعدها جاءهم بكتاب عظيم الشأن ، مشتمل على نفائس العلوم والأحكام والآداب ومكارم الأخلاق ، فكل من له عقل سليم وفهم ثابت ، يعلم أن هذا القرآن من عند الله. لا من عند نفسه.

٩٠

عُمُراً) سنينا أربعين (مِنْ قَبْلِهِ) لا أحدثكم بشيء (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦) أنه ليس من قبلي (فَمَنْ) أي لا أحد (أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) القرآن (إِنَّهُ) أي الشأن (لا يُفْلِحُ) يسعد (الْمُجْرِمُونَ) (١٧) المشركون (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (ما لا يَضُرُّهُمْ) إن لم يعبدوه (وَلا يَنْفَعُهُمْ) إن عبدوه وهو الأصنام (وَيَقُولُونَ) عنها (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ) لهم (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ) تخبرونه (بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) استفهام إنكار إذ لو كان له شريك لعلمه إذ لا يخفى عليه شيء (سُبْحانَهُ) تنزيها له (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٨) معه (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) على دين واحد وهو الإسلام من لدن آدم إلى نوح وقيل من عهد إبراهيم إلى عمر بن لحي (فَاخْتَلَفُوا) بأن ثبت بعض وكفر

____________________________________

قوله : (سنينا) منصوب بفتحة ظاهرة ، وقد مر المفسر على طريقة من يجعله مثل حين. ومنه حديث : «اللهم اجعلنا عليهم سنينا كسنين يوسف» في احدى الروايتين. قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أعميتم عن الحق ، فلا تعقلونه. قوله : (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (بنسبة الشريك إليه) أشار المفسر إلى أن الخطاب متوجه لهم. والمعنى على ذلك : أنكم افتريتم على الله الكذب ، فزعمتم أن له شريكا والله منزه عنه ، وثبت عندكم صدقي بالقرآن ، فكذبتم بآياته. قوله : (وَيَعْبُدُونَ) عطف على ما تقدم ، عطف قصة على قصة ، بيان لقبائحهم ، وفي الحقيقة عبادتهم غير الله ، تسبب عنه ما تقدم من افترائهم وتكذيبهم بالآيات.

قوله : (ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) ما اسم موصول أو نكرة موصوفة ، ونفي الضر والنفع هنا باعتبار ذواتهم وإثباتهما في قوله تعالى : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) باعتبار السبب. قوله : (وهو الأصنام) بيان لما. قوله : (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) قال أهل المعاني : توهموا أن عبادتها أشد في تعظيم الله من عبادتهم إياه. وقالوا : لسنا بأهل أن نعبد الله ولكن نشتغل بعبادة هذه الأصنام ، فإنها تكون شافعة لنا عند الله ، قال تعالى إخبارا عنهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى). إن قلت إنهم ينكرون البعث ففي أي وقت يشفعون لهم على زعمهم؟ أجيب : بأنهم يرجون شفاعتهم في الدنيا في إصلاح معايشهم. قوله : (بِما لا يَعْلَمُ) المقصود نفي وجود الشريك بنفي لازمه ، لأن علمه تعالى محيط بكل شيء ، فلو كان موجودا لعلمه الله ، وحيث كان غير معلوم لله وجب أن لا يكون موجودا ، وهذا مثل مشهور ، فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء وقع منه ، يقول ما علم الله ذلك مني ، أي لم يحصل ذلك من قط. قوله : (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) حال من العائد المحذوف في يعلم. قوله : (استفهام انكار) أي بمعنى النفي. قوله : (إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) أي متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف. قوله : (من لدن آدم إلى نوح) إلخ. ويجمع بينهما بأن عبادة الله وحده ، استمرت من آدم إلى نوح ، فظهر في أمة نوح من يعبد غير الله ، قال تعالى في شأنهم (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً) الآية ، فأخذوا بالطوفان ، واستمر من يعبد الله وحده إلى زمن إبراهيم ، فظهر في أمته من يعبد غير الله ، فأهلكوا بالبعوض ، واستمر من يعبد الله وحده ، إلى أن ظهر عمرو بن لحي ، وهو أول من بحر البحائر ، وسيب السوائب في الجاهلية ، إلى أن ظهر سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٩١

بعض (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير الجزاء إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي الناس في الدنيا (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩) من الدين بتعذيب الكافرين (وَيَقُولُونَ) أي أهل مكة (لَوْ لا) هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد (فَقُلْ) لهم (إِنَّمَا الْغَيْبُ) ما غاب عن العباد أي أمره (لِلَّهِ) ومنه الآيات فلا يأتي بها إلا هو وإنما على التبليغ (فَانْتَظِرُوا) العذاب إن لم تؤمنوا (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٢٠) (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ) أي كفار مكة (رَحْمَةً) مطرا وخصبا (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ) بؤس وجدب (مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) بالاستهزاء والتكذيب (قُلِ) لهم (اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) مجازاة (إِنَّ رُسُلَنا) الحفظة (يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) (٢١) بالتاء والياء (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) وفي قراءة ينشركم (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ

