علم الأصول تاريخاً وتطوراً

علي الفاضل القائيني النجفي

علم الأصول تاريخاً وتطوراً

المؤلف:

علي الفاضل القائيني النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

الفصل الرابع

موقف الشيعة من القياس والاستحسان

٦١
٦٢

موقف الشيعة من القياس والاستحسان

لقد وقف الشيعة من القياس والاستحسان موقفا سلبيا ، فهي لا تعمل بهما ، ولا تعدّهما من أصول الاستنباط والاجتهاد ، بل أنكرتهما انكارا شديدا ، وبلغ انكار الأئمة «ع» للعمل بالقياس وعدم الأخذ بالرأي أن يقول الصادق «ع» لأبان بن تغلب المتوفى سنة (١٤١) : السنة إذا قيست محق الدين (١).

ووجه عدم العمل بالقياس والاستحسان لأنّهما لا يثبتان حكما ولا ينفيان لأمرين :

الأول : انّ الأحكام منوطة بعلل ومصالح محجوبة عنا في الغالب ، فلو عرفنا مصلحة أو علة لحكم فلا نعلم انّ هذا هو العلة التامة لذلك الحكم ، إذ لعلّ وراء ستار الغيب مصالح وعللا أخرى أيضا لذلك الحكم ، فلا يكون ما عرفناه علة له ، فكم في الشريعة من موضوعات متشابهة محكومة بأحكام مختلفة فكيف يقاس بعضها على بعض عند الجهل بالحكم؟.

الثاني : لورود النهي في ذلك عن أئمة أهل البيت «ع» مستفيضا ، ولكن يستشعر

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٥٧ ح ١٥.

٦٣

من تعريفات القياس وتمثيلاته عند متأخّري القائلين بحجيّته انّ بعض أنواعه هو منصوص العلة ، وهذا عندنا حجة ثابتة ولكنه ليس هذا من القياس في شيء بل هو ممّا ثبت حكمه بالسنة ، مثلا لورد «حرمة الخمر» وعلّل انّ هذه الحرمة هي لاسكارها ، لدلّ على انّ العلة التامة لحرمة الخمر هي الاسكار ، فكلّ شيء يحصل منه الاسكار الذي هو علّة الحرمة ثبتت فيه الحرمة لوجود علّتها فيه.

ورأيت كلاما في وجه عدم عمل الشيعة بالقياس لا بأس بذكره وإليك نصّ العبارة : لا تعمل الشيعة بالقياس وأنكرته أشدّ الإنكار ، لأنّ الدين قد كمل أيام الرسول ، إلّا انّ القسم الكثير منه قد أودعه الرسول عند الأئمة ، امّا لعدم الابتلاء بالوقائع المحكومة به في ذلك العصر ، أو لعدم المصلحة في اظهاره في ذلك الوقت ، والى زمن الغيبة الصغرى قد كمل ظهوره وتمّ اخراجه ، وبعضهم يرى بانّ بعض أحكام الأشياء اقتضت المصلحة اخفاءها الى زمن ظهور الحجّة «ع» ، أو لأنّ وقائعها لا توجد إلّا ذلك الوقت ، وعند ظهوره يظهر تلك الأحكام (١).

__________________

(١) أدوار علم الفقه وأطواره لكاشف الغطاء / ١٢٦.

٦٤

القسم الثاني

تطور علم اصول الفقه

٦٥
٦٦

الفصل الأول

المدرسة الأولى

* أهم علماء الأصول

* أهم المعاهد العلمية

٦٧
٦٨

تمهيد :

لأجل سهولة البحث والدراسة ، وسرعة الوصول الى النتيجة ونيلها ذكرنا تاريخ علم الأصول في اطار مدارس أربعة ، وإن كانت هذه المدارس هي المدارس الكبرى حيث تندرج تحت كلّ واحدة من هذه المدارس مدارس صغيرة متعددة ، وقد أعرضنا عن ذكرها تيسيرا للبحث ، لأنّ حدود البحث والدراسة كلّما كانت محدّدة ومعيّنة كانت أكثر نفعا وأسهل في ضبطها وتسجيلها في الخاطر.

