علم الأصول تاريخاً وتطوراً

علي الفاضل القائيني النجفي

علم الأصول تاريخاً وتطوراً

المؤلف:

علي الفاضل القائيني النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

السيد المرتضى :

لقد برز في مدرسة شيخنا المفيد رجال وعباقرة في العلم منهم :

السيد الأجل المرتضى علم الهدى ، قال العلامة الطهراني في ترجمته :

علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن ابراهيم بن الامام موسى الكاظم «ع» السيد الشريف المرتضى علم الهدى أبو القاسم أخو الشريف الرضي الأكبر منه فانّه ولد (٣٥٥) وولد الرضي (٣٥٩) ، وتوفي المرتضى في الثمانين من عمره في (٤٣٦) ، ويقال له : الثمانيني. كان عماد الشيعة ، ونقيب الطالبيين ببغداد ، وأمير الحاج والمظالم بعد أخيه الرضي ، وهو منصب والدهما.

وكان يدرّ على تلاميذه ، فعلى أبي جعفر الطوسي يدر كلّ شهر اثنى عشر دينارا ، وعلى القاضي ابن البرّاج ثمانية دنانير ، وعمدة مشايخه المفيد ، ومع ذلك فقد روى هو عن بعض مشايخ المفيد أيضا ،

منهم : أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني البغدادي المتوفى (٣٧٨) ، فانّه يروي عنه كثيرا ، منها «حديث خطبة الزهراء «ع» ، رواه عنه في «الشافي» (١).

وقال السيد حسن الصدر (رحمه‌الله) :

صنّف في علم أصول الفقه كتبا عديدة ، منها «الذريعة في علم أصول الشريعة» في جزءين لم يصنّف مثله جمعا ولا تحقيقا ، استوفى فيه كلّ مباحثه ، وتعرّض لنقل الأقوال في مسائله ، وحقّق الحقّ فيها ، وكان هذا الكتاب هو المرجع في هذا العلم ، والذي يقرؤه الناس الى زمان المحقّق نجم الدين الحلّي ، فلمّا صنّف «المعارج» وكان كتابه سهل العبارة والمأخذ عكفت الطلبة عليه ، وإن كان كتاب السيد المسمّى ب «الذريعة» الى اليوم من أشهر الكتب في أصول الفقه عند الشيعة وأحسنها ، ومنها كتاب «المسائل الخلاف» في أصول الفقه ، وكتاب «ابطال القياس» ، وغير ذلك

__________________

(١) طبقات أعلام الشيعة «النابس في القرن الخامس» / ١٢٠.

١٠١

استقصاها الشيخ أبو جعفر الطوسي في كتاب «الفهرست» (١).

فلم يكن قبل السيد في أصول الفقه إلّا رسائل مختصرة ، فلمّا أن جاء دور السيد فألّف كتاب «الذريعة» في الأصول سنة (٤٣٠) كما في «الذريعة لآغابزرك» فكان هذا الكتاب حاويا لأمّهات مسائل (هذا العلم) قال في أوّله : انّي رأيت أن أملي كتابا متوسطا في أصول الفقه ، لا ينتهي بتطويل الى الاضلال ، ولا باختصار الى الاخلال ... وأخص مسائل الخلاف بالاستيفاء ، فان مسائل الوفاق يقل الحاجة فيها الى ذلك.

وقد حرّره العلامة الحلّي وسمّاه «النكت البديعة في تحرير الذريعة». ولخّصه فريد خراسان أبي الحسن علي بن أبي القاسم زيد بن محمد البيهقي (٤٩٩ ـ ٥٦٥) وسمّاه «تلخيص مسائل الذريعة». وقد كتبوا له شروحا :

(منها) «شرح مسائل الذريعة» للشيخ عماد الدين الطبري مؤلف «بشارة المصطفى». و (منها) شرح السيد كمال الدين المرتضى بن المنتهى بن الحسين بن علي الحسيني المرعشي من مشايخ الشيخ منتجب الدين (٢) ، ومن أهم مؤلفات السيد انّه ألّف في أصول الدين «الشافي» ألّفه في نقد كتاب «المغني من الحجاج» للقاضي عبد الجبار المعتزلي كان معاصرا للسيد.

ولخّصه الشيخ الطوسي وسمّاه ب «تلخيص الشافي» بحث فيه : الفروق بين الزيدية والامامية ، والمعتزلة والامامية ، وتكذيب ما يتّهم به الامامية من القول بزيادة علم الامام على النبي ، والقول بأنّه لو لا الامام ما قامت السموات ، واتهامهم بدعواهم انّ المعارف كلّها ضرورية ، ورأي الامامية في البداء ، والفرق بين الاجماع لدى الامامية وغيرهم ، وعدم وجوب علم الامام بالبواطن ممّا لا يجب العلم به (٣).

وألّف في فروع الفقه «الناصريات» فهو يشتمل على (٢٠٧) مسألة ، بين فقهية وعقائدية ، وهي شرح ونقد وتسديد لفقه جدّه «الحسن الأطرش» صاحب الديلم

__________________

(١) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام / ٣١٢.

(٢) الذريعة لآغابزرك ١٠ : ٢٦.

(٣) أدب المرتضى / ١٣٧.

١٠٢

وطبرستان ، ومن خواص هذا الكتاب فيه دراسة مقارنة بين مختلف المذاهب وبخاصة المذهبان : الزيدي ، والامامي الاثنى عشري.

