علم الأصول تاريخاً وتطوراً

علي الفاضل القائيني النجفي

علم الأصول تاريخاً وتطوراً

المؤلف:

علي الفاضل القائيني النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢١٢

الى مختلف حقول المعرفة ، وكان لأجل ذلك يطلق عليها اسم الجامعة.

فكانت هذه المدرسة النجفية المعروفة بالتعقل الفكري الخاص بها غنية بالعلوم الدينية ، والمعارف الإلهية بحيث لم تتهيّأ لسائر المعاهد والمدارس الشيعية هذه القاعدة الفكرية المبتنية على أسس من العلم والمعرفة العريقين فكان لذلك أن تخرّج رجالات من العلماء والمفكّرين والفقهاء من مختلف الأقطار الاسلامية ، وأوفدت الكثير من خرّيجيها لكثير من الأقطار لتعليم الفقه والأصول وسائر الجوانب العلمية وارشاد الأمة ، ودعوة الآخرين الى الاسلام.

ملامح مدرسة النجف الأشرف :

امتازت المدرسة النجفية للمؤهلات الخاصة بها أن تنتج الآلاف من الكتب والموسوعات في مختلف الحقول العلمية من عصر الطوسي الى هذا اليوم ، فكانت النجف هي الأمّ للدراسات الاسلامية في كثير من العصور التي مرّت على الشيعة.

وامتازت هذه المدرسة بوجود أكبر المراجع والقادة الفكريين للطائفة في التاريخ الامامي ، ولذلك توجّهت اليها انظار وآمال الطائفة في جميع البلدان ، وكانت المدرسة النجفية والمراجع المستقرّين فيها قبلة تتعشّقها قلوب المؤمنين.

فكان لهذه المدرسة في طول تاريخ الشيعة تأثير خاص لتوجيه سائر المعاهد الدينية الموجودة في سائر الأماكن ، فكانت الخطط الفكرية والقيادية تنجم منها منذ عهد تأسيسها.

اضافة الى ذلك انّ أكثر المعاهد والمدارس التي حدثت في تاريخ الشيعة كانت حصيلة أيدي العلماء المتخرجين من مدرسة النجف ، وبالنهاية يرجع الفضل اليها.

وظاهرة أخرى نراها في مدرسة النجف هي تزعم قيادة كثير من الحركات في وجه القوى المعادية للاسلام وتغذيتها الروحية والفكرية من رجال العلم والعلماء في النجف الأشرف ، فكانت النجف المركز المناسب لتهيئة الخطط الفكرية لمواجهة أعداء الاسلام ، والذّب عن حرمة القرآن ونواميس المسلمين.

فللنجف مواقف مشهودة ضدّ التيار الإلحادي والأفكار الموجّهة من قبل

١٦١

الاستكبار العالمي ، وفي سبيل ذلك ضحت بأعزّ ما لديها من أبناء مخلصين وعلماء قادة مفكرين ، وبالأخص في العصر الأخير الذي تسيطر فيه على الحكم في العراق جماعة من أعداء القرآن فواجه علماء النجف من هؤلاء الأعداء الظلم والاضطهاد الذي لم يسبق له نظير ، فقتلت وسجنت وأخرجت كثيرا من خيرة أبناء مدرسة النجف وعلمائها الأبرار ومراجعها الأخيار وبذلك تضرر النجف والأمة الاسلامية بخسارة فادحة نسأل الله تعالى أن يدفع شر أعداء الأمة ، والتوفيق لما هو الصلاح والعاقبة.

(مدرسة الحلة)

برزت مدرسة بالقرب من مدرسة النجف في أواخر القرن الخامس ، فظهر في مدرسة الحلة فقهاء كبار وكان لهم الأثر الكبير في تطوير مناهج الفقه والأصول الامامي ، واعطاء صبغة جديدة لعملية الاستنباط ، وتنظيم أبواب الفقه ك «المحقق الحلّي» والعلامة وابنه فخر المحقّقين ، وابن نما وابن أبي الفوارس والشهيد الأول ، وابن طاوس ، وابن ورّام وغير هؤلاء الفطاحل الأعلام وقادة الفكر في المجالات المختلفة.

فأصبحت مدرسة الحلة مركزا كبيرا من معاهد الحركة العلمية في الأوساط الاسلامية الشيعية ، تؤمها البعثات والطلاب من كلّ أجزاء الوطن الاسلامي وبخاصة البلدان الشيعية.

