علم الأصول تاريخاً وتطوراً

علي الفاضل القائيني النجفي

علم الأصول تاريخاً وتطوراً

المؤلف:

علي الفاضل القائيني النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

قذر ... (١)

وروى الطوسي أيضا ... عن زرارة قال : قلت له الرجل ينام وهو على وضوء يوجب الخفقة والخفقان عليه الوضوء؟ قال يا زرارة : قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، وإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء

قلت : فان حرك الى جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا حتى يستيقن انّه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بين ، وإلّا فانّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك ، وإنّما ينقضه بيقين آخر (٢)

وروى الصدوق ... انّه قال للصادق «ع» : أجد الريح في بطني حتى أظنّ انّها قد خرجت؟ فقال : ليس عليك وضوء حتى تسمع الصوت ، أو تجد الريح (٣)

وروى الكليني ... قال : قال لي أبو عبد الله «ع» : إذا استيقنت انّك قد أحدثت فتوضأ ، وإيّاك ان تحدث وضوءا أبدا حتى تستيقن انّك قد أحدثت (٤)

وروى الطوسي ... عن زرارة قال : قلت له أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره ، أو شيء من مني ... فان ظننت انّه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ، ثمّ صليت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة.

قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ، ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّك أبدا ، قلت : فهل عليّ أن شككت في انّه أصابه شيء أن انظر فيه؟ قال : لا ... (٥)

وباسناده عن محمد بن أحمد ... عن أبي عبد الله «ع» في حديث قال : كلّ شيء نظيف حتى تعلم انّه قذر ، فإذا علمت ، فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك شيء ... (٦)

__________________

(١) أعيان الشيعة ١ : ٣٩٢.

(٢) أعيان الشيعة ١ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣ ورسائل المحقق الأنصاري / ٣٤١.

(٣) أعيان الشيعة ١ : ٣٩٣.

(٤) أعيان الشيعة ١ : ٣٩٣.

(٥) أعيان الشيعة ١ : ٣٩٣.

(٦) أعيان الشيعة ١ : ٣٩٣.

٤١

عدم جواز العمل بالقياس والرأي :

روى الكليني ... قال سمعت أبا عبد الله «ع» يقول : انّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقائيس ، فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلّا بعدا ، وانّ دين الله لا يصاب بالمقائيس (١)

وروى الكليني أيضا ... عن أبي الحسن موسى «ع» في حديث : ما لكم وللقياس؟ إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس ، ثمّ قال : إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به ، وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها ـ وأهوى بيده الى فيه ـ (٢)

(مناظرة الصادق «ع» مع أبي حنيفة في القياس)

روى الصدوق في علل الشرائع ... قال دخلت أنا وأبو حنيفة على أبي عبد الله «ع» فقال : لأبي حنيفة أيّهما أعظم قتل النفس أو الزنا؟

فقال : قتل النفس.

قال : فانّ الله قد قبل في قتل النفس شاهدين ، ولم يقبل في الزنا إلّا أربعة.

ثمّ قال : أيّهما أعظم الصلاة أو الصوم؟

قال : الصلاة.

قال : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فكيف يقوم لك القياس ، فاتق الله ولا تقس. (٣)

التعادل والترجيح بين الأخبار المتعارضة :

مرفوعة زرارة التي ذكرناها بعنوان الدليل الخامس.

وجاء فيها الترجيح بالأعدلية ، والأفقهية ، والأشهرية ، والأوثقية ، وما خالف العامة ..

__________________

(١) أصول الكافي ١ : ٥٦ ح ٧.

(٢) أصول الكافي ١ : ٥٧ ح ١٣.

(٣) أعيان الشيعة ١ : ٣٩٤.

٤٢

كلام السيد الصدر :

بعد ما اثبتنا بالأدلة السالفة انّ الاجتهاد كان موجودا في عصر المعصومين «ع» ولم يكن أمرا حادثا بعد ذلك ، نحب أن نشير الى الزعم القائل بأنّ الشيعة متأخرين عن غيرهم في علم الأصول ، وانّ العامة سبقتهم بذلك ، ولا نريد أن نطيل في الردّ على هذا الزعم ، بل نكتفي بما أورده سماحة العلامة أبو محمد السيد حسن الصدر حيث يقول : أوّل من أسّس أصول الفقه هو :

الامام أبو جعفر الباقر للعلوم عليه‌السلام ، ثمّ بعده ابنه الامام أبو عبد الله الصادق ، وقد أمليا على أصحابهما قواعده ، وجمعوا من ذلك مسائل رتّبها المتأخرون على ترتيب المصنفين فيه بروايات مسندة إليهما ، متصلة الاسناد ، وكتب مسائل الفقه (١) المروية عنهما موجودة بأيدينا الى هذا الوقت بحمد الله.

