الرسائل

الآقا حسين الخوانساري

الرسائل

المؤلف:

الآقا حسين الخوانساري


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: كنگره آقا حسين خوانسارى
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٧

أكمل وأولى ، وإذا بلغت حدّ الامتناع فبطريق الأولى.

وبعد التأمّل فيما ذكرنا يستبان أنّ كون الذات موجبة لفعل الحسن أو القبيح بعد حصول العلم له بمنفعتها لا يقدح في استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب ، بل يؤكّده ويحققه كما أشرنا إليه.

فإن قلت : إذا قال الشخص الذي فرض أنّ ذاته موجبة لفعل القبيح بعد حصول العلم له بنفعه في مقام الاعتذار عن فعل القبيح وطلب التفصّي عنه : إنّي كيف أصنع وما الحيلة لي في الخلاص عنه ، فإنّي اريد أن لا أفعل القبيح لما أمكن لي ويصدر عن ذاتي القبيح البتة ، فحينئذ فما الجواب عنه ، وكيف يجوّز العقل في هذه الحالة لوم مثل هذا العاجز المبتلى الأسير بيد نفسه الأمّارة بالسوء فضلا عن عقابه؟

قلت : لو فرض مثل هذا القول منه فهو قول منه باللسان وحده وليس لقلبه منه عين ولا فيه أثر ، إذ لو كان أحد بحيث يريد أن لا يفعل القبيح لا يفعله البتة إلّا إذا كان مجبورا بالمعنى الذي ذكرنا سابقا وهو خارج عمّا نحن فيه.

وكذا لو كان أحد في طلب التفصّي عن القبيح والحيلة في تركه لما كان يفعله إذا كان مخلّى مع طبعه ، فالشخص المفروض الذي يفعل القبيح وإن كان مخلّى وطبعه ليس يميل طبعه ميلا جازما إلى جانب ترك القبيح البتة ، ولا يهمّه طلب الطريق للتفصّي عنه والحيلة في الخلاص منه.

كيف ولو كان كذلك لما كان هذا الشخص المفروض ، بل كان الشخص الذي ليست ذاته موجبة لفعل القبيح بعد حصول العلم له بمنفعته وهو ظاهر.

فإن قلت : إذا جعل الله تعالى ذاته كذلك فكيف يجوز بعد ذلك اللوم

٣٠١

والعقاب منه تعالى للشخص المذكور على فعل القبيح؟

قلت : ما جعل الله تعالى ذاته كذلك ، بل جعلها موجودة فإنّ كون ذاته كذلك ليس بجعل جاعل ، بل من لوازم ماهيّته.

فإن قلت : لم أوجد الله تعالى مثل هذا الذات؟

قلت : إيجاد مثل هذا الذات إذا كان فيه مصلحة ليس قبيحا ، إنّما القبيح جعل الذات كذلك ، وقد عرفت أن لا مدخل فيه للجعل ، وأمّا أنّه أيّ مصلحة فيه فهو من أسرار القضاء والقدر التي نهى عن الخوض فيها ولم يرخّص في الكشف عنها.

فإن قلت : الشخص الذي يصدر منه القبيح على النحو الذي ذكرت فعله القبيح على وجهين :

أحدهما : أن يكون ظلما على الغير.

والثاني : أن يكون ظلما على نفسه ، والظلم على الغير أيضا يستلزم الظلم على النفس ، فلنتكلّم على الوجهين جميعا.

فنقول : كلّ ما كان ظلما على الغير باعتبار نفسه لا باعتبار لازمه ـ لأنّه داخل في الوجه الثاني ونتكلّم عليه ـ يمكن أن يقال فيه : إنّه إذا كان مصلحة في إيجاد شخص يصدر منه ظلم على الغير على النحو الذي ذكرت ، لا فساد ولا قبح فيه ، إذا وصل إلى المظلوم عوضا عن ذلك الظلم من المنفعة والثواب بقدر ما يؤثره العقلاء على ذلك الظلم.

وأمّا إذا كان ظلما على النفس سواء كان لازما من الظلم على الوجه الأوّل أو لا ، فهذا أيضا على وجهين :

٣٠٢

أحدهما : أن يكون ذلك الظالم يصل إليه من النفع إمّا باعتبار استحقاقه له لأجل أفعاله الحسنة ، أو تفضّلا ممّا يوازي الضرر الذي يصل إليه باعتبار مكافاة ظلمه وأزيد بحيث يؤثره العقلاء عليه ، فإيجاد مثل هذا الظالم أيضا يمكن أن يقال : إنّه لا فساد فيه إذا اقتضته مصلحة ، وليس لهذا الظالم أن يقول لموجده حين الذم والعقاب : لم أوجدتني وابتليتني بهذا البلاء.

