علم الأصول تاريخاً وتطوراً

علي الفاضل القائيني النجفي

علم الأصول تاريخاً وتطوراً

المؤلف:

علي الفاضل القائيني النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

بالية ، وكانت تشتمل على مئات الكتب لأصحاب الإمامين الصادق والباقر «ع».

ثمّ أسرد كلاما في تأييد وجود قسما من تلك الأصول والكتب مع ذلك الاضطهاد فقال :

ويظهر من سرائر محمد بن ادريس العجلي المتأخر عن الشيخ الطوسي انّه كان يحتفظ ببعض تلك المؤلفات ، وانّه في السرائر أخذ منها بلا واسطة حيث قال : فمن ذلك ما أورده موسى بن بكير الواسطي في كتابه عن حمران بن أعين الشيباني ، وبعد أن أورد جملة من الكتاب المذكور قال : ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب معاوية بن عمار ، وقد أخذ منه بعض الأحاديث في أحكام الحج والصلاة ، ثمّ قال : ومن ذلك ما استطرفناه من كتاب أحمد بن محمد أبي نصر البزنطي ، كما أخذ من كتاب لأبان بن تغلب ، ومن كتاب لجميل بن دراج ، وللسياري ، وللبزنطي ، ولحريز بن عبد الله السجستاني ، وللحسن بن محبوب السراد ، ولعبد الله بن بكير وغيرهم ...

ويظهر من الشهيد في الذكرى ، والكفعمي في مصباحه انّ بعض تلك المؤلفات التي تركها أصحاب الأئمة «ع» كانت عندهما ، كما نصّ على ذلك الحرّ العاملي في الفائدة السادسة التي ألحقها في المجلد الثالث من الوسائل الطبعة القديمة ... (١)

ومن ملامح مدرسة الامام الصادق «ع» الطابع الخاص بها والذي تمتاز به من سائر المدارس للمذاهب الأخرى ألا وهو استقلالها الروحي وعدم خضوعها للنظام الحاكم وللسلطات الموجودة ، وبذلك لم يكن لهم طريق في التدخل في شئون مدرسته ، ولا تزال هذه الميزة باقية ومحفوظة في كل المدارس الشيعية ، ولأجل ذلك ترى انّ هذه المعاهد وزعماءها في طول التاريخ وقفوا أمام السلطات الفاسدة ، ولم يتنازلوا لهم ، وكانت هذه الميزة سببا لبقاء هذه المدرسة واحتفاظها بطابعها الخاص بها.

__________________

(١) سيرة الأئمة الاثنى عشر ق ٢ / ٢٥٥ ـ ٢٥٧.

٨١

مدرسة الكوفة :

بعد ما كانت المدينة المنورة جامعة أهل البيت ، ففي اخريات حياة الامام الصادق «ع» انتقلت هذه المدرسة الى الكوفة.

فاتخذت الكوفة فكرة الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية ، وأصبحت هذه البلدة والمدرسة المتكونة فيها أساسا لبناء التراث الفكري الشيعي.

فبعد ما تكلّلت جهود الإمامين الباقر والصادق «ع» بالنجاح حين كوّنوا طبقة نيّرة من فقهاء الشيعة في المدينة المنورة ، وكان لتلك الصحابة وبخاصة الكوفيين منهم أثر كبير في استنباط الأحكام وفي ترسيخ فكرة الاجتهاد بين الفقهاء ، كما انّ الاجتهاد أصبح من ذلك العهد من أشهر مميّزات الشيعة.

وكان من بين أصحاب الامام الصادق «ع» من فقهاء الشيعة ك «ابان بن تغلب بن رباح الكوفي» نزيل كندة ، روى عنه «ع» (٣٠٠٠٠) حديثا ، ومنهم محمد بن مسلم الكوفي روى عن الباقر (٤٠٠٠٠) حديثا.

وقد صنّف الحافظ أبو العبّاس بن عقدة الهمداني الكوفي المتوفى سنة (٣٣٣) كتابا في أسماء الرجال الذين رووا الحديث عن الامام الصادق «ع» ، فذكر ترجمة (٤٠٠٠٠) رجل (١).

بالاضافة الى خروج الفقهاء والمحدثين من الكوفة وجود البيوتات العلمية الكوفية في هذه البلدة ، التي عرفت بانتسابها الى الامام الصادق «ع» ، واشتهرت بالفقه والحديث ك «بيت آل أعين» وبيت آل حيّان التغلبي ، وبيت عطية ، وبيت بني دراج وغيرهم من البيوتات العلمية الكوفية ، التي عرفت بالتشيّع واشتهرت بالفقه والحديث (٢).