منها : كتاب «أصول آل الرسول» مرتّب على ترتيب مباحث أصول الفقه الدائر بين المتأخرين ، جمعه السيد الشريف الموسوي هاشم بن زين العابدين الخوانساري الاصفهاني (رضي الله عنه) نحو عشرون ألف بيت كتابة (٢)

ومنها : الأصول الأصلية للسيد العلامة المحدّث الشبري عبد الله بن محمد الرضا الحسيني الغروي ، وهذا الكتاب من أحسن ما روي فيه أصول الفقه ، يبلغ خمسة عشر ألف بيت (٣)

__________________

(١) الظاهر انّه أراد مسائل أصول الفقه فعليه يكون هنا سقط.

(٢) «أصول آل الرسول» «ص» في استخراج أبواب الفقه من روايات أهل البيت «ع» لشيخ مشايخنا السيد مرزا محمد هاشم بن مرزا زين العابدين الموسوي الخوانساري المتوفى سنة (١٣١٨) ، جمع فيه الأحاديث المأثورة عنهم «ع» في قواعد الفقه والأحكام ، ورتّبها على مباحث أصول الفقه ، قال في اجازته لشيخنا الشهير بشيخ الشريعة : قد جمعت فيه أزيد من أربعة آلاف حديث ممّا يتعلّق بأصول الفقه مع بيان وجه دلالتها على المفصود. الذريعة ٢ : ١٧٧. وكانت ولادة المؤلّف (١٢٣٥) كما جاء في «أحسن الوديعة» ١ : ١٤١.

(٣) جمع فيه المهمّات من المسائل الأصولية المنصوصة في الآيات والروايات ، فمن الآيات مائة وأربع وثلاثون آية ، ومن الروايات ألف وتسع مائة وثلاثة أحاديث ، وتوفي المؤلف عام (١٢٤٢) الذريعة ٢ : ١٧٨.

٤٣

منها : الفصول المهمة في أصول الأئمة للشيخ المحدث محمد بن الحسن بن علي بن الحر المشغري صاحب كتاب وسائل الشيعة ، (١)

فقول الجلال السيوطي في كتاب الأوائل : أول من صنّف في أصول الفقه الشافعي بالإجماع في غير محلّه ان أراد التأسيس والابتكار ، وان أراد المعنى المتعارف من التصنيف فقد تقدّم على الامام الشافعي في التأليف فيه هشام بن الحكم المتكلم المعروف من أصحاب أبي عبد الله الصادق كما ستعرف في الصحيفة الثانية.

أول من صنّف فيه :

الصحيفة الثانية في أول من صنّف في مسائل علم أصول الفقه فاعلم : انّ أوّل من صنّف فيه :

هشام بن الحكم

هشام بن الحكم شيخ المتكلمين في الأصوليين الامامية ، صنّف كتاب «الألفاظ ومباحثها» وهو أهم مباحث هذا العلم (٢).

ثمّ يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين صنّف كتاب «اختلاف الحديث ومسائله» وهو مبحث تعارض الحديثين ، ومسائل التعادل والترجيح في الحديثين المتعارضين ، رواه عن الامام موسى بن جعفر الكاظم عليهما‌السلام (٣) ذكرهما أبو العبّاس «النجاشي» في كتاب «الرجال» والامام «الشافعي» متأخّر عنهما.

__________________

(١) يشتمل على القواعد الكلية المنصوصة في الأصولين ، الذريعة ١٦ : ٢٤٥.

(٢) أبو محمد هشام بن الحكم الكوفي الشيباني المتوفى سنة (١٩٩). «الذريعة» ٢ : ٢٩١. قال النجاشي : وروى هشام عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى «ع» وكان ثقة في الروايات حسن التحقيق بهذا الأمر. الرجال / ٣٠٥.

(٣) يونس بن عبد الرحمن ... كان وجها في أصحابنا متقدما عظيم المنزلة ولد في أيّام هشام بن عبد الملك ، ورأى جعفر بن محمد عليهما‌السلام بين الصفا والمروة ولم يرو عنه ، وروى عن أبي الحسن موسى والرضا عليهما‌السلام ، وكان الرضا «ع» يشير اليه في العلم والفتيى ، رجال النجاشي / ٣١١.

٤٤

مشاهير أئمة علم أصول الفقه :

في مشاهير أئمة علم أصول الفقه الأوائل نذكرهم على طريق الفهرست والاشارة لأنّ تراجمهم امّا انّها تقدّمت في الفصول المتقدمة ، أو تأتي في الفصول الآتية ، لأنا نذكر ترجمة الرجل في أوقع المواضع به ، وأليق الأماكن المناسبة لذكره إذا كان ممّن يدخل في طبقات عديدة.

أبو سهل النوبختي :

منهم ، أبو سهل النوبختي اسماعيل بن علي بن اسحاق بن أبي سهل الفضل بن نوبخت قال ابن النديم : من كبار الشيعة.

وقال النجاشي : كان شيخ المتكلمين من أصحابنا وذكر مصنفاته وعدّ منها : كتاب الخصوص والعموم (١) وهو من أهم مباحث علم أصول الفقه (٢) ذكره ابن النديم في الفهرست وعدّ من مصنفاته كتاب ابطال القياس ، وكتاب نقض اجتهاد الرأي على ابن الراوندي (٣) وهما أيضا مباحث علم أصول الفقه كما لا يخفى على الخبير.