المدرسة الأولى ، أو مدرسة ما قبل التأليف :

انّ بذرة الفكرة الأصولية قد وجدت لدى فقهاء أصحاب الأئمة «ع» منذ أيام الصادقين «ع» ، ومن الشواهد التاريخية على هذا الزعم الروايات المروية في كتب الحديث التي لها ارتباط تام بجملة من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، وذكرنا جملة منها في فصل «الاجتهاد في عصر الأئمة» في الأدلة النقلية.

ويعزز ذلك انّ بعض أصحاب الأئمة كان لهم كتب وتأليفات في مسائل أصول الفقه كهشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن.

٦٩

المدرسة الثانية ، أو بداية عصر التأليف :

ووصفنا هذه المرحلة بأنّها مرحلة بداية عصر التأليف لأن أصحابنا قد بدءوا يصنّفون في هذا العلم ، وإن كانت هذه المصنّفات ابتدائية غير متطورة ، علاوة على أنّها لم تكن تفي بالغرض المطلوب في هذا العلم.

وكان المعلم في هذه المدرسة أو المؤسس لها هو ابن عقيل ، وابن جنيد ، وأبو منصور الصرام ، وابن داود ، والشيخ المفيد ، والسيد المرتضى.

وكان نتيجة هذا الجهد العظيم وثمراته حدوث المدرسة الآتية.

المدرسة الثالثة :

ونعني بهذه المرحلة : المرحلة التي تقدّم وازدهر فيها هذا العلم وإن لم يصل به هذا التقدّم الى الصورة النهائية.

ففي هذا العصر ازدهر هذا العلم ونما على يد الشيخ الطوسي ، والشيخ سديد الدين الحمصي ، وابن ادريس ، والمحقق ، والعلامة الحلي ، والشهيد الأوّل.

المدرسة الرابعة :

ونقصد بهذه المرحلة : المرحلة التي بلغ فيها هذا العلم شوطا ممتازا بحيث انّه وصل الى الصورة التي نراه عليها في أيّامنا هذه.

وكان ذلك بصرف جهود جبّارة ، وعناية كبيرة على يد الوحيد البهبهاني ، وفي هذه المرحلة أخذ هذا العلم ينمو ويتطوّر حتى وصل الى درجة رفيعة ومرتبة سامية ، وكان هذا التطوّر والتكامل نتيجة سير ثلاثة مراحل تعاقبت بعد الوحيد البهبهاني.

٧٠

١ ـ المرحلة الأولى ، أو الدورة الابتدائية :

وحصل هذا التطوّر في هذه المرحلة على يد تلامذة الوحيد البهبهاني وهم :

السيد مهدي الطباطبائي بحر العلوم.

والشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي.

والمرزا أبو القاسم الجيلاني القمي.

والسيد علي صاحب الرياض.

والشيخ أسد الله التستري.

٢ ـ المرحلة الثانية ، أو الدورة المتوسطة :

وحصل التقدّم في هذه المرحلة على متخرجي أساتذة المرحلة الأولى. وهم :

الشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم الاصفهاني.

وشريف العلماء المازندراني.

والسيد محسن الأعرجي الكاظمي.

وملا أحمد النراقي الكاشاني.

والشيخ محمد حسن صاحب الجواهر النجفي.

٣ ـ المرحلة الأخيرة ، أو الدورة النهائية :

وحصلت هذه المرحلة على يد تلامذة المرحلة السابقة ، وكان هذا التقدّم والتطوّر العظيم على يد المؤسس الشيخ مرتضى الأنصاري «رحمه‌الله» الذي انتهى بهذا العلم الى درجة عظيمة بحيث لم يسبقه سابق ولم يصل اليه لاحق ، فقد بلغ بالعلم والتحقيق ذروته النهائية وكماله السامي ، الا وقد اغترف من ينبوع هذا العالم الكبير ، وسيظلّ هذا الينبوع فيّاضا الى ما شاء الله.