__________________

(١) تاريخ الكوفة للبراقي / ٤٠٨.

(٢) تاريخ الكوفة للبراقي / ٣٩٦ ـ ٤٠٧.

٨٢

وعظمت مدرسة الكوفة عند ما كان الإمام الصادق فيها ، فعكف حوله الفقهاء والرواة بحيث كان يصعب الوصول اليه ، قال محمد بن معروف الهلالي : مضيت الى الحيرة الى جعفر بن محمد «ع» فما كان لي فيه حيلة من كثرة الناس فلمّا كان اليوم الرابع رآني فأدناني وتفرّق الناس عنه ، ومضى يريد قبر أمير المؤمنين «ع» فتبعته وكنت أسمع كلامه وأنا معه أمشي (١).

وكان مدة بقاء الامام الصادق في الكوفة في أيّام أبي العبّاس السّفّاح حوالي سنتين.

فكان الصادق «ع» في هذه الفترة ينشر أصول المذهب الشيعي ، لعدم وجود معارضة قوية من قبل السلطات ، فازدلفت إليه الشيعة من جميع الجوانب لتأخذ منه العلم ، وترتوي من منهله العذب ، وتروي عنه الأحاديث في مختلف العلوم.

ملامح مدرسة الكوفة :

انّ مدرسة الكوفة التي وضعت بذرتها الأولى أيّام أمير المؤمنين علي «ع» ثمّ في عصر الصادق «ع» وبعده أخذت تنمو وتزدهر ، فكان من النتاج في مدرسة الكوفة نهج البلاغة الذي هو أعظم كتاب اسلامي بعد كتاب الله الشريف ، القى الامام أمير المؤمنين علي «ع» معظم مواده من على منبر الكوفة ، فهذا النتاج الفكري والأدبي الشيعي الأصيل ممّا قدّمته مدرسة الكوفة.

كما انّ الامام علي «ع» أملى قواعد النحو على أبي الأسود الدؤلي في الكوفة ، وكذا أنتجت لنا الكوفة الهاشميات الخالدات للكميت الأسدي الذي كانت الكوفة موطنه.

ومن ملامح مدرسة الكوفة أن أخرجت الفقهاء ، والمحدثين الذين شاركوا في تدوين الأصول الحديثية والتراث الذي هو بين أيدي الامامية والمندرجة في المجاميع الشيعية ، وفي هذا المجال يقول محمد بن عيسى القمي : خرجت الى الكوفة في طلب الحديث فلقيت بها الحسن بن علي الوشاء فسألته أن يخرج لي كتاب العلاء بن رزين

__________________

(١) مقدمة شرح اللمعة / ٣٣.

٨٣

القلاء ، وابان بن عثمان الأحمر فأخرجهما إليّ فقلت له : أحبّ أن تجيزهما لي فقال لي : يا رحمك الله وما عجلتك أهب فاكتبهما وأسمع من بعد ، فقلت : لا آمن الحدثان ، فقال : لو علمت انّ هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه ، فانّي أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلّ يقول حدّثني جعفر بن محمد (١).

مدرسة قم :

كانت بعض البلدان في ايران منذ عصر الأئمة لهم ولاء خاص الى أئمة أهل البيت ، وكان من بين تلك البلدان «قم» فهي منذ أيّام الأئمة كانت بلدة شيعية ، ومدينة كبيرة من أمّهات المدن الشيعية.

وقد وردت روايات في مدح قم وأهلها ، وانّها عشّ آل محمد «ص» وقوله «ع» : انّ البلايا مدفوعة عن قم وأهلها ، وسيأتي زمان تكون بلدة قم وأهلها حجة على الخلائق ، وذلك في زمان غيبة قائمنا الى ظهوره ، ولو لا ذلك لساخت الأرض بأهلها (٢).

وورد في فضل قم وأهلها عن علي «ع» : سلام الله على أهل قم ورحمة الله على أهل قم سقى الله بلادهم الغيث وتنزل عليهم البركات ، فيبدل سيئاتهم حسنات ، هم أهل ركوع وخشوع وسجود ، وقيام وصيام ، هم الفقهاء العلماء ، أهل الدين والولاية (٣).

وكانت قم من القرن الرابع الهجري مركزا لشيوخ الحديث والفقهاء ، قال العلامة في شرحه على من لا يحضره الفقيه : انّ في زمان علي بن الحسين بن موسى بن بابويه المتوفى سنة (٣٢٩) كان في قم من المحدثين مائتا ألف رجل (٤).