وكان من بين الاعلام المتخرجين من هذه المدرسة وعلى طليعتهم المحقق نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد الحلّي رائد مدرسة الحلّة ، وقد قدّر له أن يجدد كثيرا من مناهج البحث الفقهي والأصولي ، وأن يتخرّج من معهده العلمي ويتربّى على يديه كثير من العلماء مثل العلامة الحلي ، وأن يخلّف كتبا قيمة حيث تعدّ من أغلى التراث الامامي ، في الأوساط العلمية ، ولا يزال العلماء يتناولونها بكلّ حباوة واعتزاز ، ك «شرائع الاسلام» والمعتبر والمختصر النافع وكتاب المعارج في أصول الفقه.

وكان المعارج يدرّس مدة طويلة في المعاهد العلمية ، الى أن خرج كتاب المعالم في الأصول فصار محورا للدراسة.

وممّن تخرّج على يد المحقق «العلامة الحلّي» جمال الدين الحسن بن يوسف بن

١٦٢

المطهّر (٦٤٨ ـ ٧٢٦) ، كما انّه درس عند المحقق الطوسي الفلسفة والرياضيات.

وقد قدّر للعلامة بفضل مقدرته العلمية أن يساهم مساهمة فعّالة في تطوير مناهج الفقه والأصول وتوسيع دراستها ، كما انّه ساهم في تبليغ المذهب والذبّ عنه ، ومحاربة المعادين والوقوف أمامهم ، ودحض شبهاتهم في مختلف الجهات ، وبالأخص الدفاع عن أهل بيت الرسالة «ع» ، فهو من النجوم الوضّاءة في سماء العلم والتحقيق في تاريخ الفكر الجعفري ، وتربّى في مدرسته ولده فخر المحققين ، والشهيد الأول وغيرهم من العلماء.

ملامح مدرسة الحلّة :

من ملامح مدرسة الحلة اخراج الموسوعات العلمية والكتب المفيدة كشرائع المحقق ذلك التنظيم الرائع لأبواب الفقه ، فصار المعوّل في التأليف ومشى على طبقه الفقهاء من ذلك العصر الى هذا الزمان ، ومن التراث الذي انتجته للمدارس العلمية الامامية موسوعة العلامة في الفقه وهي «التذكرة» فهي تعدّ في مقدّم الموسوعات الفقهية من نوعها في تاريخ الفقه الشيعي من حيث السعة والمقارنة وتطوّر مناهج البحث ، فقد حاول العلامة في موسوعته أن يجمع آراء مختلف المذاهب الاسلامية ، ومناقشتها بصورة لم يسبقه أحد في الدراسات المقارنة الأخرى.

مدرسة المشهد الرضوي في خراسان :

انّ قداسة أرض طوس حيث تحتضن بتربتها الامام الثامن علي بن موسى الرضا «ع» ، لها التأثير التام في أن يتكوّن حول مرقد هذا الامام مدرسة تزدهر بالعلماء والطلّاب الوافدين إليها.

فكانت مدرسة المشهد الرضوي ولا تزال من احدى المعاهد الشيعية ، والتي تتبلور فيها الحركة العلمية والثقافية ، كما انّها كانت في طول تاريخها لا تخلو من وجود شخصيات كبيرة من العلماء والمراجع فيها.

١٦٣

وهذه المدرسة فيها من المدارس والآثار الدالة على قدمها تاريخيا ، وانّها كانت مهبطا لروّاد العلم والطلّاب ، وانّها كانت من أهمّ المدارس في التاريخ الفكري للعلوم الاسلامية.

وتخرج من هذه المدرسة المئات من علماء الشيعة ، كالشيخ الطوسي الذي قدّر له أن يأتي الى العراق ويؤسس مدرسة النجف التاريخية العظيمة ، كما تخرج من هذه المدرسة أعاظم مفكري الشيعة كخواجه نصير الطوسي.

وانتجت هذه المدرسة التراث الإمامي في جميع حقوله كالتفسير والحديث والأصول والعلوم العقلية والأدب والعلوم الرياضية.

ومن ملامح هذه المدرسة أن تحتفظ بمثل مكتبة الامام الرضا «ع» ، وهذه المكتبة العظيمة الذي يبلغ عدد كتبها خمسين ألف مجلد وقسم منها مخطوط قلّ نظيره في سائر المكتبات.

