الرسائل

الآقا حسين الخوانساري

الرسائل

المؤلف:

الآقا حسين الخوانساري


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: كنگره آقا حسين خوانسارى
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٧

(٢)

رسالة في مقدّمة الواجب

تأليف

المحقّق السبزواري

(م ١٠٩٠ ق)

٤١
٤٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي جعل سبيل الوصول إليه مشرعا للقاصدين ، وابتغاء وسائل الخيرات منهجا للطالبين ، والصلاة على خير الأنبياء محمّد مشيد بنيان اليقين وعلى آله أعلام الحقّ وأركان الدين.

يقول الفقير إلى رحمة الله الباري محمّد باقر بن محمّد مؤمن السبزواري : هذه مقالة في تحقيق مقدمة الواجب والإبانة عن الحق الصريح فيها بحسب وسعي وطاقتي جعلتها تبصرة لمن له همة في أمر الدين وتذكرة لمن له قدم صدق في تحقيق الحقّ ونيل اليقين والمرجو من الناظر فيه أن يلحظ بعين الهداية أو الاهتداء لا بكمون السخط والركون إلى الأهواء فانّ لنواقد الفطن جريا على منافد الهوى ، ولحوادث الميل تسلطا على أركان الطبائع القوى ، والهوى في طرق العلم أشد ما حذّر منه وأعظم ما وقي عنه ، فلينظر فيه بعين العدل والإنصاف والحذر من الجور والاعتساف مع إرجاع البصر واستفراغ النظر ، فإن وجده مقبولا فذاك المراد وإلّا فليحذر التكبّر (التنكّر خ ل) والعناد ، وليقصد الهداية والإرشاد فيكون بين مهتد أو هاد فانّ الله مرجع العباد وهو الموصل إلى طريق السداد.

اعلم أنّ الواجب بالنسبة إلى مقدمته قسمين مطلق ومشروط ، فالواجب المطلق بالنسبة اليها ما لم يقيد التكليف به لوجود ذلك الشيء والواجب المشروط بالنسبة إليها ما قيد التكليف به لوجود ذلك الشيء ولا خلاف في أن إيجاب القسم الثاني ليس إيجابا لشرائطه فإيجاب الزكاة بشرط بلوغ النصاب ليس

٤٣

تكليفا بتحصيل النصاب ، وإيجاب الحج ليس إيجابا لتحصيل الاستطاعة. إنّما الخلاف في مقدمة الواجب المطلق بشرط أن يكون مقدورا للمكلف فانّه إذا لم يكن مقدورا للمكلّف لم يكن التكليف بذي المقدمة تكليفا بها ، وهذا القيد لا يحتاج إليه إذا كان المراد بالواجب المطلق بالنسبة إلى الشيء ما لم يكن وجوبه مقيدا بذلك الشيء بحسب اللفظ ، إذ لو اريد بحسب الحقيقة لم يكن الواجب بالنسبة إلى مقدمة غير مقدورة واجبا مطلقا فلا يحتاج إلى التقييد.

ثمّ إنّ قدماء الاصوليين أطلقوا القول بأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، ولم يفصلوا بين القسمين ، والمتأخرين لم يرتضوا هذا الإطلاق وفصلوا كما ذكرنا ، ولعل هذا الإطلاق من القدماء مع انّه ليس إيجاب الواجب المشروط إيجابا لمقدمته عندهم أيضا ، مبنيّ على أن إطلاق الواجب عليه قبل تحقق الشرط مجاز خصوصا على رأي المعتزلة حيث زعموا أن الشرط إذا لم يتحقق لم يكن هناك وجوب تنجيزي ولا تعليقي.

ثمّ اعلم أن الخلاف وقع في وجوب مقدمة الواجب المطلق ، بمعنى أنّ التكليف بها هل يستفاد من التكليف بذي المقدمة أم لا؟ وليس الخلاف في وجوب المقدمة بمعنى لابدية فعلها بل بمعنى ترتب استحقاق الذم على تركها عند أصحابنا والمعتزلة ودخوله في مدلول الخطاب الشرعي عند الأشاعرة لا بمعنى تعلّق الخطاب بها أصالة وقصدا ، بل بمعنى تعلّقه بها تبعا والتزاما كتعلق الخطاب بالتابع في دلالة الإشارة.

والحق عندي وجوب المقدمة مطلقا سواء كانت سببا كالصعود للكون على السطح ، أو شرطا عقليا كنصب السلّم له ، أو عاديا كإدخال جزء من الرأس لغسل الوجه ، أو شرعيا كالوضوء للصلاة بمعنى ترتب استحقاق الذم على تركها ، أو

٤٤

تعلق الإرادة الحتمية بإيجادها على ما هو مناط معنى التكليف عندنا.

وأمّا الوجوب الشرعي فإن قصدنا به تعلق التكليف المدلول عليه باللفظ صريحا ومطابقة ، فالحق عدم الوجوب بهذا المعنى ، لكن ليس الخلاف في ذلك ، وإن قصدنا تعلق التكليف المدلول عليه باللفظ سواء كان الدلالة مطابقية أو التزامية مقصودة باللفظ فللتأمّل فيه مجال ، وإن جعلنا الدلالة شاملة للالتزاميّة المقصودة وغيرها كما في دلالة الإشارة فالحق الوجوب كما سنبيّن.

