الرسائل

الآقا حسين الخوانساري

الرسائل

المؤلف:

الآقا حسين الخوانساري


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: كنگره آقا حسين خوانسارى
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٧

وعدم اعوجاجه وربطه بأسلوب الكلام.

قوله [ص ٢٠٦] : وفيه أنّه لو كان المقصود هذا. الخ.

كانت المنافاة باعتبار كلمة «والأزيد» وأنت خبير بأنّ أمره سهل ، إذ القرينة قائمة في أنّ مراده بها الأشد أيضا ، ومثل هذه المسامحات في كلام الشيخ ليس بعزيز.

والظاهر في كلماته السابقة أيضا أنّه استعمل الأشدّ بمعنى الأزيد غير مرّة كما يظهر من النظر فيها.

ولو قيل : المنافاة باعتبار قوله في الكمّية ، إذ لو كان المراد ذلك لقال في الكمّ ففساده أيضا ظاهر.

وكيف يقال هذا ، مع قول الشيخ : ولست أعني بهذا أنّ كمّيّته لا تكون أزيد وأنقص من كمّيته ، ولكن أعني أنّ كمّيّته لا تكون أشدّ وأزيد في أنّها كمّية من اخرى. فافهم.

قوله [ص ٢٠٧] : ولا يختلف بالنسبة إليه. الخ.

قد عرفت أنّ عندهم ليس عدم اختلاف صدق الخط بالنسبة إلى أفراده مجرّد عدم اختلافه بالشدّة والضعف والزيادة والنقصان ، بل بالأولويّة الناشئة منها أيضا فلا يناسب التخصيص بالأوّل فقط.

قوله [ص ٢٠٧] : فلا يصحّ أن يقال هذا الخط. الخ.

فيه نظر ، إذ لا شكّ أنّا حين نقول : إنّ هذا الخط أطول من ذاك لا يخطر ببالنا نسبتهما إلى ثالث لا مطلقا ولا معيّنا ، ولو كان الطول في هذا الكلام بالمعنى الإضافي للزم تصوّر تلك النسبة قطعا. والقول بخطورها بالبال مكابرة. فتعيّن أن

٢٦١

يكون بالمعنى الحقيقي.

لا يقال : إذا قلنا زيد طويل فلا شكّ أنّه ليس معناه أنّ له امتدادا واحدا ، فلا بدّ أن يكون معناه أنّ له الطول الإضافي مع أنّ ما ذكرته من عدم خطور النسبة بالبال في المثال المذكور جار هاهنا أيضا والجواب الجواب.

لأنّا نقول : فرق بين المثالين إذ عند ما نحكم على فرد نوع بأنّه طويل فيلاحظ البتة نسبته إلى أبناء نوعه المتعارفة وزيادته عليها في الطول وهذه الملاحظة مركوزة في الخاطر وإن لم يكن ملحوظها ملتفتا إليه مفصّلا ، كما يشهد به الوجدان الصحيح بخلاف المثال المذكور ، إذ نعلم قطعا أنّ النسبة إلى ثالث ليست ملحوظة أصلا فيه لا مجملة ولا مفصّلة. والمنازع مكابر.

وأيضا نقول : لا شكّ أنّه إذا قلنا إنّ هذا الجسم أطول من ذاك يكون الطول فيه بالمعنى الحقيقي ، إذ لا مانع من إرادته فيه لا في الواقع ولا على زعم هذا القائل وأضرابه.

ولا يحتاج فيه إلى ملاحظة النسبة إلى ثالث مع أنّا لا نجدها من أنفسنا والوجدان حاكم بأنّا لا نجد تفرقة بين قولنا : هذا الجسم أطول من ذاك ، وقولنا :

هذا الخط أطول من ذاك ، بل نجد أنّ الطول في الصورتين متصوّر بنحو واحد فيكون فيه أيضا بالمعنى الحقيقي.

وما قال من أنّه لا يصحّ أن يقال : هذا الخطّ أخط من ذاك فلا دلالة له على المرام ، إذ بعض الألفاظ قد لا يتعارف استعماله في موضع مع تحقّق معناه فيه ألا ترى أنّه لا يقال أيضا أنّ هذا الجسم أخطّ من ذاك مع أنّ معناه صحيح قطعا. هذا.

وبما قرّرنا ظهر ما في كلمات الشيخ في هذا المقام.