١٦٤

الفصل الرابع

المدرسة الرابعة

* أهم رجال هذه المدرسة

* أهم الكتب الأصولية في هذه المدرسة

* أهم المعاهد العلمية في هذه المدرسة

١٦٥
١٦٦

بعد أن استعرضنا المدارس الثلاثة السابقة يجدر بنا الآن أن نستعرض المدرسة الرابعة ، التي تطوّر فيها علم الأصول الى مرحلة جديدة ، وفي هذه المرحلة بني علم الأصول وفقا لقواعد وأسس جديدة ، غير تلك التي بني عليها في المدارس السالفة ، وبعد ممارسة البحث الأصولي وتطوّره على يد رجالات العلم والتحقيق مثل : الفاضل التوني ، وآغا حسين الخوانساري ، والمحقق الشيرواني ، وآغا جمال الخوانساري ، وصدر الدين القمّي و... حيث كان هؤلاء العامل الأساسي لتنشيط هذا العلم ، ووقوفهم في وجه تيار الفكرة الأخبارية التي كانت تهدف الى تقويض علم الأصول ، وتهديم أفكاره ، فهؤلاء مهّدوا ببحوثهم العلمية ونتاجهم الفكري المبكر لظهور مدرسة جديدة ، حيث أخذ علم الأصول بناء على تطوره في هذه المرحلة ، أصبح مستعدا للانتقال الى عصر جديد ، وبهذا يمكن اعتبار تلك البحوث والدراسات البذور الأساسية لظهور المدرسة الأخيرة.

١٦٧

المبحث الأول أهم رجال هذه المدرسة :

بدأ ظهور المدرسة الرابعة : الوحيد البهبهاني :

نشأة هذه المدرسة الجديدة في كربلاء في القرن الثاني عشر والثالث عشر على يد رائدها ومؤسسها المجدد الكبير المحقق محمد باقر بن محمد أكمل المعروف ب «الوحيد البهبهاني».

ولد في اصفهان سنة (١١١٨) ، وقطن برهة من الزمن في بلدة بهبهان ، ثمّ توجّه الى كربلاء لتكميل دراسته فيها.

يقول الخوانساري في حقّ المحقق الوحيد البهبهاني :

كان مروّج رأس المائة الثالثة عشرة من الهجرة المقدسة ، ارتفعت بميامن تأييداته المتينة أغبرة آراء الأخبارية ، كما انّه انطمست آثار البدع من جماعة الملاحدة والغلاة والصوفية.

وقد سمّي ب «آية الله تعالى» من غاية الكرامة له ، كما سمّي من قبله العلامة ب «آية الله» (١).

مقاومة البهبهاني للأزمة الأخبارية :

وكان العمل الجبّار الذي تبنّاه المحقق البهبهاني هو مقاومة هذه الأزمة الخطيرة ، فقاوم أشد المقاومة في قبال الحركة الأخبارية ، وكانت العاقبة لانتصار علم الأصول ، وهزيمة الفكرة المعادية لها.

يصوّر لنا المحقق الخوانساري الوضع الحاكم في ذلك العصر قبل انتصار المحقق البهبهاني قائلا : قد كانت بلدان العراق سيّما المشهدين الشريفين مملوءة قبل قدومه من

__________________

(١) روضات الجنات ٢ : ٩٤.

١٦٨

معاشر الأخباريين بل ومن جاهليهم والقاصرين ، حتى انّ الرجل منهم كان اذا أراد حمل كتاب من كتب فقهائنا حمله مع منديل ، وقد أخلى الله البلاد منهم ببركة قدومه ، واهتدى المتحيرة في الأحكام بأنوار علومه (١).

عوامل انتصار المحقق البهبهاني على النزعة الأخبارية :

وكان لانتصار الفكرة الأصولية على النزعة الأخبارية عوامل مهمة أشار إليها الشهيد الصدر «قدس‌سره» حيث يقول :

وقد يكون هذا الدور الايجابي الذي قامت به هذه المدرسة (٢) ، فافتتحت بذلك عصرا جديدا في تاريخ العلم متأثّرا بعدة عوامل : منها : عامل ردّ الفعل الذي أوجدته الحركة الأخبارية ، وبخاصة حين جمعها مكان واحد ككربلاء بالحوزة الأصولية ، الأمر الذي يؤدّي بطبيعته الى شدة الاحتكاك وتضاعف ردّ الفعل.

ومنها : انّ الحاجة الى وضع موسوعات جديدة في الحديث كانت قد اشبعت ولم يبق بعد وضع الوسائل والوافي والبحار إلّا أن يواصل العلم نشاطه الفكري مستفيدا من تلك الموسوعات في عمليات الاستنباط.

ومنها : انّ الاتجاه الفلسفي في التفكير الذي كان الخوانساري قد وضع احدى بذوره الأساسية زوّد الفكر العلمي بطاقة جديدة للنمو وفتح مجالا جديدا للابداع ، وكانت مدرسة البهبهاني هي الوارثة لهذا الاتجاه.