وأبو سهل ممّن لقى الامام أبا محمد الحسن العسكري عليه‌السلام وحضره عند وفاته ، وكانت وفاة الامام سنة ستّين ومأتين فأبو سهل حينئذ من أهل القرن الثالث رضي الله تعالى عنه.

__________________

(١) قال المحقق آغا بزرك الطهراني : ولد (٢٢٧) وتوفي (٣١١) الذريعة ٧ : ١٧٥.

(٢) الذريعة ١ : ٦٩.

(٣) الذريعة ٢٤ : ٢٨٥.

٤٥

الحسن بن موسى النوبختي :

ومنهم : ابن أخته الحسن بن موسى النوبختي أبو محمد شيخ المتكلمين في الشيعة في عصره ... له من الكتب في علم أصول الفقه كتاب «خبر الواحد والعمل به» وكتاب «الخصوص والعموم».

قال النجاشي : شيخنا المتكلم المبرز على نظرائه في زمانه قبل الثلاثمائة وبعدهما.

وذكره ابن النديم في الفهرست ونصّ على تشيّعه وتشيّع كلّ آل نوبخت (١).

__________________

(١) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام / ٣١٠ ـ ٣١١.

٤٦

الفصل الثالث

في الزعامة الدينية والفتوى

* الزعامة الدينية للفقهاء

* عملية الاستنباط عند الأصوليين والأخباريين

* الفتوى في الصدر الأول

٤٧
٤٨

الزعامة الدينية للفقهاء :

الظاهر انّ الزعامة الدينية للشيعة قد انتقلت الى الفقهاء بعد عصر الغيبة ، اذ كانت قبل ذلك للمعصومين عليهم‌السلام ، وبعد الغيبة الصغرى للحجة «ع» كانت لسفرائه المنتخبين من قبله.

ثمّ بعد ذلك انتقلت الزعامة الدينية للطائفة الجعفرية الى الفقهاء ، وكان الذي نقلها هو الامام الثاني عشر «ع» حيث قال :

وامّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله (١).

فصار الفقهاء المرجع الوحيد في عصر الغيبة لحلّ مشاكل الطائفة في أمورهم.

وكان المرجع بعد الغيبة الحسن بن علي النعماني ، ثمّ من بعده محمد بن أحمد بن جنيد الاسكافي المتوفى سنة (٣٨١) صاحب كتاب تهذيب الشيعة ، وكتاب الأحمدي.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ١٠١.

٤٩

ثمّ من بعده الشيخ المفيد المتوفى سنة (٤١٣) وكان كتابه المقنعة مدارا للدراسة بين الفقهاء ، وهو الذي علّق عليه الشيخ الطوسي ، وسمّى تعليقه عليه ب «التهذيب».

ثمّ من بعده علم الهدى علي بن الحسين الموسوي المتوفى سنة (٤٣٦).

ثمّ من بعده الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة (٤٦٠).

وهكذا تعاقبوا مرجعا بعد مرجع وزعيما بعد زعيم الى يومنا هذا تغمّد الله الماضين منهم وأدام الله الباقين.

عملية الاستنباط :

ذكرنا في الفصل السابق انّ عملية الاستنباط ليست وليدة عصر ما بعد الأئمة ، وإنّما كانت معاصرة لهم «ع» غير انّ الحاجة إليها في عصر الأئمة لم تكن بالحجم الضخم الذي ، أصبحت عليه في عصر الغيبة ، حيث انّ الأحكام الشرعية أصبحت جميعا منوطة بالعلماء باعتبارهم قادرين على استنباط الأحكام الشرعية ، ولذا فقد اشتدت الحاجة الى عملية الاستنباط بشكل أكبر في عصر الغيبة ، وقد كان أصحابنا يتوصلون الى الأحكام الشرعية بأحد طريقين ، وقد آثرنا أن نفرد هذين الطريقين في فصل خاص انسجاما مع منهجنا الذي سلكناه في هذا البحث.

طرق استنباط الحكم الشرعي :

أولا طريقة الاستنباط عند أصحابنا الأصوليين ، ويتمثّل هذا الطريق برجوعهم في معرفة الأحكام الشرعية الى الأدلة الأربعة : الكتاب والسنة والاجماع والعقل ، وغيرها ممّا يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي. وهذه المصادر تبتني عليها معرفة الحكم الشرعي ، وعليها مدار الاستنباط والاجتهاد.

فطريقة أكثرية فقهاء الشيعة في استنباطهم للحكم الشرعي هي عبارة عن الرجوع للكتاب المجيد ، وعند عدم معرفة الحكم الشرعي منه يرجعون للسنة المروية عن الرسول «ص» أو عن أئمة أهل البيت «ع» بسند معتبر ، ورجوعهم الى الكتاب أو

٥٠

السنة إنّما هو للعمل بنصوصها ، أو ظواهرها ولا يأخذون بالسنة لو خالفت الكتاب ، كما لا يأخذون بسنة أئمة أهل البيت لو خالفت سنة الرسول «ع» الثابتة عندهم بطريق معتبر ، وعند فقد ذلك كلّه يرجعون الى العقل الحاكم بالبراءة أو الاحتياط أو التخيير أو الاستصحاب عند من اعتبرها من باب العقل وإلّا فمن اعتبرها من باب قيام الكتاب والسنة عليها فيكون رجوعه إليها من باب الرجوع الى الكتاب والسنة.

