حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي

حاشية الصاوى على تفسير الجلالين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد الصاوي


المحقق: محمد عبدالسلام شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥١٢

الأهوال تدهشهم فلا يفيقون حتى يتمنوا ذلك إلا في أحيان قليلة (ذَرْهُمْ) اترك الكفار يا محمد (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم (وَيُلْهِهِمُ) يشغلهم (الْأَمَلُ) بطول العمر وغيره عن الإيمان (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣) عاقبة أمرهم وهذا قبل الأمر بالقتال (وَما أَهْلَكْنا مِنْ) زائدة (قَرْيَةٍ) أريد أهلها (إِلَّا وَلَها كِتابٌ) أجل (مَعْلُومٌ) (٤) محدود لإهلاكها (ما تَسْبِقُ مِنْ) زائدة (أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥) يتأخرون عنه (وَقالُوا) أي كفار مكة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) القرآن في زعمه (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦) (لَوْ ما) هلا (تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧) في قولك إنك نبي وأن هذا القرآن من عند الله ، قال تعالى : (ما نُنَزِّلُ) فيه حذف إحدى التاءين (الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) بالعذاب (وَما كانُوا إِذاً) أي حين نزول الملائكة بالعذاب

____________________________________

قوله : (ذَرْهُمْ) لم يستعمل لهذا الأمر ماض استغناء عنه بترك ، بل يستعمل منه المضارع ، وقد جاء منه الماضي قليلا ، قال عليه الصلاة والسّلام «ذروا الحبشة ما وذرتكم». قوله : (يَأْكُلُوا) مجزوم بحذف النون في جواب الأمر ، وكذا قوله : (وَيَتَمَتَّعُوا). قوله : (وَيُلْهِهِمُ) مجروم أيضا بحذف الياء ، وفيه ثلاث قراءات سبعية : كسر الهاء الثانية والميم وضمهما ، وكسر الهاء وضم الميم ، وأما الهاء الأولى فمكسورة لا غير ، لأنها من بنية الكلمة. قوله : (الْأَمَلُ) فاعل (يُلْهِهِمُ). قوله : (عاقبة أمرهم) قدره إشارة إلى أن مفعول (يَعْلَمُونَ) محذوف. قوله : (وهذا قبل الأمر بالقتال) أي قوله : (ذَرْهُمْ) الخ فهذه الآية منسوخة بآية القتال. قوله : (زائدة) أي في المفعول. قوله : (أريد أهلها) أي ففيه مجاز ، إما بالحذف ، أو مرسل من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه. قوله : (إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) الجملة حالية ، والمعنى وما أهلكنا قرية في حال من الأحوال ، إلا في حال أن يكون لها كتاب ، أي أجل مؤقت لهلاكها ، وجعلنا الواو حالية ، أسهل من جعلها زائدة بين الصفة والموصوف. قوله : (مِنْ أُمَّةٍ) فاعل تسبق ، و (مِنْ) لا زائدة في الفاعل للتأكيد قوله : (أَجَلَها) أي وهو الكتاب المتقدم. قوله : (يتأخرون عنه) أي الأجل.

قوله : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) نادوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التهكم والاستهزاء ، لا إقرار بأنه نزل عليه الذكر ، ولذا قال المفسر (في زعمه) فدفع به ما قد يقال ، إن في الآية مضاربة أولها لآخرها. قوله : (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي إنك لتقول قول المجانين ، حيث تدعي أن الله نزل عليك الذكر ، وقولهم هذا كقول فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) والحاصل أنهم قالوا مقالتين : الأولى : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ، والثانية (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) وقد رد الله ذلك على سبيل اللف والنشر والمشوش فقوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) رد للثانية ، قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) رد للأولى.

قوله : (لَوْ ما تَأْتِينا) تستعمل (لَوْ ما) حرف تحضيض ، وحرف امتناع لوجود ، فالتحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا ، والامتناعية لا يليها إلا الأسماء لفظا أو تقديرا ، إذا علمت ذلك فهي هنا للتحضيض ، ولذا فسرها بهلا. قوله : (بِالْمَلائِكَةِ) أي لتخبرنا بصدقك. قوله : (فيه حذف إحدى التاءين) أي والأصل تتنزل ، وفي قراءة سبعية أيضا ، ننزل بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الزاي المشددة ، ونصب الملائكة على المفعولية ، وقرىء شذوذا ما تنزل ، بفتح التاء وسكون النون وكسر الزاي ، و (الْمَلائِكَةَ) فاعل.

٢٤١

(مُنْظَرِينَ) (٨) مؤخرين (إِنَّا نَحْنُ) تأكيد لاسم إن ، أو فصل (نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) من التبديل والتحريف والزيادة والنقص (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) رسلا (فِي شِيَعِ) فرق (الْأَوَّلِينَ) (١٠) (وَما) كان (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١١) كاستهزاء قومك بك وهذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) أي مثل إدخالنا التكذيب في قلوب أولئك ندخله (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (١٢) أي كفار مكة (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (١٣) أي سنة الله فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم أنبياءهم وهؤلاء مثلهم (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ) في الباب (يَعْرُجُونَ) (١٤) يصعدون (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ)

____________________________________

قوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا تنزيلا ملتبسا بالحق لا بما قلتم واقترحتم ، والمعنى جرت عادة الله في خلقه ، أنه لا يظهر الملائكة إلا لمن يريد إهلاكهم ، وهو لا يريد ذلك مع أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلمه بقاءها ، وأنه يخرج منها من يعبد الله ويوحده إلى يوم القيامة ، فهم لا يجابون لما اقترحوا. قوله : (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) أصل إذن إذ بمعنى حين ، فضمت لها أن فصار إذ إن ، فاستثقلوا الهمزة فحذفوها فصار إذن ، ومجيء لفظة أن ، دليل على إضمار فعل بعدها ، والتقدير وما كانوا إذ كان ما طلبوه ، الخ.

قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) أي وليس إنزاله بزعمك كما اعتقدوا. قوله : (أو فصل) أي ضمير فصل ، واعترض بأن ضمير الفصل لا يكون إلا ضمير غيبة ، ولا يقع إلا بين اسمين ، وهنا ليس كذلك ، وحينئذ فالمناسب للمفسر أن يقتصر على الأول. قوله : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي حيث جعله معجزا للبشر ، مغايرا لكلامهم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، باق على مرّ الدهور ، سيما وقد جعل الله له خدمة من البشر يحفظونه ، فترى الكبير العظيم إذا غلط وهو يقرأ ، يرده أصغر صغير في المجلس ، مع عدم العيب في ذلك ، بخلاف الكتب السماوية ، فقد دخل فيها التبديل والتغيير ، والزيادة والنقص ، ومن معنى هذه الآية قوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) الآية.

قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) هذا تسلية له صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قوله : (رسلا) قدره إشارة إلى أن مفعول (أَرْسَلْنا) محذوف ، وعدتهم ثلاثمائة وثلاثة عشر أو أربعة عشر ، وقيل لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى. قوله : (فِي شِيَعِ) جمع شيعة ، والمراد بها هنا الفرقة المتفقة في المذهب كان حقا أو باطلا ، وإضافة شيع للأولين على حذف مضاف ، أي في شيع الأمم الأولين. قوله : (وَما يَأْتِيهِمْ) قدر المفسر (كان) إشارة إلى أن المضارع بمعنى الماضي ، وأتى به مضارعا ، استحضارا للحال الماضية للتعجب منها. قوله : (يَسْتَهْزِؤُنَ) أي يسخرون. قوله : (وهذا تسلية له) أي فاصبر ولا تحزن ، فلست بأول من سخر به قومه ، بل وقع لمن قبلك مثلك. قوله : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) السلك بالفتح إدخال الخيط في اللؤلؤة ، وبالكسر نفس الخيط. قوله : (أي مثل إدخالنا التكذيب) أي الذي دل عليه بقوله : (يَسْتَهْزِؤُنَ). قوله : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي طريقتهم ، والجملة مستأنفة. قوله : (وهؤلاء مثلهم) أي فانتظر ما ينزل بالمكذبين من العذاب.