٧١

فيكون هذا المحقق أكبر من تخرّج في تلك المدارس الثلاث ، وكان ثمرتها الثمينة ، والدرة اليتيمة ، وفي هذه المرحلة نما وظهر رجال عباقرة ، وكان لهم دور عظيم في تعريف مدرسة الشيخ الأنصاري وتطوير مبانيه العلمية منهم :

السيد مرزا حسن الشيرازي المجدد.

والمحقق الشيخ محمد كاظم الخراساني المعروف ب «الآخوند».

والمحقق المرزا حسين النائيني.

والمحقق الشيخ ضياء الدين العراقي.

والمحقق الشيخ محمد حسين الاصفهاني المعروف ب «الكمپاني».

المدرسة الأولى :

إنّ علم الأصول في هذه المرحلة كانت قواعده بالأكثر روايات ولم تكن بحسب التعبيرات والاصطلاح الذي هو المعمول في المدارس المتأخرة.

وما زال تكثر روايات هذا العلم في عصر الصادقين عليهما‌السلام ، حيث أمليا على أصحابهما قواعده ، حتى انّ بعض علمائنا تصدّى لجمع تلك الروايات المروية في أصول الفقه في كتب ورسائل ، ذكرنا بعضا منها في مباحث متقدمة.

كما انّه ذكرنا قسما من تلك الروايات المروية في مباحث أصول الفقه ، ولأجل أن نتعرّف على معالم المدرسة الأولى نذكر :

أولا علماء الأصول في المدرسة الأولى :

ومن أصحاب الأئمة «ع» الذين كان لهم تأليف في أصول الفقه :

هشام بن الحكم :

شيخ المتكلمين في الأصوليين الامامية ، صنّف كتاب الألفاظ ومباحثها ، وهو أهم مباحث هذا العلم ، توفي سنة (١٩٩).

٧٢

قال النجاشي : روى هشام عن أبي عبد الله ، وأبي الحسن موسى «ع» ، وكان ثقة في الروايات ، حسن التحقيق بهذا الأمر (١).

يونس بن عبد الرحمن :

مولى آل يقطين ، صنّف كتاب «اختلاف الحديث ومسائله» وهو مبحث تعارض الحديثين ، ومسائل التعادل والتراجيح في الحديثين المتعارضين ، رواه عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم «ع» ، وكان الإمام الرضا «ع» يشير إليه في العلم والفتيى (٢).

أبو سهل النوبختي اسماعيل بن علي :

قال النجاشي : كان شيخ المتكلمين من أصحابنا ، وذكر مصنفاته ، وعدّ منها : كتاب الخصوص والعموم ، وهو من أهم مباحث علم أصول الفقه. ذكره ابن النديم في الفهرست وعدّ من مصنفاته كتاب ابطال القياس ، وكتاب نقض اجتهاد الرأي على ابن الراوندي ، وهما أيضا من مباحث علم أصول الفقه.

وأبو سهل ممّن لقى الامام أبا محمد الحسن العسكري «ع» ، وحضر عند وفاته ، كانت وفاة الامام سنة ستين ومائتين. (٣)

الحسن بن موسى النوبختي :

شيخ المتكلمين في الشيعة في عصره ، له من الكتب في علم أصول الفقه كتاب «خبر الواحد والعمل به» وكتاب «الخصوص والعموم».

قال النجاشي : شيخنا المتكلم المبرز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدها ،

__________________

(١) رجال النجاشي / ٣٠٥.

(٢) رجال النجاشي / ٣١١.

(٣) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام / ٣١٠ ـ ٣١١.

٧٣

وذكره ابن النديم في الفهرست ، ونصّ على تشيّعه وتشيّع كلّ آل نوبخت (١).

أهم المعاهد العلمية للمدرسة الأولى :

والمقصود من دراسة المعاهد والمراكز العلمية في كلّ مدرسة تلك المعاهد التي تكوّنت في مختلف الأقطار الاسلامية لتكون مركزا لتدريس العلم ونشره ، وكان أكثر النتاج العلمي والثقافي منبعثا منها ، ولم ننكر حقّ المعاهد الصغيرة للدراسات الاسلامية التي كانت ولا تزال منتشرة في البلدان المختلفة ، بل نقصد بدراسة المعاهد الكبرى التي تعتبر أمّهات المعاهد الصغرى أو التابعة لها بسبب أثرها العلمي وانتاجها في تاريخ الثقافة والفكر الامامي ، وأهم المعاهد التي ترعرعت فيها المدرسة الأولى هي :

١ ـ المدينة المنورة.