وأمّا الرجوع الى الاجماع فان كان من باب حصول الحدس برأي المعصوم «ع» من الاتفاق فهو من باب الرجوع للعقل ، وإن كان من باب احراز دخول المعصوم في جملة المجمعين فهو من باب الرجوع الى السنة.

وتفصيل ذلك كلّه مسطور في كتب أصول الفقه.

والحاصل انّه لمّا وقعت الغيبة الكبرى للحجة المهدي «ع» سنة (٣٢٩) بوفاة علي بن محمد السري السفير الرابع للامام المهدي «ع» انحصر تحصيل الحكم الشرعي عند الشيعة بطريق فتوى فقهائهم وكان ذلك كما عرفت بأمر من الحجة «ع» على يد السفير الرابع عند ما اقتربت وفاة الأخير ، فرجعوا بعد ذلك الى فقهاء أهل البيت والطائفة وعند ذلك احتاج الفقهاء الى اعمال اجتهادهم في معرفة أحكام المسائل التي تعرض عليهم بردّها لأصولها الموجودة في الكتاب والسنة وما تقتضيه القواعد الشرعية والموازين العقلية ، وتشخيص ما قام اجماع الشيعة عليه الى غير ذلك من عملية الاستنباط وما يتطلبه الاجتهاد.

فأوّل من انبرى لهذا العمل هو الحسن بن علي العمّاني شيخ فقهاء الشيعة والذي استجازه صاحب كامل الزيارة سنة (٣٢٩) وهي السنة التي وقعت فيها الغيبة الكبرى ، وقد صنّف كتاب «المتمسك بحبل آل الرسول» وعاصر الكليني محمد بن يعقوب ، وعلي بن بابويه القمي.

ومن هنا تطوّرت عملية الاستنباط والاجتهاد من الأدلة والمصادر واتّسعت وقد رافق هذا التطوّر تطوّر آخر ذلك هو التطوّر الذي حصل في «علم أصول الفقه» حيث وقعت الدراسة فيه عن كيفية تحصيل الحكم الشرعي عن الأدلة واستنباطها.

بعد ما كان الفقهاء في الصدر الأول يفتون في المسألة بلفظ الحديث بحذف اسناده

٥١

دون أن يذكروها بألفاظهم وآرائهم ، وفيما سبق عن ذلك كانوا يفتون في المسألة بذكر الرواية باسنادها.

وأمّا في العصر الحاضر فتذكر الفتوى بلفظ رأي المجتهد.

ونذكر لك موجزا من عملية الافتاء لأصحابنا في الصدر الأوّل فنقول :

الفتوى في الصدر الأول :

انّ عملية الفتوى بالحكم الشرعي قد تطوّرت عند الطائفة الجعفرية ، فقد كان أصحاب الأئمة ورواة الحديث عنهم يفتون الناس بنقل نصّ الحديث لمن يستفتيهم ، مثل زرارة بن أعين ، ويونس بن عبد الرحمن ، ومحمد بن مسلم ، وأبي بصير ، وابان بن تغلب ، وجميل بن الدراج ، ومحمد بن أبي عمير ، والحسن بن علي بن فضال ، وصفوان بن يحيى وغيرهم من أصحابنا الامامية. ثمّ جاء دور تطوّر الفتوى ، فأخذوا يفتون بنص الرواية من دون ذكر السند ، ثمّ تطوّرت فأخذوا يفتون بما أدّى إليه اجتهادهم في حكم الواقعة الشرعية ، بتعابيرهم الخاصة.

ثانيا طريقة الاستنباط عند أصحابنا الأخباريين :

بعد ما عرفت كيفية عملية الاستنباط عند الأصوليين نعرض فيما يلي طريقة أصحابنا «الأخباريين» فنقول :

انّ هذه الجماعة لعدم عملهم بالأدلة الأربعة وانحصار عملهم بأصل واحد وهو الاخبار يسمون ب «الاخباريين» وبعض منهم جوّز العمل بالكتاب أيضا.

فهذه الجماعة لم تعمل بالأصول الأربعة بأجمعها ، وطريقتهم في معرفة الأحكام ، وعملية الاستنباط هي الرجوع الى الأخبار المروية في الكتب الأربعة ، ولم يرجعوا الى الاجماع والعقل ، بل وعند الكثير منهم عدم حجية الكتاب لاختصاص فهمه بمن نزل عليهم ، وهم الرسول والأئمة «ع» فالمدار في العمل هي الأخبار المودعة في الكتب الأربعة : الكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ، والتهذيب والاستبصار ، وغيرها من الكتب المعتبرة ، باعتبار انّ البيان للأحكام قد كمل بواسطة تلك الروايات ، ولذا غاب الامام

٥٢

الثاني عشر «ع» آخذين بظواهرها من دون فرق بين الصحيح منها وبين الضعيف ، وبين الشاذ الذي لم يعمل به الأصحاب ، وبين المشهور العمل به ، وبين المرسل وبين المسند.