ومنها : عامل المكان ، فانّ مدرسة الأستاذ الوحيد البهبهاني نشأت على مقربة من المركز الرئيسي للحوزة ـ وهو النجف ـ فكان قربها المكاني هذا من المركز سببا لاستمرارها ومواصلة وجودها عبر طبقات متعاقبة من الأساتذة والتلامذة ، الأمر الذي جعل بامكانها أن تضاعف خبرتها باستمرار وتضيف خبرة طبقة من رجالاتها الى خبرة الطبقة التي سبقتها ، حتى استطاعت أن تقفز بالعلم قفزة كبيرة وتعطيه ملامح عصر

__________________

(١) روضات الجنات ٢ : ٩٤

(٢) يشير الى مدرسة الوحيد البهبهاني ومواقفه العظيمة ضد الفكرة الأخبارية.

١٦٩

جديد ... (١).

وبعد أن مارس المحقق البهبهاني جهده ، وأسّس مدرسته العظيمة ، واستطاع أن يسهم في تطوّر علم الأصول السهم الكبير ، انتج من المصنفات قريب ستّين ما بين رسالة وكتاب ، ومنها الفوائد الحائرية ، وحاشية على المعالم.

توفى عام (١٢٨٠) وقد جاوز التسعين ، ودفن في الرواق المطهّر الحسيني «ع» قريبا ممّا يلي أرجل الشهداء (٢).

استمرّت المدرسة الرابعة تتطوّر على يد تلاميذ الوحيد البهبهاني ومن جاء بعده ، ويمكن تقسيم هذه المدرسة الى أدوار :

الدور الأوّل :

وفي هذا الدور تجلّى تطوّر علم الأصول على يد تلاميذ الوحيد البهبهاني مؤسس المدرسة الرابعة وهم :

١ ـ السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي النجفي.

السيد مهدي بن مرتضى الطباطبائي النجفي ، ولد في بلدة كربلاء عام (١١٥٥) ، اشتغل برهة على والده ثمّ على الوحيد البهبهاني ، ورجع الى النجف الأشرف وأقام بها ، وبعد وفاة أستاذه الوحيد أصبح امام أئمة العراق ومرجع الطائفة ، وله كرامات ومآثر تدل على عظمته وجلالة قدره ، ناظر أحد علماء اليهود في بلدة «ذو الكفل» وأفحمه ، وقضيته مشهورة ، وفي كتب الرجال مسطورة.

تخرج في مدرسته جمع كثير من أجلة علماء الطائفة كالمحقق النراقي ، والفاضل الكرباسي مؤلف كتاب الاشارات.

وصنّف القواعد الأصولية ، على غرار الفوائد الحائرية لأستاذه الوحيد البهبهاني ، وشرح الوافية للفاضل التوني في أصول الفقه.

__________________

(١) المعالم الجديدة / ٨٥ ـ ٨٦.

(٢) ترجم في روضات الجنات ٢ : ٩٤.

١٧٠

توفي في النجف الأشرف عام (١٢١٢) ودفن بمقبرة شخصية له بجنب قبر الشيخ الطوسي ، وهي اليوم مكتبة عامة (١).

٢ ـ كاشف الغطاء :

الشيخ جعفر بن خضر الحلّي الجناحي النجفي المعروف ب «كاشف الغطاء» تتلمذ لدى المحقق الوحيد البهبهاني ، حتى انّه يعد من أعظم تلامذته.

وقدّر له أن يحقق خدمات مهمة للاسلام والمذهب الجعفري : ففي العراق وايران قام بمحاربة الجمود الفكري ، والأزمة الأخبارية ، وقضى بجهود جبّارة على الدعوة للبقاء على تقليد الأموات ، وعلى الدعوة للتقليد بالرجوع لأصل واحد وهو الأخبار ، وعلى الدعوة لنبذ العمل بأصول الفقه من الكتاب والاجماع والعقل.

ودعى للعمل بأصول الفقه التي قام القطع والقطعي على حجيّتها ، وصحة التمسّك بها.

وبذل قصارى جهده في توليد الحركة وبثّ الحياة العلمية في الفقه والأصول وسائر العلوم ، وحتى أصبحت النجف الأشرف في عصره هي المركز العام للدراسة الدينية.

ألّف كتاب كشف الغطاء ، وفي مقدمته ذكر مختصرا من أصول الفقه ، ويعد هذا الكتاب من أنفس الكتب العلمية في المعاهد الامامية ، ويروي عنه صاحب الاشارات الفاضل الكرباسي ، والشيخ الفقيه محمد حسن صاحب الجواهر.

توفي في النجف الأشرف عام (١٢٢٧) (٢).