قوله : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أي على كفار مكة. قوله : (فَظَلُّوا) الضمير إما عائد على المشركين ،

٢٤٢

سدت (أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥) يخيل إلينا ذلك (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) اثني عشر : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت ، وهي منازل الكواكب السبعة السيارة : المريخ وله الحمل ، والعقرب والزهرة والثور والميزان ، وعطارد وله الجوزاء والسنبلة ، والقمر له السرطان ، والشمس ولها الأسد ، والمشتري وله القوس والحوت ، وزحل وله الجدي والدلو (وَزَيَّنَّاها) بالكواكب (لِلنَّاظِرِينَ) (١٦) (وَحَفِظْناها) بالشهب (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (١٧) مرجوم (إِلَّا) لكن (مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ)

____________________________________

والمعنى فتحنا باب السماء لهؤلاء المشركين ، ولو صعدوا إلى السماء ورأوا عجائبها لقالوا إلخ ، أو على الملائكة ، والمعنى لو كشفنا عن أبصار الكفار ، فرأوا باب السماء مفتوحا ، والملائكة تصعد منه ، لما آمنوا. قوله : (إِنَّما سُكِّرَتْ) بالتخفيف والتشديد ، قراءتان سبعيتان. قوله : (سدت) أي فيقال سكرت النهر ، من باب قتل سدته ، والسكر بالكسر ما يسد به ، والمعنى بسد أبصارنا عن محسوساتنا المعتادة بتلك التخيلات. قوله : (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) إضراب انتقالي عما أفاده أولا من خصوص سحر العين بالحصر ، والمعنى أنهم يقولون : إنما سدت أبصارنا ، فخيل لها أمر لا حقيقة له ، ولم يتجاوزها لقلوبنا ، ثم أضربوا عن ذلك ، وجعلوا السحر واصلا لقلوبهم. قوله : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً) هذا من أدلة توحيده سبحانه وتعالى ، والبروج جمع برج ، والمراد منازل وطرق تسير فيها الكواكب السبعة. قوله : (اثني عشر برجا) أي وقد جمعها بعضهم في قوله :

حمل الثور جوزة السرطان

ورمى الليث سنبل الميزان

ورمى عقرب بقوس لجدي

نزح الدلو بركة الحيتان

قوله : (وهي منازل الكواكب) أي محل سيرها. قوله : (المريخ) بكسر الميم نجم في السماء الخامسة ، وقد جمع الكواكب بعضهم في قوله :

زحل شرى مريخه من شمسه

فتزاهرت لعطارد الأقمار

فزحل في السماء السابعة ، والمشتري في السادسة ، والمريخ في الخامسة ، والشمس في الرابعة ، والزهرة في الثالثة ، وعطارد في الثانية ، والقمر في الأولى ، وهي سماء الدنيا. قوله : (والشمس ولها الأسد) أي بيتها المنسوب لها ، فلا ينافي أنها تسير في البروج كلها ، المتقسمة لثمان وعشرين منزلة ، لكل برج منزلتان وثلث ، وتقطعها الشمس في سنة ، والقمر في شهر ، وقد جعل الله بهذه الكواكب ، النفع في العالم السفلي ، كالأكل والشرب ، يوجد النفع عندها لا بها ، فهي أسباب عادية. قوله : (وَزَيَّنَّاها) (بالكواكب) أي جعلنا الكواكب زينة للسماء ، وهل الكواكب في السماء الدنيا ، أو ثوابت في العرش ، قولان للعلماء. قوله : (لِلنَّاظِرِينَ) أي المتأملين بأبصارهم وبصائرهم. قوله : (وَحَفِظْناها) أي السماء. قوله : (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي وذلك لأن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السماوات ، فيدخلونها ويأتون بأخبارها إلى الكهنة ، فلما ولد عيسى ، منعوا من ثلاث سماوات ، ولما ولد سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من السماوات كلها ، ولما بعث رميت عليهم الشهب ، فكانت تخطىء وتصيب ، فلما عرج به صلى‌الله‌عليه‌وسلم صارت لا تخطئهم أبدا.

٢٤٣

خطفه (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٨) كوكب يضيء ويحرقه أو يثبه أو يخبله (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت لئلا تتحرك بأهلها (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٩) معلوم مقدر (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) بالياء من الثمار والحبوب (وَ) جعلنا لكم (مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٢٠) من العبيد والدواب والأنعام فإنما يرزقهم الله (وَإِنْ) ما (مِنْ) زائدة (شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) مفاتيح خزائنه (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١) على حسب

____________________________________

قوله : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) استثناء منقطع ، لأن ما قبل الاستثناء دخولهم السماء ، وما بعده استراقهم من خارجها ، والمعنى أن الشياطين يركب بعضهم بعضا ، يريدون الاستراق ، فتكون الشهب بالمرصاد لهم ، كما صرحت به سورة الجن في قوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها) الخ. قوله : (كوكب مضيء) وقيل الشهاب ، شعلة نار تنفصل من الكوكب ، وهو الصحيح. قوله : (أو يخبله) أي يفسد أعضاؤه ، فيصير غولا في الوادي يضل الناس. قوله : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) الأرش منصوب بفعل محذوف يفسره (مَدَدْناها). قوله : (بسطناها) أي على الماء. قوله : (لئلا تتحرك بأهلها) أي لأن الله لما خلقها وبسطها على الماء ، تحركت واضطربت ، فثبتها بالجبال الرواسي فسكنت. قوله : (معلوم) أي الله ، فيعلم قدر ما يحتاج إليه الخلق في معاشهم. قوله : (مَعايِشَ) جمع معيشة ، وهي ما يعيش بها الإنسان ، من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك. قوله : (بالياء) أي بإتفاق السبعة ، لأنها في المفرد أصلية ، فلا تقلب في الجمع همزة ، بل تبقى على حالها ، بخلاف المد الزائد في المفرد ، فإنه يقلب همزة في الجمع ، قال ابن مالك :

والمد زيد ثالثا في الواحد

همزا يرى في مثل كالقلائد

وقرىء شذوذا بالهمزة على التشبيه بشمائل. قوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) مشى المفسر على أنه معطوف على (مَعايِشَ) حيث قدر قوله جعلنا لكم. قوله : (من العبيد) أي والخدم وغيرهم ، فأنتم تنتفعون بتلك الأشياء ، ولستم برازقين لها ، وإنما رزقها على خالقها. قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) كالدليل لقوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) و (مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) فهو إعلام بسعة فضله سبحانه وتعالى ، قوله : (شَيْءٍ) نكرة في سياق النفي ، فتعم كل شيء كان في الدنيا أو الآخرة ، جليلا أو حقيرا. قوله : (إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي إلا يوجده الله ، إذا تعلقت قدرته وإرادته به ، ففي الكلام مجاز ، حيث شبه سرعة إيجاده الأشياء بحصولها بالفعل ، وجعلها في خزائن ، والجامع بينهما سرعة الحصول في كل ، فالمعنى بيده الأشياء كلها ، خيرها وشرها ، جليلها وحقيرها ، فإذا أراد الله شيئا حصل ، فلا يطلب الإنسان من غيره بل بطلب المفاتيح ممن بيده الخزائن ، والمفاتيح كناية عن التسهيل ، فمن أراد الله له شيئا أعطاه مفتاحه ، بمعنى سهل أسبابه.

قوله : (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي فيسعد هذا ويشقى هذا ، ويفقر هذا ويغنى هذا ، على حسب ما قدره الله ، إذا علمت ذلك ، فالمناسب للمفسر أن يقول على حسب تقدير الله ، فإن الله تعالى ليس مراده مقيدا بمصالح عباده ، بل أفعاله على حسب ما أراده وعلمه ، وإلا فنجد الكافر يطول عمره ، وهو في فقر ومرض ، ثم يختم له بالكفر ويكون في النار ، فأي مصلحة في ذلك؟

٢٤٤

المصالح (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) تلقح السحاب فيمتلىء ماء (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) السحاب (ماءً) مطرا (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) (٢٢) أي ليست خزائنه بأيديكم (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) (٢٣) الباقون نرث جميع الخلق (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) أي من تقدم من الخلق من لدن آدم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) (٢٤) المتأخرين إلى يوم القيامة (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ) في صنعه (عَلِيمٌ) (٢٥) بخلقه (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) آدم (مِنْ صَلْصالٍ) طين يابس يسمع له صلصلة أي صوت إذا نقر (مِنْ حَمَإٍ) طين أسود (مَسْنُونٍ) (٢٦)

____________________________________

قوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ) جمع ريح ، وهو جسم لطيف منبث في الجو سريع المرور. قوله : (لَواقِحَ) إما جمع ملقح من ألقح ، وحينئذ فجمعه ملاقح ، حذفت الميم تخفيفا ، أو جمع لاقح من لقح ، يقال لقحت الريح إذا حملت الماء إلى السحاب ، وأعلم أن الله سبحانه وتعالى ، يرسل الرياح الأربعة لخدمة المطر ، فريح الصبا تثير السحاب من ثمر شجرة في الجنة ، وريح الشمال تجمعه ، وريح الدبور تفرقه. قوله : (تلقح السحاب) أي تمج الماء فيه. قوله : (السحاب) أي فالمراد بالسماء كل ما علا وارتفع ، ويصح أن يراد بالسماء حقيقتها ، لأن أصل ماء المطر من السماء. قوله : (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) الكاف مفعول أول ، والهاء مفعول ثاني ، والمعنى جعلناه سقيا لكم ولأرضكم ومواشيكم. قوله : (أي ليست خزائنه بأيديكم) أي بل خزائنه عند الله ، فهو من مشمولات. قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ).

قوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي) أي جميع الخلق ، وإن حرف توكيد ونصب ، ونا اسمها ، وجملة (نُحْيِي) خبرها ، وقوله : (لَنَحْنُ) ضمير منفصل توكيد لنا ، لا ضمير فصل ، لما تقدم أنه مردود بأن ضمير الفصل لا يقع إلا بين اسمين ، وهنا ليس كذلك. قوله : (وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) الوارث في الأصل ، هو الذي يأخذ المال بعد موت مورثه ، ثم أطلق الإرث وأريد لازمه ، وهو البقاء بعد فناء غيره ، فإنه يلزم من أخذ الوراث مال الموروث بقاؤه بعد موت صاحبه ، فهو سبحانه وتعالى وارث جميع الخلق بمعنى أنه يبقى بعد فنائهم.

قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) أي علما تفصيليا ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. قوله : (المتأخرين) أشار بذلك إلى أن السين والتاء في المستقدمين والمستأخرين زائدتان ، والمعنى أن عمله محيط بجميع خلقه ، متقدمهم ومتأخرهم ، طائعهم وعاصيهم ، لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه. قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أي يجمعهم للحساب ، ثم بعد ذلك ينقسمون فريقين : فريق في الجنة ، وفريق في السعير. قوله : (مِنْ صَلْصالٍ) الصلصال بمعنى المصلصل ، كالزلزال بمعنى المزلزل ، ووزنه فعلال بتكرار اللام ، فقلبت الأولى منهما من جنس فاء الكلمة ، والصلصال طور رابع من أطوار آدم الطينية ، لأنه أولا كان ترابا ثم عجن بأنواع المياه فصار طينا ، ثم ترك حتى أنتن واسود ، فصار حما مسنونا ، ثم يبس بعد تصويره فصار صلصالا ، ثم نفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين سنة ، أربعين وهو طين ، وأربعين وهو حما مسنون ، وأربعين وهو صلصال مصور ، وهكذا أطوار أولاد آدم ، تمكث النطفة في الرحم أربعين يوما ، ثم تصير علقة مثل ذلك ، ثم تصير مضغة مثل ذلك ، ثم تنفخ فيه الروح بعد مائة

٢٤٥

متغير (وَالْجَانَ) أبا الجن وهو إبليس (خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي قبل خلق آدم (مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧) هي نار لا دخان لها تنفذ في المسام (وَ) اذكر (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٨) (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أتمته (وَنَفَخْتُ) أجريت (فِيهِ مِنْ رُوحِي) فصار حيا وإضافة ، الروح إليه تشريف لآدم (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢٩) سجود تحية بالانحناء (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠) فيه تأكيدان (إِلَّا إِبْلِيسَ) هو أبو الجن كان بين الملائكة (أَبى) امتنع من (أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣١) (قالَ) تعالى : (يا إِبْلِيسُ ما لَكَ) ما منعك (أَلَّا) زائدة (تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣٢) (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ) لا ينبغي لي أن أسجد (لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٣٣) (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) أي من الجنة وقيل من

____________________________________

وعشرين يوما. قوله : (متغير) أي من طول مكثه حتى يتخمر. قوله : (أبا الجن وهو إبليس) هذا أحد قولين ، وقيل هو أبو الشياطين ، فرقة من الجن لم يؤمن منهم أحد ، والجان هو أبو الجن ، وعلى هذا تكون الأصول ثلاثة : آدم وهو أبو البشر ، وإبليس وهو أبو الشياطين ، والجان وهو أبو الجن ، وعلى ما مشى عليه المفسر يكونان أصلين فقط : آدم وإبليس. قوله : (هي نار لا دخان لها) أي ومنها تكون الصواعق. قوله : (تنفذ في المسام) أي تدخل فيها ، للطف المسام وشدة حرارة النار ، فإذا دخلت في الإنسان قتلته.

قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ إِذْ) ظرف معمول لمحذوف ، قدره المفسر بقوله : (اذكر) قوله : (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ) لابتداء الغاية. قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي صورته إنسانا كاملا ، معتدل الأعضاء والطبائع. قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) أي افضت عليه روحا من الأرواح التي خلقتها ، فصار بها حيا ، وليس المراد النفخ حقيقة لاستحالته على الله. قوله : (وإضافة الروح إليه) أي كما يقال : بيت الله وناقة الله. قوله : (فَقَعُوا) الفاء واقعة في جواب إذا ، وقعوا فعل أمر من وقع يقع ، بمعنى سقط وخر. قوله : (بالانحناء) أي لا بوضع الجبهة ، وهذا أحد قولين ، وقيل المراد بالسجود حقيقته ، وآدم كالقبلة ، والسجود لله ، أو يقال إن السجود لذات آدم ، وقولهم السجود لغير الله كفر ، محله في غير ما أمر الله به ، وأما في مثل هذا ، فالكفر في المخالفة. قوله : (فيه تأكيدان) أي للمبالغة وزيادة الاعتناء ، فبالتأكيد الأول اندفع توهم المجاز ، وبالثاني استفيد أنهم سجدوا جملة واحدة ، قوله : (كان بين الملائكة) أشار بذلك إلى صحة الاستثناء ، ثم هم يحتمل أن يكون منقطعا ، لأنه لم يكن منهم حقيقة أو متصلا ، باعتبار أنه كان متصفا بصفاتهم ، وقيل إنه منهم ، والتحقيق خلافه. قوله : (أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) استئناف مبين لكيفية عدم السجود.

قوله : (قالَ) (تعالى). إن قلت : إن مكالمة الله تعالى بدون واسطة شرف وتعظيم ، وإبليس ليس من أهل ذلك. أجيب : بأن محل كونها شرفا إن كانت على سبيل الإكرام ، وأما كلام الله تعالى لإبليس ، فهو على سبيل الإهانة والطرد ، فلم يكن تشريفا. قوله : (ما منعك) الخ ، حمله على هذا التفسير قوله في الآية الأخرى (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ولذا قال : «لأ» (زائدة) ويصح أن تكون غير زائدة ، والمعنى أي شيء ثبت لك في عدم كونك مع الساجدين. قوله : (لا ينبغي لي) أي لا يصح ولا يليق. قوله : (لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ) الخ ، أي وخلقتني من نار فأنا خير منه ، لأن النار جسم لطيف نوراني ، والصلصال

٢٤٦

السماوات (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) (٣٤) مطرود (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) (٣٥) الجزاء (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٣٦) أي الناس (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (٣٧) (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨) وقت النفخة الأولى (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي بإغوائك لي والباء للقسم وجوابه (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) المعاصي (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٩) (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) أي المؤمنين (قالَ) تعالى : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (٤١) وهو (إِنَّ عِبادِي) أي المؤمنين (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) قوة (إِلَّا) لكن (مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤٢) الكافرين (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) (٤٣) أي من تبعك معك (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) أطباق (لِكُلِّ بابٍ) منها (مِنْهُمْ جُزْءٌ) نصيب (مَقْسُومٌ) (٤٤) (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) بساتين (وَعُيُونٍ) (٤٥) تجري فيها ويقال

____________________________________

جسم كثيف ظلماني ، والنوراني خير من الظلماني ، هذا وجه تكبره عن السجود ، وادعائه الخيرية وهي مردودة ، بأن آدم مركب من العناصر الأربع ، بخلاف إبليس ، وأيضا فالفضل بيد الله يعطيه لمن يشاء. قوله : (وقيل من السماوات) وهذا الخلاف مرتب على الخلاف في أن السجود لآدم ، هل كان في الجنة أو خارجها ، فمن قال بالأول ، جعل الضمير في منها عائدا على الجنة ، ومن قال بالثاني ، جعله عائدا على السماوات.

قوله : (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مرجوم ، والرجم كما في القاموس : اللعن والشتم والطرد والهجران. قوله : (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي وبعد ذلك يزداد عذابا على اللعنة التي هو فيها وقوله : (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قصد اللعين بذلك أنه لا يموت أبدا ، لأنه إذا أمهل إلى يوم البعث ، الذي هو يوم النفخة الثانية ، فقد أمهل إلى الأبد ، لانقطاع الموت حينئذ ، وقصد أيضا الفسحة في الأجل ، لأجل الإغواء ، فأجابه الله إلى الثانية دون الأولى. قوله : (وقت النفخة الأولى) أي فيموت في جملة الخلائق ، ثم يبعث مع الناس ، فمدة موته أربعون سنة ، ولم يكن هذا الإمهال إكراما له ، بل إهانة وشقاوة ليزداد عذابه. قوله : (والباء للقسم) وقيل للسببية. قوله : (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) الضمير عائد على أولاد آدم ، وإن لم يتقدم لهم ذكر للعلم بهم. قوله : (الْمُخْلَصِينَ) أي الذين أخلصوا في أعمالهم ، فلا تسلط لي عليهم.

قوله : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا دين مستقيم لا اعوجاج فيه ، فعليّ حفظه تفضلا وإحسانا. قوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) حاصل ذلك ، أن إبليس لما قال (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) أوهم بذلك أن له سلطانا على غير المخلصين ، فبين تعالى أنه ليس له سلطان على أحد من العباد ، لا من المخلصين ، ولا من غيرهم ، بل من اتبعه ، فهو من طرد الله لا من سلطنة إبليس ، ويؤيده قوله في الآية الأخرى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) وتقييد المفسر بالمؤمنين نظرا للصورة. قوله : (لكن) أشار بذلك إلى أن الاستثناء منقطع. قوله : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) أي وأعلاها جهنم ، وهي لعصاة المؤمنين ، ثم لظى لليهود ، ثم الحطمة للنصارى ، ثم السعير للصابئين ، ثم سقر للمجوس ، ثم الجحيم لعباد الوثن ، ثم الهاوية للمنافقين.

قوله : (لِكُلِّ بابٍ) أي طبقة من أطباقها. قوله : (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي حزب معد لها. قوله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين اتقوا الشرك ، وهم المؤمنون ولو عصاة ، لأن المتقي هو الآتي بالتقوى ولو مرة واحدة ،

٢٤٧

لهم (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي سالمين من كل مخوف أو مع سلام أي سلموا وادخلوا (آمِنِينَ) (٤٦) من كل فزع (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) حقد (إِخْواناً) حال من هم (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (٤٧) حال أيضا أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لدوران الأسرة بهم (لا يَمَسُّهُمْ فِيها

____________________________________

غير أن العاصي ، إذا مات مصرا على المعاصي تحت المشيئة ، إن شاء الله عذبه مدة ، ثم يعفو عنه بشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن شاء لم يعذبه ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة ، وقال أبو هاشم الجبائي وجمهور المعتزلة : إن المتقين هم الذين اتقوا جميع المعاصي ، فلا يثبت دخول الجنة ، إلا لمن ترك جميع المعاصي ، وهذا مذهب باطل ، لمخالفته النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، والذي يجب الإيمان به ، أن الجنة تملك بالموت على كلمة التوحيد ، ولو صحبها أمثال الجبال من المعاصي ، غير أن أهل الجنة مراتب.