ومنعوا دراسة علم أصول الفقه باعتبار انّه طريق للاجتهاد ، كما انّهم منعوا الاجتهاد وحرّموا العمل بالظنّ الحاصل بواسطة الاجتهاد.

وجعلوا الأصل في كلّ ما يحتمل الوجوب هو الوجوب ، وذلك للاحتياط في الشبهات وتمسّكوا ب «أخيك دينك فاحتط لدينك» كما انّهم جعلوا الأصل الحرمة في كلّ ما يحتمل الحرمة.

وتسمى هذه الفرقة من الشيعة ب «المحدثين والأخباريين».

والمؤسس لهذه المدرسة هو المرزا محمد أمين الاسترابادي المتوفى سنة (١٠٢٣) ونقح هذه الطريقة في كتابه «الفوائد المدنية».

قال السيد الشهيد محمد باقر الصدر في البحث عن الفكر الأخباري :

ويؤكد الاسترابادي في هذا الكتاب انّ العلوم البشرية على قسمين :

أحدهما العلم الذي يستمدّ قضاياه من الحس ، والآخر العلم الذي لا يقوم البحث فيه على أساس الحسّ ولا يمكن اثبات نتائجه بالدليل الحسّي :

ويرى المحدث الاسترابادي انّ القسم الأول الرياضيات التي تستمدّ خيوطها الأساسية ـ في زعمه ـ من الحسّ.

وأمّا القسم الثاني فيمثل له ببحوث ما وراء الطبيعة التي تدرس قضايا بعيدة عن متناول الحسّ وحدوده ، من قبيل تجرّد الروح ، وبقاء النفس بعد البدن ، وحدوث العالم.

وفي عقيدة المحدث الاسترابادي انّ القسم الأول من العلوم البشرية هو وحده الجدير بالثقة لأنّه يعتمد على الحسّ ، فالرياضيات مثلا تعتمد في النهاية على قضايا في متناول الحسّ ، نظيران (٢+ ٢ ٤).

وأمّا القسم الثاني فلا قيمة له ، ولا يمكن الوثوق بالعقل في النتائج التي يصل إليها في هذا القسم لانقطاع صلته بالحسّ.

٥٣

وهكذا يخرج الاسترابادي من تحليله للمعرفة بجعل الحسّ معيارا أساسيا لتمييز قيمة المعرفة ومدى امكان الوثوق بها.

ونحن في هذا الضوء نلاحظ بوضوح اتجاها حسّيا في أفكار المحدث الاسترابادي يميل به الى المذهب الحسّي في نظرية المعرفة القائل بأنّ الحسّ هو أساس المعرفة ، ولأجل ذلك يمكننا أن نعتبر الحركة الأخبارية في الفكر العلمي الاسلامي أحد المسارب منها الاتجاه الحسّي الى تراثنا الفكري.

وقد سبقت الأخبارية بما تمثل من اتجاه حسّي التيار الفلسفي الحسّي الذي نشأ في الفلسفة الأوربية على يد «جون لوك» المتوفى سنة (١٧٠٤) م و «دانيد هيوم» المتوفى سنة (١٧٧٦) م ، فقد كانت وفاة الاسترابادي قبل وفاة «جون لوك» بمائة سنة تقريبا ، ونستطيع أن نعتبره معاصرا ل «فرنسيس بيكون» المتوفى سنة (١٦٢٦) م الذي مهّد للتيار الحسّي في الفلسفة الاوربية.

وعلى أيّ حال فهناك التقاء فكري ملحوظ بين الحركة الفكرية الأخبارية والمذاهب الحسيّة والتجريبية في الفلسفة الأوروبية ، فقد شنّت جميعا حملة كبيرة ضدّ العقل ، وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدّها من الحسّ. وقد أدّت حركة المحدث الاسترابادي ضدّ المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس الى نفس النتائج التي سجّلتها الفلسفات الحسّية في تاريخ الفكر الأوروبي ، إذ وجدت نفسها في نهاية الشوط مدعوة بحكم اتجاهها الخاطئ الى معارضة كلّ الأدلة العقلية التي يستدلّ بها المؤمنون على وجود الله سبحانه ، لأنّها تندرج في نطاق المعرفة العقلية المنفصلة عن الحسّ.

فنحن نجد مثلا محدثا ـ كالسيد نعمة الله الجزائري ـ يطعن في تلك الأدلة بكلّ صراحة وفقا لا تجاهه الأخباري ، كما نقل عنه الفقيه الشيخ يوسف البحراني في كتابه الدرر النجفيّة ، ولكن ذلك لم يؤد بالتفكير الأخباري الى الإلحاد كما أدّى بالفلسفات الحسية الأوروبية ، لاختلافهما في الظروف التي ساعدت على نشوء كلّ منهما ، فانّ الاتجاهات الحسيّة والتجريبية في نظرية المعرفة قد تكوّنت في فجر العصر العلمي الحديث لخدمة التجربة وابراز أهميتها ، فكان لديها الاستعداد لنفي كلّ معرفة عقلية منفصلة عن الحسّ.