وبالجملة : الذي نبيّنه وجوب المقدمة بالمعنى المصطلح عند أصحابنا والمعتزلة ، ووجوبه الشرعي بالمعنى الذي ذكرنا ، وليس استنباط الحكم من الكتاب والسنّة منحصرا فيما يكون المستنبط مقصودا من الكلام فإنّهم عدّوا من أقسام المنطوق الغير الصريح دلالة الإشارة وفسروه بما يدل اللفظ على معنى بالالتزام ولا يكون المعنى الالتزامي مقصودا للمتكلم ، وضربوا لها أمثلة.

فمنها : قوله عليه‌السلام في النساء : إنّهنّ ناقصات عقل ودين ، فقيل : وما نقصان دينهنّ؟ قال : تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي ، أي نصف دهرها ، فدلّ على أنّ أكثر الحيض خمسة عشر يوما (١) ، ولا شك أنّ بيان ذلك غير مقصود ، لكن لزم ذلك من غرض المبالغة مع استدعاء الحال ذكر أكثر ما يتعلق به الغرض.

ومنها : قوله : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (٢) مع قوله : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (٣) علم منها أنّ أقل مدّة الحمل ستّة أشهر.

__________________

(١) أكثر أيّام الحيض عشرة أيّام بلا خلاف بين فقهاء الشيعة وقال الشافعي خمسة عشر يوما وبه قال مالك والرواية من طرقهم رووه عن علي عليه‌السلام ظ ، راجع تذكرة الفقهاء ١ / ٢٦ الطبع الحجري.

(٢) الأحقاف : ١٥.

(٣) لقمان : ١٤.

٤٥

ثمّ لا يخفى أن تحرير النزاع على الوجه الذي ذكرنا هو المعروف في كتب المتأخّرين.

ويظهر من كلام السيد المرتضى أن النزاع في بقاء الواجب المطلق على إطلاقه ، وربّما يقال : إنّ كلامه في «الشافي» صريح في ذلك دال على أن وجوب الواجب إنما يكون عند تحقّق المقدمات ولا يلزم عليه تحصيل المقدمات لا عقلا ولا شرعا. فعلى هذا لا يجب الصعود على السطح إلّا عند نصب السلّم وعند ترك نصب السلّم لا يكون عاصيا أصلا وهو الظاهر من كلام السيد ابن زهرة في «الغنية» ، ومن كلام المنقول في «شرح التهذيب» لشيخنا الشهيد رحمه‌الله عن القاضي عبد العزيز وعلى هذا لا مجال للخلاف في السبب فإنّ تقييد إيجاب المسبب لوجود السبب لا معنى له.

وحينئذ يرجع الخلاف إلى أنّ الواجب الذي لم يقيّد وجوبه بحسب الظاهر هل واجب مطلق بحسب نفس الأمر بالنسبة إلى مقدماته حتى يكون تاركه بترك المقدمات عاصيا ، أم لا يجب إلّا عند اتفاق وجود المقدمات فلا يكون تاركه بترك المقدمات عاصيا أصلا لا بتركه ولا ترك مقدماته ، بل لا يعصي إلّا عند تركه بعد فعل المقدمات ، ولا يبعد أن يكون هذا أيضا محل نزاع.

قال بعض الفضلاء (١) : «وتحرير محل النزاع على هذا الوجه صرّح الإمام الرّازي في بعض مختصراته ، وكأنّه اللائح من عبارة المنهاج وكلام شيخنا العلامة في النهاية مضطرب ، وربما فهم في محل النزاع منها تحقّق الخلاف على الوجهين».

فبالحري أن نحرّر الكلام على الوجهين ونذكر حجج الطرفين مع الإشارة إلى

__________________

(١) هو السيد البحراني. راجع ص ١٨.

٤٦

ما هو التحقيق عندي.

أمّا الوجه الأوّل : فالأقوال فيه أربعة :

أحدها : وجوبها مطلقا وهو مذهب الأكثر

ونسبه في «النهاية» إلى من عدا الواقفية والسيد المرتضى ، وربما نقل عليه الإجماع كما يظهر من كلام الآمدي ، وقد يدّعى البداهة فيه كما يظهر من كلام الفاضل الدواني في «شرح العقائد العضدية» ردّا على المحقق الشريف حيث سلّم وجوب المقدمة في السبب المستلزم دون غيره.

قلت : لا فرق بين السبب المستلزم وغيره فإن إيجاب الشيء يستلزم إيجاب ما يتوقّف عليه الشيء بديهة ويجري على قريب من ذلك كلام المحقق الطوسي في «نقد المحصل» حيث قال : «ما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به وكان مقدورا للمكلف كان واجبا عليه فإنّ الذي كلّفه الإتيان به كلف به كيف ما كان وهو قادر عليه من جهة تقديم ما لا يتم ذلك الفعل إلّا به فهو مكلف بذلك التقديم أوّلا وبذلك الفعل ثانيا» (١).