____________________________________

قوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ) المراد بها حكمه الأزلي ، بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة. قوله : (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي في الدين الذي يختلفون بسببه. قوله : (بتعذب الكافرين) متعلق بقضى. قوله : (هلا) أشار بذلك إلى أن (لَوْ لا) تحضيضية. قوله : (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي معجزة كما كان للأنبياء ، قال تعالى حكاية عنهم (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الآية. قوله : (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي مختص به لا يقدر على الإتيان بشيء منه إلا الله ، وإنما لم يجابوا بعين مطلوبهم ، لعلمه بقاء هذه الأمة وهذا الدين إلى يوم القيامة ، وقد جرت عادته سبحانه وتعالى ، أن القوم الذين يطلبون الآيات ، إذا جاءت ولم يؤمنوا بها ، يعجل لهم الهلاك ، فعدم إجابتهم على طبق ما طلبوا رحمة بهم. قوله : (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أي لما يفعله بكم.

قوله : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) هذا جواب آخر عن قول أهل مكة (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، ذلك أنه لما اشتد من أهل مكة العناد وعدم الإذعان ، ابتلاهم الله بالقحط سبع سنين ، ثم رحمهم بعد ذلك بإنزال المطر والخصب ، فجعلوا ذلك هزوا وسخرية ، واضافوا المنافع إلى الأصنام. وقالوا : لو كان القحط بسبب ذنوبنا كما يقول محمد ، ما حصل لنا بعد ذلك الخصب لأنا لم نتب ، فإذا كان كذلك فعلى تقدير أن يعطوا ما سألوا من إنزال ما طلبوه لا يؤمنون. قوله : (بالاستهزاء) إلخ ، تفسير للمكر. قوله : (أَسْرَعُ مَكْراً) أي أعجل عقوبة من سرعة مكرهم ، وتسمية عقوبة الله مكرا مشاكلة. قوله : (إِنَّ رُسُلَنا) تعليل لأسرعية مكره ، وتنبيه على أن ما دبروه غير خاف على الحفظة ، فضلا عن العليم الخبير. قوله : (بالتاء والياء) أي لكن الأولى سبعية والثانية عشرية.

قوله : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) الجملة المعرفة الطرفين تفيد الحصر ، أي لا مسير لكم في البر والبحر إلا هو ، وهذا من جملة أدلة توحيده. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية ايضا من النشر ، وهو البث والتفريق ، المعنى يفرقكم ويبثكم في البر والبحر. والرسم متقارب ، لكن طولت السنة الثانية وهي النون في القراءة الثانية ، وطولت السنة التي قبل الراء وهي الياء على القراءة الأولى. قوله : (فِي الْبَرِّ) أي مشاة وركبانا. قوله : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) غاية للسير في البحر ، والفلك يستعمل مفردا وجمعا ، فحركته في المفرد كحركة قفل ، وحركته في الجمع كحركة بدن ، وهنا مستعمل في الجمع بدليل وجرين ، وفي آية في

٩٢

فِي الْفُلْكِ) السفن (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) فيه التفات عن الخطاب (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) لينة (وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) شديدة الهبوب تكسر كل شيء (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي أهلكوا (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الدعاء (لَئِنْ) لام قسم (أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) الأهوال (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٢٢) الموحدين (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) بالشرك (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ) ظلمكم (عَلى أَنْفُسِكُمْ) لأن إثمه عليها هو (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) تمتعون فيها قليلا (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) بعد الموت (فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣) فنجازيكم عليه وفي قراءة بنصب متاع أي تتمتعون (إِنَّما مَثَلُ) صفة (الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ) مطر (أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ) بسببه (نَباتُ الْأَرْضِ) واشتبك بعضه ببعض (مِمَّا

____________________________________

الفلك المشحون مستعمل مفردا. قوله : (فيه التفات عن الخطاب) أي إلى الغيبة ، وحكمته زيادة التقبيح على الكفار ، لأن شأنهم عدم شكر النعمة ، وأما الخطاب أولا فهو لكل شخص مسلم أو كافر بتعداد النعم عليهم. قوله : (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي يحصل المقصود بلطف.