٢٦٢

فإن قلت : أفعل التفضيل حكمه حكم الفاعل في أنّه يعتبر في معناه قيام المعنى فلا يصحّ إذن صدق «أطول» بمعناه الحقيقي على الخطّ ، إذ لا يقوم به الطول الحقيقي.

قلت : الظاهر أنّهم لا يلاحظون في العرف القيام هاهنا ، بل يطلقون أطول على كلّ ما يكون زائدا على غيره ، سواء كان امتدادا أو ذا امتداد كما يحكم به تتبّع استعمالاتهم من دون ريبة.

ثمّ لو سلّمنا عدم استعمالهم «أطول» بمعناه الحقيقي في الخط بناء على عدم قيام الطول به فيلزم منه أن لا يكون عدم استعمالهم هذا وكذا عدم إطلاقهم الخط عليه شاهدا لهم على عدم تفاوت صدق الخط على أفراده ، كما يتمسّكون به ويجعلون عدم استعمال صيغة أفعل التفضيل في الذاتيات مثل الخط ونحوه مؤيّدا لعدم اختلاف صدقها ، إذ على هذا نقول : إنّ عدم استعمالهم هذا لأجل عدم قيام المعنى المعتبر في صيغة التفضيل ، لا لعدم اختلاف الصدق فيجوز أن يكون الصدق مختلفا بالأولويّة مع عدم استعمال صيغة التفضيل لأجل عدم قيام المعنى. فافهم.

قوله [ص ٢٠٧] : نعم يمكن اعتبار الشدّة والضعف. الخ.

لا يخفى أنّ حمل الخط على معروضاته لا يتصوّر فيه الشدّة والضعف ، بل الأولوية ، فلعلّ مراده هذا.

قوله [ص ٢٠٨] : محل نظر إذ كونه. الخ.

هذا النظر ممّا لا موقع له لجواز أن يكون إطلاق الإضافي عليه باعتبار أنّ الإضافة أي الزيادة والنقصان تلزمه. فافهم.

٢٦٣

قوله [ص ٢٠٩] : وكذا عرفت بما ذكرنا ـ إلى آخر الحاشية ـ.

هذا كلّه مذكور في التعليقات مفصّلا فراجعه.

قوله [ص ٢٠٩] : أنت خبير بما فيه.

أنت خبير بأنّه ليس شيء فيه ، بل بيّنا في التعليقات أنّه محمل ظاهر لكلام الشيخ.

قوله [ص ٢٠٩] : لكن الاعتبار عنده بالأولويّة بحسب الحمل.

قد ظهر بما سبق أنّ بعض كلمات هذا القائل أيضا يدلّ على أنّه اختار طريقة صاحب الحاشية وبعضها على خلافه وفي كلامه تشويش ، وظهر أيضا أنّه إن لم يرجع طريقته إلى طريقة صاحب الحاشية يكون فسادها أظهر جدّا. فتذكّر.

قوله [ص ٢٠٩] : المراد بالأسود الموصوف بالسواد.

وعلى هذا يكون المراد أنّ الفحم له سواد بالنسبة إلى الهندي والهندي له بياض بالنسبة إليه.

وقد ظهر بما مرّ مشروحا أنّ السواد النسبي لا معنى له إذ لو جعل الكيفيات من المحسوسة ، وقيل إنّ نسبيته باعتبار لزوم النسبة له وجعل مغايرا للسواد الحقيقي.

ففيه أنّه لا معنى لوجود كيفيّتين محسوستين في السواد إلى غير ذلك.

ولو قيل : إنّه اعتباري محض ومعناه كون السواد على حدّ خاص يكون منشأ الاشتداد والضعف أو نفس الاشتداد والضعف.

٢٦٤

ففيه أنّ السواد لا يطلق في العرف واللغة على هذا أصلا ، بخلاف الطول والعرض والثخن ونحوها ، ومع قطع النظر عنه لا يصحّ حينئذ قول هذا القائل سابقا : إنّ السواد الحقيقي ليس مقولا بالتشكيك بالنسبة إلى معروضاته ، بل السواد النسبي على ما هو زعمه في القول بالتشكيك كما ظهر وجهه مشروحا.

قوله [ص ٢٠٩] : ويمكن حمله على أفعل التفضيل لكنّه لا يناسب. الخ.

صيغة أفعل من اللون لا يجيء بمعنى التفضيل ومع التسامح فيه لا أدري ما وجه كون جعلهم السواد الحقيقي جنسا للسوادين غير مناسب لهذا الحمل.