وله في الفقه أيضا «الانتصار» وهو كتاب في الفقه المقارن ، بحث فيه المسائل التي انفردت به الامامية من مسائل الفقه ، أو ما ظنّ انفرادها به. قال في مقدمته :

وبعد فاني محتمل ما رسمته الحضرة السامية الوزيرية العميدية أدام الله سلطانها وأعلى شأنها من بيان المسائل الفقهية ، التي يشنع بها الامامية ، وادّعى عليهم فيها مخالفة الاجماع ، وأكثرها يوافق الشيعة غيرهم من العلماء والفقهاء ، المتقدمين والمتأخرين ، وما ليس لهم فيه موافق فعليه من الأدلة الواضحة ، والحجج اللائحة ، وما يغني عن وفاق الموافق ، ولا يوحش معه خلاف المخالف. والكتاب يشمل على أكثر من (٣٢٦) مسألة.

وترجع أهمّيته الى أمرين : تاريخي ، نظرا لسبقه على جميع كتب الخلاف والفقه المقارن لدى الامامية ، وعلمي ، نظرا الى قوة الحجة التي دعم بها السيد فقه الامامية.

وللسيد آثار علمية أخرى متنوعة بين كتاب يقع في مجلدات ، ورسالة في وريقات ، تبلغ الثمانين فيما عدّه المؤرخون.

وممّا حضى به السيد عناية الفقهاء الامامية ومتكلّميهم بحفظ كتبه منذ ساعة التأليف ، ولقد تلقاها تلاميذه عنه قراءة وسماعا ، وأشاعوها بين الناس ، وألّفوا من أجلها الكتب ، ثمّ احتضنتها الاجازات المتعاقبة ، فتناولتها يدا بيد وفما لفم ، ولقد ذكر السيد صورة كتبه ومؤلفاته في اجازة له لتلميذه «أبي الحسن محمد بن محمد البصروي الفقيه» وكان ذلك عام (٤١٧) للهجرة ، وصورة الاجازة موجودة الآن في خزانة مكتبة الرضا «ع» في خراسان (١).

«الذريعة»

كتاب في أصول الفقه يشتمل على أربعة عشر بابا ، كلّ باب يحتوي على عدة فصول ، وبعض المسائل التي جاء البحث عنها :

__________________

(١) فهرس مكتبة الرضا «ع» المخطوطة ٢ : ٣٩ باب الفقه.

١٠٣

الخطاب ، الأمر والنهي ، العموم والخصوص ، المجمل والمبيّن ، النسخ ، الاجماع ، القياس ، الاجتهاد والتقليد ، الحظر والاباحة ، النافي ، الاستصحاب.

ترجع أهمية هذا السفر الجليل الى أمرين :

الأول : كون المؤلف حاول الفصل في مباحثه بين ما هو من أصول الفقه ، وبين ما هو من أصول العقائد ، وقد كان أصول الفقه من قبل ذلك مزيجا من الطرفين ، كما أشار الى ذلك في أوّل الكتاب.

وطريقة بحث السيد في هذا الكتاب ان يذكر :

١ ـ آراء علماء السنة في كلّ مسألة ، ويذكر أدلتهم تفصيلا.

٢ ـ ثمّ يحاول مناقشة تلك الأدلة ونقدها.

٣ ـ ثمّ بعد ذلك يبرهن على ما هو مختاره في تلك المسألة مع تحقيق كاف وواف.

٤ ـ كما انّه يوافق أحيانا نظر علماء السنة ويؤيد أدلتهم في المسألة ، وقد يذكر اضافة الى ما ذكروه أدلة أخرى تأييدا لما يختار.

الثاني : انّه أوّل كتاب في أصول الفقه للامامية ، فقد كانت لهم قبل ذلك رسائل متفرقة تعتمد في مصادرها على أصول فقه السنة ، فهو بهذا يؤرّخ مرحلة استقلال الامامية في اصول الفقه.

ولا تزال آراء السيد الأصولية محل دراسة في مدارس الشيعة وحوزاتهم حتى اليوم.

دور السيد في التقدّم الفكري الشيعي :

وقد بدأت عملية الاجتهاد ـ بمعنى النظر الشخصي في الأدلة ـ في الثنايا الأولى للقرن الرابع الأولى على يد «العماني» و «ابن الجنيد» .... مع قيام الطبقة الرواية المحدثة كمحمد بن بابويه القمّي.

وكان عزيزا على المحدثين من الامامية أن يقوم هؤلاء بجرد أخبار آل البيت ، ويفحصها فحصا علميا ، ولكن «المرتضى» أعلن منهجه في البحث ... ورأيه في ذلك الركام الخليط ، وانبرى الى نفي كلّ ما علّق بأخبار الامامية : من الغلو ، والجبر ، والتجسيم ، والتشبيه ، والى تحديد الفرق بين الطائفة الشيعية الامامية ، والطوائف

١٠٤

الشيعية الأخرى : كالزيدية ، والاسماعيلية ، والواقفية ، وادخل الاجتهاد وحق النظر فيما ورد من أحاديث الفقه الامامي ، وأسس له أصولا لفظية وعقلية يعتمد عليها في فهم تلك النصوص ، وهي أصول سبق لأئمة أهل السنة ان حرروها وبحثوها ولم يكن للامامية فيها نصيب ، ولكن «العماني» و «ابن الجنيد» قبل السيد «المرتضى» بقليل التفتا الى خطر هذا الفنّ في معرفة الأحكام الشرعية ، وتابعهما «المرتضى» وزاد ، فكانت أصوله تتفق كثيرا مع أصول العامة وتختلف معها فيما يمكن أن يتعارض مع أصول المذهب الامامي ، فلم يقبل اجماعا ولا قياسا في حدود ما ألّفت العامة ، وقبل القياس في حدود العلة المنصوصية ، وله في ذلك رسائل متناثرة وكتب أهمّها : كتاب «الذخيرة» وألّف في الفقه المقارن فوازن بين مذهبه محتجا له ، وبين المذاهب الأخرى محتجا عليها ، وله في ذلك كتب أهمّها : «الانتصار» و «الناصريات» وفرّق بين الامامية والمعتزلة ـ وقد كان المذهب الامامي يلتقي كثيرا مع الاعتزال حتى لقد يقلّ ان تجد اماميا غير معتزلي ، وطالما طعن المعتزلة بالرفض ـ.