قوله : (وَفَرِحُوا بِها) الجملة حالية من ضمير (بِهِمْ) وقد مقدرة. قوله : (وَظَنُّوا) أي أيقنوا. قوله : (أي اهلكوا) أي ظنوا الهلاك ، لقيام الأسباب بهم. قوله : (مُخْلِصِينَ) أي غير مشركين معه شيئا من آلهتهم. قوله : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) هذا مقول لقول محذوف بيان لمحصل الدعاء والتقدير قائلين : وعزتك وجلالك لئن أنجيتنا. قوله : (مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي على نعمائك الموحدين لك. قوله : (إِذا هُمْ يَبْغُونَ) إذ للمفاجأة ، والمعنى فحين انجاهم فاجؤوا الفساد وبادروا إليه. قوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) إما وصف كاشف ، أو احترز به عن البغي بحق ، كاستيلاء المسلمين على الكفار ، وتخريب دورهم ، وإتلاف أموالهم ، كما فعل رسول الله بقريظة. قوله : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) الكلام على حذف مضاف ، أي إثم بغيكم كما يشير له المفسر بقوله : (لأن إثمه عليها) والمعنى أن وبال بغيكم راجع لأنفسكم ، لا يضر الله منه شيء ، كما لا تنفعه طاعة المطيع ، قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) وقال العارف : ماذا يضرك وهو عاص ، أو يفيدك وهو طائع ، فإشراك المشرك لا يثبت لله شريكا ، بل هو محض افتراء وكذب ، ووباله على صاحبه ، وتوحيد الموحد لا يثبت لله وحدة ، بل هي ثابتة أزلا وأبدا ، بل معنى وحدت ربي ، قامت وحدته بقلبي وامتزجت بلبي ، وليس المعنى أنه أثبت له وحدة لم تكن ، فإن هذا هو الكفر بعينه ، وفي ذلك قال العارف :

ما وحد الواحد من واحد

إذ كل من وحده جاحد

قوله : (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قدر المفسر هو إشارة إلى أنه بالرفع خبر لمحذوف. قوله : (تمتعون فيها قليلا) أي زمنا قليلا. قوله : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) أي لا مفر لهم من ذلك ، وإنما إمهالهم وتأخيرهم من حلمه سبحانه وتعالى. قوله : (فنجازيكم عليه) أي على ما عملتم من خير وشر. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا. قوله : (بنصب متاع) أي مفعول لفعل محذوف ، قدره المفسر بقوله أي تمتعون. قوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) بيان لشأن الدنيا ، وأن مدتها قصيرة ، والمعنى صفتها في سرعة انقضائها ، وكونكم متعززين بها كماء إلخ. قوله : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) حكمة تشبيهها بماء السماء دون ماء

٩٣

يَأْكُلُ النَّاسُ) من البر والشعير وغيرهما (وَالْأَنْعامُ) من الكلأ (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) بهجتها من النبات (وَازَّيَّنَتْ) بالزهر وأصله تزينت أبدلت التاء زايا وأدغمت في الزاي (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) متمكنون من تحصيل ثمارها (أَتاها أَمْرُنا) قضاؤنا أو عذابنا (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها) أي زرعها (حَصِيداً) كالمحصود بالمناجل (كَأَنْ) مخففة أي كأنها (لَمْ تَغْنَ) تكن (بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ) نبين (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢٤) (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) أي السلامة وهي الجنة بالدعاء إلى الإيمان (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٥)

____________________________________

الأرض ، إشارة إلى أن الدنيا تأتي بلا كسب من صاحبها ، ولا تعان منه كماء السماء بخلاف ماء الأرض فينال بالآلات. قوله : (وغيرهما) أي كالذرة والحمص واللوبياء والفول ونحو ذلك. قوله : (من الكلأ) هو الشعب رطبا أو يابسا. قوله : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) غاية لمحذوف أي ما زال ينمو ويزهو حتى إلخ. والمعنى استوفت واستكملت الأرض زخرفها من النبات ، وتم سرور أهلها بها أتاها أمرنا إلخ. قوله : (بالزهر) أي أنواعه من أحمر وأصفر وأبيض وأخضر وغير ذلك. قوله : (وأدغمت في الزاي) أي بعد تسكينها وأتى بهمزة الوصل لأجل النطق بالساكن ، فلما دخلت الواو حذفت للاستغناء عنها. قوله : (متمكنون من تحصيل ثمارها) أي من أخذ ما أنبتته من ثمار وزروع وبقول. قوله : (أَتاها أَمْرُنا) جواب إذا. قوله : (كالمحصود) أي المقطوع. قوله : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي كأن لم تكن تلك الأشجار والنباتات والزروع ثابتة قائمة على ظهر الأرض ، وهذا مثل للراغب في زهرة الدنيا وبهجتها ، الراكن لها ، المعرض عن الآخرة ، فكما أن النبات الذي عظم الرجاء فيه ، والانتفاع به ؛ أتته المتلفات بغتة ويئس منه ، كذلك المتمسك بالدنيا ، إذا افتخر بها وتعزز ، يأتيه الموت بغتة فيسلب ما كان فيه من نعيم الدنيا ولذتها. قوله : (بِالْأَمْسِ) المراد به الزمن الماضي ، لا خصوص اليوم الذي قبل يومك. قوله : (كَذلِكَ) أي كما فصلنا في ضرب المثل. قوله : (نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي فليس هذا المثل قاصرا على شخص دون شخص ، بل هو عبرة لمن كان له بصيرة وتدبر ، فينبغي للإنسان أن ينزل القرآن في خطاباته على نفسه ، ويتأمل فيها ويتدبر ، ليأتمر بأوامره ، وينتهي بنواهيه.