__________________

(١) ترجم في روضات الجنات ٧ : ٢٠٣ ـ ٢١٦.

(٢) ترجم في روضات الجنات ٢ : ٢٠٠.

١٧١

٣ ـ الشيخ أسد الله بن اسماعيل الدزفولي الكاظمي :

ولد في دزفول سنة (١١٨٦) ، وقرأ مقدمات العلوم بها ، ثمّ هاجر الى العراق وحضر في كربلاء درس الوحيد البهبهاني.

وهو ممّن شملته العناية الإلهية فكان صاحب الذهن الوقّاد ، والتحقيقات المعروفة ، ويعدّ من مؤسسي القواعد الفقهية والأصولية.

نقل الشيخ الأنصاري في آخر بحث الاجماع من كتابه «الرسائل» كلاما لهذا المحقق من كتابه «كشف القناع».

وهذا الأمر يكشف مدى تضلّعه في الفقه والأصول حتى اعتنى بكلامه المحقق الأنصاري مع كمال عظمته.

وبعد وفاة الشيخ جعفر كاشف الغطاء اتجهت له المرجعية ، ورجع اليه جماعة في أمر التقليد.

وتخرج لديه جماعة منهم : السيد عبد الله شبر ، والشيخ موسى وأخيه الشيخ علي كاشف الغطاء.

كان الشيخ أسد الله صهر كاشف الغطاء الكبير وتتلمذ لديه أيضا ، كما انّه تتلمذ لدى السيد مهدي بحر العلوم.

له من التصنيفات : مقابس الأنوار في الفقه ، ومنهج التحقيق ، ومناهج الأعمال ، وكتاب كشف القناع عن وجوه حجية الإجماع ، يتضمّن كثيرا من مباحث الظنون (١).

أدركته الوفاة في النجف الأشرف سنة (١٢٣٤) ، ودفن في مقبرة أستاذه كاشف الغطاء.

__________________

(١) ترجم في روضات الجنات ١ : ٩٩ ـ ١٠١ وفي «شخصية الشيخ الأنصاري / ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

١٧٢

٤ ـ مرزا أبو القاسم الجيلاني القمّي :

ميرزا أبو القاسم بن محمد حسن من أركان الدين وكبار المؤسسين ، ومن مشاهير محققي الامامية.

ولد في بلدة جابلاق من أعمال رشت في سنة (١١٥١) فاشتغل على أبيه في علوم الأدب ، ثمّ انتقل الى خوانسار ، فدرس فيها الفقه والأصول على السيد حسين الخوانساري عدة سنين ، ثمّ هاجر الى العراق فمكث في كربلاء ولازم درس الوحيد البهبهاني في الفقه والأصول ، حتى حصل على اجازة من أستاذه فعاد الى بلاده واشتغل بها بالأمور الشرعية ، وبعد قليل انتقل الى اصفهان فكان يدرس فيها واستفاد منه الكثير ، وسافر الى شيراز وبقي فيها مدة والتفّ حوله الطلّاب فكان يدرسهم الفقه والأصول.

ثمّ انتقل الى قم في زمن فتحعلى شاه القاجاري ، ولمّا حطّ الرحال بها عكف على التدريس والتصنيف حتى أصبح من كبار المحققين والمؤسّسين ، واشتهر أمره ، ولقب ب «المحقق القمّي».

فتوجّه اليه الناس ورجعوا عليه في أمر التقليد والمرجعية ، فكان زعيما دينيا وعلميا ، وتخرج من مدرسته جمع كثير من العلماء الأعلام.

له تصنيفات جليلة أشهرها «القوانين المحكمة» في علم الأصول ، وطبع هذا الكتاب مرّات عديدة ، ويعدّ هذا السفر الجليل من أجلّ كتب دوّنت في علم الأصول ، لدقائقه وغوامضه.

وقد استقبل هذا الكتاب العلماء والطلّاب بكلّ عزّ وإجلال ، فأصبح من الكتب الدراسية ، وعنى به جماعة من العلماء ، فشرحوه وعلّقوا عليه الحواشي.

توفي رحمه‌الله في سنة (١٢٣١) ودفن بقم (١).

__________________

(١) ترجم في كرام البررة ١ : ٥٢ ـ ٥٥ والروضات ٥ : ٣٦٩.

١٧٣

٥ ـ السيد علي صاحب الرياض :

الأمير سيد علي بن محمد علي الطباطبائي ولد في بلدة الكاظمية عام (١١٦١) وتتلمذ لدى الوحيد البهبهاني وأصبح من أعظم تلامذته ، كما انّه وصل الى المرجعية للطائفة ، وتربّى في مدرسته الفقهية والأصولية جم غفير منهم ولده السيد محمد المجاهد مؤلف مفاتيح الأصول.