والصواب في الإيراد على هذا الوجه ما ذكرنا في التعليقات أنّ إطلاق أفعل التفضيل هاهنا لا يدلّ على كون السواد المعنى الإضافي ، إذ الأسود الذي يكون صدقة مختلفا على أفراده يكون اشتقاقه من السواد الحقيقي قطعا.

والوجه في توجيه كلام المحشي ، كأنّه حمله على المعنى الأوّل وجعل السواد النسبي الأمر الاعتباري الذي هو الكون على الحدّ الخاصّ أو ما يلزمه من النسبة ، ويقال إنّ مراده أنّ سواد الفحم أشدّ من سواد الهندي وفيه من البعد ما لا يخفى.

قوله [ص ٢٠٩] : فيه أنّهم ادعوا ذلك في الجسم الطبيعي لا في المقدار.

أنت خبير بأنّ اعتبار هذا المعنى لا تفاوت فيه في الجسم الطبيعي وفي المقدار وهو ظاهر.

هذا ما أردنا إيراده في هذا المقالة.

٢٦٥
٢٦٦

(٦)

رسالة في نفي الأولويّة

تأليف

آقا حسين الخوانساري

٢٦٧
٢٦٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه ثقتي وبعد لما كان نفي الأولويّة الذاتية وإثبات أنّ الممكن الموجود لا بدّ له من مؤثّر موجود وأنّه ما لم يجب لم يوجد من مهمّات المسائل (١) ويتفرّع عليه المطالب العظيمة بل يتعلّق به أصل الاعتقادات رأيت أن أفصّل القول فيه وأفرد له رسالة على حدة لمزيد نفع الطالبين وليكون ذخرا ليوم الدين فأقول مستمدّا من الله التوفيق :

اعلم أنّ الممكن الذي يخرج من تقسيم المفهوم هو ما لا يجب وجوده ولا عدمه نظرا إلى ذاته وهو أعم من أن يكون طرفاه متساويين في الواقع بالنظر إلى ذاته أو يكون أحدهما راجحا. ثمّ إن كان طرفاه متساويين فلا بدّ لوجوده من مرجّح موجود بالضرورة.

وأمّا أنّ ذلك الرجحان يجب أن ينتهي إلى حدّ الوجوب فسنبيّنه إن شاء الله بعد نفي الأولويّة الذاتيّة ، وإن كان أحدهما راجحا في الواقع بالنظر إلى ذاته فلنفرض أنّه الوجود ، فنقول حينئذ :

يتصوّر وجهان :

أحدهما : أن يكون الذات مقتضيا للرجحان.

وثانيهما : أن لا نقول إنّ هناك اقتضاء واستتباعا

، بل إنّ تلك الذات في

__________________

(١) راجع شرح التجريد للقوشجي ص ٤٦ الطبع الحجري.

٢٦٩

الواقع يكون الوجود راجحا بالنسبة إليه من دون استناد الرجحان إلى أمر سواء كان ذاته أو لا.

وبطلان الثاني ظاهر ، إذ ثبوت كلّ معنى لشيء ، سوى الذاتيّات لا بدّ له من علّة سواء كان نفس ذلك الشيء أو غيره ، فثبوت الرجحان إذن لا يمكن أن يكون بلا علّة.

فإن قلت : المقصود في هذا المقام إثبات احتياج الممكن في وجوده إلى مؤثّر موجود وحينئذ نقول : يمكن أن يكون ممكن يكون ثبوت الوجود له غير معلّل بعلّة ، لكن يكون ذلك الثبوت ممّا يجوز أن يرتفع جوازا مرجوحا حتى لا يلزم وجوبه. والمراد برجحان وجوده في الواقع هذا المعنى. ولا بدّ لنفي هذا الاحتمال من دليل ، إذ ما ذكرته لا ينفيه كما لا يخفى.

قلت : ما ذكرته كاف في نفيه لأنّ الممكن لا يمكن أن يكون عين الوجود وإلّا لم يكن ممكنا كما قرّر ، وإذا لم يكن عينه فلا بدّ لثبوته له من علّة على ما مرّ.

وأيضا يجري فيه بعض ما سيجيء في الشقّ الآخر فانتظر.

وأمّا الأوّل : فإمّا أن يقال : إنّ الذات مقتض لرجحان الوجود وبذلك الرجحان يوجد من غير احتياج إلى أمر خارج أو يقال : إنّه لا بدّ من أمر آخر.