قوله : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) لما ذكر سبحانه وتعالى صفة الدنيا ، ورغب في الزهد فيها ، والتجنب لزخارفها ، رغب في الآخرة ونعيمها ، حيث أخبر أنه بعظمته وجلاله وكبريائه ، يدعو إلى دار السّلام ، والسّلام اسم من اسمائه تعالى ، ومعناه المنزه عن كل نقص ، المتصف بكل كمال ، وأضيفت الدار للسلام ، لأنها سالمة من الآفات والكدرات ، كما أن معنى السّلام السالم من كل نقص ، وقيل المراد بالسلام السلامة من الآفات والنقائص ، وعليه درج المفسر. قوله : (وهي الجنة) أشار بذلك إلى أن المراد بهذا الاسم ، ما يشمل جميع الجنات ، لا خصوص المسماة بهذا الاسم ، من باب تسمية الكل باسم البعض ، وكذا يقال في باقي دورها ، كدار الجلال ، وجنة النعيم ، وجنة الخلد ، وجنة المأوى ، والفردوس ، وجنة عدن ، فهذه الأسماء كما تطلق على مسمياتها ، يطلق كل اسم منها على جميع دورها ، لصدق الاسم على المسمى في كل. قوله : (بالدعاء والإيمان) أي فهو سبب لدخول الجنة ، وإن كان صاحبه عاصيا ، فلدار في استحقاق الجنة على مجرد الإيمان.

قوله : (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي يوصله إلى السعادة الكاملة. قوله : (هدايته) هذا هو مفعول يشاء.

٩٤

دين الإسلام (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) بالإيمان (الْحُسْنى) الجنة (وَزِيادَةٌ) هي النظر إليه تعالى كما في حديث مسلم (وَلا يَرْهَقُ) يغشى (وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) سواد (وَلا ذِلَّةٌ) كآبة (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٦) (وَالَّذِينَ) عطف على للذين أحسنوا أي وللذين (كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) عملوا الشرك (جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ) زائدة (عاصِمٍ)

____________________________________

قوله : (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي طريق قويم لا اعوجاج فيه ، وحذف مقابل (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إلخ. تقديره ويضل من يشاء عنه ، فالضلال والهدى بيد الله ، يعطي أيهما شاء لمن شاء. قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) خبر مقدم ، و (الْحُسْنى) مبتدأ مؤخر. قوله : (بالإيمان) أي ولو صحبه ذنوب ، فعصاة المؤمنين لهم الحسنى وزيادة ، وإن كانت مراتب أهل الجنة متفاوتة ، فليس المنهمكون في طاعة الله كغيرهم. قوله : (هي النظر إليه تعالى) هذا قول جمهور الصحابة والتابعين ، وقيل المراد بالزيادة رضوان الله الأكبر ، وقيل مضاعفة الحسنات ، وقيل الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب ، ولكن القول الأول هو الذي عليه المعول ، لأن النظر إليه تعالى يستلزم جميع ذلك ، ويدل له على ما ورد «إذ دخل أهل الجنة الجنة ، يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم ، فيقولون : ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال : فيكشف الحجاب ، فما يعطون شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى» زاد في رواية : ثم تلا (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ). واعلم أن الناس جميعا في الجنة ، ينظرون إليه سبحانه وتعالى ، في مثل يوم الجمعة من الأسبوع ، وفي مثل يوم العيد من السنة ، وهذه هي الرؤية العامة لجميع أهل الجنة ، وللخواص مراتب متفاوتة ، فمنهم من يراه في كل صباح ومساء ، ومنهم من يراه في مثل أوقات الصلوات الخمسة ، ومنهم من لا يحجب عن الرؤية أبدا لما قيل : إن لله رجالا لو حجبوا عن الرؤية طرفة عين ، لتمنوا الخروج من الجنة.

قوله : (وَلا يَرْهَقُ) الجملة مستأنفة. قوله : (سواد) أي وغبار ، فأهل الجنة بيض الوجوه في غاية من البسط والجمال ، فلا يعتريهم نكد ولا كدر ، قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ). قوله : (أُولئِكَ) أي المحدث عنهم أن لهم الحسنى وزيادة. قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لا يخرجون منها أبدا. قوله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) شروع في ذكر صفات أهل النار ، إثر ذكر صفات أهل الجنة. قوله : (عطف على الذين أحسنوا) أي ويكون فيه العطف على معمولي عاملين مختلفين ، لأن (الَّذِينَ) معطوف على (الَّذِينَ) الأول ، والعامل فيه الابتداء الذي هو الحسنى ، وقوله : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ) معطوف على (الْحُسْنى) والعامل فيه الابتداء ، وهذا الوجه فيه خلاف بين النحويين ، ولذا حاول بعضهم إعراب الآية ، حتى ذكر فيه سبعة أوجه ، أحسنها إن قوله : (الَّذِينَ) مبتدأ أول ، و (جَزاءُ سَيِّئَةٍ) مبتدأ ثان ، و (بِمِثْلِها) خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، والباء زائدة ، ويدل لزيادتها قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ). قوله : (بِمِثْلِها) أشار بذلك إلى الفرق بين الحسنات والسيئات فالحسنات مضاعفة بفضل الله والسيئات جزاؤها مثلها ، عدلا منه سبحانه وتعالى ، قال صاحب الجوهرة : فالسيئات عنده بالمثل ، والحسنات ضوعفت بالفضل.