ووصف قم الحسن بن محمد بن الحسن القمّي المتوفى سنة (٣٧٨) قال الباب السادس عشر في ذكر أسماء بعض علماء قم وشيء من تراجمهم وعدد الشيعة منهم ٢٦٦.

__________________

(١) رجال النجاشي / ٢٨ ـ ٢٩.

(٢) سفينة البحار ٢ : ٤٤٥.

(٣) مجالس المؤمنين / ٨٤.

(٤) مقدمة من لا يحضره الفقيه.

٨٤

حتى انّه ورد عن الأئمة «ع» : لو لا القمّيون لضاع الدين (١).

نشير الى أسماء بعض المحدثين والفقهاء اللامعين في قم :

١ ـ علي بن ابراهيم :

كان علي بن ابراهيم شيخ الكليني في الحديث ، كان ثقة في الحديث ثبتا معتمدا صحيح المذهب ، سمع فأكثر ، وصنّف كتبا ، له قرب الأسناد ، وكتاب الشرائع ، وكتاب الحيض (٢).

٢ ـ الكليني :

محمد بن يعقوب المتوفّى (٣٢٩) كان معاصرا لعلي بن الحسين بن بابويه القمّي والد الصدوق.

٣ ـ ابن قولويه :

أبو القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن قولويه (٢٨٥ ـ ٣٦٨).

كان من تلامذة الكليني والراوين عنه ، وأستاذ الشيخ المفيد قال عنه النجاشي : كان من ثقات أصحابنا وأجلائهم في الحديث والفقه ، وكلّ ما يوصف به الناس من جميل وفقه فهو فوقه ، له كتب حسان (٣).

__________________

(١) سفينة البحار ٢ : ٤٤٦.

(٢) رجال النجاشي / ١٩٧.

(٣) رجال النجاشي / ٩٥.

٨٥

٤ ـ آل بابويه :

من بيوتات الفقه والحديث في قم ومن فقهاء الشيعة ومحدّثيهم.

فكان والد الصدوق علي بن الحسين بن بابويه من رؤساء المذهب وفقهائهم ، قال العلامة : شيخ القميين في عصرهم وفقيههم وثقتهم (١) ، وولده محمد بن علي بن بابويه من أعظم فقهاء الشيعة ومحدّثيهم وصاحب أحد المجاميع الأربعة للشيعة.

ومن الآثار الخالدة للشيعة حصيلة هذا المعهد الكبير تدوين المجاميع الحديثية الموسعة ك :

١ ـ الكافي ، تأليف محمد بن يعقوب الكليني ، فهذه الموسوعة الكبيرة المدونة في الأصول والفروع تعدّ من أعظم الآثار الباقية لدى الطائفة ، فكان هذا الأثر الكبير مبكّرا في بابه في تبويب الحديث وتنظيم أبواب الفقه والأصول.

يقول في مطلع الكتاب مؤلفه ثقة الاسلام الكليني : كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدين ما يكتفى به المتعلّم ، ويرجع اليه المسترشد ، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين «ع» (٢).

قال المفيد في وصف كتاب الكافي : من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة (٣).

وقال الشهيد الأول في اجازته لابن الخازن : كتاب الكافي في الحديث الذي لم يعمل مثله (٤).

وهذا السفر الجليل يعدّ أحد المجاميع الأربعة لفقه الشيعة وبناء الاجتهاد عليها.

٢ ـ من لا يحضره الفقيه :

لمحمد بن علي بن بابويه القمّي ، فانّه بعد كتاب الكافي يكون المصدر الثاني

__________________

(١) الخلاصة / ٩٤.

(٢) أصول الكافي ١ / ٨.

(٣) تصحيح الاعتقاد / ٢٧.

(٤) بحار الأنوار ٣ : ٦٧.

٨٦

للاجتهاد والاستنباط لدى الامامية وثاني المجاميع الأربعة ، ويحتوي هذا الكتاب على (خمسة آلاف وتسعمائة وثلاث وستون حديثا).

وهنا نسجّل نصّا يدلّ على عظمة الفقهاء والمحدّثين في ذلك العهد في مدينة قم.

قال الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة : أنفذ الشيخ حسين بن روح «رضي الله عنه» كتاب التأديب الى قم وكتب الى جماعة الفقهاء بها ، وقال لهم : انظروا ما في هذا الكتاب ، وانظروا فيه شيء يخالفكم (١).