ولكنّه حاول محاولات كثيرة الى الفصل بين الاعتزال والمذهب الامامي ، وأشار الى مواطن التقائهم وخلافهم.

ولقد كان الامامية في ذلك العصر على شيء كثير من التوثّب الذهني ، واليقظة العقلية ، وعلى كثير من الالتفات الى أصول مذهبهم ، وما يؤخذ عليها من جرح ونقد وطعن ، فكانوا كثيري التساؤل ، كثيري الاعتراض على صنيع السيد الجديد في أصول المذهب ، ولهذا أكثروا ونوعوا الأسئلة ، وكان يجيب عليها بما يجلو لهم الشبه ويزيل الشكوك (١).

العناية الخاصة تشمل السيد :

وكيف لا يكون السيد في هذه المكانة السامية ، والدرجة الرفيعة؟ مع نيله العناية الخاصة من قبل أهل البيت «ع» ، وممّا يشهد بهذه العناية انّ الشيخ المفيد رأى في

__________________

(١) أدب المرتضى / ٥٩.

١٠٥

حلمه انّ «فاطمة الزهراء» بنت رسول الله «ص» دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها ولداها «الحسن والحسين» صغيرين ، فاسلمتهما اليه وقالت : علّمهما الفقه ، فانتبه الشيخ عجبا ، فلمّا تعالى النهار صبيحة تلك الليلة ، دخلت عليه المسجد فاطمة بنت الناصر ، وحولها جواريها وبين يديها ابناها «علي المرتضى» و «محمد الرضي» صغيرين ، فقام إليها ، وسلّم عليها ، فقالت له : أيّها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما إليك لتعلّمهما الفقه ، فبكى الشيخ وقصّ عليها الرؤيا ، وتولّى تعليمهما (١).

وتشمله العناية أيضا من جدّه أمير المؤمنين «ع».

فانّه لمّا مرض الوزير «أبو سعيد محمد بن عبد الرحيم» سنة (٤٢٠) رأى الامام عليا «ع» في المنام يقول له : قل ل «علم الهدى» يقرأ عليك الفاتحة حتى تبرأ ، فقال : يا أمير المؤمنين ومن علم الهدى؟ قال : علي بن الحسين الموسوي ، فكتب اليه الوزير ، فقال المرتضى : الله الله في امري ، فان قبولي لهذا اللقب شناعة عليّ ، فقال الوزير : والله ما أكتب إليك إلّا ما أمرني به أمير المؤمنين «ع».

فسمع «القادر بالله» بالقصة ، فكتب الى المرتضى : تقبّل ما لقّبك به جدّك فقبل (٢).

مكانته الاجتماعية والعلمية :

بدأ الشريف «المرتضى» يبرز للمجتمع البغدادي في حياة أبيه «أبي أحمد» إذ عيّن نائبا عنه في نقابة الطالبيين ، والنظر في المظالم ، وامارة الحج وهو شاب فتى لم يتجاوز خمسة وعشرين عاما.

ومكانة السيد العلمية غنية عن البيان ، إذ لا شك في انّ السيد المرتضى أحد أعلام الشيعة الامامية ، وممّا يشار اليه بالبنان ، ويعد من الذين كان لهم السهم الكبير ، والحظ الأوفى في إحياء معالم المذهب الامامي ، ومكافحة الأفكار المعادية للفكر

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ١٤ وروضات الجنات ٢ : ٣٨٣.

(٢) روضات الجنات ٢ : ٣٨٣.

١٠٦

الشيعي في التاريخ.

وممّا اختصّ به السيد وامتاز به عن غيره :

١ ـ يظهر من تصانيفه وكتبه ورسائله انّه كان استاذا ماهرا ، في علم الكلام ، والفقه ، وأصول الفقه ، والتفسير ، والفلسفة الإلهية ، والفلك ، وأنواع الأدب العربي من : اللغة ، والنحو ، والمعاني والبيان ، والشعر والعلوم المتداولة في عصره.

٢ ـ خدم المذهب الامامي خدمة كبيرة من حيث الثقافة ونشر المعارف والأفكار الشيعية في الأوساط المختلفة.

٣ ـ كانت طريقة السيد في أصول الفقه متابعة دليل العقل ، وخالف في ذلك طريقة الاشاعرة ، وكذا الظاهرية من الامامية.

٤ ـ ذهب السيد الى عدم جواز العمل بخبر الواحد في المسائل الفقهية ، كما انّه كان يستفيد في عملية الاستنباط من الأدلة الأصولية لفظية وعقلية ، ومع عمله هذا كان يخالف المحدثين والاخباريين من الشيعة.

٥ ـ كان المفيد الأستاذ الأعظم للسيد ، وكان هو المرجع الوحيد للشيعة ، وكان المفيد يجلس السيد بمكانه ، ويودّ أن يجلس كتلميذ أمام السيد تقريرا لمكانته العلمية ، وان يمهد له المجال لكي يتخلف بعده في الزعامة.

٦ ـ كان مجلس السيد محلا ومركزا ثقافيا ، ومجمعا علميا لنشر الأبحاث الكلامية والفقهية والأدبية.

لمّا زار أبو العلاء المعرّي المتوفى سنة (٤٤٩) بغداد كان يرتاد مجلس السيد وحصل بينهما كلام وهو مذكور في كتاب روضات الجنات. وكان يحضر مجلس السيد أبو اسحاق الصابي المتوفى سنة (٣٨٤). وعثمان بن جني المتوفى سنة (٣٩٢).