قوله : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يغشاهم الذل والكآبة. قوله : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ) أي من عذابه

٩٥

مانع (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) ألبست (وُجُوهُهُمْ قِطَعاً) بفتح الطاء جمع قطعة وإسكانها أي جزءا (مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧) (وَ) اذكر (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) أي الخلق (جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ) نصب بالزموا مقدرا (أَنْتُمْ) تأكيد للضمير المستتر في الفعل المقدر ليعطف عليه (وَشُرَكاؤُكُمْ) أي الأصنام (فَزَيَّلْنا) ميزنا (بَيْنَهُمْ) وبين المؤمنين كما في آية (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ قالَ) لهم (شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) (٢٨) ما نافية وقدم المفعول للفاصلة (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ) مخففة أي إنا (كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) (٢٩) (هُنالِكَ) أي ذلك اليوم (تَبْلُوا) من البلوى وفي قراءة بتاءين من التلاوة

____________________________________

وسخطه. قوله : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ) أي غطيت. قوله : (وإسكانها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، والمعنى على الأولى ، كأن أجزاء الليل غطتهم ولبستهم ، وعلى الثانية : كأن جزءا من الليل غشيتهم وغطى وجوههم ، وهذه الآية الأخرى ، وهي قوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) وما مشى عليه المفسر من أن القطع بالسكون الجزء هو أحد أقوال في تفسيره ، وقيل هو سواد الليل ، وقيل هو ظلمة آخر الليل. قوله : (مُظْلِماً) حال من الليل. قوله : (أُولئِكَ) أي الموصوفون بما ذكر. قوله : (أَصْحابُ النَّارِ) أي المستحقون لها. قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ماكثون على سبيل الخلود والتأبيد.

قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) شروع في ذكر محاجة أهل الشرك مع معبوداتهم ، إثر بيان أصحاب النار ، و (يَوْمَ) ظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله : (اذكر). قوله : (نصب بالزموا) أي على أنه مفعول به ، والمعنى الزموا هذا المكان ولا تبرحوا عنه ، أو ظرف يجعل الزموا بعنى قفوا. قوله : (تأكيد للضمير المستتر) أي الذي هو الواو ، وتسميته مستترا فيه مسامحة ، إذا الواو من الضمائر البارزة ، وقد يجاب بأن المراد بالاستتار عدم الذكر بالفعل. قوله : (المقدر) أي الذي هو الزموا ، والإخبار بهذا الأمر للتهديد يصدر من الله على لسان ملك لا مباشرة. لقوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

قوله : (فَزَيَّلْنا) من التزييل وهو التفريق والتمييز ، يقال زيّل ضأنك من معزك أي فرق بينها وميز هذا من هذا ، ووزنه فعل بالتضعيف ، فهو من باب ذوات الياء ، أو فعيل وأصله زيول ، اجتمعت الواو والياء ، وسبقت إحداهما بالسكون ، قلبت الواو ياء ، وادغمت في الياء فهو من باب ذوات الواو. قوله : (بَيْنَهُمْ) (وبين المؤمنين) هكذا فهم المفسر ، وهو بعيد من سابق الكلام ولا حقه ، وقيل ميزنا بينهم وبين معبوداتهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا وهو الأقرب ، لأن الكلام فيه.

قوله : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) إنما أضيفت الشركاء لهم ، لأنهم اتخذوها شركاء لله في العبادة. قوله : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) قال مجاهد : تكون في القيامة ساعة فيها شدة ، تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله ، فتقول الآلهة : والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا ، فيقولون : والله إياكم كنا نعبد ، فتقول الآلهة لهم : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ). قوله : (للفاصلة) أي تناسب رؤوس الآي. قوله : (لَغافِلِينَ) أي لا علم لنا بذلك. قوله : (هُنالِكَ) إشارة للمكان البعيد ، وهو الموقف الذي يدهش العقول. قوله : (تَبْلُوا) أي تختبر وتعلم. قوله : (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضا من التلاوة ، أي تقرأ ما أسلفته وقدمته ، فتجده