ألّف في علم الأصول رسالة في اجتماع الأمر والنهي ، وأصالة البراءة ، وحجية الاجماع والاستصحاب ، وحجية الشهرة ، وحجية ظواهر الكتاب ، وحجية المفهوم بالأولوية.

سعى في بثّ آراء أستاذه الوحيد البهبهاني وبسط مدرسته الأصولية ودحض الفكرة الأخبارية ، والجمود الفكري. فكانت حوزته العلمية في كربلاء من المعاهد العظيمة التي حدثت فيها ، وصنّف في الفقه كتاب رياض المسائل ، ويعرف مدى تبحره وتسلّطه على القواعد الأصولية والفقهية من خلال هذه الكتب ، وابتناء مسائله على الأسس الأصولية.

توفي في كربلاء عام (١٢٣١).

الدور الثاني :

وحصل التقدّم في المرحلة الثانية على يد :

١ ـ محمد تقي بن عبد الرحيم الطهراني الاصفهاني :

سافر الى النجف الأشرف ، وحضر درس الشيخ الكبير كاشف الغطاء ، وتزوّج بابنته ، وقرأ عند السيد محسن الأعرجي الكاظمي أيضا ، سافر الى اصفهان وأقام بها ، وكان له فيها مجلس درس يحضره المئات من الطلّاب ، واشتهر بأصول الفقه.

له شرح على «معالم الأصول» يسمّى ب «هداية المسترشدين». برز منه الى آخر

١٧٤

مسألة مفهوم الوصف.

توفي سنة (١٢٤٨) ودفن باصفهان بمقبرة تخت فولاد (١).

٢ ـ محمد حسن بن عبد الرحيم الطهراني الاصفهاني :

قطن كربلاء ، وكان يدرس فيها الأصول والفقه.

وكان هذا الشيخ المعظم كثير الطعن على طائفة الشيخية ، متجاهرا باللعن عليهم.

ألّف كتاب «الفصول» في علم الأصول ، وهو من أحسن ما كتب في أصول الفقه وأجمعها للتحقيق والتدقيق ، وله نظر في البحث في هذا الكتاب لصاحب القوانين ونظريات هذا المحقق تعتبر لديه حائزة من أهمية واعتبار.

توفي في بلدة كربلاء عام (١٢٦١) ودفن هناك (٢).

٣ ـ شريف العلماء :

محمد شريف بن حسنعلي الآملي المازندراني من فحول فقهاء الشيعة والمتبحّرين في علم الأصول.

ولد في كربلاء ، وقرأ فيها المقدمات ، ثمّ حضر درس السيد المجاهد ، وصاحب الرياض مدة تسع سنين. ثمّ استقلّ بالتدريس.

وقدّر له أن يربّي تلامذة أجلّاء حتى أصبحوا من أكبر المحققين ، كالمحقق الأنصاري المرتضى ، وسعيد العلماء المازندراني ، وصاحب الضوابط ، وملا آغا الدربندي ، والسيد محمد شفيع الجابلقي.

وهذه من أكبر النعم الإلهية التي لم تتيسّر لكل أحد ، وكان كثير الاهتمام بتعليم الطلبة وتدريسهم ، ولأجل ذلك لم يحصل له وقت وفراغ للتأليف ، وكان له مجلسين :

أحدهما للطلبة المبتدئين ، والآخر لمن وصل الى مرتبة سامية من الاجتهاد.

__________________

(١) ترجم في روضات الجنات ٢ : ١٢٣ ـ ١٢٥.

(٢) ترجم في روضات الجنات ٢ : ١٢٦.

١٧٥

توفي بمرض الطاعون سنة (١٢٤٥) في مدينة كربلاء المقدسة (١).

٤ ـ أحمد بن محمد مهدي النراقي الكاشاني :

أخذ أوليات دراساته في مسقط رأسه ، ثمّ شرع في العلوم العربية حتى انهاها ، كما انّه تعلّم هناك المنطق والرياضيات ، والفقه والأصول ، والحكمة والفلسفة عند والده العظيم محمد مهدي النراقي ، غادر بلده عازما العراق للاستفادة التامة لدى أعلامها ، ودخل النجف الأشرف حيث كانت المعهد الأعلى للدراسات العالية ، وهناك حضر درس الفقيه الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، والعلامة بحر العلوم ، فاستفاد منهما حتى بلغ الغاية في الفقه والأصول.

وذهب الى كربلاء واستفاد من أعلامها أيضا.