فهذا النصّ يدلّ على مدى عظمة الفقهاء القاطنين في قم حيث يراجعها مثل حسين بن روح أحد النّواب الأربعة للامام المنتظر «ع».

هذا وكانت تحتفظ قم دائما بوجود المدارس والعلماء فيها ، وإن كان في بعض الأحيان يقلّ ويكثر ذلك ، فهي في طول القرون المتمادية لم تخلوا من الفقهاء والعلماء ، ومع ذلك قد جددت هذه الجامعة العلمية والدينية في القرن الرابع عشر على يد آية الله العظمى المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي عام (١٣٤٠) ، فأصبحت من ذلك الحين مركزا علميّا ودينيّا بعد ما كانت في سالف الزمان فعادت من جديد ، ويعظّم مدينة قم الشعب المسلم في ايران وغيرهم لقداستها حيث تحتضن في أرضها الطاهرة قبر السيدة فاطمة المعصومة بنت الامام موسى بن جعفر «ع».

وفي عصر السيد الراحل الإمام البروجردي الذي كان يحلّ في قم وكان زعيم الطائفة فعظم أمر هذا المركز العلمي الثقافي ، وتوجّهت إليها أنظار قاطبة الشيعة من مختلف البلدان الاسلامية ، لحلّ مشاكلهم الدينية والسياسية مع قائدهم ، وبذلك خرجت قم عن كونها بلدة صغيرة الى عاصمة لجميع الشيعة في العالم.

اجتمع في هذا العصر آلاف من الطلبة لأخذ العلم منها ، وأخذ يعلو أمر هذا المعهد الكبير ويعطي ثماره الى المجتمع الاسلامي ، وهذه الجامعة العلمية الدينية تستقبل بكلّ حفاوة وإكبار الذين يريدون أخذ التعاليم الاسلامية من أيّ قطر من الأقطار ، كما انّ اليوم يجتمع فيها الطلبة من بلدان مختلفة فتخرج منها المئات من العلماء منذ عصر

__________________

(١) الكنى والألقاب ٣ : ٧٦.

٨٧

تأسيسها في القرن الأخير الى هذا اليوم ، كما تخرج منها الخطباء والوعّاظ والكتّاب ، وفيها مراكز ومؤسسات كبيرة ذات امكانيات واسعة ، لنشر الكتب وطبعها ، كما انّ هذه الجامعة ترسل المبلّغين والوعّاظ الى بلدان ايران وغيرها لنشر الأحكام وتبليغ الاسلام.

اضافة الى ذلك أصدرت هذه الجامعة الكتب العلمية المتنوعة في مختلف المجالات الاسلامية والموسوعات العلمية في الفقه والأصول ، والفلسفة والكلام ، والتفسير والحديث ، والأدب والتاريخ ، وعلم الرجال والدراية ، والعلوم الاجتماعية والأخلاقية ، كما انّه تصدر المجلات الشهرية الى جميع البلدان داخل ايران وخارجه.

قم في العصر الحديث :

وتحوّلت مدينة قم العلمية في العصر الأخير الى مركز قيادي وعلمي. وطالبت الحكومة بسنّ القوانين الاسلامية ، وإلغاء المعاهدات الاستعمارية فلم تجبها السلطات الى مطالبها ، فكان ذلك بداية للثورة الاسلامية في ايران بقيادة علماء الدين وفي طليعتهم الإمام الخميني (١) فبثّ روح الدعوة لإحياء القوانين الاسلامية في أجواء الملأ العلمي في جامعة قم وسرى منها الى سائر المعاهد الدينية والبلدان الاسلامية ، فوقف هذا القائد والمرجع العظيم أمام الحكومة فعارضته بقساوة وشدّة حتى انها لجأت الى ضرب الشعب الذي ينادي بحقوقه الاسلامية وقتلهم وسجن الكثير من العلماء والأهالي المؤمنين ، وفي هذه الأثناء ألقى الإمام القائد خطبا تاريخية ونشر المنشورات في توعية الشعب وافشاء المؤامرات المتخذة من قبل البلاط الملكي ، والحكومة التابعة للأجانب ، فعندها ثار الشعب أمام السلطة الجائرة ، وقتلت الآلاف من الأبرياء ، وعندها قبض على إمام الأمة ، وسجن مدة في طهران بعيدا عن الشعب ، ولكن المواطنين المؤمنين بقيادة العلماء ورجال الدين ، والضغط والاستنكار العالمي أوجبت اطلاق سراح القائد ورجوعه الى قم.