وثانيها : عدم الوجوب مطلقا ، ولم يظهر لي قائله بل ادّعى بعضهم الإجماع على وجوب الأسباب إلّا أنّه يظهر من بعض عباراتهم وجود الخلاف فيه أيضا.

وثالثها : وجوبها إن كان سببادون ما إذا كانت شرطا مطلقا وينسب إلى السيّد وقد عرفت ما في هذه النسبة.

ورابعها : وجوبها إذا كانت شرطا شرعيا دون ما إذا كانت شرطا عاديا أو عقليا وهو قول ابن الحاجب ، والقول بهذا ينقسم بحسب القول بوجوب السبب وعدمه إلى قولين ، فارتقى العدد إلى خمسة والمختار الأوّل وفيها وجوه :

__________________

(١) نقد المحصّل ص ٥٧ طبع ١٣٥٩ ش.

٤٧

الوجه الأوّل : أنّ مقدمة الواجب لو لم تكن واجبة بإيجابه يلزم أن لا يكون تارك الواجب المطلق عاصيا مستحقا للعقاب أصلا لكن التالي باطل وهو ظاهر فالمقدم مثله ، أمّا الملازمة فلأنّا نقول : إذا كلف الشارع بالحج مثلا ولم يصرح بإيجاب المقدمات فرضا فتارك الحج بترك قطع المسافة الجالس في بلده إمّا أن يكون مستحقا للعقاب في زمان ترك المشي إلى مكة عند التضيق ، أو في زمان ترك الحج في موسمه المعلوم ، لا سبيل إلى الأوّل لأنّه لم يصدر عنه في ذلك الزمان إلّا ترك المشي ، والمفروض أنّه غير واجب فلا يكون مرتكبا لقبيح فلا يكون مستحقا للعقاب ، ولا إلى الثاني لأنّ الإتيان بأفعال الحج في ذي الحجة ممتنع بالنسبة إليه فكيف يكون مستحقا للعقاب بترك ما يمتنع صدوره عنه ، إذ لا يتّصف بالحسن والقبح إلّا المقدور ، وأفعال الحج في ذي الحجة للجالس في البلد النائي عن مكة غير مقدورة ، ألا ترى أنّ الإنسان إذا أمر عبده بفعل معين في زمان معين في بلد بعيد والعبد ترك المشي إلى ذلك البلد فإن ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنه لم يصدر عنه إلى الآن فعل قبيح يستحق به التعذيب ، لكن القبيح أنّه لا يفعل في هذه الساعة هذا الفعل في ذلك البلد لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي وركاكة العقل ، بل لا يصحّ الضرب إلّا على الاستحقاق السابق قطعا.

ثمّ نقول : إذا فرضنا أنّ العبد بعد ترك المقدمات كان نائما في زمان الفعل فإمّا أن يكون مستحقا للعقاب أم لا ، لا وجه للثاني ، لأنّه ترك المأمور به مع كونه مقدورا له فثبت الأوّل ، فأمّا أن يحدث استحقاقه للعقاب في حالة النوم أم حدث قبل ذلك ، لا وجه للأول لأنّ استحقاق العقاب إنّما يكون بفعل القبيح وفعل النائم والساهي لا يتصف بالحسن والقبح بالاتفاق ، ولا وجه للثاني ، لأنّ السابق على

٤٨

النوم لم يكن الا ترك مقدمات الفعل مع أنّ المفروض عدم وجوبها.

لا يقال نختار أنه يستحق العقاب في زمان الحج مثلا.

قلتم : إنّ الحج في ذلك الزمان ممتنع بالنسبة إليه فكيف يستحق العقاب بتركه؟

قلنا : إن أردتم أنّ الحج في ذلك الزمان بشرط عدم المقدمات ممتنع بالنسبة إليه فمسلم ، لكن لا يجدي نفعا ، لأنّه لم يجب عليه الحج بهذا الشرط ، وإن أردتم أنّ الحج في زمان اتفق فيه عدم المقدمات ممتنع بالنسبة إليه فممنوع إذ يمكن مع انتفاء عدم المقدمات ، إذ فرق بين المشروط بشرط الوصف ، والمشروط بما دام الوصف ، فإن سكون الأصابع في زمان الكتابة ممكن وبشرط الكتابة ممتنع.

لأنّا نقول : غاية ما ذكرت أنّ الحج في ذلك الزمان ممكن لذاته والإمكان الذاتي لا يكفي مصححا للتكليف إذا تحقّق امتناع الفعل لعلّة سابقة على ذلك الزمان ، سواء كانت العلّة من فعل المكلف أو من فعل غيره والقائلون بامتناع التكليف بما لا يطاق لا يخصونه بالممتنع الذاتي على ما صرّحوا به مع أنّ أدلّة ذلك من القبح والسفه العقلي وانتفاء غرض التكليف وعدم إمكان تعلق الإرادة والميل النفساني جار هاهنا.