وعلى الثاني : إمّا أن يحتاج إلى أمر موجود أو لا ، وعلى الثاني يلزم مطلوبنا وهو الاحتياج في الوجود إلى أمر موجود ولا يهمّنا الكلام في أنّ اقتضاء الرجحان ممكن أو لا. وأمّا أنّه لا بدّ أن يصل إلى حدّ الوجوب سبب ذلك الأمر فسيظهر فيما بعد.

وأمّا على الآخرين فنقول : إنّك قد عرفت أنّ الممكن لا يكون عين

٢٧٠

الوجود ، فلا بدّ لثبوته له من علّة كما مرّ. وظاهر أنّ علّة الوجوب لا بدّ أن يكون موجودا مقدّما وجوده على معلوله ، فحينئذ لا يمكن أن تكون العلّة هي الذات وإلّا يلزم تقدّم الشيء على نفسه ، ولا الأمر العدمي الخارج ، فلا بدّ من مؤثّر موجود وهو المطلوب ، وأمّا وصوله إلى حدّ الوجوب فسيجيء.

وثانيا : أنّ في الشقّ الأوّل إمّا أن يقتضي الذات الرجحان على سبيل الوجوب أو على سبيل الرجحان ، فإن اقتضى على سبيل الوجوب فلا يجوز تخلّفه عنه ، وإذا لم يجز تخلّف الرجحان عنه فلا يجوز وقوع الطرف الآخر فلا يكون ممكنا هذا خلف.

والملازمة الأخيرة ظاهرة.

وأمّا الملازمة الاولى :

فأوّلا : أنّه إذا كان الوجود راجحا بالضرورة يكون العدم مرجوحا بالضرورة ووقوع المرجوح محال بالضرورة.

وثانيا : أنّ وقوع الطرف لا يتصوّر بدون رجحانه في الواقع فعند وقوعه يتحقّق رجحانه ، والمفروض أنّ رجحان الطرف الآخر أيضا متحقّق في الواقع البتّة فيلزم تحقّق الرجحانين وهو اجتماع المتنافيين.

لا يقال : إنّ الرجحان الأوّل هو الرجحان بالنظر إلى الذات ، وهو لا ينافي رجحان الطرف الآخر في الواقع ، لأنّ الرجحان الأوّل أيضا هو الرجحان الواقعي لكن علّته الذات ، إذ لو لم يكن رجحانا واقعيّا فظاهر أنّه لا يكفي في الوقوع على ما هو المقصود في هذا المقام.

وأيضا نقول : إنّه مع وقوع رجحان الوجود إمّا أن يمكن وقوع العدم أو لا ،

٢٧١

فإن لم يمكن لم يكن الممكن ممكنا هذا خلف.

وإن أمكن فإمّا أن يكون بلا سبب أو لا ؛ والأوّل محال لاستحالة وقوع المرجوح بلا سبب ، وعلى الثاني يلزم أن يكون لعدم ذلك السبب دخل في وقوع الوجود فلم يكن الذات ولا الرجحان الناشئ منه كافيين في الوقوع ، هذا خلف.

لا يقال : لعلّ الذات يقتضي عدم ذلك السبب أيضا ، لأنّه إذا اقتضى الذات عدم السبب يكون عدم السبب واجبا بالنظر إليه ، فيكون ممتنعا بالنظر إليه فلا يكون ممكنا ، إذ امتناع العدم بالنظر إلى الذات مخرج عن الإمكان سواء كان بواسطة أو بلا واسطة وهو ظاهر.

وأمّا إنّ الذات لعلّه يقتضي عدم ذلك السبب على سبيل الرجحان دون الوجوب فيكون كافيا في وقوعه فيظهر حاله في أثناء إبطال الشقّ الآخر.

فإن قلت : لعلّ سبب العدم عدم الرجحان فيكون الوجود حينئذ موقوفا على عدم عدم الرجحان ، أي وجوده ، وهو كذلك فلا يلزم خلاف الفرض.

قلت : المفروض أنّ العدم ممكن في الواقع فلا بدّ أن يكون سببه أيضا ممكنا فيه ، وعدم الرجحان محال بناء على ما هو المفروض من كونه من مقتضيات الذات على سبيل الوجوب.

فإن قلت : لا نسلّم أنّه لا بدّ أن يكون لعدم سبب العدم دخل في الوجود ، بل هو من جملة المقارنات ، ألا ترى أنّ الوجود إذا كان علّة للوجود يكون سبب العدم عدم الوجود ولا يكون لعدم العدم الذي هو معنى غير الوجود دخل في علّة الوجود.