__________________

(١) للامام القائد ترجمة في الذريعة ٢٢ : ١٥٢ لقد أجاد المحقق الطهراني في حق امام الأمة.

٨٨

وكان الامام يقود الجماهير باتجاه اسقاط حكم الطواغيت وازالته واقامة حكومة اسلامية تستند الى كتاب الله والسنّة المطهّرة ، وكانت الجماهير المسلمة في ايران وعلى رأسها علماء الدين وطلّاب العلوم الدينية تسير وراء القائد المقدام في سبيل تحقيق أهدافه.

ولكن السلطات المعادية للاسلام أيقنت بأنّه لن يخضع لارادتها فأبعدته بسبب دفاعه بقلمه ولسانه عن النواميس الإلهية ، وكان ذلك عند ما حدثت قضية معاهدة كاپيتولاسيون (مصونيت الخبراء الأمريكيين) في مجلس النّواب التي كانت سندا لرقية الشعب المسلم الايراني ، فقام الامام في محاربة هذه المعاهدة المؤلمة للاسلام والمسلمين ، وألقى ذلك الخطاب الهام والعالمي ، فأحسّت السلطات الخطر على نظامها الجبّار ، ولم تمض إلا ستة أيّام هاجموا بيته.

غير انّ الشعب المسلم ظلّ يدافع عن قائده ، ويطالب بارجاعه الى ايران ، حتى كان قتل رئيس الحكومة يومذاك من أظهر هذا الاستنكار ، فالتجأت الحكومة الى ابعاد القائد الى النجف الأشرف ، وبقي هناك ما يضاهي خمسة عشر عاما ، مستمرا على جهاده ضدّ الشاه العميل ، وكان بين حين وآخر يلقي خطاباته في المناسبات الخاصة ويرسل المنشورات ، وتوزّع في ايران.

ولمّا نشرت بعض الأيادي العملية مقالة أرادت بها الحطّ في قيمة الامام وتشويه صفحته الناصعة اشتدت مقاومة الشعب المسلم وعلى رأسه رجال الدين ضدّ الشاه العميل.

وفي هذه الأثناء اضطرّ القائد الى مغادرة النجف الأشرف حيث انتقل الى فرنسا ، حيث امتنعت جميع حكومات البلاد الاسلامية عن استقباله اكراما للشاه المقبور.

فكان يواصل جهاده بشدة ويقود الشعب المسلم في ايران ، وكان الشعب المسلم في ايران ينفّذ كلّ أوامر الامام القائد بحذافيرها مطالبا بعودة زعيمه من المنفى ، وكان يعبّر عن ذلك بالخروج في مظاهرات مليونية ، مما اضطرّ الشاه الى الهرب من ايران خوفا على نفسه.

٨٩

واستقبل الشعب قائده العظيم استقبالا لم ير مثله من قبل ، وفي (٢٢ بهمن) سنة ١٣٥٧ ش حيث سقط النظام الملكي وبرأي من الشعب بنسبة (١٥ / ٩٩) بالمائة استقرّ النظام الاسلامي بقيادة الإمام الخميني العظيم.

فأصبحت قم مركزا قياديا للأمة ، وهي اليوم أعظم معهد دراسي للعلوم الاسلامية بعد اخراج العلماء من النجف الأشرف ، كما أخبر عن ذلك الامام الصادق «ع» حيث قال : ستخلو الكوفة من المؤمنين وتأرز عنها العلم كما يأرز الحيّة في جحرها ، ثمّ يظهر العلم ببلدة يقال لها قم ، وتصير معدنا للعلم والفضل (١).

وقال «ع» : وسيأتي زمان تكون بلدة قم وأهلها حجة على الخلائق ، وذلك في زمان غيبة قائمنا الى ظهوره ، صلوات الله عليه ، ولو لا ذلك لساخت الأرض بأهلها (٢).

مميزات مدرسة قم :

تمتاز مدرسة قم هذه الجامعة التي كان لها السهم العظيم في الثقافة الامامية بمميزات عديدة نذكر بعض ما توصلنا اليه.

١ ـ قداسة هذه المدينة التي كان لها الأثر المهم في تكوين مدرسة قم الحديثية والثقافية والقيادية ، وقد أتت هذه القداسة من الروايات الواردة في فضل هذه البلدة وأهلها.

٢ ـ كانت قم من قديم الأيّام مركزا يقطنها مشايخ الحديث والفقهاء ، وقلّ خلوّ هذه البلدة من وجود عالم وفقيه فيها.