ألا ترى انّه إذا قيل يوم النحر للساكن في البلد النائي عن مكة : طف بالبيت هذه الساعة ، لنسب إلى ضعف الحلم ووهن اللب وليس المانع من هذا القول لفظيا بل المانع معنوي ، وبالجملة من أنصف من نفسه وراجع إلى عقله ولا يخالف بالتشكيك استقامة فطرته لا يشكّ في ذلك أصلا.

فإذا قيل : لم يفعل أمرا قبيحا يلومه العقلاء إلى يوم النحر لكن فعل في يوم

٤٩

النحر ما يلومه العقلاء ويعاتبونه وهو أنّه لا يطوف في هذا اليوم مع أنّه في البلد النائي عن مكة ، لحكمت بكذبه وخروجه عن القول المنقول والكلام المعقول من غير توقف ، على أن التقرير السابق الذي ساق إليه الكلام أخيرا لم يجر فيه هذا الاعتراض.

بقي هاهنا شكّان آخران : أحدهما : أنّ هذا الدليل لو تمّ لدلّ على أنّ تارك الحج بترك المقدمات لا يكون معاقبا بترك الحج ، بل بترك مقدماته فلم يكن الحج واجبا مطلقا مع أنّ المفروض خلاف ذلك.

وثانيهما : أنّ بطلان التالي ممنوع ، كيف وقد ذهب السيد المرتضى إلى خلاف ذلك كما حكى عنه سابقا ، فإثباته يحتاج إلى دليل.

والجواب عن الأوّل أنّا نقول : تارك الحج بترك الحركة إلى مكة إنّما يستحقّ العقاب بسبب ما يفضي إلى ترك الحج من حيث إنّه يفضي إليه ، لا أنّه يستحق بعد الاستحقاق المذكور استحقاقا ثانيا في زمان الحج ولم يثبت ذلك يحتاج بيانه إلى دليل ، وبالجملة كونه واجبا مطلقا يقتضي أن يكون استحقاق العقاب ناشئا من جهة تركه سواء كانت العلّة في حصوله نفس الترك أم سببه من حيث إنه يفضي إليه تدبر.

وعن الثاني أنّا نعلم أنّ السيد إذا قال لعبده : اسقني الماء إذا كان الماء على مسافة بعيدة ، فترك العبد قطع المسافة والسقي كان عاصيا مستحقا للذم.

الوجه الثاني : ما ذكره الرازي في «المحصول» والعلامة في «النهاية والتهذيب» وكأنه مأخوذ من كلام أبي الحسين البصري وهو أنّ تارك المقدمة بعد ترك المقدمة إما أن يبقى تكليفه بالفعل أم لا؟ والأوّل يستلزم التكليف بما لا يطاق والثاني عدم كونه واجبا مطلقا وكلاهما باطلان.

٥٠

ويرد عليه أنّا نختار الأوّل ولا يلزم التكليف بما لا يطاق لأنّ الممتنع التكليف به بشرط عدم المقدمة لا في زمانه ، وأيضا وجوب المقدمة لا يستلزم وجوده ، فعلى تقدير الترك إمّا أن يبقى التكليف أم لا ، إلى آخر ما ذكر ، فالإلزام مشترك ، وأيضا لنا أن نختار الثاني ولا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا إنما يلزم لو لم يتحقّق التكليف السابق بذلك الفعل مطلقا من غير تقييد ، ولا يتوقف على البقاء ، إذ كما أن رفع التكليف بانقضاء زمان الفعل لا يقدح في إطلاق التكليف يجوز أن لا يكون رفعه بانقضاء زمان صحة الصدور قادحا في ذلك ، ويمكن دفع الأوّل بما ذكرنا سابقا كيف وحقيقة التكليف عند العدلية إرادة متعلقة بالفعل على جهة الابتداء بشرط الاعلام والإرادة من الحكيم العالم كيف يبقى متعلقة بالشيء بعد زوال التمكّن منه.

الوجه الثالث : لو لم يجب مقدمة الواجب المطلق لزم أن لا يستحق تارك الفعل للعقاب أصلا لكن التالي باطل فالمقدم مثله.

بيان الملازمة : يحتاج إلى تمهيد مقدمة هي أن الآمر الطالب للشيء في زمان معين إذا لاحظ أنّ في ذلك الزمان يتصور أحوال مختلفة يمكن وقوع كلّ منها فإما أن يريد الإتيان بذلك الشيء في ذلك الزمان على أي تقدير من تلك التقادير ، أو يريد الإتيان به فيه على بعض تلك التقادير ، وهذه المقدمة ظاهرة بعد التأمّل التام وإن أمكن المناقشة والتشكيك في بادي النظر ، ولا ينتقض بالجزء والكل حيث لا يمكن تقييد وجوب الكل بوجود الجزء ولا تعميم وجوبه بالنسبة إلى حالتي وجود الجزء وعدمه ، لأنّ مرادنا بالحالات ما كان خارجا عن أحوال المراد مغايرا له.