وثانيهما : أن لا يكون كذلك ، بل يكون ضرره أكثر ، كما في الكافر المستحقّ للعذاب الدائم ، فإيجاد مثل هذا لا يخلو عن إشكال ؛ لأنّه وإن صحّت جواز استحقاق الذات للعقاب باعتبار فعل القبيح وإن كانت الإرادة الموجبة للفعل الناشئة منها بطريق اللزوم ، لكن بعد السؤال باق ، بأنّ مثل هذا الذات المفروض ، له أن يقول لموجده حين الذم والعقاب : أنا ما كنت راضيا بالوجود فلم أوجدتني وأبليتني لمثل هذا البلاء العظيم مع علمك بأنّ ذاتي كذلك وليس عدم رضائي هذا ناشئا عن سفاهتي وقلّة عقلي ، بل كلّ العقلاء يؤثرون العدم على مثل هذا الوجود الذي يكون تمتعه نزرا يسيرا ، وبلاؤه طويلا كثيرا ، فحينئذ فما الجواب عنه وما الخلاص فيه؟

قلت : إن كان الأمر كما ذهب إليه بعض من أنّ الكفّار لا يعذّبون أبدا ، بل يخلصون منه آخرا وإن لم يخرجوا من النار ، لكن تحصل لهم حالة يلتذّون بسببها من النار كالسمندر.

فالجواب ظاهر ، إذ كلّ عاقل يرجّح الحياة الأبدية وإن كان مبتلى في بعض أوقاتها المتناهى بالعذاب الشديد مع حصول اللذة الطويلة المستمرة الدائمة الغير متناهية التي لا ألم فيها بعده على العدم ويؤثر عليه البتة ولا ينكره إلّا سفيه جاهل ، وإن كان هذا باطلا منافيا لضرورة الدين ومخالفا لإجماع

٣٠٣

المسلمين ، فحينئذ إمّا أن يقال : إنّه بعد ما ثبت أنّ الكافر والعاصي يصحّ استحقاقهما للعقاب وإن كان لذاتهما مدخل في حصول الكفر والعصيان على النحو المذكور ، فالعقل يحكم بأنّ إيجادهما لا فساد فيه أصلا بعد أن لم يجعل ذاتهما كذلك وإن علم موجدهما أنّه يصدر عنهما لذاتيهما امور يستحقّان بها العقاب الدائمي ؛ لأنّ صدور هذه الامور قد فرض أنّه باختيارهما ويستحقّان العقاب والذمّ عليه.

أو يقال : إنّ نعمة الوجود نعمة لا يوازيها نعمة ، فمن كان مبتلى بالعذاب الدائمي فنعمة وجوده راجحة عليه ومؤثرة عند العقلاء.

أو يقال ، كما يقول الحكماء : إنّ مثل هذه الشرور قليلة بالنسبة إلى الخيرات الكثيرة التي في العالم ولازمة في وجود العالم لا بدّ منها وترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير ، فلا جرم يلزم وجودها في الحكمة بالعرض وذات الباري تعالى مع كونه محض الوجود والخير يستلزم أن يكون شرّا قليلا لازما لخير كثير بالعرض.

ويمثّلون لذلك مثالا : هو أنّ من أراد بناء بيت فلا بدّ أن يعيّن موضعا للمخرج ولا يصحّ الاعتراض عليه بأنّه لم عيّنت هذا الموضع للمخرج؟ فهذا ظلم عليه.

أو يقال كما يقول الصوفية : إنّ لكلّ اسم من أسماء الله تعالى الحسنى مقتضى ومظهرا ، فتلك النفوس المبتلاة بالعذاب والقهر مظاهر اسمه القهار ونحوه كما قال العارف الشيرازي إمّا على طريق الحكمة أو التصوّف :

در كارخانه عشق از كفر ناگزير است

آتش كه را بسوزد گر بو لهب نباشد

٣٠٤

وهذه الأجوبة كلّها لا تخلو عن شيء سيّما الأخيرين وخصوصا الأخير.