٣ ـ تخريج شخصيات عظيمة قلّ أمثالهم بين سائر المعاهد والمدارس الشيعية ، حيث كان لهم الدور المهم في تدوين الكتب والمصادر الامامية.

٤ ـ أنتجت مدرسة قم الموسوعات العلمية التي تعدّ من أهم التراث الامامي كالكافي ومن لا يحضره الفقيه.

__________________

(١) سفينة البحار ٢ : ٤٤٥.

(٢) سفينة البحار ٢ : ٤٤٥.

٩٠

٥ ـ تحوّلت هذه المدرسة الدينية الى مركز قيادي للطائفة ، وأصبحت عاصمة تبثّ الأفكار الاسلامية الى مختلف أقطار العالم ، ولها الأثر المهم في تصدير الثورة الاسلامية الى الشعوب المستضعفة في العالم ممّا أدّى الى زلزلة الاستكبار العالمي.

٩١
٩٢

الفصل الثاني

المدرسة الثانية

* أهم علماء الأصول في هذه المدرسة

* أهم الكتب الأصولية

* المعاهد العلمية

٩٣
٩٤

المدرسة الثانية

المبحث الأول أهم علماء الأصول في هذه المدرسة :

الشيخ الأقدم أبي محمد الحسن بن علي بن أبي عقيل النعماني الحذاء :

الفقيه المتكلّم المعاصر لثقة الاسلام الكليني ، وعلي بن بابويه القمّي ، وكان المعلم الكبير في هذه المدرسة الجديدة وهو أوّل من صنّف من أصحابنا الإمامية في هذا العلم كتابا يعرف ب «المتمسّك بحبل آل الرسول».

قال النجاشي : وهو كتاب مشهور في الطائفة ، وقيل : ما ورد الحاج من خراسان إلّا طلب واشترى منه نسخ ، وسمعت شيخنا أبا عبد الله : كثير الثناء على هذا الرجل (١).

ونحن لا نريد أن ننكر فضل أصحابنا في عصر الأئمة فانّه كان لهم رسائل في علم الأصول ، ولكن لمّا كانت دراستنا لتطوّر هذا العلم بعد عصر غيبة الحجة «ع» لذلك شرعنا من هذا الحين.

__________________

(١) النجاشي / ٣٥ والذريعة ١٩ : ٦٩.

٩٥

وإلّا كان ابتداء التدوين فيه في القرن الثاني ، بعد أن لم يكن هذا العلم مدونا في القرن الأوّل من الاسلام ، ولم يذكر المؤرخون كتابا ألّف في علم الأصول أسبق من كتاب الحكيم هشام بن الحكم المتوفى سنة (١٧٩) الذي كان من حواريي الامام الصادق «ع» وممّن تخرّج في مدرسته. وكان من أفضل تلاميذه ، وكانت له رسالة في مباحث الألفاظ.

ثمّ لنعد في دراستنا لمعلمي المدرسة الثانية :

ابن جنيد :

فقد جاء من بعد ابن أبي عقيل أبو علي محمد بن أحمد بن جنيد الاسكافي وصنّف «كتاب كشف التمويه والالباس على اغمار الشيعة في أمر القياس» وكتاب «اظهار ما ستره أهل العباد من الرواية عن أئمة العترة في أمر الاجتهاد».

قال النجاشي : محمد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب الاسكافي وجه من أصحابنا ثقة جليل القدر صنّف فأكثر (١).

وقال المحدّث القمّي : قيل مات بالريّ سنة (٣٨١) ثم قال : يروي عنه المفيد وغيره (٢).

وصنّف كتاب «تهذيب الشيعة» في عشرين مجلدا يشتمل على جميع أبواب الفقه ، وكتاب «المختصر في الفقه الأحمدي» اختصر به كتابه التهذيب ، وهو الذي وصل لأيدي المتأخرين ، ومنه انتشرت مذاهبه وأقواله ، فقد قام بتحرير المسائل الفقهيّة على وجه الاستدلال ، وقد أدرك زمان السمري ، والكليني صاحب الكافي.

والاسكافي هو الذي دوّن الأصول على مذهب الامامية ، وكذا تحرير الفتاوى في الكتب الفقهية.

قال العلامة المجلسي في كتابه مرآة العقول :

__________________

(١) النجاشي / ٢٧٣.

(٢) الكنى والألقاب ٢ : ٢٢.

٩٦

(وهو المتبحّر والمطّلع على كثير من أصول القدماء وكتبهم).