إذا تمهّد هذا فنقول : إذا أمر الشارع بالإتيان بالواجب في زمانه وفي ذلك

٥١

الزمان يمكن وجود المقدمات ويمكن عدمها ، فإما أن يريد الإتيان به على أي تقدير من تقديري الوجود والعدم فيكون في قوة قولنا : إن وجد المقدمة فافعل وإن عدم فافعل. وإمّا أن يريد الإتيان به على تقدير الوجود.

والأوّل محال ، لأنّه يستلزم التكليف بما لا يطاق ، فثبت الثاني فيكون وجوبه مقيدا بحضور المقدمة ، فلا يكون تاركه بترك المقدمة مستحقا للعقاب لفقدان شرط الوجوب وفرض عدم وجوب المقدمة فانتفى استحقاق العقاب رأسا.

ويرد عليه : أنّ هذا الوجه لو تمّ لدلّ على انتفاء الواجب المطلق ورجوعه إلى المقيد لأن عدم المقدمة لما كان من جملة الأحوال التي امتنع صدور ذي المقدمة على تقديرها لم يصح تعميم وجوبها بالنسبة إليها ، ووجوب المقدمة وعدم وجوبها ممّا لا يؤثر في الفرق كما لا يخفى.

ولا يصح ما يلوح من كلام بعض العلماء من أنّ حال عدم المقدمة على تقدير وجوبها كحال عدم الفعل لأنّ الشيء لا يمكن تعميم إرادته وإيجابه بالنسبة إلى وجوده وعدمه ولا تقيده بأحد الحالين ، بخلاف الشيء بالنسبة إلى الأمر الخارج المنفصل عنه كما لا يخفى على المتأمّل.

ويمكن أن يقال : تعلّق التكليف بالشيء وبمقدماته تعلق واحد ينتسب إلى أحدهما بالذات وإلى الآخر بالعرض ولا يوجد إرادة متعلقة بذي المقدمة حتى نستفسر من إطلاقها وتقييدها ، بل هو في ضمن إرادة المجموع وليس عدم الجزء ووجوده من الحالات حتى يجري فيها الاستفسار المذكور.

وفيه نظر يظهر بالتأمّل التام.

والحقّ أن يقال : القدر الثابت من إطلاق الوجوب أنّ المأمور إذا تركه كان

٥٢

مستحقا للعقاب ، بسبب تركه ، أو بسبب ترك ما كان واجبا لأجله ، وما ذكرت لا يدفع ذلك ، وأمّا أن تعلق الإرادة به على سبيل التعميم فغير ثابت فالتزام خلافه غير قادح في المطلوب.

الوجه الرابع : حقيقة التكليف عند العدلية هي إرادة الفعل على جهة الابتداء بشرط الإعلام فالذي عليه مدار الإطاعة والعصيان هي الإرادة المتعلقة بالشيء والألفاظ إنّما هي أعلام دالّة عليها ، والعلامة قد يكون شيئا آخر من دلالة العقل أو نصب قرينة اخرى.

وذهب الأشاعرة إلى أن التكليف لا يستلزم الإرادة والدلالة عليها بل الطلب الذي هو مدلول صيغة الأمر شيء آخر وراء الإرادة يسمّونه كلاما نفسيا.

وعند المعتزلة والإمامية أنّه ليس هاهنا معنى يصلح لأن يكون مدلول صيغة الأمر إلّا الإرادة وقد طال التشاجر وامتدّ النزاع بينهم والحق مختار العدلية ، وتمام القول في ذلك متعلّق بفن الكلام ولا يسعه المقام ، وظنّي أنّه يكفيك مئونة التشاجر أن تراجع وجدانك عند حصول الأمر هل تجد في نفسك كيفية اخرى يصلح لأن يكون مدلول الصيغة أم لا ، فإنك عند التأمّل في النفس والكيفيّات والهيئات العارضة لها لم تجد شيئا كذلك ، فإذا تأمّلت وجدت العلم والقدرة والإرادة والكراهة والشهوة والنفرة والهم والغم والفرح ، إلى غير ذلك من المعاني المعلومة ولم تجد المعنى الذي يجعلونه مدلول الأمر ، نعم إذا تحقق الإرادة وتخلف إطلاق الصيغة لمانع فعند (عند) حدوث الصيغة يتوهم للاوهام اقتضاء حالة اخرى.

والتحقيق : أنّه لم يحدث في هذه الحالة للنفس كيفية اخرى إلّا العلم بالاعلام والعلم بعلم المأمور بالإرادة ، أو غير ذلك ممّا يتبع الاعلام التابع لإطلاق اللفظ ،

٥٣

فانظر هل تقدر أن تحدث تلك الكيفية في نفسك من غير إيجاد اللفظ وإطلاق الصيغة؟ فإن أجبت (اجريت خ) على القول بالأوّل ادعيت لنفسك ما ليس لك إليه سبيل ، وكيف تقول بالثاني مع أنك تعرف أنّه ليس علاقة عقلية بين وجود هذا اللفظ ووجود تلك الهيئة بل اللفظ كاشف عنه متأخر عنه في الوجود ، فيلزم أن يوجد أوّلا حتى يكشف اللفظ عنه ويدل عليه ، فلو كان شيئا موجودا لكان موجودا قبل اللفظ من غير توقف عليه ولا استلزم له.