٢ ـ الكوفة.

٣ ـ قم.

المدينة المنورة :

المدينة المنورة وهي التي وضع فيها الحجر الأساس لبناء الحكومة الاسلامية على يد الرسول الأعظم «ص» عند ما هاجر اليها من مكة المكرمة بعد ذلك الاضطهاد الذي قاساه هو وأصحابه فيها.

فاجتمع حول النبي في هذه البلدة الصغيرة أصحابه والموالين له من المهاجرين والأنصار ، فكان المعلم الأول والأب الروحي في هذه الجامعة الرسول نفسه ، لأنّه إنّما بعث الى الناس ليعلّمهم ويذكّرهم ويزكّي نفوسهم.

وكان المتعلمون في هذه المدرسة على يد رسول الاسلام من أمثال علي بن

__________________

(١) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام / ٣١٠ ـ ٣١١.

٧٤

أبي طالب «ع» وسلمان وأبو ذر وغيرهم ، الذي أخذوا تعاليم الاسلام من يد النبيّ ، وكانوا دعاة الاسلام المخلصين ، والأسوة الحسنة للأجيال عبر التاريخ في سلوكهم الانساني وعملهم البطولي في سبيل نشر تعاليم الاسلام في الأرض ، وبثّ الحياة في المجتمع.

وبعد وفاة الرسول أخذ أئمة أهل البيت وعلى رأسهم على بن أبي طالب «ع» يقودون الحركة الفكرية المتوخّاة من معلّمهم الروحي نبيّ الاسلام «ص» وبثّها في مختلف أقطار العالم الاسلامي ، فكان انطلاق هذه الحركة يتمثّل في فقهاء أهل البيت وأئمة المسلمين من المدينة المنوّرة.

وبلغ هذا الإزدهار والنتاج الفكري غايته في عهد الإمامين الباقر والصادق «ع» ، إذ انفسح لهم المجال وارتفعت عنهم المراقبة والضغط بسبب الحرب القائمة بين بني العباس وبني أميّة ، فكان المجال يساعد على تربية جيل وتثقيفه لحمل الرسالة الإلهية ، وتبليغها للأمة في البلدان الاسلامية ، فكانت المدينة المنورة ، مزدهرة في عصر الصادقين «ع» ، وكان طلّاب العلم والوفود تتوجه من الأقطار الاسلامية الى كسب المعارف واغتراف العلوم إليها.

فكان مسجد النبيّ تنتظم فيه حلقات الدروس ، كما انّ بيوت الأئمة «ع» كانت بمثابة الجامعات تشتمل على جوانب مختلفة من العلوم الاسلامية من التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والحكم والآداب و... فكان رجال العلم وحملة الحديث ورواته من مختلف الطبقات ينتهلون ويغترفون من هذه المناهل العذبة الطيّبة النقيّة.

قال ابن حجر في الامام الصادق «ع» :

نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ، وروى عنه الأئمة الأكابر : كيحيى بن سعيد ، وابن جريح ، ومالك والسفيانين ، وأبي حنيفة وشعبة (١).

وللسيد هاشم معروف الحسيني حديث حول جامعة أهل البيت في المدينة وسبب

__________________

(١) الصواعق المحرقة / ١٩٩.

٧٥

تكوينها حيث يقول : لقد عاش الامام الصادق مع أبيه الباقر «ع» مؤسس جامعة أهل البيت نحوا من خمس وثلاثين عاما أدرك منها في مطلع شبابه بوادر الانحلال الذي كان يهدد دولة الأمويين بالانهيار ، وفي تلك الفترة وما تلاها من الفترات رافق تلك الحلقات العلمية التي كانت في مسجد المدينة وخارجه باشراف أبيه الباقر «ع» ، وتتألّف كما تؤكد المصادر الموثوقة من مئات الطلّاب والعلماء من مختلف البلاد الاسلامية. وهو الى جانب أبيه يلقّنه من علوم الدين وأسرار الكون وغير ذلك ممّا ورثه عن آبائه عن النبي «ص».