أمّا على طريق الحكماء فلإباء العقل من أن يحسن إيلام شخص لأن يكون غيره في راحة وسرور ، وكيف يجوز أن يكون ذات الواجب تعالى مع كونه محض الوجود عندهم وبحت الخير ، مستلزما لمثل هذا الأمر. ولو جوّز مثل هذا لجوّز أن يكون ذاته تعالى مستلزما لشرور كثيرة ، إمّا مساوية للخيرات أو أزيد منها من دون تفرقة أصلا والفرق بين الشر القليل والكثير فيما نحن فيه لا وجه له قطعا.

نعم ، لو صحّ أحد الأجوبة الثلاثة السابقة على طريقة الحكماء عن الشبهة المذكورة ، ثمّ أوردت شبهة اخرى : هي أنّه كان ينبغي أن لا يكون شرّ في العالم أصلا لأنّ ذاته تعالى عين الوجود ومحض الخير والجود ومستلزم لوجود جميع ما في العالم إمّا بالواسطة أو بلا واسطة ، واستلزام مثل هذه الذات للشرّ غير معقول ، فحينئذ كلام الحكماء في دفعها مقبول ولعلهم أيضا أورده في هذا المقام ، والفرق بين المقامين واضح فتفطّن.

وأمّا طريق الصوفية ففساد ظاهره ظاهر ، إذ لا يرجع محصّله إلّا إلى أنّ ذاته تعالى باعتبار صفة من صفاته العلى يستلزم عذاب شخص دائما وهذا ممّا لا ينبغي أن يتفوّه به جاهل فضلا عن عاقل ، تعالى الله عمّا يقول الجاهلون. ولعلّهم أرادوا به غير ظاهره ، فيحالوا إلى باطنهم.

ثمّ لا يخفى أنّ الشبهة التي ذكرنا لا اختصاص لها بطريق المعتزلة القائلين : بأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد كما يتراءى بحسب الظاهر ، لأنّه على تقدير أن يكون الفاعل المختار مختارا في فعله من دون وجوب ولزوم أصلا ، أيضا يحكم العقل بأنّه لا يحسن من الحكيم القادر العالم بعواقب الامور أن يوجد أحدا يصدر

٣٠٥

منه أفعال يستحقّ بها العقاب الدائمي ، سواء قيل : إنّ فعله تعالى لمصلحة لأجل غير هذا الشخص أو لا. وكون صدور الفعل منه بالاختيار دون الوجوب واللزوم ، لا يؤثّر في حسن الإيجاد المذكور أصلا ، ولو فرض أنّه مؤثّر لكان الاختيار مع الوجوب واللزوم أيضا مؤثّرا كما ذكرنا في الجواب الثاني من الأجوبة المذكورة من دون تفرقة قطعا.

والحاصل أنّ هذا الجواب إن كان معقولا كان معقولا على الوجهين معا وإلّا فلا.

بل نقول : لا فرق في التحقيق بين الاختيارين في أصل استحقاق الثواب والعقاب أيضا مع قطع النظر عن الشبهة المذكورة وإن كان تبادر الأوهام العاميّة إلى الفرق بينهما ، بل لا يبعد ادعاء الفرق على عكس ما يتبادر إلى الأوهام بحكم حاكم العقل الصريح.

بيانه : أنّه على هذا الرأي أنّ الاختيار غير مشوب بوجوب ولزوم أصلا لا يكون صدور الفعل من الفاعل ـ عند التأمّل والرجوع إلى الإنصاف والعدول من الخلاف والميل إلى الوفاق ـ إلّا بطريق الاتفاق فلا مزيّة للصالح على الطالح بمجرّد أنّه اتّفق منه أن فعل فعلا صالحا دونه.

وكذا لا مزيّة له في وقت فعله الفعل الحسن عليه في وقت فعله الفعل القبيح ؛ لأنّه في هذا الوقت اتّفق هذا وفي ذلك الوقت ذلك.

وظاهر أنّ محض هذا الأمر لا يوجب مزيّة ولا استحقاق ثواب وثناء للصالح لا يستوجبهما الطالح ولا هو في وقت آخر ، بل يستوجبان نقيضهما وهذا بخلاف الرأي الآخر ، لأنّه على هذا الرأي يرجع المزيّة واستحقاق الثواب والثناء وعدمهما إلى تفاوت في ذاتيهما واختلاف في حقيقتهما ، ولا شكّ أنّ مثل هذا

٣٠٦

مستحقّ لأن يكون مصدرا لذلك كما عرفت مشروحا. هذا.

وقد بقي في المقام شيء ، وهو أنّ بعد ما عرفت أن لا تفاوت في ورود الشبهة المذكورة بين الرأيين ، بل في أصل استحقاق الثواب والعقاب والمدح والذمّ.