وبالجملة : كيف يسوغ أن يكون مدلول الصيغة المتداولة عند الخاصّة والعامّة معنى نفسانيا لا يجده العقلاء من أنفسهم ولا يميزونه بعقولهم وأفكارهم؟ وهل هذا إلّا مكابرة واضحة يحكم الحدس الصحيح ببطلانه. وإذا ثبت أن إيجاب الشيء يستلزم إرادته ونحن نعلم قطعا أنّه إذا تعلّق إرادتنا الحتمية بوجود الشيء ونعلم أنّه لا طريق إلى إيجاده إلّا بإيجاد شيء معين لا يمكن أن يحصل إلّا به ، لتعلّق إرادتنا الحتمية بإيجاد ذلك الشيء البتة ، وهذا بديهي بعد ملاحظة الطرفين وتجريدها عن العوارض ، وإن حصل التوقف في بادي النظر فإذن ثبت أن إيجاب الشيء يستلزم الإرادة الحتمية المتعلقة بمقدماته فيكون المقدمة واجبة إذ ليس الواجب عند أصحابنا إلّا هذا.

الوجه الخامس : إذا أمر المولى عبده بالصعود على السطح في ساعة معينة فأخذ العبد في هدم البناء يذمّه العقلاء ويعيّرونه على الهدم المذكور من غير توقف ، وهذا علامة الإيجاب.

لا يقال : ذمّه على الهدم ليس لذاته بل لكونه موصلا إلى ترك الصعود.

لأنّا نقول : إذا ثبت الذم عليه ثبت إيجاب نقيضه ، وأما كون الذم عليه معللا باتّصافه بصفة الإيصال إلى شيء ما لا يقدح في ذلك كما لا يخفى.

٥٤

الوجه السادس : في الصورة المذكورة ينهى العاقل الخالص عن الاغراض عن الهدم المذكور نهيا إلزاميا ، والنهي الإلزامي عن العاقل الخالص عن دواعي الشهوة لا يكون إلّا لداعي الحكمة فلا يكون إلّا لقبح الشيء في نفسه كما تقرر في غير هذا المحل ، فيكون الهدم المذكور قبيحا فيكون نقيضه واجبا.

الوجه السابع : سنبيّن أنّ إيجاب المسبب يستلزم إيجاب السبب وكذا تحريم المسبب يستلزم تحريم السبب ، ويلزم من ذلك أن يكون إيجاب المشروط مستلزما لإيجاب الشرط لأنّ ترك الواجب قبيح وترك الشرط سبب مستلزم لترك الواجب والسبب المستلزم للقبيح قبيح على ما ذكرنا ، ويكون ترك الشرط قبيحا فيكون إيجاده واجبا.

وفيه مناقشة يندفع عند من أتقن اصول العدلية كما لا يخفى.

الوجه الثامن : إذا أمر المولى عبدين من عبيده لفعل معين في بلد بعيد في وقت معين وأخذ وأتم حجّة التكليف عليهما على نهج واحد فتركا المشي إلى ذلك البلد عند التضييق ثمّ اتفق موت أحدهما قبل حضور وقت الفعل وبقي الآخر ، فإمّا أن يستحقّا العقاب ، أو لم يستحقا ، أو استحقّ الحي دون الميّت ، أو بالعكس ، لا وجه للثاني لمنافاته لإطلاق الوجوب ، ولا إلى الثالث لمساواتهما في التقصيرات الاختيارية ، إذ نحن نعلم استواءهما في الإطاعة والعصيان وليس بينهما تفاوت إلّا بموت أحدهما وبقاء الآخر ، وهو بمعزل عن التأثير في الاستحقاق بمقتضى قاعدة العدل ، ولا إلى الرابع وهو ظاهر ، فثبت الأوّل ، وبذلك ثبت وجوب مقدمة الواجب.

الوجه التاسع : خلاصة ما استدل العدلية على استحقاق الثواب من أنّ إلزام المشقّة من غير عوض قبيح عقلا جاء هاهنا دال على حصول الثواب على

٥٥

المقدّمة والمنكرون لوجوب المقدمة ينكرون استحقاق الثواب عليها ، وبهذا الوجه يلزم مجرد الرجحان ، والتزام الوجوب يحتاج إلى انضمام مقدمة اخرى يمكن تحصيلها بأدنى تأمّل.