وظلّ الى جانب أبيه الباقر الى آخر نفس من حياته ومدرسة الفقه والحديث والعلوم الاسلامية توالي نشاطها في مختلف المواضيع فيما يخدم مصلحة الاسلام الى أن وافته المنيّة سنة (١١٤) ه ، فاستقلّ الصادق بالزعامة الدينية ، والمسلمون يتطلّعون اليه من كلّ الجهات ، هذا والدولة الأموية تسير بخطإ سريعة الى الفناء ، والانتفاضات الشعبية هنا وهناك تحقق الانتصار تلو الانتصار ...

فكان من الطبيعي والحال هذه أن يوفّروا للامام الصادق «ع» في تلك الفترة كلّ أسباب الهدوء والاستقرار ، وأن يتابع هو مسيرة أبيه الباقر «ع» من حيث انتهى ، لا سيّما وانّ طلاب العلم والمحدثين والذين يريدون أن يناظروا في العقائد ويحملوا الأفكار التي تتعارض مع أصول الاسلام قد انتشروا في مختلف المناطق وأصبحوا يتوافدون الى المدينة من كلّ الجهات ، حتى اجتمع عنده قرابة أربعة آلاف طالب ، عدا أولئك الذين كانوا يقصدونه للمناظرة في مختلف المواضيع.

وحول التكتّل الهائل الغريب وعكوف روّاد العلم حول الصادقين يقول :

ولعلّ من جملة الأسباب التي تكمن وراء ذلك التكتّل حول الامامين الباقر والصادق «ع» هو انّ الأمويين وقفوا من آثار أهل البيت وفقههم موقفا بلغ أقصى حدود الشدّة والصرامة.

وبلغ الحال ببعض الفقهاء اذا اضطرّ أن يسند الحديث الى مصدره ، فان كان عن علي «ع» يقول : قال أبو زينب ، فقد جاء في تاريخ حسن البصري لأبي الفرج بن الجوزي انّه كان اذا أراد أن يحدث عن علي «ع» يقول : قال أبو زينب ، ويتحاشى أن

٧٦

يذكره باسمه خوفا من الأمويين وأعوانهم ...

وبلغ من حرص الأمويين على طمس آثار أهل البيت وفقههم أن رفعوا من شأن بعض الفقهاء وتركوا لهم أمر الافتاء وبيان الأحكام كسليمان بن موسى الأشدق التوفى سنة (١١٩) وعبد الله بن ذكوان المتوفى سنة (١٣٠) أحد مواليهم وراوي أحاديث أبي هريرة ، ونافع مولى ابن عمر ، وسليمان بن يسار الذي كان ملازما لقصورهم وقد فرضوه على المدينة ، ومكحول مولى بني هذيل ، وأبي حازم بن دينار الأعرج مولى بني مخزوم ، وسليمان بن طرخان ، واسماعيل بن خالد البجلي ، وعكرمة مولى ابن عباس ، وابن شهاب الزهري ، وغير هؤلاء من علماء الموالي الذين قرّبوهم وفتحوا لهم صدورهم وخزائنهم ، ولم يسمحوا لأحد أن يحدّث عن أهل البيت ، أو يسند لعلي ولغيره من ولده رأيا في الفقه أو في غيره من المواضيع الاسلامية ، مما سبب ضيقا وإحراجا لكثير من الفقهاء الذين كانوا لا يرون لفقه علي وأبنائه بديلا ...

ولمّا أتيح للامامين الباقر والصادق «ع» أن يحدّثا عنه وعن الرسول «ص» وينشروا فقهه وآثار الاسلام توافد العلماء وطلّاب العلم عليهما في مدينة الرسول «ص» من كلّ جانب ومكان ، لا سيّما وقد شهد عصرهما نهضة علمية شملت جميع أطراف الدولة ، وصراعا عقائديا كانت وراءه أيد خفيّة تحاول تشويه أصول الاسلام وتحريفها بما يسيء الى الاسلام ولا يخدم إلّا أعداءه ...