فحينئذ نقول : إنّ الخصم في مقام الردّ للشبهة المذكورة أو شبهة أصل استحقاق الثواب والعقاب والمدح والذمّ ، إمّا قائل بالحسن والقبح العقلي ، لكن لا يقول بأنّ الاختيار مشوب باللزوم والوجوب أصلا ، كما هو رأي الأشاعرة القائلين بجواز الترجيح بلا مرجّح فهو يورد الشبهتين على القائلين بالوجوب واللزوم على ما هو رأي بعض المعتزلة ، أو لا.

فإن كان هو الأوّل ، فلا يخلو إمّا أن يكون قائلا بالشرع أو لا ، وعلى الأوّل فلو فرض عدم تمامية الأجوبة المذكورة رأسا.

فنقول معه بعد معارضته بالأدلّة القطعية الدالّة على أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد أنّ هاتين الشبهتين تردان عليك أيضا ، بل الأمر عليك أشدّ كما قرّرنا فما هو جوابك فهو جوابنا ، غاية ما في الباب أن يكون شبهة نعجز نحن وأنت عن حلّها.

وعلى الثاني نقول معه : إن كان في المقام الأوّل أنّ الشبهة واردة عليك أيضا ، بل عليك أشدّ ، فما هو جوابك فهو جوابنا بعد معارضته بالأدلّة القطعية الدالّة على أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وإن كان في المقام الثاني فلا بدّ من التمسّك بأحد من الأجوبة المذكورة.

ولو فرض عدم تماميّتها فنقول : بعد ما ثبت الشرع بالأدلّة القطعية وثبت

٣٠٧

هذا الحكم من الشرع ضرورة فلا تسمع الشبهة في مقابله كما لا تسمع الشبهة في مقابل الضروريات العقلية ، كشبهة السوفسطائية ونحوها ، فلا يقدح عدم القدرة في حلّها في شيء.

وفيه شيء ، وهو أنّ [بعد] إثبات الشرع بالدليل فإذا فرض أنّ خلود الكفّار ثبت ضرورة من الشرع ، فليس الأمر ما (ممّا ظ) لا تسمع الشبهة في مقابله ، لأنّ ما لا تسمع الشبهة في مقابله هو الضروري الأولى وهذا ليس كذلك كما لا يخفى.

فإن قلت : ما معنى قولهم : إنّ الشبهة لا تسمع في مقابلة الضروري وأنّ العجز عن حلّها لا يقدح في ضروريّته والقطع به. أليست الشبهة أيضا مبادئها الأوّليّة مقدّمات يدّعي المشكّك بداهتها ضرورة ، فإن كانت بديهة تذعن بها بأحد الوجوه الستّة المشهورة في البديهيّات فآل الأمر إلى تعارض البديهيين فلم لم يسمع تجادلهما ولم لم يصغ إلى تحاورهما؟

وإن لم تذعن ، بل تولي وتنكر فهو بعينه الجواب عن الشبهة وحلّها ، لأنّ مرجع عدم الإذعان إلى المنع الذي هو وجه دفع الشبهة ورفعها وطريق قطعها وقمعها ويرد حاكم العقل دعواها بمجرّد هذا الإنكار من دون حاجة إلى يمين أو سند وشاهد يقوي الاعتبار ، فكيف يجتمع إذن العجز عن حلّ الشبهة وجوابها مع عدم الإصغاء إلى قولها والالتفات إلى خطابها ، إذ في الصورة الاولى تكون قويّة معتبرة وفي الثانية مقهورة منكسرة ولا مخرج عن الصورتين وفيهما جميعا لم يلزم اجتماع الأمرين.

قلت : عدم الالتفات إلى الشبهة في مقابل الضرورة كان له معنيين :

أحدهما : أنّ مقدّمة إذا كانت بديهيّة في نظر العقل فلا يلزم حينئذ الالتفات إلى الشبهة التي تردّ عليها والتعرّض لدفعها ، ضرورة أنّها باطلة البتة ، وعند

٣٠٨

الالتفات يظهر وجه دفعها فلا حاجة حينئذ إلى الالتفات إليها.

وفيه ما فيه ، إذ مع عدم كونه مطابقا لقولهم : العجز عن حلّ الشبهة لا يقدح في ضرورية الضروري ليس موافقا للواقع أيضا ، إذ كثيرا ما يكون الشبهة الواردة في مقابل الضروريات بحيث لا يمكن لكثير من الناس حلّها ولا يهتدون الطريق إلى دفعها مع الالتفات والتوجّه إليها مدّة مديدة ومرارا عديدة ، كشبهة جذر الأصم التي قرعت سمع أكثر العلماء في كلّ عصر ولم يسمعوها همهمة الحلّ وقعقعة الكسر.