٢٧٢

قلت : مدخليّة عدم سبب طرف أو ما يلزم ذلك العدم في الطرف الآخر ممّا لا شكّ فيه ، وحينئذ نقول فيما نحن فيه : إن كان ذلك العدم أو ما يلزمه هو الذات ، أو الرجحان الناشئ منه فقد ظهر بطلانه وإن كان أمرا

آخر غيره ، يلزم عدم كفاية الذات والرجحان وهو خلاف الفرض. هذا.

وإن لم يقتض الذات الرجحان على سبيل الوجوب ، بل على سبيل الرجحان سواء كان الرجحان موجبا للوجود أو مرجّحا له أيضا ، فإمّا أن يكون كافيا في الرجحان أو يكون محتاجا إلى أمر آخر إمّا عدمي أو وجودي والأخير متضمّن لمطلوبنا من لزوم الاحتياج إلى مؤثّر موجود كما عرفت آنفا فلا حاجة بنا إلى نقضه وإبرامه وحال الوصول إلى حدّ الوجوب سيظهر عن قريب.

وعلى الثاني يرجع حال ذلك الممكن إلى تساوي الوجود والعدم بالنظر إلى ذاته كما لا يخفى فكما يحكم العقل بديهة بأنّ الممكن المتساوي الطرفين لا بدّ في وجوده من مؤثّر موجود ، فكذا هاهنا وهو ظاهر.

وعلى الأوّل نقول : إنّ عدم وقوع الرجحان إمّا أن يكون ممكنا بالنظر إلى الذات أو لا ، فإن لم يكن ممكنا كان الرجحان واجبا بالنظر إليه. هذا خلف.

وإن كان ممكنا فإمّا بلا سبب أو بسبب ، والأوّل محال بديهة ، وعلى الثاني يلزم أن يكون لعدم ذلك السبب دخل في وقوعه فيلزم عدم كفاية الذات.

فإن قلت : إذا كان اقتضاء الذات الرجحان على سبيل الرجحان يمكن أن يقال : إنّ علّة عدم الرجحان هو عدم رجحان الرجحان ، فيكون عدمه وجود رجحان الرجحان ، فعلى تقدير توقّف الرجحان عليه لا يلزم خلاف الفرض ، إذ يجوز أن يكون ذلك الرجحان أيضا من مقتضيات الذات على سبيل الرجحان ، وهكذا لا إلى نهاية ، فلا يلزم عدم كفايته ، إذ عدم الكفاية إنّما يكون عند توقّف

٢٧٣

الرجحان على أمر آخر غير الذات ومقتضياته ، وكذا إذا كان علّة عدم الرجحان غير عدم رجحان الرجحان لكن كان مقتضى الذات.

قلت : نمهّد أوّلا مقدّمة ، هي أنّه أن لا شكّ أنّ وقوع طرف من طرفي الممكن لا يمكن إلّا وأن يكون ذلك الطرف إمّا راجحا في الواقع أو واجبا ، والرجحان الواقعي ووجوبه إنّما يتحقّق بأن يكون جميع أنحاء عدم ذلك الطرف مرجوحا أو ممتنعا في الواقع وبعد تمهيدها نقول : على ما ذكرت يكون إمكان عدم الرجحان باعتبار وقوع سببه الذي هو عدم رجحان الرجحان ، سواء كان سببا موجبا أو مرجّحا وهكذا إلى غير النهاية فوقوع كلّ عدم باعتبار وقوع عدمات بلا نهاية ، وحينئذ وإن كان كلّ منها مأخوذا مع سببه وبشرطه يكون واجبا أو راجحا ، لكن ليس وجوبه ورجحانه واقعيّا ، بل بشرط ، إذ من جملة أنحاء عدمه عدمه في ضمن عدم جميع أسبابه ، ولا شكّ أنّه ليس ممتنعا وهو ظاهر ولا مرجوحا أيضا ، بل راجحا ، إذ المفروض أنّ الذات يقتضي الرجحانات على سبيل الرجحان ، فحينئذ لا بدّ إمّا من القول بأنّ الذات يمكن أن يتغيّر حالها بلا سبب ويصير عدم تلك الرجحانات واجبا (راجحا خ) بالنسبة إليه وهو محال بديهة ، أو بأنّه يصير بسبب كذلك ، وحينئذ يلزم خلاف المفروض من كفاية الذات في الرجحانات ويمكن أن يقال أيضا أنّه إذا أمكن أن يكون جميع الرجحانات منتفيا في الواقع فالعقل يحكم بديهة بأنّه لا بدّ من مخصّص آخر وراء تلك الرجحانات ، لوقوع سلسلة الرجحانات بدلا عن لا وقوعها كما لا يخفى على ذوي الانصاف المجتنبين عن الاعتساف.