قوله : (وَعُيُونٍ) يحتمل أن المراد بها الأنهار التي قال فيها (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) الآية ، ويحتمل أن تكون زيادة عليها ، وهل كل مؤمن له عدة بساتين وعدة أنهار ، أو كل له بستان ونهر ، لمقابلة الجمع بالجمع. قوله : (ويقال لهم) أي إذا ارادوا الانتقال من محل إلى آخر ، وإلا فهم مستقرون فيها ، فأمرهم حينئذ بالدخول ، تحصيل حاصل ، والقائل يحتمل أن يكون الملائكة أو الله تعالى. قوله : (بِسَلامٍ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الواو في ادخلوا ، أي ادخلوها حال كونكم مصحوبين بسلامة من الله من جميع المخاوف والمكاره ، وهذا على المعنى الأول الذي ذكره المفسر ، ويقال على المعنى الثاني : ادخلوها مصحوبين بسلام من بعضكم لبعض ، ومن الملائكة ، أي يسلم بعضكم على بعض ، وتسلم الملائكة عليكم. قوله : (أي سلموا) تفسير للمعنى الثاني.

قوله : (آمِنِينَ) قدر المفسر (ادخلوا) إشارة إلى أنه حال ثانية ، وهي مرادفة للأولى ، ولا حاجة لهذا التقدير. قوله : (من كل فزع) أي ومنه زوال ما هم فيه من النعيم المقيم ، وقوله : (بِسَلامٍ آمِنِينَ) زيادة في سرور أهل الجنة ، لأن النعيم إذا لوحظ فيه عدم الانقطاع ، كان في غاية السرور ، ولا شك أن الجنة كذلك ، بخلاف الدنيا ، فإن نعيمها ملاحظ فيه الانقطاع عند حصوله ، فلذلك كانت دارهم وغم. قوله : (مِنْ غِلٍ) الغل هو من أمراض القلب ، كالحسد والكبر والعجب والشحناء والبغضاء ، روي أن المؤمنين يوقفون على باب الجنة وقفة ، فيقتص بعضهم من بعض ، ثم يؤمر بهم إلى الجنة ، وقد نقى الله قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد ، فهم يحبون بعضهم بحبهم لربهم ، وشأن المحب أن لا يكون لمحبوبه غل في قلبه ، بل بينهم الصفاء والوفاء. قوله : (حال من هم) أي من ضمير صدورهم المضاف إليه ، والشرط موجود ، لأن المضاف جزء المضاف إليه ، أو المعنى : ونزعنا ما في صدورهم من غل ، حال كونهم متآخين في المودة والمحبة.

قوله : (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير وهو كما قال ابن عباس : من ذهب مكلل بالزبرجد والدر والياقوت ، والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية. قوله : (حال أيضا) أي من الضمير في (إِخْواناً). قوله : (لدوران الأسرة بهم) أي أنهم إذا اجتمعوا وتلاقوا ، ثم أرادوا الانصراف ، يدور سرير كل واحد منهم ، بحيث يبقى مقابلا بوجهه لمن كان عنده ، وقفاه إلى الجهة التي يسير لها السرير ، وهذا أبلغ في الأنس والإكرام. قوله : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي إعياء بخلاف الدنيا ، ففيها الاعياء والتعب

٢٤٨

نَصَبٌ) تعب (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٤٨) أبدا (نَبِّئْ) خبر يا محمد (عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ) للمؤمنين (الرَّحِيمُ) (٤٩) بهم (وَأَنَّ عَذابِي) للعصاة (هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (٥٠) المؤلم (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥١) وهم ملائكة اثنا عشر أو عشرة أو ثلاثة منهم جبريل (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً) أي هذا اللفظ (قالَ) إبراهيم لما عرض عليهم الأكل فلم يأكلوا (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) (٥٢) خائفون (قالُوا لا تَوْجَلْ) تخف (إِنَّا) رسل بك (نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) (٥٣) ذي

____________________________________

والكدرات والمشقات. قوله : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) أي بل هم خالدون فيها ، لا يزالون ولا يحولون ، فالجنة بلا زوال ، وبقاء بلا فناء ، وكمال بلا نقصان.

قوله : (نَبِّئْ عِبادِي) الخ ، أي أخبر يا محمد عبادي المؤمنين العاصين ، بأني أنا الغفور الرحيم فلا يقنطون من رحمتي ، ولا يخافون عذابي. وهذا من الله تعطف لعباده واستجلابهم للتوبة. وقد أكد هذه الجملة بألفاظ ثلاثة : أولها (أَنِّي) وثانيها (أَنَا) ، وثالثها تعريف الجملة بأل. ولما ذكر العذاب لم يقل وإني أنا المعذب ، وهذا يدل على أن الرحمة تغلب الغضب ، فلا يستبعد العاصي رحمة الله ، بل يقبل على سيده بالتوبة والإنابة ، فإنه هو الغفور الرحيم ، فمتى كان في العبد أوصاف متعددة ، تقتضي الغضب ، ووصف واحد يقتضي الرحمة ، فإن وصف الرحمة يغلب.

قوله : (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) أي بهذه الآية لمناسبة ذكر النار أولا ، فقد ذكر النار والجنة ثم ذكر ما يناسب كلا على سبيل اللف والنشر المشوش ، واستفيد من هذه الآية ، أن العبد يكون بين الرجاء والخوف ، ففي الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال : بلغنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «لو يعلم العبد قدر عفو الله ، ما تورع عن حرام ، ولو يعلم قدر عذابه ، لجمع نفسه إلى قتله». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه مر بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال : أتضحكون وبين أيديكم النار؟ فنزل (نَبِّئْ عِبادِي) الخ.

قوله : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) معطوف على قوله : (نَبِّئْ عِبادِي) الخ ، والمعنى وأخبر عبادي عن قصة ضيوف إبراهيم الخ ، واعلم أنه في هذه السورة ، أثبت نبوة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا ، ثم أتبع ذلك بذكر أدلة التوحيد ، ثم خلق آدم وما يتعلق به ، ثم بين أهل السعادة وأهل الشقاوة ، ثم أتبع ذلك بذكر قصص بعض الأنبياء ، ليكون عبرة للمعتبرين ، وأوقع في نفسه المتعظين ، وقد ذكر هنا أربع قصص : قصة إبراهيم ، ثم قصة لوط ، ثم قصة شعيب ، ثم صالح على سبيل الاختصار وقد تقدمت في سورة هود بأبسط مما هنا. قوله : (عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) الضيف في الأصل الميل ، سمي النازل للقرى بذلك ، لميله إليك ونزوله عندك ، وهو مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وقد يجمع ويثنى. قوله : (منهم جبريل) أي على كل من الأقوال الثلاثة.

قوله : (إِذْ دَخَلُوا إِذْ) ظرف معمول لمحذوف تقديره اذكر. قوله : (أي هذا اللفظ) أي لفظ (سَلاماً) وهو مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره سلمنا عليك ، أو سلم الله عليك سلاما ، ولم يذكر هنا رد السّلام ، ولا بقية القصة اختصارا. قوله : (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) تقدم أن سبب خوفه منهم ، أنه رأى فيهم جلال الله وهيبته. قوله : (قالُوا لا تَوْجَلْ) قرأ السبعة بفتح التاء والجيم ، وفعله وجل كعلم ،

٢٤٩

علم كثير هو إسحق كما ذكر في هود (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي) بالولد (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) حال أي مع مسه إياي (فَبِمَ) فبأي شيء (تُبَشِّرُونَ) (٥٤) استفهام تعجب (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) بالصدق (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) (٥٥) الآيسين (قالَ وَمَنْ) أي لا (يَقْنَطُ) بكسر النون وفتحها (مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (٥٦) الكافرون (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) شأنكم (أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) (٥٧) (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (٥٨) كافرين أي قوم لوط لإهلاكهم (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥٩) لإيمانهم (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠) الباقين في العذاب لكفرها (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ) أي لوط (الْمُرْسَلُونَ) (٦١) (قالَ) لهم (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (٦٢) لا أعرفكم (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا) أي قومك (فِيهِ يَمْتَرُونَ) (٦٣) يشكون وهو العذاب (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ

____________________________________

وقرىء شذوذا بالبناء للمفعول ، ولا تأجل بقلب الواو ألفا ، ولا تؤاجل بضم التاء وزيادة ألف بعد الواو ، فالقراءات الشاذة ثلاث. قوله : (أَبَشَّرْتُمُونِي) هكذا بهمزة الاستفهام في قراءة الجمهور ، وقرىء شذوذا بحذفها ، فيحتمل الإخبار والاستفهام ، وحذفت أداته للعلم بها. قوله : (عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) أي فكان عمره إذ ذاك مائة واثنتي عشرة سنة.

قوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) الجار والمجرور متعلق بتبشرون ، وقدم لأن الاستفهام له صدر الكلام ، وقرأ العامة بفتح النون مخففة على أنها نون الرفع ، وقرأ نافع بكسرها مخففة ، وابن كثير بكسرها مشددة. قوله : (استفهام تعجب) أي من أن يولد له ولد مع مس الكبر إياه ، وتعجبه بالنظر للعادة لا بالنظر لقدرة الله تعالى ، ولذا دفع ذلك بقوله : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ). قوله : (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ) أي اليقين الذي لا لبس فيه. قوله : (أي لا) (يَقْنَطُ) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله : (بكسر النون وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان ، وقرىء شذوذا بضم النون.

قوله : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أي الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة فإن البشارة يكفي فيها واحد ، فلا تحتاج لعدد. قوله : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) يحتمل أن يكون مستثنى من الأرسال ، والمعنى إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ، إلا آل لوط ، فلم نرسل لهلاكهم ، بل أرسلنا لنجاتهم ، وحينئذ يكون الاستثناء متصلا ، أو مستثنى من قوم مجرمين ، فهو منقطع ، لأنهم لم يدخلوا في القوم المجرمين ، ويشير للثاني قول المفسر لإيمانهم.

قوله : (إِلَّا امْرَأَتَهُ) الأقرب أنه مستثنى من ضمير منجوهم. قوله : (قَدَّرْنا) إسناد التقدير للملائكة مجاز ، إذ المقدر حقيقة هو الله تعالى ، وهذا كما يقول خواص الملك : أمرنا بكذا ، والآمر هو الملك. قوله : (الباقين في العذاب) أي فيقال غبر الشيء بقي ، ويقال أيضا مضى ، فهو من الأضداد. قوله : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ) أي بعد أن خرجوا من عند إبراهيم ، وسافروا لقرية لوط ، وكان بينهما أربعة فراسخ. قوله : (أي لوطا) أشار بذلك إلى أن لفظة آل زائدة ، بدليل الآية الأخرى (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً). قوله : (مُنْكَرُونَ) أي تنكركم نفسي وتجزع منكم ، وإنما جزع منهم ، لخوفه من قومه عليهم ، بدليل آية هود (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ). قوله : (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) الباء للملابسة أي متلبسين بالحق.

٢٥٠

وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٦٤) في قولنا (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) امش خلفهم (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (٦٥) وهو الشام (وَقَضَيْنا) أوحينا (إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) وهو (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٦٦) حال أي يتم استئصالهم في الصباح (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) مدينة سذوم وهم قوم لوط لما أخبروا أن في بيت لوط مردا حسانا وهم الملائكة (يَسْتَبْشِرُونَ) (٦٧) حال طمعا في فعل الفاحشة بهم (قالَ) لوط (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) (٦٨) (وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) (٦٩) بقصدكم إياهم بفعل الفاحشة بهم (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) (٧٠) عن إضافتهم (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٧١) ما تريدون من قضاء الشهوة فتزوجوهن ، قال تعالى : (لَعَمْرُكَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي وحياتك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٢) يترددون (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) صيحة جبريل (مُشْرِقِينَ) (٧٣) وقت شروق الشمس (فَجَعَلْنا عالِيَها) أي قراهم (سافِلَها) بأن رفعها جبريل إلى السماء وأسقطها مقلوبة إلى الأرض (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (٧٤) طين طبخ بالنار (إِنَّ فِي

____________________________________

قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) أي وهم بنتاه ، فلم يخرج من قريته إلا هو وبنتاه. قوله : (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) أي جزء منه. قوله : (امش خلفهم) أي لتطمئن عليهم. قوله : (لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم) أي فينزعج من ذلك. قوله : (وهو الشام) أي فطوى الله لهم الأرض في الوقت حتى نجوا ، ووصلوا إلى إبراهيم. قوله : (أوحينا) أشار بذلك إلى أن (قَضَيْنا) ضمن معنى (أوحينا) فعدي بما تعدى به.

قوله : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) الواو لا تقضي ترتيبا ولا تعقيبا ، فإن هذا المجيء قبل إعلام الملائكة له بأنهم رسل الله ، فالقصة هنا على خلاف الترتيب الواقعي ، بخلافها في هود. قوله : (مدينة سذوم) بالسين المهملة والذال المعجمة ، وأخطأ من قال بالمهملة. قوله : (يَسْتَبْشِرُونَ) أي يبشر بعضهم بعضا بأضياف لوط ، وتقدم أن المخبر لهم بالضيوف امرأة لوط. قوله : (فَلا تَفْضَحُونِ) أي لا تسيئوني فيهم. قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه. قوله : (عَنِ الْعالَمِينَ) أي عن تضييف أحد من الغرباء ، وكانوا يمنعونه من مخالطة الناس وإضافتهم ، خوفا من أن يؤلفهم ويستعين بهم عليهم. قوله : (فتزوجوهن) أي إن أسلمتم ، ويحتمل أنه كان في شريعته ، يحل تزوج الكافر بالمسلمة ، وتقدم في هود أنه يحتمل أن المراد نساء أمته.

قوله : (لَعَمْرُكَ) بفتح العين لغة في العمر بضمتين ، وهو مدة حياة الإنسان في الدنيا ، ولكن لم يرد القسم في كلام العرب إلا بالفتح. قوله : (إِنَّهُمْ) أي قوم لوط ، وقيل المراد قريش ، وعلى كل حال فهذه الجملة معترضة بين قصة قوم لوط. قوله : (أي وقت شروق الشمس) أي طلوعها ، وهذا بيان لانتهاء العذاب ، وابتداؤه كان وقت الصباح.

قوله : (فَجَعَلْنا عالِيَها) أي وجه الأرض وما عليه. قوله : (أي قراهم) أي وكانت أربعة ، فيها أربعمائة ألف مقاتل ، وقيل خمسة وفيها أربعة آلاف ألف ، قوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) تقدم في هود أنه يحتمل أن المطر كان على من كان غائبا عن القرى ، ويحتمل أنه عليهم بعد قلبها بهم. قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ)

٢٥١

ذلِكَ) المذكور (لَآياتٍ) دلالات على وحدانية الله (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٧٥) للناظرين المعتبرين (وَإِنَّها) أي قرى قوم لوط (لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) (٧٦) طريق قريش إلى الشام لم تندرس ، أفلا يعتبرون بهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) لعبرة (لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧) (وَإِنْ) مخففة أي إنه (كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) هي غيضة شجر بقرب مدين وهم قوم شعيب (لَظالِمِينَ) (٧٨) بتكذيبهم شعيبا (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) بأن أهلكناهم بشدة الحر (وَإِنَّهُما) أي قرى قوم لوط والأيكة (لَبِإِمامٍ) طريق (مُبِينٍ) (٧٩) واضح ، أفلا تعتبرون بهم يا أهل مكة (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ) واد بين المدينة والشام وهم ثمود (الْمُرْسَلِينَ) (٨٠) بتكذيبهم صالحا لأنه تكذيب لباقي الرسل لاشتراكهم في المجيء بالتوحيد (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا) في الناقة (فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) (٨١) لا يتفكرون فيها (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) (٨٢) (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) (٨٣) وقت الصباح (فَما أَغْنى) دفع

____________________________________

(المذكور) أي من قصة إبراهيم ولوط. قوله : (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي المتفكرين الذين يتأملون الشيء فيعرفون حقيقته. قوله : (لم تندرس) أي آثارهم. قوله : (لعبرة) (لِلْمُؤْمِنِينَ) خصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك.

قوله : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) شروع في ذكر قصة شعيب مع قومه أصحاب الأيكة ، وذكرت هنا مختصرة ، وسيأتي بسطها في سورة الشعراء. قوله : (مخففة) أي واسمها ضمير الشأن ، و (كانَ) ناقصة ، و (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) اسمها ، و (لَظالِمِينَ) خبرها ، واللام للتوكيد ، والجملة خبر (إِنْ). قوله : (هي غيضة شجر) الغيضة في الأصل اسم للشجر الملتف ، والمراد بها هنا ، المكان الذي فيه الشجر الكثير ، ونسبوا لها لملازمتهم لها وإقامتهم عندها ، وكان عامة شجرهم المقل أي الدوم. قوله : (بتكذيبهم شعيبا) أي وبخسهم الكيل والميزان وقطعهم الطريق. قوله : (بشدة الحر) أي فسلطها الله عليهم سبعة أيام ، حتى قربوا من الهلاك ، فبعث الله لهم سحابة كالظلة ، فالتجؤوا إليها ، واجتمعوا تحتها للتظلل بها ، فبعث الله عليهم منها نارا فأحرقتهم جميعا ، فإهلاكهم أولا بشدة الحر ، ثم بالظلة ، وأما أهل مدين ، فأهلكوا بالصيحة ، كما تقدم في سورة هود ، من أنه أرسل لأهل مدين ولأصحاب الأيكة. قوله : (طريق) (مُبِينٍ) أي وسمي الطريق إماما ، لأنه يؤم ويتبع ، لأن الإنسان إذا أراد الانتقال من موضع لآخر ، فإنه يأتم بالطريق حتى يصل إلى الموضع الذي يريده.