وثانيهما : أنّ المقدّمة البديهية قد يكون رسوخ العقل فيها وجزمه بها بحيث لا يزول بمعارضة كلّ معارض ، بل ما وقع في مقابله وإن كان بحيث يجزم العقل به لو لم تكن تلك المقدّمة في مقابله يضمحلّ القطع به ويزول الجزم فيه بسبب تلك المقابلة ، وذلك ظاهر بالرجوع إلى الوجدان وملاحظة تفاوت مراتب الجزم واليقين بعين العيان.

مثلا عدم إمكان اجتماع النقيضين وكون الواحد نصف الاثنين من هذا القبيل ضرورة من دون ريب ومين.

وحينئذ نقول : الشبهة التي وقعت في مقابلة مثل تلك المقدّمة يمكن أن يكون مقدّماتها بحيث لو لم يكن في مقابلة تلك المقدّمة ومعارضته لها يجزم العقل بها ، لكن بعد تلك المقابلة لم يجزم بها بمجرّد تلك المقابلة ، بل يعلم قطعا أنّها باطلة ، وإنكار العقل لها بمجرّد تلك المعارضة ليس من المنع المصطلح الذي يكفي في دفع الشبهة ورفعها ، إذ المنع المصطلح الذي هو مناط الحلّ هو الإباء الذي لا يكون باعتبار المعارضة للمقدّمة التي وردت عليه الشبهة ، فظهر إذن جواز اجتماع العجز عن حلّ الشبهة مع عدم الالتفات إليها.

٣٠٩

فإن قلت : إذا جاز أن يزول الجزم بشيء باعتبار مقابلته لما هو أقوى منه جزما فيلزم أن لا يحصل جزم بأمر أصلا ، إذ كل ما يجزم العقل به يمكن أن يوجد ما هو أقوى منه. وعند تجويز ذلك لا يحصل القطع البتة.

قلت : لا شكّ أنّ بعض المقدّمات البديهيّة بحيث لا يجوز العقل أن يوجد ما هو أقوى منه ، كالمقدّمتين اللتين ذكرناهما ، وإنكاره سفسطة ، والبعض الآخر الذي ليس كذلك فلا نضايق في أن لا يسمّى الاعتقاد به جزما.

أو يقال : إنّه يسمّى بالجزم باعتبار أنّه مجزوم به مع قطع النظر عن حصول المعارض الأقوى. أو يقال : إنّ كلّما يجزم العقل به وإن لم يكن بمنزلة هاتين المقدّمتين أيضا ما لم يطّلع على معارضه الذي هو أقوى منه ، لم يجوّز وجود معارض له أقوى منه.

فإن قلت : إذا أمكن أن يكون العقل يجزم بشيء ولم يجوّز وجود معارض أقوى منه ، ثمّ يطّلع على معارض أقوى منه ويرتفع جزمه الأوّل فحينئذ يجري هذا الاحتمال في كلّ بديهي مجزوم به حتى المثالين المذكورين أيضا من دون تفاوت ، فيلزم ارتفاع الجزم رأسا.

قلت : يمكن أن يقال : إنّ الجازم بشيء متى كان جازما به لا يجوز أن يحصل له أمر يكون سببا لارتفاع جزمه مع وجود عقله بحاله ، وإن شاهد أنّ جزمه بالأشياء قد زال بسبب ظهور المعارضات ألف مرّة كما يحكم به الوجدان.

وبهذا اندفع أيضا ما قيل : إنّ الجهل المركّب لا جزم فيه ، وإلّا لزم ارتفاع الجزم بالكلّية بمثل البيان المذكور. هذا.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ زوال الجزم لا ينحصر في ظهور معارض أقوى منه ،

٣١٠

بل له أسباب شتّى ، مثل أن يعتقد في مقدّمة أنّها من الأوّليات ، ثم ظهر أنّ الإذعان بها باعتبار مجاري العادات ونحو ذلك ، وعلى هذا القياس إبطال الشبهات القويّة أيضا ليس منحصرا في اضمحلال القطع بها في مقابلة القطع بما هو أقوى منها ، بل يكون بزوال القطع بمقدّماتها بنحو ما ذكر ، أو بظهور عدم المنافاة بينهما وبين المقدّمة الموردة عليها الشبهة باعتبار الاطلاع على الغفلة عن رعاية شرط أو لحاظ حيثيّة أو غير ذلك.