٧ ـ خلّف السيد ثمانين ألفا من الكتب المقروءة له ، أو من مصنّفاته ، نقل عن الثعالبي انّه من بعد توزيع واهداء قسم مهم من كتب السيد على الرؤساء والوزراء سعّر بقية كتبه بثلاثين ألف دينارا.

وكان يلقّب السيد ب «ذو الثمانين» أو «الثمانيني» لأنّه كانت له مكتبة تضمّ ثمانين ألفا من الكتب ، وكان يملك ثمانين قرية ، وكان له من العمر ثمانين سنة ،

١٠٧

وكانت مصنّفات السيد تبلغ ثمانين كتابا ورسالة.

ومارس السيد طيلة حياته التي عاشها ـ وبلغت الثمانين ـ في التأليف وانجاز المشاريع الكبيرة ، وكان بجانب ذلك مرجعا يلجأ اليه في الأمور السياسية والاجتماعية.

وتصدى لغسله ودفنه جماعة من تلاميذه منهم :

«أحمد بن الحسين النجاشي» صاحب الرجال المعروف.

والشريف «أبو يعلي محمد بن الحسن الجعفري».

و «سلّار بن عبد العزيز» ، وصلّى عليه في داره ابنه في محلة الكرخ ، ودفن من ليلته ، وله قبر يزار ويتبرّك به بجوار حرم جدّه الامام موسى بن جعفر «ع».

ومن المسائل التي عرفت عن السيد ، واشتهر بها ذهابه الى عدم جواز التعبّد بخبر الواحد شرعا ، وإن كان قد حكم العقل في جواز التعبّد بذلك.

ولأهميّة هذا البحث نذكر مذهب السيد وأدلّته التي ذكرها ، ثمّ المناقشة التي ذكرت من مخالفيه ، وكذا نذكر أدلة المجوّزين وإليك تفصيل ذلك :

السيد وعدم عمله بخبر الواحد :

قال : الصحيح انّ العبادة وردت بذلك (أراد التعبّد بخبر الواحد). وإن كان العقل يجوّز التعبّد بذلك وغير محيل له ....

والذي يدلّ على صحة ما ذهبنا اليه انّه لا خلاف بيننا وبين محصلي مخالفينا في هذه المسألة انّ العبادة بقبول خبر الواحد والعمل به طريقة الشرع والمصالح ، فجرى مجرى سائر العبادات الشرعية في اتباع المصلحة ، وانّ العقل غير دال عليه ، واذا فقدنا في أدلة الشرع ما يدلّ على وجوب العمل به علمنا انتفاء العبادة به ، كما نقول في سائر الشرعيات والعبادات الزائدة على ما أثبتناه وعلمناه .... (١)

فبنى على الأصل المسلم عنده ـ وهو : «الشك في حجية شيء يساوي القطع

__________________

(١) الذريعة للسيد المرتضى ٢ : ٥٢٨ ـ ٥٢٩.

١٠٨

بعدمه» ـ عدم حجية خبر الواحد ، ولأجل ذلك يرى نفسه غنيا عن البحث عن مسألة التعارض والترجيح ، والتخيير ، وكذا قبول أورد المراسيل وغير ذلك من المسائل المتفرعة عن خبر الواحد.

قال : اعلم انّا اذا كنّا قد دللنا على انّ خبر الواحد غير مقبول في الأحكام الشرعية ، فلا وجه لكلامنا في فروع هذا الأصل الذي دللنا على بطلانه ، لأنّ الفرع تابع لأصله ، فلا حاجة بنا الى الكلام على انّ المراسيل مقبولة أو مردودة ، ولا على وجه ترجيح بعض الأخبار على بعض ، وفيما يرد له الخبر أو لا يرد في تعارض الأخبار ، فذلك كلّه شغل قد سقط عنّا بإبطالنا ما هو أصل لهذه الفروع ، وإنّما يتكلّف الكلام على هذه الفروع من ذهب الى صحة أصلها ، وهو العمل بخبر الواحد .... (١)

الأدلة لمذهب السيد :

واستدلّ لمذهب السيد ومن تبعه من المنكرين لحجية خبر الواحد بوجوه :

١ ـ دعوى الاجماع على عدم حجية الخبر.

٢ ـ الروايات الناهية عن العمل بالخبر المخالف للكتاب والسنة ، والخبر الذي لا يكون عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو سنّة نبيّه «ص» ، وهذه الروايات كثيرة متواترة اجمالا.

ووجه دلالتها أيضا واضح ، إذ من المعلوم انّ أغلب الروايات التي بأيدينا ليس عليها شاهد من كتاب الله ، ولا من السنة القطعية ، وإلّا لما احتجنا الى التمسّك بالخبر.

٣ ـ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٢).

وقوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٣).

__________________

(١) الذريعة للسيد المرتضى ٢ : ٥٥٤ ـ ٥٥٥.

(٢) سورة بني اسرائيل (١٧) : ٣٦.

(٣) سورة يونس (١٠) : ٣٦.

١٠٩

أشكل على الدليل الأوّل انّ الاجماع المنقول هو من أفراد خبر الواحد ـ بل من أخسّ أفراده باعتبار كونه اخبارا حدسيا عن قول المعصوم «ع» بخلاف خبر الواحد المصطلح ، فانّه اخبار حدسي ، ـ وعليه فمن عدم حجية الخبر يثبت عدم حجية الاجماع المنقول بالأولوية ، فكيف يمكن نفي حجية خبر الواحد بالاجماع المنقول؟

وثانيا : كيف يمكن الاعتماد على دعوى الاجماع؟ مع ذهاب المشهور من القدماء والمتأخرين الى حجية الخبر!