ولا يخفى أنّه لو فرض صحّة منع توقّف أحد طرفي الممكن على عدم سبب الطرف الآخر ، لأمكن أن يقال : لا شكّ أنّه وإن لم يكن موقوفا عليه لكنّه

٢٧٤

من جملة مقارنات العلّة اللازمة لها ، وحينئذ لا يمكن أن يكون معلولا لغير الذات إذ ملزومه معلول للذات ، وعلى تقدير كونه معلولا للذات فاقتضاء الذات له إمّا على سبيل الوجوب فيلزم امتناع ذلك الطرف ووجوب الطرف الآخر هذا خلف. أو على سبيل الرجحان فننقل الكلام إليه ويتمّ الدليل. فتدبّر.

وأمّا الشقّ الآخر وهو أن يقتضي الذات الرجحان ولا يكون الرجحان كافيا في الوقوع ، بل لا بدّ من أمر عدمي. فنقول : إمّا أن يقتضي الذات الرجحان على سبيل الوجوب وقد عرفت أنّه يلزم حينئذ امتناع عدم الوقوع فيكون الرجحان كافيا في الوقوع بدون ذلك الأمر فيلزم خلاف الفرض من وجهين ؛ وإمّا أن يقتضيه على سبيل الرجحان وقد عرفت بطلانه أيضا ، وأنّه لا بدّ أن ينتهي إلى الوجوب فيلزم مثل ما يلزم في سابقه ، وقد قيل أيضا : إذا ثبت احتياج الممكن إلى الغير حينئذ فيلزم احتياجه إلى المؤثّر الموجود بالضرورة وإلّا لما أمكن إثبات الاحتياج إليه في صورة التساوي أيضا. وفيه تأمّل.

ولا يذهب عليك أنّه بما ذكرنا ظهر حال ما إذا كان ثبوت الوجود للممكن غير معلّل بعلّة ويكون مع ذلك عدمه جائزا ، لكن على سبيل المرجوحيّة. وكذا إذا كان معلّلا بالذات على سبيل اقتضاء الرجحان من دون أن يؤخذ الرجحان متوسّطا بينه وبين الذات ، ويجعل للذات اقتضاء بالنسبة إلى الرجحان إمّا بالوجوب أو بالرجحان ، لأنّ عدم الذات على التقديرين إمّا بلا سبب أو بسبب ، والأوّل محال بديهة ، والثاني يستلزم خلاف الفرض.

وظهر أيضا حال ما إذا كان للممكن مؤثّر موجود ولم يوصله إلى حدّ الوجوب ، بل إلى الرجحان ، لأنّه إمّا أن يكون ذلك المؤثّر موجبا للرجحان سواء كان الرجحان موجبا للوقوع أو مرجّحا له كافيا فيه أو غير كاف فيلزم امتناع

٢٧٥

الطرف الآخر لاستحالة ترجيح المرجوح. هذا خلف.

وإمّا أن يكون مقتضيا له على سبيل الرجحان على سبيل الكفاية أو بدونه ، سواء كان الرجحان موجبا للوقوع أو مرجّحا كافيا أو غير كاف ، فيلزم على تقدير الكفاية خلاف الفرض كما مرّ. وعلى تقدير عدمها ننقل الكلام إلى ذلك المؤثّر مع الغير فإمّا أن يكون المجموع موجبا فثبت المطلوب ، وإمّا أن يكون مرجّحا كافيا فيلزم خلاف الفرض ، وإمّا غير كاف فننقل الكلام إلى المجموع الآخر ، وهكذا إلى غير النهاية.

فنقول : مجموع تلك الامور الغير المتناهية إمّا أن يكون موجبا فيلزم المطلوب أو مرجّحا كافيا فخلاف الفرض ، أو غير كاف فيلزم عدم وقوع ذلك الممكن فتدبّر.