وبما ذكرنا مشروحا ظهر أنّ عدم الالتفات إلى الشبهة لا يختصّ بأن تكون الشبهة في مقابلة مقدّمة ضرورية ، بل إذا كانت أيضا في مقابلة مقدّمة نظرية يكون مقطوعا بها ، بحيث لا يجوز وجود معارض أقوى منها ، أو لا يكون مقدّمات الشبهة في قوّتها لكان حكمها كذلك.

بل هذه المعارضة أيضا ترجع إلى المعارضة مع المقدّمات الضرورية التي هي مبادئ تلك النظرية كما لا يخفى.

وعلى هذا يمكن أن يقال : مقدّمات إثبات الشرع أقوى عند العقل وأرجح من مقدّمات تلك الشبهة كثيرا ، وأيضا يجوّز العقل أن يكون لإيجاد الكافر المبتلى بالعذاب الدائم جهة محسّنة لم يعلمها ولم يهتد السبيل إليها مع قطع النظر عن المعارضة ، وحينئذ فقد انحلّت عقدة الإشكال ووطئت الشبهة بأقدام الاضمحلال. فتدبّر.

وإن كان هو الثاني (١) فهو أيضا إمّا قائل بالشرع أو لا ، وعلى الأوّل إن كان كلامه في المقام الأوّل ، فنقول بعد الجواب المذكور : إنّ تحقّق الحسن والقبح

__________________

(١) أي لا يكون قائلا بالحسن والقبح العقلي.

٣١١

العقلي ضروري. وكذا صحّة استحقاق المدح والذمّ لنا على أفعالنا ، فشبهتك شبهة في مقابلة الضرورة العقلية فلا يستحقّ الإصغاء بالآذان ولا يستوجب الجواب باللسان.

وإن كان في المقام الثاني فجوابه بعد الجواب المذكور مثل ما في الشقّ السابق من دون تفاوت.

وعلى الثاني فإن كان كلامه في المقام الأوّل فالكلام معه أيضا كالكلام مع سابقيه ، وإن كان في المقام الثاني ، فإن كان غرضه نفي عقليّة الحسن والقبح بناء على ما ورد في الشرع إلزاما علينا ، فجوابه أيضا مثل سابقه كما لا يخفى.

وإن كان غرضه نفي الشرع ـ معاذ الله ـ بناء على قاعدة عقلية الحسن والقبح إلزاما أيضا.

فنقول في جوابه مثل ما قلنا آنفا في قولنا : وإن كان في المقام الثاني فلا بدّ من التمسّك إلى آخر ما في هذا المقام. هذا.

فإن قلت : ما فائدة العقاب والذم؟

قلت : أنت أيّها القائل من أي قبيل أنت؟ أمن الذي يقولون بالحسن والقبح العقليين وكون الفعل لا يصدر إلّا بالوجوب واللزوم الحتميين ، وغرضك تحقيق الحال لا الإلزام والجدال ، أو لا؟ فإن كنت منهم فنقول أوّلا : لا يلزم أن يكون كلّ فعل حسن له فائدة ، بل يجوز أن يكون فعل حسنا في نفسه ، فإذن يجوز أن يكون ذمّ المسيء وعقابه حسنا في نفسه وإن لم يكن له فائدة.

وثانيا : إنّ فعل القبيح إن كان من قبيل الظلم على الغير ففائدة الذمّ والعقاب عليه ظاهرة لأنّه انتصاف للمظلوم وتشفّ لخاطره.

٣١٢

وإن كان غيره فلعلّ فائدته في العاجل إصلاح المعاقب وردعه وزجره عن القبيح ثانيا ، لأنّ ما قلنا : إنّ ذات الفاعل يوجب الفعل ليس معناه أنّه لا يمكن أن ينفكّ عنها ذلك الإيجاب ، بل يجوز أن يرتفع عنه ذلك الإيجاب بسبب التنبيهات والتهديدات والمواعظ والنصائح والتوبيخات والتثريبات والترهيبات والترغيبات والحدود والعقوبات ، وليس جواز هذا الانفكاك بقادح في شيء ممّا ذكرنا وقدّمنا سابقا أصلا.