أمّا الدليل الثاني فأجيب عنه : انّ الروايات التي استدل بها على عدم حجية خبر الواحد والنهي عن العمل به على طائفتين :

الطائفة الأولى : الاخبار الدالة على انّ الخبر المخالف للكتاب «باطل» أو «زخرف» ، أو «اضربوه على الجدار» ، أو «لم نقله» ، الى غير ذلك من التعبيرات الدالة على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة القطعية.

لكن المراد من المخالفة في هذه الاخبار : هي المخالفة بنحو لا يكون بين الخبر والكتاب جمع عرفي ، كما إذا كان الخبر مخالفا للكتاب بنحو التباين ، أو العموم من وجه ، وهذا النوع من الخبر خارج عن محل الكلام. لأنّه غير حجة بلا اشكال.

وأمّا الاخبار المخالفة للكتاب والسنة بنحو التخصيص ، أو التقييد فليست مشمولة لهذه الطائفة ، للعلم بصدور المخصص لعمومات الكتاب ، والمقيد لاطلاقاته عنهم «ع» كثيرا.

والحاصل : انّ الخبر المخصص لعمومات الكتاب ، أو المقيد لاطلاقاته لا يعدّ مخالفا له في نظر العرف ، فالمراد من المخالفة في هذه الطائفة : هي المخالفة بنحو التباين ، أو العموم من وجه.

الطائفة الثانية : هي الاخبار الدالة على المنع عن العمل بالخبر الذي لا يكون عليه شاهد ، أو شاهدان من كتاب الله ، أو من سنة نبيّه «ص» لكن هذه الطائفة أيضا لا يمكن الأخذ بظاهرها للعلم بصدور الاخبار التي لا شاهد لها من الكتاب والسنة ، بل هي مخصصة لعموماتهما ومقيدة لاطلاقاتهما على ما تقدّمت الاشارة اليه ، فلا بدّ من حمل هذه الطائفة : على صورة التعارض ، كما هو صريح في بعضها.

١١٠

وأمّا الدليل الثالث أجيب عنه :

أولا : انّ مفاد الآيات الشريفة ارشاد الى حكم العقل بوجوب تحصيل العلم بالمؤمن من العقاب ، وعدم جواز الاكتفاء بالظنّ به ، بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل إن كان أخرويا ، فلا دلالة لها على عدم حجية الخبر أصلا.

وثانيا : انّه على تقدير تسليم انّ مفادها الحكم المولوي ، وهو حرمة العمل بالظنّ كانت أدلة حجيّة الخبر حاكمة على تلك الآيات ، فانّ مفادها جعل الخبر طريقا بتتميم الكشف ، فيكون خبر الثقة علما بالتعبّد الشرعي ، ويكون خارجا عن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم موضوعا.

هذا بناء على أنّ المجعول في باب الطرق والامارات هي الطريقية ... وأمّا بناء على أنّ المجعول هو الحكم الظاهري مطابقا لمؤدّى الامارة وانّ الشارع لم يعتبر الامارة علما ، فانّ النسبة بينها وبين الآيات هي العموم المطلق ، إذ مفاد الآيات عدم حجيّة غير العلم من خبر الثقة وغيره في أصول الدين وفروعه ، فتكون أدلة حجية خبر الثقة أخصّ منها ، وبالجملة فانّ أدلة حجّية خبر الثقة متقدمة على الآيات الشريفة امّا بالحكومة أو بالتخصيص (١).

أدلة المجوّزين للعمل بالخبر الواحد :

استدلّ القائلون بحجيّة الخبر أيضا بأمور :

الأول : آية النبأ وهي قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٢).

تقريب الاستدلال بهذه الآية بوجوه :

الأول : قال المحقق الأنصاري ما ملخّصه :

انّ خبر الفاسق له جهتان الأول : جهة ذاتيّة ، وهي كونه خبر الواحد ، فالواحدية

__________________

(١) مصباح الأصول لسيد سرور ٢ : ١٥٢.

(٢) سورة الحجرات (٤٩) : ٦.

١١١

جهة ذاتية للخبر الذي جاء به الفاسق.

الثاني : جهة عرضية ، وهي كونه خبر الفاسق ، فالفسق ليس ذاتي للانسان الفاسق ، ووجوب التبيّن معلّق في الآية على الجهة الثانية ، وهي الجهة العرضية ، فيستفاد انّ وجوب التبيّن في خبر الفاسق لأجل فسقه ، إذ لو كانت العلّة في وجوب التبيّن الجهة الذاتية لكان العدول عن الذاتي (أي خبر الواحد) الى العرضي (أي خبر الفاسق) قبيحا وخارجا عن طريق المحاورة العرفية.

التقريب الثاني في الاستدلال بالآية :

الاستدلال بمفهوم الشرط ، قد علّق وجوب التبيين في خبر الواحد لكون الجائي به فاسقا ، فعليه ينتفي المشروط وهو وجوب التبيّن عند انتفاء الشرط ، كما هو المعمول في القضايا الشرطية.

وأيضا لو كان الجائي بالخبر غير فاسق بل كان عادلا فلا يكون التبيّن واجبا.

التقريب الثالث في الاستدلال بالآية :

بمفهوم الوصف ، أوجب تعالى التبيّن عن خبر الفاسق. ونعلم خارجا انّ التبيّن بما هو ليس من الواجبات النفسية ، فلا بدّ أن يكون وجوب التبيّن في خبر الفاسق لأجل العمل وترتيب الأثر عليه.

فعليه يكون مقتضى التعليق على الوصف انّ العمل بخبر غير الفاسق لا يكون التبيّن عنه واجبا ، وإلّا لكان التعليق بخبر الفاسق لغوا.

ثمّ استدلّ القائلون بحجية خبر الواحد بآيات أخرى ذكر كثير منها المحقق الأنصاري في كتاب «فرائد الأصول».