٩٦

(كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) قدمت العمل (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) الثابت الدائم (وَضَلَ) غاب (عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣٠) عليه من الشركاء (قُلْ) لهم (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ) بمعنى الإسماع أي خلقها (وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) بين الخلائق (فَسَيَقُولُونَ) هو (اللهُ فَقُلْ) لهم (أَفَلا تَتَّقُونَ) (٣١) ه فتؤمنون (فَذلِكُمُ) الفعال لهذه الأشياء (اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) الثابت (فَما ذا

____________________________________

مسطرا في صحف الملائكة. قال تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ) ، أو من التلو ، أي تتبع وتطلب ما أسلفته من أعمالها ، وفي قراءة أيضا : نبلو بالنون بعدها باء موحدة ، أم نختبر نحن ، وكل بالنصب مفعول به عليها وهي شاذة. قوله : (وَرُدُّوا) أي المشركون. قوله : (الثابت الدائم) أي الذي لا يقبل الزوال أزلا ولا أبدا.

قوله : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي غاب عنهم افتراؤهم بظهور الحق ، فلا ينافي أنهم معهم في النار ، وهكذا كل من اعتمد على غير الله يقال له : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) الآية ، فينبغي للإنسان أن يسعى في خلاص قلبه من الوهم الذي يلجئه إلى الاعتماد على غير الله ، من جاه أو مال أو علم أو عمل أو غير ذلك ، ليرى الحق حقا ، والباطل باطلا ، فيتبع الحق ، ويجتنب الباطل. وبهذا الأمر يتبين الولي من العامي. فالولي يرى الأشياء كلها ظاهرا وباطنا من الله ، فهو دائما مطمئن ساكن مسلم لله في كل ما يفعله ، والعامي يعتقد ذلك بقلبه ، غير أن الوهم يخيل له أن لغير الله ضرا أو نفعا ، فيكون دائما في تعب ونصب ، وقد أشار العارف لذلك بقوله :

وما الخلق في التمثال إلا كثلجة

لها صورة لكن تبدت عن الماء

فذو الكشف لم يشهد سوى الماء وحده

تبدى بوصف الثلج من غير إخفاء

ومن حجبته صورة الثلج جاهل

تغطى عليه الأمر من لمع أضواء

قوله : (قُلْ) (لهم) (مَنْ يَرْزُقُكُمْ) إلخ ، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن يقيم الحجة على المشركين ، ويبطل ما هم عليه من الإشراك ، بأسئلة ثمانية ، أجاب المشركون عن الخمسة الأولى ، وأجاب رسول الله عن الاثنين بعدها بتعليم الله له ، وجواب الأخير لم يذكر للعلم به ، وقد صرح به المفسر. قوله : (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي رزقا مبتدأ من السماء والأرض. قوله : (بالمطر) أي فهو سبب لإخراج نبات الأرض ، فصح كون الرزق من السماء.

قوله : (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ) أي يخلقه ويحفظه من الآفات في كل لحظة ، إذ هو معرض للزوال ، لو لا حفظ الله ما ثبت. قوله : (بمعنى الإسماع) إنما قال ذلك ليوافق الأبصار. قوله : (وَالْأَبْصارَ) جمع بصر ، والمعنى أن الله تعالى هو الخالق للأبصار ، الواضع للنور فيها ، الذي به الأبصار ، وهو الحافظ له. قوله : (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) إلخ. تقدم أن المراد بالحي الإنسان والطير ، وبالميت النطفة والبيضة. قوله : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) عطف عام على خاص ، لأن تدبير الأمر عام في كل شيء.

قوله : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أي جوابا لمن تقدم. قوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي أدمتم على الشرك فلا

٩٧

بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) استفهام تقرير أي ليس بعده غيره فمن أخطأ الحق وهو عبادة الله وقع في الضلال (فَأَنَّى) كيف (تُصْرَفُونَ) (٣٢) عن الإيمان مع قيام البرهان (كَذلِكَ) كما صرف هؤلاء عن الإيمان (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) كفروا وهي لأملأن جهنم الآية أو هي (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣) (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣٤) تصرفون عن عبادته مع قيام الدليل (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) بنصب الحجج وخلق الاهتداء (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) وهو الله (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي) يهتدي (إِلَّا أَنْ يُهْدى) أحق أن يتبع استفهام تقرير وتوبيخ أي الأول أحق (فَما لَكُمْ كَيْفَ

____________________________________

تتقونه ، ويؤخذ من هذا ، أن المعرفة ليست هي الإيمان ، إذ لو كانت هي الإيمان ، لكان إقرارهم بأن الله هو الفعال لهذه الأشياء ، توحيدا وإيمانا ، بل الإيمان هو حديث للنفس التابع للمعرفة ، أي قول النفس : آمنت وصدقت على التحقيق. قوله : (الثابت) أي الذي لا يقبل الزوال أزلا ولا أبدا. قوله : (استفهام تقرير) المناسب إنكار بدليل قوله : (أي ليس بعده غيره). قوله : (وقع في الضلال) أي الباطل وهو الشرك ، لأنه لا واسطة بين الحق والباطل. قوله : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي تمنعون ، وهو استفهام تعجبي.