وأمّا في الآجل ، فإن كان المعاقب ممّن يخلص عن العقاب آخرا ، فلعلّها أيضا إصلاحه ، إذ يجوز أن لا يكون بدون ذلك الإصلاح قابلا لدخول الجنّة ولا لإبقائها ، وإن لم يخلص عنه فالخلاص مشكل.

وإن لم تكن منهم ، فإن كنت من القائلين بالحسن والقبح لكن لا تقول بشوب الاختيار بالوجوب واللزوم وغرضك الإلزام ، فإمّا أن تعترف بالشرع أو لا ، فان تعترف بالشرع ، فنقول بعد طيّ ما ذكر : إنّ إلزامك علينا لا وجه له ، لأنّه وارد عليك أيضا بلا تفرقة أصلا ، وإن لم تعترف به فإن كان كلامك في العذاب الدائم فأنت أيضا مبتلى به ، فبأيّ شيء تلزمه علينا؟ وإن كان في العذاب الدائم وبغيتك ـ معاذ الله ـ إبطال الشرع على هذه القاعدة ، فجوابك قد ظهر ممّا قدّمنا.

وإن لم تكن من القائلين بالحسن والقبح العقليين ، فإمّا من جملة المعترفين بالشرع أو لا؟

وعلى الأوّل نقول : غرضك بالحقيقة إبطال تلك القاعدة ، فبعد الإغماض عمّا ذكرنا نقول : إنّ تلك القاعدة ضرورية عقليّة لا يصغى إلى الشبهة فيها كما أسمعناك غير مرّة.

وعلى الثاني : فإن كان الكلام في العذاب الغير الدائم ، فإن كان المقصود ـ

٣١٣

حاشا منه ـ إبطال الشرع ، فالجواب ما مرّ من الكلام.

أو يقال بعد الإغماض عنه : إنّ بعد ثبوته بالأدلّة القطعية وحكم الضرورة بالحسن والقبح العقليين وصحّة استحقاق الذم والعقاب والمدح والثواب ، الشبهة عليه في مقابله الضرورة فلا تسمع ، وكذا إن كان المقصود إبطال تلك القاعدة.

وإن كان الكلام في العذاب الدائم فالغرض إن كان إبطال تلك القاعدة بناء على ما ثبت في الشرع إلزاما ، فالجواب مثل ما مرّ بعينه ، وإن كان عكس ذلك فما قبل الإغماض فهو باق بعينه.

وأمّا ما بعده فيمكن إجراء نظير ما سبقه فيه أيضا ، لكن فيه الشيء الذي أشرنا إليه سابقا مع ما فيه. فافهم.

فإن قلت : على ما قرّرت أنّ الذات لها مدخل في وجوب الفعل والمدح والثواب والذم والعقاب ، والتفاوت بين المحسن والمسيء والمزيّة للصالح على الطالح باعتبار التفاوت بين الذوات واختلافها بالاستعدادات والقابليات.

فنقول : إذن يلزم أن تكون الذوات التي لا عقل لها أيضا باعتبار استيجابها الخيرات والشرور ، مستحقّة للمدح والثواب والذم للعقاب ، مثلا تكون الحيّة والعقرب باعتبار استيجابهما لإيلام الحي مستحقّين للذمّ والعقاب ، وكذا يلزم أن يكون الإنسان الذي يكون ذاته مستوجبة لفعل القبيح مستحقّا للذمّ والعقاب وإن لم يصدر منه القبيح ، إذ بناء الاستحقاق للمدح والذمّ والثواب والعقاب على ما ذكرت على الذات والتفاوت ما بينهما ولا دخل فيه للعقل ولصدور الفعل أصلا ومثل هذا لا يقول به من له أدنى عقل.

قلت : إن قلت هذا وغرضك رفع اختلاط الاختيار مع الوجوب وإيقاع

٣١٤

التفاوت بينهما مع قولك بالحسن والقبح العقليين والاختيار الصرف ، فجوابك أوّلا أنّه وارد عليك أيضا في الحقيقة ، إذ قد علمت أنّ استحقاق المدح والذمّ والثواب والعقاب على رأيك بمجرّد أن اتّفق صدور الفعل عن الفاعل وان كان يمكن أن يتّفق صدور نقيضه. وظاهر أنّ العقل لا يجد حينئذ تفاوتا بين الإنسان والحيوانات العجم أصلا ، إذ كما أنّ زيدا مثلا اتّفق أن قتل عمروا ، وكان يمكن أن يتّفق أن لا يقتل ، كذلك الحيّة اتّفق أن قتلته مع الإمكان المذكور ، والوجوب وعدم الوجوب لا يؤثّران فيما نحن فيه أصلا.