الروايات التي استدلّ بها على حجية خبر الواحد :

استدلّ على حجية الخبر أيضا بروايات كثيرة ، رتّبها المحقق الأنصاري على طوائف أربع :

الطائفة الأولى : الأخبار العلاجية الدالة على أنّ حجية الأخبار في نفسها كانت

١١٢

مفروغا منها عند الأئمة «ع» وأصحابهم ، وإنّما توقّفوا عن العمل من جهة المعارضة. فسألوا عن حكمها ، ومن الواضح انّه ليس مورد الأخبار العلاجية الخبرين المقطوع صدورهما ، لأنّ المرجّحات المذكورة فيها لا تناسب العلم بصدورهما ، وانّ الظاهر من مثل قوله : «يأتي عنكم خبران متعارضان» كون السؤال عن مشكوكي الصدور ، مضافا الى أنّ وقوع المعارضة بين مقطوعي الصدور بعيد في نفسه.

الطائفة الثانية : الأخبار الآمرة بالرجوع الى أشخاص معيّنين من الرواة ، كقوله «ع» : «إذا أردت الحديث فعليك بهذا الجالس» مشيرا الى زرارة ، وقوله «ع» : «نعم ـ بعد ما قال الراوي ـ أفيونس بن عبد الرحمن ثقة نأخذ معالم ديننا عنه؟» ....

وقوله «ع» : «عليك بالأسدي» يعني أبا بصير.

وقوله «ع» : «عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين والدنيا» الى غير ذلك.

الطائفة الثالثة : الأخبار الآمرة بالرجوع الى الثقات ، كقوله «ع» : «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا» ...

الطائفة الرابعة : الأخبار الآمرة بحفظ الروايات واستماعها وضبطها والاهتمام بشأنها على السنة مختلفة ، وقد ذكرها صاحب الوسائل في الباب (٨) من أبواب كتاب القضاء ، فراجع.

ثمّ انّ الاستدلال بهذه الأخبار متوقّف على ثبوت تواترها لتكون مقطوعة الصدور ، وإلّا فلا يصحّ الاستدلال بها كما هو ظاهر ، ولا ينبغي الشك في انّها متواترة اجمالا ، بمعنى العلم بصدور بعضها عن المعصوم «ع» ...

فتحصل انّ التواتر الاجمالي في هذه الطوائف الأربع من الأخبار غير قابل للانكار ، ومقتضاه الالتزام بحجّيّة الأخص منها المشتمل على جميع الخصوصيات المذكورة في هذه الأخبار ، فيحكم بحجية الخبر الواجد لجميع تلك الخصوصيات باعتبار كونه القدر المتيقّن من هذه الأخبار الدالة على الحجية (١).

__________________

(١) مصباح الأصول لسيد سرور ٢ : ١٩٢ ـ ١٩٣.

١١٣

استدل بالاجماع على حجية الخبر :

واستدلّ أيضا لحجية الخبر بالاجماع ، وتقريره من وجوه :

أحدها : دعوى من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجية من زماننا الى زمان الشيخ ، فيكشف رضاه «ع» بذلك ، ويقطع به ، أو من تتبع الاجماعات المنقولة على الحجية ....

ثانيها : دعوى اتفاق العلماء عملا بل كافة المسلمين على العمل بالخبر الواحد في أمورهم الشرعية ، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها ... (١)

استدل بالسيرة العقلائية على حجية الخبر :

وممّا استدلّ به أيضا لحجية الخبر سيرة العقلاء ، قال المحقق الخراساني في بيان السيرة : وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة واستمرّت الى زماننا ، ولم يردع عنه نبي ولا وصي نبيّ ، ضرورة انّه لو كان لاشتهر وبان ، ومن الواضح انّه يكشف عن رضاء الشارع به في الشرعيات أيضا .... (٢)

استدلّ بحكم العقل على حجيّة خبر الواحد :

وممّا استدلّ به أيضا على حجية خبر الواحد حكم العقل وتقريبه بوجوه :

أحدها : انّه يعلم اجمالا بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار من الأئمة الأطهار بمقدار واف بمعظم الفقه بحيث لو علم تفصيلا ذاك المقدار لا نحلّ علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الامارات الى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلا والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر

__________________

(١) كفاية الأصول للمحقق الخراساني ٢ : ٩٧ ـ ٩٨.

(٢) الكفاية ٢ : ٩٨.

١١٤

الامارات الغير المعتبرة ، ولازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة ، وجواز العلم على طبق النافي منها ، فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب بناء على جريانه في أطراف ما علم اجمالا بانتقاض الحالة السابقة في بعضها ، أو قيام امارة معتبرة على انتقاضها فيه ، وإلّا لاختصّ عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال ...

ثانيها : ما ذكره في الوافية مستدلا على حجية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة كالكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر ، وهو انّا نقطع ببقاء التكليف الى يوم القيامة ، سيّما بالأصول الضرورية كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها ، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر الغير القطعي بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بالخبر الواجب ، ومن أنكر فإنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان ... (١).

تلامذة السيد المرتضى :

تربّى على يد السيد وتعلّم من مدرسته جماعة من أكابر علماء الطائفة منهم :

١ ـ محمد بن الحسن الطوسي رئيس الطائفة بعد السيد ، وهو المهذّب للعقائد في الأصول والفروع ، وكان السيد يجري له أيّام تلمذته في كلّ شهر اثنى عشر دينارا ، وقام مقامه بعد وفاته في زعامة الطائفة الامامية ، وجدّد المذهب. وكان له كرسي الكلام في بغداد ، ولم يعط هذا المقام إلّا للمتوحد من أعلام العصر.

٢ ـ حمزة بن عبد العزيز الديلمي الملقّب ب «سلّار» المتوفى سنة (٤٦٣) ، أحد أعاظم علماء الامامية ، كان من خاصة أصحابه المعتمد عليهم في الفتوى ، عيّنه نائبا عنه في البلاد الحلبية ، كما كان ينوب عنه في التدريس.