٥٤

وأمّا الحركة الأخبارية فكانت ذات دوافع دينية ، وقد اتهمت العقل لحساب الشرع لا لحساب التجربة ، فلم يكن من الممكن أن تؤدّي مقاومتها للعقل الى انكار الشريعة والدين.

ولهذا كانت الحركة الأخبارية تستبطن ـ في رأي كثير من ناقديها ـ تناقضا ، لأنّها شجبت العقل من ناحية لكي تخلي ميدان التشريع والفقه للبيان الشرعي ، وظلّت من ناحية أخرى متمسكة به لا ثبات عقائدها الدينية ، لأنّ اثبات الصانع والدين لا يمكن أن يكون عن طريق البيان الشرعي بل يجب أن يكون عن طريق العقل (١).

إنّ التناقض الذي أشار اليه السيد الشهيد بقوله : «ولهذا كانت الحركة الأخبارية تستبطن ـ في رأي كثير من ناقديها ـ تناقضا».

الظاهر ينافي قول المحدث الاسترابادي فانّه يرى انحصار الدليل في غير الضروريات في السماع عن الشريعة ، فالضروريات والأحكام البديهية العقلية لا تحتاج سماعها من الشرع بل العقل الفطري والحكم الضروري بنفسه دليلا قاطعا وإليك نصّ عبارة الأمين الاسترابادي :

إنّ العلوم النظرية قسمان : قسم ينتهي الى مادة هي قريبة من الإحساس ، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب ، وأكثر أبواب المنطق ، وهذا القسم لا يقع فيه الخلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار ، والسبب في ذلك انّ الخطأ في الفكر امّا من جهة الصورة أو من جهة المادة ، والخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء لأنّ معرفة الصورة من الأمور الواضحة عند الأذهان المستقيمة ، ولأنّهم عارفون بالقواعد المنطقية ، وهي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة ، والخطأ من جهة المادة لا يتصوّر في هذا العلوم ، لقرب المواد فيهما الى الإحساس.

وقسم ينتهي الى مادة هي بعيدة عن الإحساس ، ومن هذا القسم الحكمة الإلهية والطبيعية ، وعلم الكلام ، وعلم أصول الفقه ، والمسائل النظرية الفقهية ، وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق ، كقولهم : الماهية لا تتركب من أمرين متساويين ،

__________________

(١) المعالم الجديدة / ٤٣ ـ ٤٥.

٥٥

وقولهم : نقيضا المتساويين متساويين ، ومن ثمّ وقع الاختلاف والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهية والطبيعية ، وبين علماء الاسلام في أصول الفقه ، ومسائل الفقه ، وعلم الكلام ، وغير ذلك من غير فيصل ، والسبب في ذلك انّ القواعد المنطقية إنّما هي عاصمة من الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادة ، إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب مواد الأقيسة تقسيم المواد على وجه كلي الى الأقسام ، وليست في المنطق قاعدة بها يعلم انّ كلّ مادة مخصوصة داخلة في أيّ قسم من الأقسام ، ومن المعلوم امتناع وضع قاعدة يكفل بذلك.

ثمّ قال : فان قلت : لا فرق في ذلك بين العقليات والشرعيات ، والشاهد على ذلك ما نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في أصول الدين وفي الفروع الفقهية.

قلت : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدمة عقلية باطلة بالمقدمة النقليّة الظنيّة أو القطعية ، ومن الموضحات لما ذكرناه من انّه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادة الفكر انّ المشائيين ادعوا البداهة في انّ تفرّق ماء كوز الى كوزين اعدام لشخصه واحداث لشخصين آخرين ، وعلى هذه المقدمة بنوا اثبات الماهية الهيولى ، والاشراقيين ادّعوا البداهة في انّه ليس اعداما للشخص الأول وإنّما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتصال.

وأخذ ممّا بناه من انحصار الدليل على السماع من الشرع في غير الضروريات هذه النتيجة : إن تمسكنا بكلامهم «ع» فقد عصمنا من الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيرهم فلم نعصم عنه (١).

وللمحدّث الجزائري (قدس‌سره) كلاما مفيدا ويعطينا صورة موجزة عن الفكرة الأخبارية ، والعوامل التي أدّت الى نشوئها. قال :

إنّ أكثر أصحابنا قد تبعوا جماعة من المخالفين من أهل الرأي والقياس ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول واستدلالاتها ، وطرحوا

__________________

(١) الرسائل للشيخ الأنصاري في بحث حجية القطع.

٥٦

ما جاءت به الأنبياء (عليهم‌السلام) حيث لم يأت على وفق عقولهم ، حتى نقل انّ عيسى «ع» لمّا دعا أفلاطون الى التصديق بما جاء به أجاب بأنّ عيسى رسول الى ضعفة العقول ، وأمّا أنا وأمثالي فلسنا نحتاج في المعرفة الى ارسال الأنبياء.