ألا ترى أنّ الحيوانات العجم أيضا لا وجوب في أفعالها على رأيك مع أنّها لا تستحقّ المدح والذم والعقاب والثواب.

وثانيا : أنّ العقل يحكم بديهة بأنّ الشخص الذي يصدر منه الفعل الحسن باعتبار علمه بأنّه حسن وكون ذاته بحيث يقتضي أن يفعل ما يعلمه حسنا هو فاضل خيّر مستحقّ للثواب والثناء.

وكذا الشخص الذي يصدر منه القبيح مع علمه بأنّه قبيح وكون ذاته بحيث يقتضي أن يفعل ما يعلمه قبيحا هو رذل شرّير مستحقّ للذمّ والعقاب.

وأمّا ما يصدر منه الخير والشر من دون علم وشعور فلا يحكم له بفضيلة له ولا رذيلة ولا مدح ولا ثواب ولا ذم ولا عقاب ولا يلزم من حكمه بها في الأوّل حكمه بها أيضا في الثاني ، إذ لا ضرورة يحكم بهذه الملازمة ولا دليل عليها أيضا أصلا.

أليس أنت تفرّق بين العاقل وغير العاقل من الحيوانات مع جواز صدور الفعل ولا صدوره عنهما جميعا على رأيك ومع حصول العلم لهما أيضا ، لكن العلم بالحسن والقبح الذي هو العقلي قد فرق بينهما. فنحن نقول ، كما تقول.

٣١٥

وإن كنت تقول بالفرق بين القولين فبيّنه ، فإنّا من وراء المنع.

هذا ما يتعلّق بالإيراد الأوّل.

وأمّا الإيراد الثاني فجوابه يعلم ممّا ذكر ، أمّا النقض فظاهر. وأمّا الحلّ فيجوز أن يكون حكم العقل باستحقاق المدح والذمّ والثواب والعقاب بعد أن يصدر الفعل ، فأمّا قبله فلا. وإن كان الذات بحيث لو هيّأ أسبابه لفعل مع أنّه يمكن أن يقال أيضا إنّه لا نسلّم أنّ المرء الخيّر لا يستحقّ المدح والثواب وإن لم يفعل الخير ، لما ورد في الشريعة : «نيّة المؤمن خير من عمله».

وأمّا المرء الشرير الذي لم يصدر منه شرّ ، فلعلّ عدم عقابه باعتبار العفو والتجاوز ، فتأمّل فيه. وأمّا مذمّته باعتبار شرارة ذاته ، فكأنّها ثابتة ولا يتوقّف على فعله للشر.

ولا يبعد أيضا الفرق بين المدح والثواب والذم والعقاب ، بأن يقال : المدح ثابت للذات الخيّرة وإن لم يفعل خيرا ، لكن الثواب يتوقّف عليه وكذا الذمّ والعقاب.

ويجوز أيضا أن لا يفرق بين المدح والثواب ويقال بثبوتهما للذات مع الفعل ولا معه ، ويفرق بين الذم والعقاب ، ويقال في الأوّل ثبوته للذات مطلقا ، وفي الثاني بتوقّفه على الفعل.

هذا كلّه مع القول بأنّ غاية ما في هذا الباب أن يكون هذا شبهة على قاعدة الحسن والقبح العقليين ؛ لورودها على مذهبنا ومذهبك من غير اختصاص بنا كما علمت فلا تسمع في مقابلة ضرورة حكم العقل بها.

وإن قلت : وبغيتك نقض هذه القاعدة من دون أن يكون لك حاجة في

٣١٦

شوب الاخبار بالوجوب وعدمه.

فقد ظهر جوابك أيضا ممّا ذكرنا من الحلّ ومن أنّه شبهة في مقابلة الضرورة. فتدبّر.

ثمّ لا يخفى أنّ ما وقع في أحاديث أهل العصمة صلوات الله عليهم مكرّرا ، بل كاد أن يكون متواترا من الفرق بين طينة المؤمن والكافر ، يرفع بناء ما خمّرنا طينه ويسوى تجصيصه وتطيينه.

وإنّما أطنبنا الكلام في هذا المقام لأنّه من مزلّة الاقدام ومضلّة الافهام لم يكد أن لا يزلّ فيه قدم ولا يضلّ فيه فهم كثير من الامم. تم.

٣١٧
٣١٨

(١٠)

رسالة في أنّه إذا هبط حجر

... تأليف

آقا حسين الخوانساري

٣١٩
٣٢٠