٣ ـ القاضي «عبد العزيز بن البراج الطرابلسي» المتوفى سنة (٤٨١) ، كان وجها من وجوه الامامية وفقهائهم تولّى القضاء بطرابلس عشرين سنة.

__________________

(١) كفاية الأصول ٢ : ١٠٤ ـ ١٠٥.

١١٥

٤ ـ «نظام الدين سليمان بن الحسن أو الحسين الصهرشتي الديلمي» جلس مجلس المرتضى ، وكان من أكابر تلاميذه.

٥ ـ «محمد بن علي أبو الفتح القاضي الكراجكي» مؤلف كتاب كنز الفوائد ، المتوفى سنة (٤٤٩).

ملامح المدرسة الثانية :

انّ دراستنا لتطوّر علم الأصول في سيرها الطبيعي الذي مرّ في مراحل متعددة. وكانت المرحلة الأولى هي الأساس لتقدّم هذا العلم في العصر الحاضر ، وفيما يلي نستعرض مميّزات المدرسة الثانية وملامح هذه المرحلة وهي كما يلي :

أولا : انتقل الفقه في هذه المرحلة من مجرد استعراض النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الى معالجة هذه النصوص ، واستخدام الأصول والقواعد ، فقبل ذلك كانت مهمة الدراسة واستنباط الأحكام والاجتهاد في عصر الأئمة والى فترة من بعدهم مجرّد عرض النصوص والعمل على طبق ما يفهمه منها أصحاب الحديث والرواة.

وأمّا في هذه المدرسة من عصر ابن الجنيد والعماني الى عصر الطوسي تحوّلت عملية الاستنباط الى عملية صناعية ، ونلاحظ انّ استنباط الحكم الشرعي في هذا العصر وفي هذه المدرسة مبتنية على أسس وقواعد خاصة ، بالرغم من ذلك لم تكن قواعد الأصول التي تستخدم في عملية استنباط الأحكام الشرعية بالوضوح الكافي في هذه المدرسة.

وثانيا : نرى بوضوح انفصال البحث الفقهي عن البحث الأصولي ، وأفراد كلّ من هذين بدراسات ومطالعات منفصلة ، بعد أن كان المتعارف انّ مسائل علم الأصول وعلم الفقه يبحثان معا ، وبعد مواصلة هذه الدراسات والبحوث المستمرة أصبح علم الأصول تدرس قواعده بصورة مستقلة ، ممّا أتاح المجال لانفصال الأصول عن علم الفقه ، وأدّى ذلك الى قيام علم مستقل باسم «علم الأصول».

«ولأوّل مرة في هذا الدور قام السيد المرتضى بمحاولة دراسة المسائل الأصولية منفصلة عن الفقه بصورة موضوعية ، وتنقيح المسائل الأصولية في كتب ودراسات مستقلة.

١١٦

إلّا انّها كانت مع ذلك بدائية ، ولم تتجاوز في غالب الأحوال مباحث الألفاظ الأوامر والنواهي ، ودلالات هيئات الألفاظ وموادها» (١).

وثالثا : في هذه المرحلة حاول السيد المرتضى الفصل بين ما هو من مباحث أصول الفقه ، وبين ما هو من أصول العقائد ، كما يشير الى ذلك كلام السيد في أول «الذريعة».

ورابعا : ممّا امتازت به هذه المرحلة نظرية السيد المرتضى واشتهاره بها ، وهي ذهابه الى عدم جواز التعبّد بخبر الواحد شرعا ، وإن كان العقل يحكم بجواز التعبّد به ، ونسب ذلك الى مذهب الامامية.

المبحث الثاني أهم الكتب الأصولية :

بعد أن تعرّفنا على المدرسة الثانية وأهم رجالاتها ، لا بدّ أن نشير الى أهم الكتب الأصولية التي كانت مدار البحث والتدريس في هذه المدرسة وهي كما يلي :

المتمسّك بحبل آل الرسول «ص» :

للشيخ المتكلّم الفقيه أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني ، شيخ جعفر بن قولويه.

قال عنه النجاشي : وهو كتاب مشهور في الطائفة ، وقلّما ورد الحاج من خراسان إلّا طلب واشترى منه نسخا ؛ وسمعت شيخنا أبا عبد الله يكثر الثناء على هذا الرجل (٢) ؛ ويقصد من شيخه الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان.

وقال العلامة في الخلاصة : انّه مشهور ، ونحن ننقل أقواله في كتبنا الفقهية (٣).

__________________

(١) مقدمة شرح اللمعة ١ : ٦٢.

(٢) رجال النجاشي / ٣٥.

(٣) نقلا عن الذريعة ١٧ : ٢٨٠.

١١٧

أصول الفقه :

للشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الحارثي البغدادي المتوفى سنة (٤١٣).

ذكر النجاشي في رجاله ، ورواه عنه العلامة الكراجكي ، وأدرجه مختصرا في كتابه كنز الفوائد المطبوع ، وهو مشتمل على تمام مباحث الأصول على نحو الاختصار (١).

الذريعة الى أصول الشريعة :

للشريف المرتضى علم الهدى علي بن الحسين الموسوي المتوفى سنة (٤٣٦) ألّفه عام (٤٣٠) مرتبا على فصول ، قال في مقدمة الكتاب : انّي رأيت أن أملي كتابا متوسطا في أصول الفقه ، لا ينتهي بتطويل الى الاضلال ولا باختصار الى الاخلال ... وأخصّ مسائل الخلاف بالاستيفاء والاستقصاء ، فان مسائل الوفاق تقل الحاجة فيها الى ذلك ... وقد وقع هذا الكتاب مورد عناية الأصحاب ، وتناولته العلماء من لدن تأليفه حتى الآن ، فكانوا يدرسونه ويباحثونه. وقد حرّره العلامة الحلي وسمّاه «النكت البديعة في تحرير الذريعة». ولخّصه فريد خراسان وسمّاه «تلخيص مسائل الذريعة». وقد كتبوا له شروحا منها :

١ ـ شرح مسائل الذريعة للشيخ عماد الدين الطبري مؤلف بشارة الاسلام.