يقول صاحب الروضات في العلامة النراقي :

جامعا للأصول والفقه والرياضي والنجوم ، له شرح تجريد الأصول لوالده ، عين الأصول ، مفتاح الأحكام.

كما انّ كتابه المستند معروف ومورد الافادة والاستفادة لدى الأعاظم والفحول ، وكتاب معراج السعادة في الأخلاق. وتتلمذ لديه العلامة الأنصاري أربع سنين وأجازه في نقل الحديث (٢) وكفاه فخرا أن تربّى في مدرسته ما يفتخر الدهر بهم كالشيخ مرتضى الأنصاري.

ارتحل الى جوار ربّه سنة (١٢٤٥) ، وحمل جثمانه الى النجف الأشرف ودفن في الصحن الشريف جوار مولانا أمير المؤمنين «ع».

__________________

(١) ترجم في كتاب «شخصية شيخ أنصاري / ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٢) روضات الجنات ١ : ٩٥ ـ ٩٩.

١٧٦

٥ ـ القزويني :

السيد ابراهيم بن محمد باقر الموسوي القزويني :

ولد في قزوين وقرأ فيها مبادئ العلوم ، ثمّ هاجر الى مدينة كربلاء في العراق.

تتلمذ على شريف العلماء المازندراني محمد بن حسنعلي ، حتى بلغ أمره في التدريس مرتبة عالية ، فكان يدرّس في حياة أستاذه وتهوي اليه أفئدة الطلّاب قبل وفاته.

وأخذ الفقه من فقهاء النجف الأشرف خصوصا من الفقيه الشيخ موسى كاشف الغطاء.

حتى استقلّ بالتدريس ، وانتهت اليه الرئاسة ، وشدّت الى حضرته رواحل الآمال من كلّ صوب ومكان ، وتخرج على يديه الأفاضل والأعلام.

له من التصنيفات ضوابط الأصول ، أكثره من تقريرات شيخه ، وألّفه في بادئ أمره ، وله نتائج الأفكار مشتملا على مائة وخمسين فصلا ، كتبه في أيّام قلائل ، لكنّه مشحون بالتحقيق والتدقيق (١).

ووافاه الأجل في سنة حدود (١٢٦٢) (٢).

٦ ـ الكلباسي :

محمد ابراهيم بن محمد حسن الكاخي :

ولد سنة (١١٨٠) باصفهان ، تعلّم مقدمات ومبادئ العلوم بها ، ثمّ تشرّف الى العتبات في العراق ، وحضر بحث السيد مهدي بحر العلوم ، وشيخ جعفر كاشف الغطاء ، والسيد محسن الكاظمي ، والوحيد البهبهاني.

رجع الى ايران ، واستفاد من مرزا أبو القاسم القمّي صاحب القوانين ، والمولى

__________________

(١) ترجم في روضات الجنات ١ : ٣٧ ـ ٤٢.

(٢) شخصيّة شيخ أنصاري / ١٤٩.

١٧٧

مهدي النراقي.

أصبح مرجعا كبيرا في اصفهان ، واجتمع حوله الطلبة والفضلاء ، فكان يلقي إليهم الدرس ، وتربّى على يديه جيل كبير ، وخدم الشريعة الغراء.

من مؤلفاته كتاب الاشارات في الأصول ، فقد حقق مباحثه وأتقن فيها ، وتناولته الأيدي والألسن ، وهو كتاب جليل ، مورد عناية أهل الفضل والعلم.

كما انّ له في الفقه شوارع الهداية ، ومنهاج الهداية (١).

٧ ـ الشيخ الفقيه محمد حسن صاحب الجواهر النجفي :

محمد حسن بن باقر النجفي من أركان الطائفة الجعفرية وأكابر الفقهاء الامامية.

ولد في النجف الأشرف حدود سنة (١٢٠٢) بعد ما قرأ السطوح حضر درس السيد محمد جواد العاملي مؤلف مفتاح الكرامة ، والشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي ، وولده الشيخ موسى.

نبغ في أواسط القرن الثالث عشر ، وتقدّم في العلم والفضل حتى بانت للملإ العلمي مكانته السامية وعلمه الكثير.

فانتهت اليه زعامة الشيعة ورئاسة المذهب الامامي في كلّ الأقطار ، وخضع له علماء عصره وشهدوا له بالتفوّق والتقدّم.

فتخرج من معهد درسه في الفقه والأصول جم غفير ، انتشروا في الأنحاء والأرجاء الشيعية منهم : محمد حسين الكاظمي ، والشيخ علي الخليلي والمولى علي الكني ، وشيخ العراقين الطهراني ، ومرزا حبيب الله الرشتي. توفي في النجف الأشرف عام (١٢٦٦) ودفن بمقبرته الخاصة (٢).