ومهما كان الحال فلقد تتابعت الوفود من جميع المدن والقرى على جامعة أهل البيت ونشطت الحركة العلمية في عهد الامام الصادق «ع» الى أبعد الحدود بعد أن زالت الحواجز التي كانت تحول بين الناس وبينهم (١).

ملامح المعهد الثقافي للمدينة المنورة :

النتاج العلمي الحاصل في الفترة الخاصة من عصر الرسول الى عصر الصادقين «ع» كان بصورة بدائية ولم تتبلور مسائله بالشكل الذي حصل على يد

__________________

(١) سيرة الأئمة الاثنى عشر ق ٢ / ٢٥٢ ـ ٢٥٥.

٧٧

تلامذة الأئمة في الكوفة ، عند ما حصل الخلاف في مسألة القياس والاستحسان والرأي ، ومسائل الصلاة والوضوء والحج و... فتبلورت المفاهيم واتّضحت نقاط الالتقاء والاختلاف بين مذهب أهل البيت والمذاهب الأخرى وبخاصة في أيّام أبي الحسن الرضا «ع» ، ومع ذلك كلّه كانت من ثمار مدرسة المدينة الأصول والجوامع الحديثية والتي ألّفها أصحاب الصادقين «ع» والصحيفة السجادية للامام زين العابدين «ع» ، وبروز شخصيات عظيمة بين أصحاب الصادقين كابان بن تغلب بن رياح أبو سعيد البكري الذي عاصر ثلاثة من أئمة الشيعة وأخذ عنهم ، السجّاد والباقر والصادق «ع».

ونصّ المؤلفون في علمي الدراية والرجال : انّه روى عن الامامين الباقر والصادق «ع» أكثر من ثلاثين ألف حديث في مختلف المواضيع وأكثرها في الفقه ... وقد عدّ له ابن النديم في الفهرست ثلاثة كتب ، كتاب في القراءات ، وكتاب في معاني القرآن ، وكتاب في أصول الحديث على مذهب الشيعة.

ومن تلامذة الامام الباقر زرارة بن أعين ، وكان مرجعا في الفقه والرواية على مذهب أهل البيت «ع» وفيه يقول الامام الصادق «ع» : لو لا زرارة لظننت انّ أحاديث أبي ستذهب (١).

وقال عليه‌السلام : رحم الله زرارة بن أعين لو لا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي (٢).

وقال «ع» فيه وفي جماعة من أصحابه منهم : أبو بصير ليث المرادي ومحمد بن مسلم ويزيد بن معاوية العجلي : لو لا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا ، هؤلاء حفّاظ الدين وأمناء أبي «ع» على حلال الله وحرامه ، وهم السابقون إلينا في الدنيا ، والسابقون إلينا في الآخرة (٣).

__________________

(١) رجال الكشي / ١١٣.

(٢) رجال الكشي / ١٣٦.

(٣) رجال الكشي / ١٣٧.

٧٨

وهو أحد الستة من أصحاب أبي جعفر الباقر الذين أجمع الرواة على صحة ما صدر عنهم (١).

ومن أعيان تلامذة الامام الصادق «ع» محمد بن مسلم الثقفي ، وفيه وفي زرارة ومحمد بن علي بن النعمان الملقّب بمؤمن الطاق ويزيد العجلي يقول الامام الصادق «ع» : أربعة أحبّ الناس إليّ أحياء وأمواتا (٢).

وكان محمد بن مسلم يقول : ما شجر في رأيي شيء إلّا سألت عنه أبا جعفر الباقر «ع» ، حتّى سألته عن ثلاثين ألف حديث ، وسألت ولده أبا عبد الله «ع» عن ستة عشر ألف حديث (٣). ومنهم محمد بن علي بن النعمان الملقّب ب «مؤمن الطاق» فقد نصّ أبو العباس النجاشي انّه أخذ العلم عن ثلاثة من الأئمة ، علي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد (٤).