٢ ـ شرح السيد كمال الدين المرتضى بن المنتهى بن الحسن الحسيني المرعشي من مشايخ منتجب الدين (٢).

__________________

(١) ذكر في الذريعة ٢ : ٢٠٩.

(٢) الذريعة ١٠ : ٢٦.

١١٨

المبحث الثالث المعاهد العلمية

مدرسة بغداد :

عند ما كان المعهد الثقافي والعلمي في القرن الرابع مستقرا في قم لأسباب عديدة تحوّل هذا المكان الى بغداد.

وفيما يلي نذكر بعض الأسباب والعوامل التي أدّت الى ذلك :

١ ـ بلغت الدولة العباسية في هذا الوقت من الضعف ما جعلها تصرف النظر عن ملاحقتها للشيعة ، خلافا لما كانت عليه في أيّام قوتها ، عند أول تأسيسها ، حيث كان الشيعة مضطهدين على يد ملوك العباسيين الأوائل من أمثال المنصور والرشيد والمتوكل.

ولمّا أحسّ فقهاء الشيعة وعلماؤهم بهذا الضعف ، وحصول الفرصة لأداء وظيفتهم ورسالتهم ، ونشر مذهب أهل البيت «ع» وفقههم ، وانّ المجال تيّسر لممارسة العمل العلمي بصورة علنية ، وعدم قدرة المعادين لمذهب أهل البيت «ع» ، ففي هذا المجال وجد علماء الامامية أحسن مكان لنشر ثقافتهم وفقه الشيعة في نفس العاصمة حيث كانت محلا لاجتماع العلماء لكلّ المذاهب إلّا الشيعة ، نتيجة لتلك المحاربة القاسية من قبل السلطات العباسية ، فعندها أخذ زعماء الشيعة بغداد مستقرا لنشر مذهبهم.

٢ ـ ومن تلك الأسباب ظهور شخصيات ذات مكانة اجتماعية مرموقة بين الأوساط البغدادية كالشيخ المفيد ، والسيد المرتضى ، وبيوتات أخرى كانت تستغل وجهة خاصة ، فمثل هذه الشخصيات العلمية الكبيرة في بغداد ونشأتهم بها ، ومعرفتهم وصلتهم بسائر الطبقات تهيأت للشيعة فرصة لم تتيسر من قبل ، فأخذ أولئك في نشر الفقه الجعفري ، وتطوير الدراسة في هذه البلدة العظيمة ولأوّل مرّة قدّر للشيخ المفيد ـ الذي كان زعيم الشيعة في عصره ـ بأن يمهّد لبسط مدرسة أهل البيت «ع»

١١٩

في بغداد ، رغم المدارس المختلفة لجميع المذاهب ، وبعد مضي عدة سنين أصبحت المدرسة الشيعية أوسع مدرسة فرضت نفسها بين الأوساط العلمية وتبلورت ، فكانت هذه المدرسة أضخم المدارس الموجودة يومذاك وأعمقها جذورا وأصولا ، وأكثرها تأصلا واستعدادا ، وأقومها في الاستدلال والاحتجاج في مقابل أعداء الاسلام وأعداء الفكرة الامامية.

فأخذ أمر هذه المدرسة يعلو بسرعة هائلة وأخذت تجلب أنظار الطلاب والمثقفين حولها ، هذه المدرسة التي فرضت نفسها في العاصمة وتتقدم بذلك التقدم السريع.

فلم ينحصر تلامذة هذه المدرسة بطلّاب الشيعة فقط ، فقد كان يحضر درس الشيخ الطوسي على ما يذكره لنا التاريخ حوالي ثلاثمائة مجتهد من الشيعة ، ومن العامة وأهل السنة ما لا يحصى عددهم. (١)

وعظمت مدرسة الشيعة في بغداد بلغت الى حدّ لم تلفت نظر الباحثين والمحقّقين والطلبة فقط ، بل وصل الأمر الى إلفات نظر خلفاء العصر ، فمثلا نرى انّ الخليفة القائم بأمر الله بن القادر بالله جعل للشيخ الطوسي كرسي الافادة والبحث ، ونصبه لهذا المكان الرفيع ، وكان لكرسي الافادة والكلام مقام كبير يومذاك في «بغداد» (٢).

وهذا يعني انّ الشيخ الطوسي ـ الذي كان في عصره أكبر شخصية علمية ودينية يتزعّم قيادة الشيعة والمرجعية للطائفة ـ فرض وجود المدرسة الامامية ـ رغم ميول الجهاز المعادي ، ورغم معارضات المذاهب الكلامية والفقهية الأخرى ـ على أجواء العراق الثقافية ، التي كانت أكبر مركز ثقافي وعلمي في العالم الاسلامي يومذاك.

وألمع الشخصيات العلمية في هذه المدرسة : الشيخ المفيد ، والسيد المرتضى ، والشيخ الطوسي ، وبما انّا درسنا حياة هذه الشخصيات الكبيرة في المدرسة الأولى والثانية فلا داعي لأن نعيد ذلك.

وقدّر للمفيد والمرتضى والطوسي أن يفتحوا باب الاجتهاد المطلق والنظر والرأي

__________________

(١) راجع مقدمة التبيان للمحقق الطهراني آغا بزرك.

(٢) مقدمة اللمعة / ٦٠.

١٢٠