إنّ الافتاء لم يكن شايعا في زمان الكليني ، وما قبله بل كان مدارهم على نقل الأخبار ، وكانت تصانيفهم مقصورة على جمعها وروايتها ، مقصوده الشيعة الامامية وإلّا فالسنة كانت الفتاوى عندهم أكثر من أن تحصى (١).

ومن علماء هذه المدرسة أبو منصور الصرّام النيشابوري المتكلّم المشهور صاحب كتاب «بيان الدين في الأصول» وله كتاب في ابطال القياس (٢).

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي في الفهرست : قرأت على أبي حازم النيشابوري أكثر كتاب بيان الدين ، وكان قد قرأه عليه ، قال ورأيت ابنه أبا القاسم وكان فقيها وسبطه أبا الحسن ، وعدّ من كتب أبي منصور بن وضاح كتاب «تفسير القرآن» وكتاب «ابطال القياس» ... وعلى هذا فهو من أهل القرن الثالث ، ومن أقران الكليني.

ومنهم : ابن داود وهو محمد بن أحمد بن داود بن علي بن الحسن شيخ هذه الطائفة وعالمها ، وشيخ القمّيين في وقته وفقيههم ، يعرف بابن داود كثير العلم ، كثير التصنيف ، له في مسائل أصول الفقه كتاب «مسائل الحديثين المختلفين» توفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة ، ودفن بمقابر قريش كما في فهرست النجاشي وغيره من كتب الامامية (٣).

الشيخ المفيد :

و (منهم) : أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقّب ب «المفيد» البغدادي (٣٣٦ ـ ٤١٣).

قال النجاشي ... شيخنا وأستاذنا رضي الله عنه فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم ، له كتب (وعدّ منها) كتاب في القياس ، وكتاب مسألة في القياس مختصر ، وكتاب الاعلام جواب المسائل في اختلاف

__________________

(١) أدوار علم الفقه وأطواره لكاشف الغطاء / ٢٢٨.

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام / ٣١٢ ـ ٣٣٣.

(٣) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام / ٣١٢.

٩٧

الأخبار ، كتاب النكت في مقدمات الأصول (١).

وقال العلامة المحقّق آغابزرك : أصول الفقه للشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي البغدادي المتوفى سنة (٤١٣) ، ذكره النجاشي ، ورواه عنه العلامة الكراجكي ، وأدرجه مختصرا في كتابه كنز الفوائد المطبوع ، وهو مشتمل على تمام مباحث الأصول على الاختصار (٢).

وهذه الرسالة طبعت في ضمن كتاب كنز الفوائد / ١٨٦ ـ ١٩٤. وقال السيد هبة الدين الشهرستاني في ترجمة المفيد : فهو نابغة العراق ورئيس شيعته على الاطلاق ، ولد في الحادي عشر من ذي القعدة سنة ست وثلاثين أو ثمان وثلثين وثلاثمائة ، وتوفي ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان سنة (٤١٣) ه. وقد كان في الشيعة عرقها النابض وبطلها الناهض ، ودماغها المفكر ورئيسها المدبّر ، معروفا بالصلاح بل غرة رجال الاصلاح ، والخطيب المصقع والمتكلّم المفوه ، والمنافح اللسن والفصل المشترك بين الامام والرعية ، ليس في ختام المائة الرابعة فحسب بل حتى اليوم.

كانت داره بالكرخ من بغداد دائرة للمعارف العالية ، ومدرسة للفنون العربية الراقية ، وحسبك ان قد تخرج منها أمثال الشريفين الرضي والمرتضى ، وأبي جعفر الطوسي والنجاشي وخلق لا يحصون ، ولذلك لقب بمعلم الأعاظم وابن المعلم لقيامه كأبيه بتربية الاعلام ، ولقبه بالمفيد علي بن عيسى الرماني النحوي عند تبرزه في الحجاج على خصومه أمثال أبي بكر الباقلاني قاضي قضاة بغداد وسائر أقطاب الهيئة العلمية. لقد كان المفيد مفيدا حقّا ، مفيدا في القول والعمل ، مفيدا في الافتكار والابتكار ، آية في الذكاء وسرعة الخاطر وبداهة الجواب ، حتى قال فيه أمثال الخطيب البغدادي انّه لو أراد أن يبرهن للخصم انّ الاسطوانة من الذهب وهي من الخشب لاستطاع.

اتّصل الشيخ المفيد بالدولة البويهية في عاصمتها بغداد في مبدإ أمرها اتصالا وثيق

__________________

(١) النجاشي / ٢٨٤.