قوله : (كَذلِكَ) الكاف في محل نصب نعت لمصدر محذوف ، والتقدير مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به (حَقَّتْ) إلخ. قوله : (وهي) (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي فالمراد نفذ القضاء والقدر ، بأن جهنم تمتلىء من الجن والإنس ، حتى تقول قط قط. قوله : (وهي) (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أو لتنويع الخلاف ، أي فالمراد بكلمة الله على هذا القول ، نفوذ قضاء الله وقدره بعدم إيمانهم. قوله : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) إلخ. هذا هو السؤال السادس. قوله : (مَنْ يَبْدَؤُا) أي ينشىء الخلق من العدم. قوله : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي الخلق في القيامة للحساب والجزاء ، وإنما لم يجيبوا عن هذا السؤال ، وتولى الله الجواب عنه ، لأنهم منكرون للبعض ، فلو أجابوا لكان ذلك إقرارا منهم بالبعث ، وصح أن يكون حجة عليهم ، لقيام الأدلة والبراهين عليه ، فلا يستطيعون أن ينازعوا في ذلك.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) هذا هو السؤال السابع. والمعنى : هل من شركائكم من يقيم الحجج ، ويرسل الرسل ، ويوفق العبيد لرشادهم؟ ولما لم يكونوا مسلمين ذلك تولى الله جوابه أيضا. قوله : (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) أي فهو أحق بالإتباع ، لا هذه الأصنام التي لا تهتدي بنفسها. قوله : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) هذه هو السؤال الثامن ، وقد ذكر المفسر جوابه بقوله الأول (أحق). قوله : (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) خبر قوله : (أَفَمَنْ يَهْدِي) والمعنى : أفمن يهدي إلى الحق حقيق بالإتباع ، أم من لا يهدي إليه. قوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) أصله يهتدي ، نقلت فتحة التاء إلى الهاء ، وأبدلت التاء دالا ، وادغمت في الدال ، ويهدي بفتح الهاء وكسرها ، وبكسر الياء والهاء معا ، فالقراءات ثلاث وكلها سبعية ، فكسر الهاء للتخلص من التقاء الساكنين ، وكسر الياء اتباعا لكسر الهاء.

قوله : (إِلَّا أَنْ يُهْدى) استثناء من أعم الأحوال. والمعنى لا يهتدي في حال من الأحوال ، إلا في حال إهداء الغير إياه. ومعنى هداية الأصنام ، كونها تنقل من مكان لآخر ، فالمعنى لا تنتقل من مكان

٩٨

تَحْكُمُونَ) (٣٥) هذا الحكم الفاسد من اتباع ما لا يحق اتباعه (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) في عبادة الأصنام (إِلَّا ظَنًّا) حيث قلدوا فيه آباءهم (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فيما المطلوب منه العلم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٣٦) فيجازيهم عليه (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) أي افتراء (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (وَلكِنْ) أنزل (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ)

____________________________________

لآخر ، إلا أن تحمل وتنقل ، وهذا ظاهر في الأصنام ، وأما مثل عيسى والعزيز ، فمن لا يهدي لا يخلق الهدى ، لا في نفسه ولا في غيره ، فالخلق كلهم عاجزون ، إذ لا يملكون لأنفسهم شيئا فضلا عن غيرهم. قوله : (فَما لَكُمْ) أي أي شيء ثبت لكم في هذه الحالة؟ قوله : (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي بالباطل ، وتجعلون لله شركاء.

قوله : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) يفيد أن الأقل يعرفون أن الله منزه عن كل نقص متصف بكل كمال ، غير أنهم يكفرون عنادا. قوله : (حيث قلدوا فيه آباءهم) أي فقالوا (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ). قوله : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) المراد بالظن خلاف التحقيق ، فيشمل الشك والوهم ، وهذا الكلام في حق الكفار ، الذين اتبعوا غيرهم في الكفر وقلدوهم فيه ، فلا عذر لهم في التقليد دنيا ولا أخرى ، وأما المؤمن الخالص ، الذي امتلأ قلبه بالإيمان حيث عجز عن قيام الأدلة على التوحيد ، وقلد العارف فيه ، فليس من هذا القبيل ، بل هو مؤمن جزما لأنه ليس عنده ظن ، بل جزم مطابق للواقع ، وربما إن دام على الصدق ، ومتابعة من يقلده ، يرتقي في التوحيد إلى مقام أعلى وأجل من مقام من قلده ، وأما القول بأنه كافر ، فإنما يعرف لأبي هاشم الجبائي من المعتزلة ، فلا يعول عليه. قوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) هذا تهديد لهم ، على ما وقع منهم من الأفعال الشنيعة والأحوال القبيحة.