قوله : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ) شروع في قصة صالح. قوله : (واد بين المدينة والشام) أي وآثاره باقية ، يمر عليها الذاهب من الشام للحجاز. قوله : (لأنه تكذيب لباقي الرسل) جواب عما يقال : لم جمع المرسلين مع أنهم لم يكذبوا إلا رسولا واحدا. قوله : (وَآتَيْناهُمْ) أضاف الايتاء لهم ، وإن كان لصالح لأنه مرسل لهم. قوله : (في الناقة) أشار بذلك إلى أن الناقة ، وإن كانت آية واحدة ، إلا أنها اشتملت على آيات ، كخروجها من الصخرة ، وعظم جثتها ، وغزارة لبنها ، وولادتها فصيلا قدرها. قوله : (لا يتفكرون) أي لا يتأملون ولا ينظرون فيها.

قوله : (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) أي ينقرون الجبال بالمعاويل ، حتى تصير بيوتا من غير

٢٥٢

(عَنْهُمْ) العذاب (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٤) من بناء الحصون وجمع الأموال (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) لا محالة فيجازي كل أحد بعمله (فَاصْفَحِ) يا محمد عن قومك (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (٨٥) أعرض عنهم إعراضا لا جزع فيه وهذا منسوخ بآية السيف (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) لك شيء (الْعَلِيمُ) (٨٦) بكل شيء (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي الفاتحة رواه الشيخان لأنها تثنى في كل ركعة (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧) (لا

____________________________________

بنيان. قوله : (آمِنِينَ) أي من وصول اللصوص لهم ، ومن تخريب الأعداء لبيوتهم لشدة اتقانها. قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) أي من السماء ، والزلزلة من الأرض ، لما عقروا الناقة ، وتقدم في هود ، أن صالحا قال لهم قبل نزول العذاب بهم : تمتعوا في داركم ثلاثة أيام. قوله : (وقت الصباح) أي بعد مضي الثلاثة الأيام. قوله : (ما كانُوا يَكْسِبُونَ ما) اسم موصول أو مصدرية أو نكره موصوفة فاعل أغنى ؛ والتقدير الذي كانو يكسبونه أو كسبهم أو شيء يكسبونه. قوله : (من بناء الحصون) الخ ، بيان لما.

قوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) أي خلقا ملتبسا بالحكمة والمصلحة والمنافع للعباد ، ودلائل على وحدانية الله. قوله : (وَإِنَّ السَّاعَةَ) أي القيامة. قوله : (فيجازي كل واحد بعمله) أي فينتقم من المسيء ، وينعم على المحسن. قوله : (وهذا منسوخ) أي قوله : فاصفح الصفح الجميل ، وهو أحد قولين ، والثاني أن الآية محكمة ، ولا ينافي أمره بالقتال ، فإن المقصود أمره بأن يصفح عن الخلق الصفح الجميل ، ويعاملهم بالخلق الحسن ، فيعفو عن المسيء ، ويسامح المذنب ، وإن كان مأمورا بقتال المشركين ، فقتاله للأمر به لا لهوى نفسه ، ولذا قال البوصيري :

ولو أن انتقامه لهوى النف

س لدامت قطيعة وجفاء

قوله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) سبب نزولها أن سبع قوافل ، أتت من بصرى وأذرعات في يوم واحد ، ليهود قريظة والنضير ، فيها أنواع من البز والطيب والجواهر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقربنا بها ، وأنفقناها في سبيل الله فنزلت ، والمعنى قد أعطيتكم سبع آيات ، خير لكم من سبع قوافل. إن قلت : إن مقتضى ذلك ، أن تكون الآية مدنية ، مع أنه تقدم أن السورة مكية بإجماع. أجيب : بأنه لا مانع أن هذه الآية نزلت مرتين ، مرة بمكة مرة بالمدينة. قوله : (هي الفاتحة) أي لأنها سبع آيات ، فمن عد البسملة آية منها ، تكون الآية الأخيرة. (صِراطَ الَّذِينَ) الخ ، ومن لم يعدها آية ، تكون السابعة قوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) ، وهذا القول هو الراجح ، وعليه فيكون عطف قوله : (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) من عطف الكل على الجزء ، أو من عطف العام على الخاص ، وقيل المراد بالسبع المثاني الحواميم ، وقيل السبع الطوال أولها البقرة ، وآخرها مجموع الأنفال مع براءة ، وقيل جميع القرآن ، وعليه يكون العطف مرادفا. قوله : (لأنها تثنى في كل ركعة) أي تعاد في كل ركعة ، وهذا أحد الوجوه في سبب تسميتها بالمثاني ، وقيل سميت بذلك ، لأنها مقسومة بين العبد وبين الله نصفين ، فنصفها الأول ثناء على الله ، ونصفها الثاني دعاء ، وقيل لأن كلماتها مثناة مثل قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إلى آخرها ، وقيل لأنها نزلت مرتين : مرة بمكة ومرة بالمدينة ، معها سبعون ألف ملك.

٢٥٣

تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً) أصنافا (مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إن لم يؤمنوا (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) ألن جانبك (لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٨) (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ) من عذاب الله أن ينزل بكم (الْمُبِينُ) (٨٩) البين الإنذار (كَما أَنْزَلْنا) العذاب (عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) (٩٠) اليهود والنصارى (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ) أي كتبهم المنزلة عليهم (عِضِينَ) (٩١) أجزاء حيث آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وقيل المراد بهم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإسلام ، وقال بعضهم : في القرآن سحر ، وبعضهم : كهانة ، وبعضهم : شعر (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٩٢) سؤال

____________________________________

قوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي لا ترغب فيما متعنا به أصنافا من الكفار ، فإنه مستحقر ، وفي الحديث عن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أوتي القرآن ، فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي ، فقد صغر عظيما ، وعظم صغيرا». قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي لأجلهم. قوله : (ألن جانبك) أي تواضع لهم وارحمهم ، كالطائر الذي يخفض جناحه على أفراخه ، رحمة بها وشفقة عليها ، وقد فعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أمر به ، قال البوصيري في هذا المعنى :

أحل أمته في حرز ملته

كالليث حل مع الأشبال في أجم

قوله : (كَما أَنْزَلْنا) الكاف حرف تشبيه وجر ، وما اسم موصول في محل جر ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ، والتقدير : وقل : إني أنا النذير لكم بالعذاب ، كالعذاب الذي أنزلناه على المقتسمين والماضي بمعنى المستقبل ، إذ الذي نزل بأهل مكة لم يكن واقعا حين نزول الآية ، بل وقع بعد الهجرة ، وكذا ما وقع للمقتسمين طرق مكة لم يكن واقعا حينئذ ، بل وقع يوم بدر. إن قلت : إن العذاب المنذر ، ينبغي تشبيهه بشيء قد وقع ليحصل به الاتعاظ. أجيب : بأنه سهل ذلك تحتم نزوله ، فكأنه واقع ولا بد ، وقد تحقق ذلك يوم بدر. قوله : (اليهود والنصارى) أي حيث اقتسموا كتبهم ، فآمنوا ببعضها الذي وافق هواهم ، وكفروا بالبعض الذي خالفه.

قوله : (الَّذِينَ جَعَلُوا) بيان للمقتسمين. قوله : (الْقُرْآنَ) المراد به على هذا التفسير معناه اللغوي ، فحينئذ صح تفسير المفسر له بكتبهم المنزلة عليهم. قوله : (عِضِينَ) جمع عضة ، وأصلها قيل عضو ، وقيل عضة ، فعلى الأولى يكون : من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء ، أي أجزاء متفرقة. وعلى الثاني يكون : من عضه إذا كذب ، والمعنى جعلوا القرآن أجزاء متفرقة ، أو جعلوه أكاذيب. قوله : (وقيل المراد بهم الذين اقتسموا طرق مكة) أي وهم ستة عشر رجلا ، بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ، فاقتسموا أعتاب مكة وأنقابها وفجاجها ويقولون لمن سلكها : لا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعي النبوة ، فإنه مجنون ، وربما قالوا ساحر ، وربما قالوا شاعر ، وربما قالوا كاهن ، وسموا المقتسمين لأنهم اقتسموا هذه الطرق ، فأماتهم الله شر ميتة ، وكانوا نصبوا الوليد بن المغيرة حكما على باب المسجد ، فإذا سألوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : صدق أولئك ، وما ذكره المفسر قولان من سبعة ذكرها القرطبي. قوله : (وقال بعضهم) معطوف على اقتسموا ، فالضمير في بعضهم عائد على الذين اقتسموا ، وهو إشارة إلى أن المراد بالقرآن على هذا القول ، الكتاب المنزل على سيدنا محمد فجعلوه أجزاء ، وحيث اختلفت أقوالهم فيه ، فقال بعضهم سحر ، وبعضهم كهانة ، أو المراد جعلوه أكاذيب فلم يؤمنوا به. قوله : (سؤال توبيخ) جواب عما يقال :

٢٥٤

توبيخ (عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٣) (فَاصْدَعْ) يا محمد (بِما تُؤْمَرُ) أي أجهر به وأمضه (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٩٤) هذا قبل الأمر بالجهاد (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٩٥) بك بإهلاكنا كلا منهم بآفة وهم : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) صفة وقيل مبتدأ ، ولتضمنه معنى الشرط دخلت الفاء في خبره ، وهو (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٩٦) عاقبة أمرهم (وَلَقَدْ) للتحقيق

____________________________________

إنه أثبت سؤالهم هنا ، ونفاه في سورة الرحمن حيث قال (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) فحاصل الجواب : أن المنفي هناك سؤال الإكرام والاحترام ، والمثبت هنا سؤال التوبيخ والتقريع.

قوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) سبب نزولها : أن رسول الله أول أمره ، كان يدعو إلى الله مختفيا ، ويأمر كل من آمن به بالاختفاء ، فلما نزلت هذه الآية ، أظهر أمره وبالغ في إظهاره. قوله : (هذا قبل الأمر بالجهاد) أي فتكون الآية منسوخة ، وقيل ليست منسوخة بل هي محكمة ، والمعنى لا تلتفت لهم ولا تبال بهم. قوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أي وهم جماعة من قومه ، كانوا يسخرون به ويبالغون في إيذائه ، وإنما عجلت لهؤلاء العقوبة ، لشدة إيذائهم لرسول الله وبغضهم له ، وإلا فالمستهزئون كثير ، كأبي لهب وزوجته وولده ، وأبي جهل. قوله : (وهم الوليد بن المغيرة) أي وقد مر برجل نبال وهو يجر إزاره ، فتعلقت قطعة من النبل بإزار الوليد ، فمنعه الكبر أن يطاطىء رأسه وينزعها ، فجعلت تضرب في ساقه فخدشته ، فمرض منها فمات ، وقوله : (والعاصي بن وائل) خرج على راحلته يتنزه ، فدخل شعبا فدخلت شوكة في أخمص رجله ، فانتفخت حتى صارت مثل عنق البعير ، فمات مكانه ، وقوله : (وعدي بن قيس) الصواب الحرث بن قيس بن الطلاطلة ، كما ذكره في الهمزية وشراحها ، والخازن وغيره من كتب التفسير ، وقد هلك بأن صار القيح يجري من أنفه وعينه وفمه حتى مات ، وقوله : (والأسود بن المطلب) رماه جبريل بورقة خضراء ، فذهب بصره ووجعت عينه ، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى هلك ، وقوله : (والأسود بن عبد يغوث) أصابه مرض الاستسقاء فمات به ، وقيل إن النبي شكا هؤلاء الخمسة لجبريل عليه‌السلام ، فكفاه الله شرهم ، وقد أجاد صاحب الهمزية حيث قال في حقهم :

كفاه المستهزئين وكم سا

ء نبيا من قومه استهزاء

ورماهم بدعوة من فناء ال

بيت فيها للظالمين فناء

خمسة كلهم اصيبوا بداء

والردى من جنوده الأدواء

فدهى الأسود بن المطلب

أي عمى ميت به الأحياء

ودهى الأسود بن عبد يغوث

أن سقاه كاس الردى استسقاء

واصاب الوليد خدشة سهم

قصرت عنها الحية الرقطاء

وقضت شوكة على مهجة العا

ص فلله النقعة الشوكاء

وعلى الحرث القيوح وقد سا

ل بها رأسه وساء الوعاء

خمسة طهرت بقطعهم الأر

ض فكف الأذى بهم شلاء

قوله : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي يشركون في عبادته غيره. قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)

٢٥٥

(نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) (٩٧) من الاستهزاء والتكذيب (فَسَبِّحْ) متلبسا (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي قل سبحان الله وبحمده (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (٩٨) المصلين (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩) الموت.

____________________________________

هذا تهديد ووعيد لهم. قوله : (بِما يَقُولُونَ) أي بسبب قولهم وتكلمهم في شأنك ، فإن شأن ذلك ، يضيق منه الصدر بحسب الطبيعة البشرية. قوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي فافزع إلى ربك والتجىء إليه ، يكفك ما يهمك من أمور الدنيا والآخرة ، ففي الحديث «اعمل لوجه واحد يكفك كل الأوجه». قوله : (أي قل سبحان الله وبحمده) أي تنزيها له عن كل نقص ، واتصافا له بكل كمال. قوله : (المصلين) أشار بذلك إلى أن الكلام فيه مجاز ، من إطلاق الجزء على الكل ، وخص السجود بالذكر ، لأنه أشرف أركانها. قوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ) عطف عام على خاص ، والمعنى دم على عبادته. قوله : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي أعبد ربك في جميع زمن حياتك ، ولا تخل لحظة من عمرك من غير عبادة ، فإن العمر ساعة فاجعله طاعة ، وهذا الخطاب وإن كان للنبي ، إلا أن المراد منه العموم. قوله : (الموت) أي وسمي يقينا ، لأنه متيقن الوقوع والنزول.

٢٥٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة النّحل

مكيّة

إلا (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخرها. وهي مائة وثمان وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لما استبطأ المشركون العذاب نزل (أَتى أَمْرُ اللهِ) أي الساعة وأتى بصيغة الماضي لتحقق وقوعه أي قرب (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) تطلبوه قبل حينه فإنه واقع لا محالة

____________________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة النحل

مكية إلا (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) إلى آخرها. وهي مائة وثمان وعشرون آية

سميت بذلك ، لذكر قصة النحل فيها ، على سبيل العبرة العظيمة ، وتسمى أيضا سورة النعم ، لكثرة تعداد النعم فيها ، والمقصود من ذكر هذه السورة ، الدلالة على اتصافه تعالى بكل كمال ، وتنزيهه عن كل نقص ، وأدل ما فيها على هذا المعنى ، أمر النحلة وشأنها في دقة فهمها واتخاذها البيت ، واختلاف ألوان ما يخرج منها ، وجعله شفاء ، مع أكلها من كل الثمرات النافعة والضارة ، الحلوة والمرة ، وغير ذلك. قوله : (إلا وإن عاقبتم) فإنها نزلت بالمدينة في قتل الحمزة ، وظاهر المفسر أنه لم يكن منها مدني إلا تلك الآيات وهو المشهور ، وقيل مكية إلا خمس آيات ، هؤلاء الثلاثة ، وقوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) ، وقوله : (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) ، وقيل غير ذلك. قوله : (لما استبطأ المشركون العذاب) الخ ، قال ابن عباس : لما نزل قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قال الكفار بعضهم لبعض : إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قد قربت ، فأمسكوا عن بعض ما كنتم عليه ، حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نرى شيئا ، فنزل (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) فأشفقوا ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به ، فنزل (أَتى أَمْرُ اللهِ) فوثب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورفع الناس رؤوسهم ، وظنوا أنها قد جاءت حقيقة فنزل (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فاطمأنوا. قوله : (أي الساعة) مشى المفسر على أن المراد بأمر الله القيامة ، وهو أحد قولين ، وقيل المراد بأمر الله ، عقوبة المكذبين في الدنيا بالسيف. قوله : (وأتى بصيغة الماضي) أي على سبيل المجاز ، ففي الكلام استعارة تبعية ، حيث شبه الإتيان في المستقبل ، بالإتيان في الماضي ، بجامع تحقق الحصول في كل ، واستعير اسم المشبه به للمشبه ، واشتق من الإتيان في الماضي أتى بمعنى يأتي. قوله : (فإنه واقع لا محالة) أي ولا مفر لكم

٢٥٧

(سُبْحانَهُ) تنزيها له (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) به غيره (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) أي جبريل (بِالرُّوحِ) بالوحي (مِنْ أَمْرِهِ) بإرادته (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم الأنبياء (إِنَ) مفسرة (أَنْذِرُوا) خوفوا الكافرين بالعذاب وأعلموهم (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢) خافون (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي محقا (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣) به من الأصنام (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) مني إلى أن صيره قويا شديدا (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) شديد الخصومة (مُبِينٌ) (٤) بينها في نفي البعث قائلا من يحيي العظام وهي رميم (وَالْأَنْعامَ) الإبل والبقر والغنم ونصبه بفعل مقدر يفسره (خَلَقَها لَكُمْ) من جملة الناس (فِيها دِفْءٌ) ما تستدفئون به من الأكسية والأردية من أشعارها وأصوافها (وَمَنافِعُ) من النسل والدر والركوب (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٥) قدم الظرف للفاصلة (وَلَكُمْ

____________________________________

منه. قوله : (عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنازعه كل من سبحانه وتعالى ، وقوله : (غيره) قدره إشارة إلى أن مفعول (يُشْرِكُونَ) محذوف. قوله : (أي جبريل) أي وجمع تعظيما له. قوله : (بالوحي) أي وسمي روحا ، لأن به حياة القلوب ، الناشىء عنه السعادة الأبدية ، ومن حاد عنها فهو هالك ، كما أن الروح بها حياة الأجسام ، وهي بدونها هالكة. قوله : (بإرادته) أشار بذلك إلى أن المراد بالأمر الإرادة ، ومن بمعنى الباء. قوله : (أَنْ) (مفسرة) أي وضابطها تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه وهو قوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ). قوله : (خوّفوا الكافرين) أي بعد إعلامهم بالتوحيد. قوله : (بالعذاب) قدره إشارة إلى معمول الإنذار محذوف ، وقوله : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله : (وأعلموهم). قوله : (فَاتَّقُونِ) أي امتثلوا أوامري واجتنبوا نواهيّ ، ففيه تنبيه على الأحكام الفرعية ، بعد التنبيه على التوحيد. قوله : (أي محقا) أشار بذلك إلى أن الجار والمجرور ، في محل نصب على الحال. قوله : (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه عن إشراكهم به غيره. قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي غير آدم. قوله : (مِنْ نُطْفَةٍ مِنْ) لابتداء الغاية ، وقوله : (إلى أن صيره قويا شديدا) قدره جوابا عما يقال : إن كونه خصيما مبينا لا يكون عقب خلقه من نطفة ، بل بعد قوته وشدته. قوله : (في نفي البعث) في للسببية ، والمعنى أنه يخاصم ويجادل ، بسبب كونه منكرا لبعث. قوله : (قائلا من يحيي العظام) الخ ، أشار بذلك إلى ما روي أن أبي بن خلف ، جاء بالعظم الرميم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد أتظن أن الله يحيي هذا بعد ما رم؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم» ، ففي هذه الآية رد على هذا الكافر ، ومن حذا حذوه.

قوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) هذا من جملة أدلة توحيده وتعداد نعمه ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر خلق السماوات والأرض ، أتبعه بذكر خلق الإنسان ، ثم بذكر ما يحتاج إليه في ضروراته من أكل ولبس ، فذكر الأنعام التي يكون منها ذلك. قوله : (في جملة الناس) أشار بذلك إلى أن الخطاب في (لَكُمْ) لقريش ، ولو حمل على العموم ، كما هو الواقع لاستغنى عن ذلك. قوله : (فِيها دِفْءٌ) هو بوزن حمل ، يطلق على كل ما يستدفأ به ، من ملبوس ومأكول. قوله : (وأصوافها) أي وأوبارها. قوله : (وَمَنافِعُ) عطف عام على خاص. قوله : (والدر) أي اللبن ، قوله : (والركوب) أي بالنسبة للمجموع. قوله : (للفاصلة) أي لا للحصر ، فإن الإنسان قد يأكل من غيرها ، وليس منهيا عنه ، قال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ).

٢٥٨

فِيها جَمالٌ) زينة (حِينَ تُرِيحُونَ) تردونها إلى مراحها بالعشي (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (٦) تخرجونها إلى المرعى بالغداة (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) أحمالكم (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) واصلين إليه على غير الإبل (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) بجهدها (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٧) بكم حيث خلقها لكم (وَ) خلق (الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) مفعول له ، والتعليل بهما لتعريف النعم لا ينافي خلقها لغير ذلك كالأكل في الخيل الثابت بحديث الصحيحين (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨) من الأشياء العجيبة الغريبة (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي بيان الطريق المستقيم (وَمِنْها) أي السبيل (جائِرٌ) حائد عن الاستقامة (وَلَوْ شاءَ) هدايتكم (لَهَداكُمْ) إلى قصد السبيل (أَجْمَعِينَ) (٩) فتهتدون إليه

____________________________________

قوله : (وَلَكُمْ فِيها) أي الأنعام. قوله : (حِينَ تُرِيحُونَ) قدم الإراحة على التسريح ، مع أنه خلاف الواقع ، لأن الجمال في الرواح ، أعظم منه في وقت التسريح ، لأن النعم تقبل من المرعى ، مملوءة البطون حافلة الضروع ، فيفرح أهلها بها ، بخلاف تسريحها إلى المرعى ، فإنها تخرج جائعة البطون ، ضامرة الضروع ، وأكثر ما تكون هذه الإراحة أيام الربيع ، لحسن النعم إذ ذاك.

قوله : (وَتَحْمِلُ) أي النعم ، والمراد بها خصوص الإبل. قوله : (أَثْقالَكُمْ) جمع ثقل ، وهو ما يحتاج إليه من آلات السفر والأحمال الثقيلة. قوله : (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) الخ ، المراد أي بلد بعيد ، مكة أو غيرها ، وقال ابن عباس : أريد بها اليمن ومصر والشام ، وقال عكرمة : مكة ، والظاهر أنه عام لكل بلد بعيد كما علمت. قوله : (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أي تعبها.

قوله : (وَالْخَيْلَ) معطوف على (الْأَنْعامَ) ولذا قدر المفسر (خلق). قوله : (وَالْبِغالَ) جمع بغل ، وهو المتولد بين الخيل والحمير. قوله : (مفعول له) أي لأجله ، وجر الأول باللام لأن الفاعل مختلف ، ففاعل الخلق هو الله ، وفاعل الركوب المخلوق. قوله : (بهما) أي الركوب والزينة. قوله : (لا ينافي خلقهما لغير ذلك) أي فلا يفيد الحصر في الركوب والزينة ، بل خلقها للأكل أيضا ، وبذلك أخذ الشافعي ، وأما عند الأئمة الثلاثة ، فأكل الخيل حرام كباقي الدواب ، استدلوا بأن منفعة الأكل ، أعظم من منفعة الركوب ، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزا ، لكان أولى بالذكر ، فلما لم يذكره الله علمنا تحريمه ، ولأن الله خص الأنعام بالأكل حيث قال : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ، وخص هذه بالركوب فقال : (لِتَرْكَبُوها) ، فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل ، وفي الحقيقة الآية ليست صريحة ، في نهي ولا جواز ، وإنما مستند الأئمة السنة ، فمن حرم لحم الخيل ، حمل الحديث الصحيح على النسخ أو الاضطرار ، ومن جوزها قال : الأصل عدم الاضطرار والنسخ. قوله : (بحديث الصحيحين) أي وهو ما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت : نحرنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرسا ونحن بالمدينة فأكلناه. قوله : (من الأشياء العجيبة) أي كالطيور والسباع والوحوش وغيرها من الحيوانات.

قوله : (وَعَلَى اللهِ) أي تفضلا وإحسانا. قوله : (أي بيان الطريق المستقيم) أي طريق الهدى والحق وتبيينها ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب. قوله : (وَمِنْها جائِرٌ) أي سبيل جائر ، وهو سبيل الضلال والكفر. والجور العدول عن الاستقامة. قوله : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي وصلكم إلى

٢٥٩

باختيار منكم (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) تشربونه (وَمِنْهُ شَجَرٌ) ينبت بسببه (فِيهِ تُسِيمُونَ) (١٠) ترعون دوابكم (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور (لَآيَةً) دالة على وحدانيته تعالى (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١١) في صنعه فيؤمنون (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ) بالنصب عطفا على ما قبله والرفع مبتدأ (وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ) بالوجهين (مُسَخَّراتٌ) بالنصب حال والرفع خبر (بِأَمْرِهِ) بإرادته (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٢) يتدبرون (وَ) سخر لكم (ما ذَرَأَ) خلق (لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) من

____________________________________

الطريق المستقيم بأجمعكم ، ولكنه لم يشأ ذلك ، فلم يحصل لما سبق في عمله ، أن الجنة لها أهل ، وأن النار لها أهل.

قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) لما ذكر سبحانه وتعالى منته على بني آدم بخلق الحيوانات الخاصة بهم ، أعقبه بذكر نعمه عامة لكل الحيوانات ، آدميين وغيرهم ، وهي إنزال الماء من السماء ، الناشىء عنه النباتات ، التي ينتفع بها جميع الحيوانات. قوله : (لَكُمْ) الجار والمجرور صفة لماء ، وقوله : (مِنْهُ شَرابٌ) مبتدأ وخبر. إن قلت : إنه ليس خاصا ببني آدم ، بل هو عام لكل حيوان. أجيب : بأن بني آدم هم المقصودون بالذات ، وغيرهم بالتبع ، والضمير في (مِنْهُ) عائد على الماء ، أي تشربون من ماء السماء. إن قلت : إن غالب الشرب ، يكون من السحاب والأنهار والعيون ، وهي بالأرض. أجيب : بأن أصل الماء الكائن في الأرض من السماء ، لقوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ). قوله : (وَمِنْهُ شَجَرٌ) المراد بالشجر هنا مطلق النبات ، سواء كان له ساق أم لا. قوله : (ينبت بسببه) أشار بذلك إلى أن من الثانية للسببية ، وأما الأولى فهي ابتدائية. قوله : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ) المراد به الحب الذي يقتات ، وقدمه لأن به قوام البدن ، وثنى بالزيتون لأنه إدام ودهن ، وثلث بذكر النخيل لأنه غذاء وتفكه ، وأخر الأعناب لأنها تشبه النخيل في ذلك. قوله : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) عطف عام على خاص. قوله : (المذكور) أي من إنزال الماء وإنبات النبات قوله : (لَآيَةً) ذكر لفظ الآية في هذه السورة سبع مرات ، خمس بالأفراد ، واثنتان بالجمع. والحكمة في ذلك : أن ما جاء بلفظ الأفراد. باعتبار المعلول الذي هو وحدانية الحق ، وما جاء بلفظ الجمع ، فباعتبار الدليل ، فإن في كل شيء آية تدل على أنه الواحد.

قوله : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) لما ذكر النعم الكائنة في العالم السفلي ، أعقبه بذكر النعم الكائنة في العالم العلوي ، وكل ذلك لنفع العالم وتمام نظامه. قوله : (بالنصب) أي ففي الشمس والقمر والنجوم ومسخرات ، قراءتان سبعيتان ، الرفع والنصب. قوله : (مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) أي مذللات بإرادته ، فهو سبحانه وتعالى ، المؤثر في العالم العلوي والسفلي ، فلا تتحرك ذرة في الدنيا ، ولا تسكن إلا بتأثير الله فيها ، وإنما هذه الأشياء أسباب عادية ، يوجد النفع عندها لا بها ، ففي هذه الآية رد على القائلين : إن العالم العلوي ، هو المؤثر في العالم السفلي ، بطبع أو علة. قوله : (بالنصب حال) أي مؤكدة لعاملها ، وهو سخر.

قوله : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) عبر هنا بالعقل ، إشارة إلى أن العالم العلوي مغيب عن الأبصار ، فيحتاج

٢٦٠