ومنهم بريد العجلي ، وقد نصّ المؤلفون في أحوال الرواة على أنّه كان من البارزين بين أصحاب الامام الباقر «ع» ولازم الصادق بعد وفاة أبيه (٥) كما هو الحال في كثير من أصحابه الذين امتدت بهم الحياة ، وأدركوا شطرا من حياته ، وبعضهم بقي الى عهد الامام الكاظم «ع» وروى عنه أيضا.

ومنهم جابر الجعفي الذي روى عن الامام الباقر «ع». (٦)

ومنهم الفضيل بن يسار ، وأبو بصير الأسدي ، وعبد الله بن مسكان ، وابان بن عثمان الأحمر ، وحريز بن عبد الله ، وعبد الله بن جندب ، وعلي بن النعمان ، وصفوان الجمّال ، الى غير ذلك من المئات الذين تخرّجوا من مدرسة أهل البيت وأخذوا الفقه والحديث عن الإمامين الباقر والصادق «ع» وألّفوا ممّا سمعوه منهما عشرات الكتب كما نصّت على ذلك المؤلفات التي تحدثت عن تاريخهم وآثارهم.

__________________

(١) رجال الكشي / ٢٣٨.

(٢) رجال الكشي / ٢٤٠.

(٣) رجال الكشي / ١٦٧.

(٤) رجال النجاشي / ٢٢٨.

(٥) رجال النجاشي / ٨١.

(٦) رجال النجاشي / ٩٣.

٧٩

وفي عدد رواد العلم والرواة في عصر الصادقين يقول الأستاذ معروف :

وبلغ عدد المنتمين إليها أربعة آلاف كما احصاهم أبو العباس أحمد بن عقدة المتوفى سنة (٢٣٠) في كتاب مستقل ، وأيّده الشيخ نجم الدين في المعتبر ، وأدرك منهم الحسن بن علي الوشاء وكان من أصحاب الرضا «ع» تسعمائة شيخ كانوا يجتمعون في مسجد الكوفة يحدّثون عن جعفر بن محمد ويتدارسون فقهه ، وذلك بعد أكثر من عشرين عاما مضت على وفاة الامام الصادق «ع» ...

وقال المحقق في المعتبر : انّ الذين برزوا من تلامذته ألّفوا من أحاديثه وأجوبة مسائله أربعمائة كتاب عرفت بعد عصره ب «الأصول» ، وقد اعتمدها المحمّدون الثلاثة الكليني والصدوق والطوسي في كتبهم الأربعة الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار.

كما تنص المؤلفات الشيعية في أحوال الرجال انّ أصحاب الامامين الباقر والصادق «ع» قد ألّفوا في مختلف المواضيع أكثر من أربعة آلاف كتاب ، ولو افترضنا انّ هذا العدد مبالغ فيه وليس ذلك ببعيد ، فممّا لا شك فيه بأنّهم تركوا بالاضافة الى الأصول الأربعمائة مئات الكتب في الحديث والفقه وغيرهما من المواضيع الاسلامية ، كما يرشد الى ذلك تأكيد الامام الصادق «ع» بكتابة ما كان يلقيه عليهم خوفا من النسيان والزيادة والنقصان ...

وهنا يرتسم سؤالا في الذهن وهو ان صحّ ذلك فأين هذا التراث؟ يجيب عن هذا السؤال قائلا :

امّا أين ذهبت تلك المؤلفات الشيعية؟ فالتاريخ قد أهمل مصيرها كما أهمله المؤلفون في أحوال الرجال وآثارهم ، وبلا شك فلقد بقي الكثير منها الى القرنين الرابع والخامس ، واعتمد عليها أصحاب الكتب الأربعة في مجاميعهم كما ذكرنا.

وقد أتلف أكثرها السلاجقة والتتر والأيّوبيّون وغيرهم من الغزاة في جملة ما أتلفوه من مكتبة الوزير سابور ، ومكتبة الطوسي في بغداد ، ومكتبة القصر الفاطمي في القاهرة ، هذا بالاضافة الى ما تلف من مكتبة محمد بن عمير التي دفنها في التراب خوفا من الرشيد ، وكان قد حبسه الرشيد وصادر جميع أمواله ، ولمّا خرج من سجنه وجدها

٨٠