والحاصل انّهم ما اعتمدوا في شيء من أنوارهم إلّا على العقل ، فتابعهم بعض أصحابنا وان لم يعترفوا بالمتابعة ، فقالوا : انّه إذا تعارض الدليل العقلي والنقلي طرحنا النقلي أو تأولناه بما يرجع الى العقل. ومن هنا تراهم في مسائل الأصول يذهبون الى أشياء كثيرة قد قامت الدلائل النقلية على خلافها ، ولوجود ما تخيّلوا انّه دليل عقلي ، كقولهم بنفي الاحباط في العمل تعويلا على ما ذكروه في محلّه من مقدمات لا تفيد ظنّا فضلا عن العلم ، وسنذكرها إن شاء الله تعالى في أنوار القيامة ، مع وجود الدلائل من الكتاب والسنة على أنّ الاحباط ـ الذي هو الموازنة بين الأعمال واسقاط المتقابلين وابقاء الرجحان ـ حقّ لا شك فيه ولا ريب يعتريه.

ومثل قولهم : انّ النبي «ص» لم يحصل له الاسهاء من الله تعالى في صلاة قط ، تعويلا على ما قالوه : من أنّه لو جاز السهو عليه في الصلاة لجاز عليه في الأحكام ، مع وجود الدلائل الكثيرة من الأحاديث الصحاح والحسان والموثقات والضعفاء والمجاهيل على حصول مثل هذا الاسهاء ، وعلل في تلك الروايات بأنّه رحمة للأمة ، لئلّا يعير الناس بعضهم بعضا بالسهو ، ...

وأمّا مسائل الفروع فمدارهم على طرح الدلائل النقلية والقول بما أدّت إليه الاستحسانات العقلية ، وإذا عملوا بالدلائل النقلية يذكرون أولا الدلائل العقلية ثمّ يجعلون دليل النقل مؤيدا وعاضدا إيّاها ، فيكون المدار والأصل إنّما هو العقل.

وهذا منظور فيه ، لأنّا نسألهم عن معنى الدليل العقلي الذي جعلوه أصلا في الأصولين والفروع ، فنقول : انّ أردتم ما كان مقبولا عند عامة العقول ، فلا يثبت ولا يبقى لكم دليل عقلي ، وذلك كما تحققت انّ العقول مختلفة في مراتب الادراك وليس لها حدّ تقف عنده ، فمن ثمّ ترى كلّا من اللاحقين يتكلّم على دلائل السابقين وينقضه ويأتي بدلائل أخرى على ما ذهب إليه ، ولذلك لا ترى دليلا واحدا مقبولا عند عامة العقلاء والأفاضل وإن كان المطلوب متّحدا ؛ فانّ جماعة من المحققين قد اعترفوا بأنّه

٥٧

لم يتم دليل من الدلائل على اثبات الواجب ، وذلك انّ الدلائل التي ذكروها مبنيّة على ابطال التسلسل ولم يتم برهان على بطلانه ، فاذا لم يتم دليل على هذا المطلب الجليل الذي توجهت الى الاستدلال عليه كافة الخلائق ، فكيف يتم على غيره ممّا توجهت إليه آحاد المحقّقين؟ وإن كان المراد به ما كان مقبولا بزعم المستدل به واعتقاده ، فلا يجوز لنا تكفير الحكماء والزنادقة ولا تفسيق المعتزلة والأشاعرة ، ولا الطعن على من يذهب الى مذهب يخالف ما نحن عليه ، وذلك إنّ أهل كلّ مذهب استندوا في تقوية ذلك المذهب الى دلائل كثيرة من العقل ، وكانت مقبولة في عقولهم معلومة لهم ، ولم يعارضها سوى دلائل العقل لأهل القول الآخر أو دلائل النقل ، وكلاهما لا يصلح للمعارضة لما قلتم ، لأنّ دليل النقل يجب تأويله ، ودليل العقل لهذا الشخص لا يكون حجّة على غيره ، لأنّ عنده مثله ويجب عليه العمل بذلك ، مع انّ الأصحاب (رضوان الله عليهم) ذهبوا الى تكفير الفلاسفة ومن يحذو حذوهم وتفسيق أكثر طوائف المسلمين ، وما ذاك إلّا لأنّهم لم يقبلوا منهم تلك الدلائل ولم يعدوها من دلائل العقل (١).

أشار هذا المحدث الى العوامل التي أدّت الى حدوث الفكرة الاخبارية وهي كما يلي :

١ ـ متابعة أكثر علماء الشيعة لأهل الرأي والقياس وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول واستدلالاتها.

٢ ـ لازم هذا الاعتماد طرح ما جاءت به الشريعة حيث لم يأت على وفق عقولهم ، وتأويله بما يرجع الى العقل.

٣ ـ انّ مدار علمائنا في البحث كان على الدلائل العقلية ، ويجعلون دليل النقل مؤيدا وعاضدا لدليل العقل. وصرّح المحدّث المحقق الشيخ يوسف البحراني بحجية العقل الفطري الصحيح وحكم بمطابقته للشرع ومطابقة الشرع له ، قال بعد ذكر كلام المحدّث الجزائري :

فان قلت : فعلى ما ذكر من عدم الاعتماد على الدليل العقلي يلزم أن لا يكون

__________________

(١) الأنوار النعمانية ٣ : ١٢٩ ـ ١٣٢.