الوجه العاشر : من تأمّل في القواعد العمليّة ومارس المصالح الحكمية وجرّب التدبيرات الكلية وعرف مجاري احكام العقلاء وحكمهم ، عرف ان ما يجب رعايته والأمر به والإلزام عليه قد يكون مطلوبا بالذات ، وقد يكون مطلوبا بالعرض من حيث إنّه نافع في حصول الغرض الأصلي والمطلوب الذاتي ، فمن أراد تدبير عسكر أو بلد كما أنّه يأمر بالامور النافعة لهم المشتملة على خيراتهم وينهى عن الامور الضارة بهم ، كذلك يأمر بالامور المؤدية إلى خيراتهم ومعداتها وشرائطها والطرق الموصولة إليها ، وينهى عن امور مستلزمة لمضارهم المؤدية إليها والمستلزمة لا خلال مصالحهم المؤدية إليها ويريد ويكره على نسبة واحدة ، وأي مصلحة للشيء أشدّ من توقف المصلحة الذاتية عليه. ولما كانت المصالح مستلزمة للتكاليف الشرعية ، كما أنّ التكاليف الشرعية مستلزمة للمصالح عند العدلية كما ثبت في محله ، يلزم منه وجوب مقدمة الواجب.

ومما يؤيد وجوب المقدمة أنّ الندامة التي تحصل لتارك الحج عند ترك الحج قد تحصل له عند ترك المقدمات قبل حضور وقت الحج ، وهذا علامة الوجوب.

واستدل الآمدي على وجوب مقدمة الواجب بدعوى الإجماع على وجوب تحصيل الواجب ، وتحصيله إنّما هو بتعاطي ما يتوقف عليه ووجوب تحصيله بما ليس بواجب تناقض وللتأمّل فيه مجال.

واستدل بعضهم بأنه لو لم تجب يصح الفعل بدونها ، وهو محال لامتناع وجود الموقوف بدون الموقوف عليه.

٥٦

وفيه نظر ، لأنّ غاية ما يلزم من ذلك الوجوب بمعنى اللّابدية وهو غير محل النزاع.

وبأنّ المقدمة لا بدّ منها في الفعل فيمتنع تركها وممتنع الترك واجب والواجب مأمور به فالمقدّمة مأمور بها.

وضعفه ظاهر.

احتج أصحاب القول الثاني بوجوه :

منها : لو استلزم إيجاب الواجب إيجاب المقدمة لزم تعقل الموجب لهوإلّا أدّى إلى الأمر بما لا يشعر به واللازم باطل ، لأنّا نقول : نقطع بإيجاب الفعل مع الذهول عمّا يلزمه واجيب عنه بمنع الملازمة وإنّما يجب تعقل الموجب فيما أوجبه أصالة لا تبعا كما في دليل الإشارة وفيه تأمّل.

ويمكن أن يجاب بأنه إن أراد التعقل على الوجه المفصّل فالملازمة ممنوعة وإلّا فبطلان التالي ممنوع ، والحق أن يقال : إنّا لا ندّعي أنّ إيجاب المشروط إذا صدر عن أيّ آمر كان مستلزما إيجاب الشرط ، بل إنّه إذا صدر عن الحكيم العالم الشاعر كان مستلزما للارادة الحتمية المتعلقة بالمقدمة عند الشعور بكونها مقدمة له ، وهذا نظير ما يقال : إن إرادة الشيء يستلزم كراهة ضده عند ملاحظة كونه ضدا له وعلى هذا اندفع الاحتجاج.

ومنها : أنّ الواجب متعلّق الخطاب لأنّ تعلق الخطاب داخل في حقيقة الوجوب، لأنّه أحد أقسام الحكم فكل واجب متعلق الخطاب وينعكس بعكس النقيض ، إلى قولنا : ما ليس متعلق الخطاب ليس بواجب والشرط ليس بمتعلق الخطاب ضرورة أن الأمر المتعلق بالشيء ليس له تعلق بلازمه.

٥٧

والجواب عنه على اصولنا : أنّ الأمر بالشيء يستلزم الإرادة الحتمية المتعلقة به والإرادة الحتمية المتعلقة بالشيء يستلزم الإرادة الحتمية المتعلقة بمقدماته وليس الواجب عندنا إلّا متعلق الإرادة المذكورة ، سواء كان مدلولا عليها باللفظ أم لا وسواء كان دلالة اللفظ عليها مطابقة أو التزامية مقصودة بالدلالة أم لا.

إذا عرفت هذا ظهر عليك اندفاع الاحتجاج ، وأمّا على اصول الأشعرية فقد يقال : لا نسلم أنّ الواجب ما تعلق به الخطاب ، إذ قد يكون الشيء واجبا ولا يكون هناك إيجاب يتعلق بنفسه وفيه ما فيه.

وقد يقال : إن أراد بكون الواجب متعلق الخطاب كونه متعلقه أصالة منعناه ، وإن أراد أعمّ من ذلك سلمناه لكن المقدمة أيضا كذلك فإنّا ندّعي تعلق الخطاب به تبعا وهذا أقرب.

لا يقال : قد يطلب الشيء ويذهل عن المقدمة إجمالا وتفصيلا فلا يتعلق به الخطاب أصلا ، إذ التعلق بالشيء يستلزم الشعور به.

لأنّا نقول : لو سلم ذلك فنقول : ندّعي أنّ الدال على إيجاب الشيء يدلّ على إيجاب المقدمة التزاما ولا يستلزم في الدلالة الالتزامية من اللزوم العقلي بحيث يستحيل انفكاكه عقلا ، بل يكفي اللزوم العادي والعرفي وانتفاؤه هاهنا ممنوع.