فإن قلت : ما ذكرت إنّما يتمّ إذا كان المؤثّر موجبا أمّا إذا كان مختارا فلا ، إذ لا يجري الدليل فيه ، لأنّ الفاعل المختار لما كان له أن يفعل وأن لا يفعل كان علّة كلّ من طرفي الفعل هو نفسه ، فعلى تقدير كونه كافيا في الفعل وكون الفعل غير واجب بالنسبة إليه إن قلت : إنّ عدم الفعل إمّا أن يكون ممكنا أو لا ، وعلى الثاني يلزم خلاف الفرض ، وعلى الأوّل فإمّا بلا سبب وهو محال أو بسبب فلعدمه مدخل في الفعل هذا خلف.

قلت : نختار أنّه بسبب ولا نسلّم أنّ لعدمه مدخلا في الفعل ، بل سبب الفعل وعدمه كليهما ذات الفاعل المختار وهو باختياره يفعل أيّهما شاء بلا وجوب ولزوم إمّا بلا حاجة إلى داع أصلا ، كما هو رأي الأشاعرة ، أو مع حاجة إليه ، لكن سواء كان راجحا في نظره على داعي الطرف الآخر ، أو مساويا له ، أو مرجوحا ، كما ذهب إليه بعض المعاصرين ، لا كما ذهب إليه المعتزلة من

٢٧٦

الاحتياج إلى داع راجح في نظره على داعي الطرف الآخر وكون ذلك الداعي موجبا له.

لا يقال : إنّ الفاعل المختار لا بدّ له من إرادة يرجح أحد طرفي الفعل على الآخر. فنقول : مع تلك الإرادة إمّا أن يصير المراد واجبا أو لا.

فإن صار واجبا ننقل الكلام إلى الإرادة وأنّ حصولها إمّا بالإرادة أو بدونها ، وعلى الثاني لا بدّ أن يكون حصولها واجبا على ما اعترف به من أنّ كلّ ما يصدر عن غير الفاعل المختار لا بدّ أن يكون على سبيل الوجوب ، وحينئذ يصير عين ما ذهبنا إليه من أنّ حصول الإرادة واجب بسببها وبعد حصولها يجب المراد فارتفع النزاع ، وعلى الأوّل يلزم التسلسل في الإرادات وهو مع بطلانه مخالف للوجدان بالضرورة ؛ لأنّا لا نجد في أنفسنا حال الفعل إلّا إرادة واحدة.

وإن لم يصر واجبا فعدم المراد إمّا أن يكون ممكنا أو لا والثاني خلاف الفرض والأوّل إمّا بسبب أو لا والثاني محال ، وعلى الأوّل يلزم الاحتياج إلى أمر آخر غير الإرادة ونسرد الكلام إلى آخر الدليل.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ الإرادة أمر موجود متوسّط بين الفاعل المختار وفعله ، بل هو أمر اعتباري ينتزع من الفعل حال وجوده ، وحينئذ لا يتمّ الاستدلال سواء قلنا : إنّه لا بدّ من داع أولا كما لا يخفى.

فإن قيل : إذا لم تكن الإرادة متوسّطة بين الفاعل وفعله يكون الفعل صادرا منه بلا إرادة واختيار فلا بدّ أن يكون على سبيل الوجوب كما اعترفت به.

قلت : ما اعترفت به أنّ ما يصدر عن غير الفاعل المختار لا بدّ أن يكون على سبيل الوجوب ، ولا نسلّم أنّ الفاعل المختار من يكون الإرادة متوسّطة بينه

٢٧٧

وبين فعله ويفعل بسبب الاختيار والإرادة ، بل من يكون عالما بالفعل ويكون له مع ذلك صفة يعبّر عنها بالتمكّن من الفعل والترك ، وهذه الصفة موجودة في كلا حالتي الفعل وعدمه ، ويفعل ويترك ذلك الفاعل الكذائي بنفسه من دون توسّط أمر آخر وبعد الفعل أو الترك ينتزع منهما أنّ الفاعل اختار ذلك الطرف فأوقعه ، فيكون الاختيار بهذا الاعتبار أمرا انتزاعيّا منتزعا من نفس الفعل وتركه بعد وقوعهما لا أنّه صفة حقيقية أو إضافية حاصلة في المختار مقدّمة على الفعل والترك.