٥٨

العقل معتبرا بوجه من الوجوه ، مع انّه قد استفاضت الآيات القرآنية والأخبار المعصومية بالاعتماد على العقل والعمل على ما يرجّحه ، وانّه حجة من حجج الله سبحانه ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(١) في غير موضع من الكتاب العزيز أي يعملون بمقتضى عقولهم (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٢) (لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ)(٣) ... الى غير ذلك من الآيات الدالة على مدح العمل بمقتضى العقل وذمّ عكسه. وفي الحديث عن أبي الحسن «ع» حين سئل : فما الحجّة على الخلق اليوم؟ قال : فقال «ع» : العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه (٤).

وفي آخر عن الصادق «ع» قال : حجة الله على العباد النبي ، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل (٥).

وفي آخر عن الكاظم «ع» : يا هشام انّ لله على الناس حجّتين : حجة ظاهرة ، وحجة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، وأمّا الباطنة فالعقول (٦).

قلت : لا ريب انّ العقل الصحيح الفطري حجة من حجج الله سبحانه ، وسراج منير من جهته جلّ شأنه ، وهو موافق للشرع ، بل هو شرع من داخل كما انّ ذلك شرع من خارج ، لكن ما لم تغيره غلبة الأوهام الفاسدة ، وتتصرّف فيه العصبية أو حبّ الجاه أو نحوهما من الأغراض الكاسدة ، وهو قد يدرك الأشياء قبل ورود الشرع بها فيأتي الشرع مؤيدا له ، وقد لا يدركها قبله ويخفى عليه الوجه فيها فيأتي الشرع كاشفا له ومبيّنا ، وغاية ما تدلّ عليه هذه الأدلة مدح العقل الفطري الصحيح الخالي من شوائب الأوهام العاري عن كدورات العصبية ، وإنّه بهذا المعنى حجة الهية ، لادراكه بصفاء نورانيته وأصل فطرته بعض الأمور التكليفية ، وقبوله لما يجهل منها متى ورد عليه الشرع بها ، وهو أعمّ من أن يكون بادراكه ذلك أولا أو قبوله لها ثانيا كما عرفت.

__________________

(١) سورة الرعد (١٣) : ٥.

(٢) سورة الرعد (١٣) : ٤.

(٣) سورة آل عمران (٣) : ١٨٨.

(٤) الكافي كتاب العقل والجهل ح ٢٠.

(٥) الكافي كتاب العقل والجهل ح ٢٢.

(٦) الكافي كتاب العقل والجهل ح ١٢.

٥٩

ولا ريب انّ الأحكام الفقهية من عبادات وغيرها كلّها توقيفية تحتاج الى السماع من حافظ الشريعة ، ولهذا قد استفاضت الأخبار ... بالنهي عن القول في الأحكام الشرعية بغير سماع منهم «عليهم‌السلام» وعلم صادر عنهم «صلوات الله عليهم» ووجوب التوقّف والاحتياط مع عدم تيسر طريق العلم ووجوب الردّ إليهم في جملة منها ، وما ذاك إلّا لقصور العقل المذكور عن الاطلاع على أغوارها واحجامه عن التلجج في لجج بحارها ، بل لو تمّ للعقل الاستقلال بذلك لبطل ارسال الرسل وانزال الكتب ، ومن ثمّ تواترت الأخبار ناعية على أصحاب القياس بذلك.

(ثمّ ذكر الأخبار الدالة على ذلك) الى أن قال :

الى غير ذلك من الأخبار ـ المتواترة معنى ـ الدالة على كون الشريعة توقيفية لا مدخل للعقل في استنباط شيء من أحكامها بوجه ... إلّا أنّه يبقى الكلام بالنسبة الى ما يتوقّف على التوقيف.

فنقول : إن كان الدليل العقلي المتعلّق بذلك بديهيّا ظاهر البداهة كقولهم : الواحد نصف الاثنين ، فلا ريب في صحة العمل به ، والّا فان لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك ، وإن عارضه دليل عقلي آخر ، فان تأيّد أحدهما بنقلي كان الترجيح للمؤيد بالدليل النقلي وإلّا فاشكال ، وإن عارضه دليل نقلي ، فان تأيد ذلك العقلي أيضا بنقلي كان الترجيح للعقلي ، إلّا انّ هذا في الحقيقة تعارض في النقليات ، وإلّا فالترجيح للنقلي ، وفاقا للسيد المحدث المتقدم ذكره (السيد الجزائري) وخلافا للأكثر.

هذا بالنسبة الى العقلي بقول مطلق ، امّا لو أريد به المعنى الأخص وهو الفطري الخالي من شواهب الأوهام الذي هو حجة من حجج الملك العلّام وإن شذّ وجوده بين الأنام ففي ترجيح النقلي عليه اشكال (١) ؛ وقويت هذه الطريقة في القرن الحادي عشر والثاني عشر حتى أوائل الثالث عشر الهجري ، ولكن الطريقة الأصولية تغلّبت عليها بمواقف الوحيد البهبهاني محمد باقر بن محمد أكمل المتوفى سنة (١٢٠٦).

ثمّ تبعه تلميذه المحقق الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي المتوفى سنة (١٢٢٨).

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٢٩ ـ ١٣٣.

٦٠