ومنها : لو استلزم وجوب ذي المقدّمة وجوب المقدّمة لامتنع التصريح بعدم الوجوب لكن التالي باطل ، لصحّة أن يقال : أوجبت عليك الصعود ولم أوجب نصب السلّم.

وجوابه : أنّ من يدّعي الاستلزام المذكور كيف يسلم صحة القول المذكور إذا لم يمكن الصعود بدون نصب السلّم ، إذ هو في الحقيقة يئول إلى أن يقال : اريد أن

٥٨

يصعد ولا اريد أن يصعد فإنّ انتفاء اللازم في قوة انتفاء الملزوم ، ولو أمكن الصعود بدون نصب السلّم لم يكن القول المذكور قادحا لأنّ نصب السلّم حينئذ لم يكن من المقدمات والكلام فيها.

ومنها : لو وجبت المقدّمة لعصى بتركها وهو ظاهر والتالي باطل ، لأن تارك نصب السلّم عند الأمر بالصعود انّما يعصى بترك الصعود لا بترك نصب السلّم.

وجوابه : أنّه إن أراد بالعصيان بترك المقدمة أن ترك المقدمة سبب للعصيان من حيث إنّه ترك المقدّمة بحيث لو فرض عدم استلزامه ترك المشروط كان سببا للعصيان فالملازمة ممنوع ، وإن أراد أنّ ترك المقدمة سبب للعصيان من حيث إنّه سبب مستلزم لترك المشروط فمسلّم لكن بطلان التالي ممنوع ، فإنّا ندّعي أنّ ترك نصب السلّم سبب مستلزم لترتب العقاب واستحقاق الذم لكن الحيثية التي صار بها مستلزما للأمر المذكور كونه مستلزما لانتفاء المشروط لا ذاته من حيث ذاته ، وهذا هو المعنى الفارق بين الواجب لنفسه والواجب لغيره ، إذا لم يكن له وجوب آخر لنفسه.

ومنها : لو وجبت المقدمة لصحّ قول الكعبي بانتفاء المباح وادّعاء أنّ كلّ مباح واجب ، لأنّ ترك الزنا مثلا لا يمكن إلّا بفعل آخر ضده فيكون أحد هذه الأفعال موقوفا عليه للترك المذكور ولا يتمّ الواجب المطلق إلّا به فهو واجب فتكون هذه الأفعال واجبة تخييرا.

وجوابه : أنّا لا نسلم الملازمة وردّ كلام الكعبي غير متوقف على منع وجوب المقدمة ، فقد أجيب عنه ، بأنّ كلّ من المباحات والواجبات والمندوبات والمكروهات موانع من حصول الضد الحرام ، ولحصول الضد الحرام شرائط وأسباب كالتصور والشوق والإرادة ، وكما أن حصول الشيء يحتاج إلى تحقّق

٥٩

جميع أجزاء العلل فانتفاؤه بتحقق بانتفاء بعض العلل ، فترك الحرام يحصل بحصول إحدى تلك الموانع المذكورة أو بانتفاء شيء من العلل والأسباب المذكورة ، فإذا انتفى شيء من تلك الأسباب انتفى بانتفائه من غير توقف على حصول المانع ، وحينئذ كان وجود تلك الأشياء على ما هي عليه في نفسها من الوجوب أو الإباحة.

نعم إن فرض في بعض تلك الصور أنّ ترك الحرام لا يتصور إلّا بارتكاب شيء منها وذلك عند تصوّر الحرام ونزوع النفس إليه ، أمكن القول بصيرورة المباح حينئذ واجبا ولا ضير فيه ، إنّما الكلام في انتفاء المباح رأسا وصيرورته واجبا لا في اتصافه بالوجوب بسبب عروض بعض العوارض.

وفيه نظر ، لأنّ ترك الزنا مثلا أمر عدمي اعتباري لا يكون مناطا لحكم ولا مبدأ لأثر إلّا باعتبار الأمر الذي يكون منشأ لانتزاعه ، والأحكام الحقيقية الجارية على الامور العدمية إنّما هي باعتبار الأصل المأخوذ منه وبهذا الاعتبار صحّ التلازم بين الامور الوجودية والعدمية مع امتناع علية العدم للوجود وعكسه ، فالتكليف المقتضي لحسن المتعلق وكونه ممّا يباشره المكلف بقدرته وإرادته إذا تعلق بالعدم ظاهرا كان متعلقا بمأخذه حقيقة وليس ذلك إلّا السكون أو حركة اخرى ضد الحرام المذكور فيكون التكليف متعلقا بأحد الأمرين تخييرا.

وبالجملة : ارتكاب المكلف ترك الحرام ليس إلّا لمباشرته للسكون أو حركة آخر ضده ، فتعلق التكليف بالاولى عين تعلّقه بالثانية ، وكون علة الترك عدم الشوق والتصور والإرادة لا يستلزم عدم تعلق التكليف بالترك باعتبار منشأ انتزاعه كما لا يخفى ، ثم في جعل الأضداد مانعا من حصول الحرام نظر إذ لو كان

٦٠