(٢) الذريعة ٢ : ٢٠٩.

٩٨

العرى (١) فقدّروا مكانته حقّ قدرها وأجروا الرواتب له ولتلاميذه ، وخصّصوا له جامع «براثا» في منطقة الكرخ لوعظه واقامة الصلاة جمعة وجماعة ، وله معهم نوادر وقضايا منشورة ومشهورة.

توجّهت إليه جماعة الامامية وانقادوا لرئاسته الدينية يوم كانت بغداد تموج بالفتن ، قد أكلت قواهم الاحن ، والشيعة يومئذ شيع وأحزاب تمزّقت شرّ ممزق ، وتفرّقت الى ميمنة وعينية ، وغلاة ومخمسة وزيدية واسماعيلية و... ، فجمع المفيد بحسن سياسته آرائهم الى الوسط الذي يرجع اليه الغالي ويلحق به التالي ، فاستعمل الرأي السديد وقبض على أمر الجماعة بيد من حديد ، فلمّ شملهم بعد البداد ، وقرّب قوما من قوم بعد طول ابتعاد ، وألغى الفوارق التافهة توطيدا للألفة ، كما أخمد نوائر الفتن ومحى مآثر المبدعين ، وقضى على أقطاب الضلالة وأخرس شقاشقهم فاتخذ لتخفيف وطئة انتشار الضلال طريقة اختصار بعض الكتب ، وتلخيص بعضها ، وردّ جملة منها بالحجج الدامغة واختصار بعض المسانيد المؤثرة وتقرأ في ترجمته المفصلة في كتب التراجم ككتاب «الرجال ـ ص ٢٨٣ ـ ٢٨٧» لتلميذه أبي العباس النجاشي المتوفى سنة (٤٥١) ه و «خاتمة مستدرك الوسائل ـ ص ٥١٧ ـ ٥٢١» للشيخ النوري المتوفى سنة (١٣٢٠) ه ، أعماله الغرّ وأسماء مؤلفاته البالغة فوق المائتين كتابا.

أجل وضع المفيد للمجموعة الشيعية كتب نافعة مقنعة لو اقتصروا على دراستها لأغنتهم ... (٢) ، ومن كتب المفيد «المقنعة» الذي بيّن مصادره وذكر أدلته من الأخبار والأحاديث الشيخ الطوسي وأسماه بالتهذيب ، أحد الكتب الأربعة للشيعة.

(مشايخه في العلم والرواية):

قد قرأ على جمع كثير من العلماء ورواة الآثار ، وسائر رجال العلم من الفريقين من أشهرهم من رجال الخاصة أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمّي ، والشيخ

__________________

(١) ومن جلالة قدر المفيد في الأوساط الدينية انّه كان يزوره عضد الدولة.

(٢) مقدمة شرح عقائد الصدوق أو تصحيح الاعتقاد للشهرستاني.

٩٩

الصدوق أبو جعفر بن بابويه ، وأبو الحسن أحمد بن الوليد ، وأبو غالب الزراري ، وأبو علي بن الجنيد الفقيه المعروف وغيرهم.

وأبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني ، وأبو بكر الجعابي ، والشريف أبو عبد الله محمد بن محمد بن ظاهر الموسوي وغيره من رجال الجمهور ، وقد استقصى أهل الرجال مشايخه الذين يزيدون على أربعين شخصا من رجال الخاصة والعامة.

(تلامذته):

وقد تتلمذ عليه وأخذ عنه العلم كثير من أعلام العلم أشهرهم الشريفان الجليلان الرضي محمد بن الحسين ، وأخوه السيد الجليل المرتضى ، وشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي ، وأبو الفتح محمد بن علي الكراجكي ، وأبو يعلى محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري ، وجعفر بن محمد الدوريستي ، وأحمد بن علي المعروف بابن الكوفي وغيرهم ممن يجده المراجع لفهارس الرجال.

(مناظراته مع المخالفين)

كان للشيخ المفيد مناظرات كثيرة مع كثير من متكلّمي الفرق المختلفة ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة ، وقد جمع مناظراته ومحاسن مجالسه ومختار كلامه في كتابه «العيون والمحاسن» وقد لخّصه تلميذه الشريف المرتضى وسمّاه ب «الفصول المختارة».

توفي «قدس سرّه» في ليلة الجمعة ٣ شهر رمضان وصلّى عليه الشريف المرتضى ، ودفن في داره سنين ثمّ نقل الى المشهد الشريف الكاظمي الى جانب شيخه أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه.

١٠٠