قلت : حاصل ما ذكرت بطوله أنّ الفاعل المختار يفعل ويترك من دون تغيّر في ذاته وصفاته الحقيقيّة أو الإضافيّة المقدّمة على الفعل ، بل إنّما تتغيّر صفته الإضافيّة التي هي إمّا نفس الفعل والترك أو معنى آخر ، إمّا متأخّر عنهما أو حاصل في مرتبتها ، ولا يريب عاقل في أنّه لا يمكن أن يفعل أحد فعلا في وقت ولم يفعله في وقت آخر من دون تغيّر لا في عمله ولا في عقله ولا في تفكّره في العواقب وتفطّنه لبعض المصالح والمفاسد ، أو في اقتضاء سنّه ومزاجه أو في صعوبة الفعل وسهولته في الوقتين أو في معاشرته (١) أو في اقتضاء وقت الفعل والترك أو غير ذلك من الامور ، وكذا أن يفعل أحد فعلا في وقت ولا يفعل ذلك الفعل آخر مثله في جميع الأحوال والأوضاع في ذلك الوقت.

وهل تجويز هذا إلّا مكابرة صريحة ، بل سفسطة فضيحة ، وليت شعري أيّ ترجّح لترجيح أحد المتساويين بدون مرجّح على هذا في الامتناع ، بل هما متساويان في الاستحالة وعدمها فإمّا أن يجوزا معا أو يحكم بامتناعهما كذلك.

__________________

(١) كذا.

٢٧٨

ومن المنبّهات على بطلان هذا القول أنّه يلزم على هذا انتفاء فائدة التربية والنصائح والمواعظ والبشارات والانذارات والترهيبات والترغيبات المتكرّرة والمتكثّرة ، إذ حال الفاعل على هذا الرأي بعد حصول ألف ألف ترغيب وترهيب وبشارة وإنذار مثل حاله قبله بلا تفاوت أصلا كما يظهر بالتدبّر.

ولا شكّ أنّ في القول بانتفاء الفائدة في هذه الامور مخالفة لعقل كافّة ذوي الأذهان ، بل لجميع الشرائع والأديان أعاذنا الله منه.

وأيضا نقول : إذا اشتاق أحد إلى رؤية شخص والتذّ كثيرا من رؤيته فإذا وعد في المواصلة في وقت فلا شكّ أنّ قبل المواصلة يكون له اضطراب وتشويش خوفا من عدم تيسّر الرؤية والظفر باللذّة المتمنّاة بسبب خلفه للوعد ، أو حصول مانع من مرض أو غيره ، أو فتور في شوقه ومحبّته بسبب من الأسباب ، أو خلل في حسن ذلك الشخص وجماله وأمثال ذلك ، فإذا فرض أنّه قد حصل له العلم اليقيني بانتفاء جميع تلك الامور فلا ريب في أنّه يزول اضطرابه بالكلّية ويتيقن بحصول اللذّة المتوقّعة ، ولو لا أنّه ارتكز في جميع العقول خلاف هذا الرأي لما كان الأمر كذلك ، إذ مع انتفاء جميع تلك الموانع أيضا احتمال أن لا يراه بالاختيار باق بحاله ، فينبغي أن لا يزول اضطرابه أصلا ، ولو فرض أن يضطرب ويظهر أنّ سبب اضطرابه خوفه من أن لا يراه بالاختيار بلا مانع أصلا لضحك منه العقلاء ونسبوه إلى الجنون والسفاهة وهو ظاهر.

فظهر بما ذكرنا أنّ الممكن الموجود لا بدّ له من مؤثّر موجود وأنّه ما لم يجب لم يوجد ، وكذا ما لم يجب عدمه لم يعدم وأنّ الفاعل المختار أيضا يصدر منه الفعل والترك بالوجوب لكن لا ينافي اختياره كما حقّق في موضعه.

ثمّ هذا الوجوب الذي أثبتناه هل هو قبل الفعل أو مع الفعل؟ فيه إشكال.

٢٧٩

والظاهر أنّه قبل الفعل كما لا يخفى ، ولا توهّمن أنّه على تقدير عدم كونه قبل الفعل يكون هو الوجوب اللاحق الذي لا خلاف فيه فأيّ فائدة في إثباته لأنّ الوجوب اللاحق هو الوجوب بشرط الوجود وهذا وجوب مطلق واقعي بلا اشتراط بالوجود أصلا فتأمّل.

تمّت تحقيق مسألة أنّ الممكن مفتقر إلى مؤثّر موجود وأنّه ما لم يجب لم يوجد ولزم من هذا التحقيق نفي الأولويّة الذاتيّة. من جملة مصنّفات استاد البشر ، العقل الحادي عشر آقا حسين أدام الله ظلّه العالي.

وكتب بيمينه الجانية أحوج المربوبين إلى ربّه الغني ابن علي نقي بهاء الدين محمد الطغائي اوتيا كتابهما يمينا وحوسبا حسابا يسيرا.

٢٨٠