__________________

(١) ترجم في روضات الجنات ١ : ٣٤ ـ ٣٧.

(٢) ترجم في كرام البررة ١ : ٣١٠ ـ ٣١٤.

١٧٨

٨ ـ السيد محسن بن حسن الأعرجي الكاظمي :

قرأ على السيد صدر الدين القمّي مؤلّف شرح الوافية ، وعلى الوحيد البهبهاني ، وتتلمذ لديه السيد صدر الدين العاملي والسيد عبد الله شبر ، ألّف المحصول في علم الأصول ، والوافي في شرح الوافية للفاضل التوني. توفي في الكاظمية حيث كان يسكنها عام (١٢١٤) (١).

الدور الثالث الذي هو أرقى الأدوار الثلاثة ، ورائد هذه المرحلة :

الشيخ الأنصاري :

وبما انّ هذا المحقق والمؤسس العظيم أوجد حركة لم يسبقه أحد اليها ، لذلك استعرضنا حياته العلمية في فصول بشيء من التفصيل.

نشأته :

نستعرض هنا موجزا من حياة شيخنا الأنصاري وبدء نشأته.

هو الشيخ مرتضى بن محمد أمين ولد عام (١٢١٤) في بلدة دزفول. كان والده الشيخ محمد أمين الأنصاري من أجلة العلماء في دزفول فقد عاش الشيخ مرتضى وتربّى في بيئة دينية وعلمية ، وكان لهذه البيئة أثرا خاصا في تكوين شخصية هذا الرجل العظيم.

دراسته :

تعلّم الدروس الابتدائية : المقدمات الأوليّة بعد الفراغ من علوم اللغة والأدب وعلم البلاغة والمنطق.

ثمّ شرع في الأصول والفقه ، وبعد دراستهما نال مرتبة سامية في مدة قليلة حتى

__________________

(١) ترجم في روضات الجنات ٦ : ١٠٤.

١٧٩

صار يشار اليه بالبنان.

أسفاره وأساتذته :

سافر العلامة الأنصاري بخدمة والده عام (١٢٣٢) وكان عمره يومذاك ثمانية عشر سنة الى زيارة العتبات المقدسة في العراق ، فلمّا وردا مدينة كربلاء وكانت في ذلك اليوم مركزا علميا مضاهيا للنجف الأشرف ، تشرّف الشيخ مع والده لزيارة السيد المجاهد حيث كان زعيم الحوزة العلمية ، وتعرّف السيد على الشيخ الأنصاري وقابليته واستعداده ، طلب من والده أن يمضي الى وطنه ويدع ولده في كربلاء ، امتثل والد الشيخ أمر السيد وترك ولده في كربلاء ليستفيد من درس السيد ، فواظب الشيخ الأنصاري في كربلاء على درس السيد ، وشريف العلماء مدة أربعة أعوام ، ثمّ سافر الى مسقط رأسه ، وبقي هناك ما يقرب من سنتين مشتغلا بالتدريس والتحقيق.

وعاد مرة ثانية الى مدينة كربلاء ليكمل دروسه ، فحضر درس شريف العلماء وبقي ملازما الاستفادة منه مدة عام واحد. ثمّ عزم على الذهاب الى النجف الأشرف وحضر درس الفقيه الشيخ موسى كاشف الغطاء ، فوجده بحرا متلاطما فاستفاد منه سنة كاملة.

ثمّ عاد الى وطنه ثانية ، وكانت الغاية من سفره هذه المرة التجوّل في أصقاع بلدان ايران العلمية والتعرّف بعلمائها حتى يطلع على الحركة العلمية في تلك البلاد ، فكانت أول بلدة دخلها هي مدينة بروجرد ، وبقي هناك شهرا واحدا ، ثمّ عزم على المغادرة قاصدا مدينة اصفهان ، وكان فيها الزعيم الديني يومذاك السيد محمد باقر الشفتي ، وحضر معهد درسه ، فلمّا تعرّف السيد بالشيخ الأنصاري أخذه الى داره وأكرم ضيافته ، وبقي هناك شهرا كاملا ، وكانت تجري بينهما محاورة ومناظرات علمية ، وكان السيد معجبا بآراء الشيخ ، وطول وسعة نظره.

ثمّ خرج الشيخ من اصفهان قاصدا مدينة كاشان ، ورد الشيخ الى بلدة كاشان ، وحضر درس العلامة النراقي ، الذي كان له في ذلك العصر الشهرة العظيمة في

١٨٠