قوله : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ) المقصود من هذا الكلام ، الرد على من كذب القرآن ، وزعم أن ليس من عند الله ، والمعنى : لا ينبغي لهذا القرآن أن يختلق ويفتعل ، لأن تراكيبه الحسنة أعجزت العالمين ، وذلك لأن حسن الكلام على حسب سعة علم المتكلم واطلاعه ، ولا أحد أعلم من رب العالمين فلذلك أعجز الخلائق جميعا لكونه في أعلى طبقات البلاغة ، ولذلك قال صاحب الهمزية :

أعجز الإنس آية منه

والجن فهلا أتى به البلغاء

إلى أن قال :

سور منه أشبهت صورا

منا ومثل النظائر النظراء

قوله : (أي افتراء) أشار بذلك إلى أن خبر كان (أَنْ) وما دخلت عليه في تأويل مصدر. قوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) هذا الاستدراك وقع أحسن موقع ، لأنه وقع بين نقيضين : الكذب والصدق ، وتصديق بالنصب خبر لكان مقدرة ، والتقدير ولكن مكان تصديق إلخ ، أو مفعول لأجله بفعل محذوف ، قدره المفسر بقوله : (أنزل) ، و (تَصْدِيقَ) بمعنى مصدق ، أو بولغ فيه ، حتى جعل نفس التصديق على حد زيد عدل ، وكذا يقال في قوله : (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ). قوله : (من الكتب) أي السماوية المنزلة على الأنبياء.

قوله : (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي مفصل لما في الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، فالقرآن مفصل لما

٩٩

تبيين ما كتبه الله من الأحكام وغيرها (لا رَيْبَ) شك (فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٧) متعلق بتصديق أو بأنزل المحذوف وقرىء برفع تصديق وتفصيل بتقدير هو (أَمْ) بل أ(يَقُولُونَ افْتَراهُ) اختلقه محمد (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) في الفصاحة والبلاغة على وجه الافتراء فإنكم عربيون فصحاء مثلي (ادْعُوا) للإعانة عليه (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غيره (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) في أنه افتراء فلم يقدروا على ذلك ، قال تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي القرآن ولم يتدبرونه (وَلَمَّا) لم (يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) عاقبة ما فيه من الوعيد (كَذلِكَ) التكذيب (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) رسلهم (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٣٩) بتكذيب الرسل أي آخر أمرهم من الهلاك فكذلك نهلك هؤلاء (وَمِنْهُمْ) أي أهل مكة (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) لعلم الله

____________________________________

كتب في اللوح المحفوظ ، من علم ما كان وما يكون ، وما هو كائن في الدنيا والآخرة ، فمن أعطي شيئا من أسرار القرآن ، فلا يحتاج للإطلاع على اللوح المحفوظ ، بل يأخذ منه ما أراده. قوله : (وغيرها) أي المغيبات. قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) حال من التصديق والتفصيل ، وهذا هو الأظهر. قوله : (متعلق بتصديق أو بإنزال) أي يكون قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) معترضا بين المتعلق والمتعلق. قوله : (وقرىء) أي شاذا. قوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أم منقطعة وتفسر ببل والهمزة ، والمعنى أنهم أصروا على تلك المقالة ، ولم يذعنوا للحق. قوله : (اختلقه محمد) أي افتعله وليس من عند الله.

قوله : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ) هذا تبكيت لمقالتهم الفاسدة ، وهي جواب الشرط مقدر ، والتقدير إن كان الأمر كما تزعمون ، فأتوا بسورة مثله. واعلم أن مراتب تحدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن أربعة. أولها : أنه تحداهم بجميع القرآن. قال تعالى : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ). ثانيها : أنه تحداهم بعشر سور. قال تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) ثالثها : أنه تحداهم بسورة واحدة. قال تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) رابعها : أنه تحداهم بحديث مثله كما قال تعالى : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ). قوله : (مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من آلهتكم وغيرها من جميع المخلوقات. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، أي فأتوا بسورة وادعوا ، إلخ.

قوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي بفهم ألفاظه ومعانيه العظيمة ، فتكذيبهم لعدم فهمهم معناه ، وجهلهم بفضله ، ففي المثل : من جهل شيئا عاداه ، وقال البوصيري :

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم

قوله : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي لم ينزل بهم الوعيد ، فيحملهم على التصديق قهرا ، فتكذيبهم لأمرين جهلهم بفضله ، وعدم إتيان الوعيد لهم. قوله : (من الوعيد) وهو العذاب الموعود به. قوله : (كَذلِكَ) (لتكذيب) أشار بذلك إلى أن الكاف بمعنى مثل ، نعت لمصدر محذوف ، أي مثل ذلك التكذيب كذبوا رسلهم. قوله : (فكذلك نهلك هؤلاء) أي بأن نسلطكم عليهم لتقتلوهم وليس المراد الهلاك العام بالخسف والمسخ مثلا ، فإن ذلك مرفوع ببركته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قوله : (وَمِنْهُمْ) أي من أهل مكة المكذبين. قوله : (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أي في المستقبل ، والمعنى أن

١٠٠