جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

الواقعي وقبيح وذو مفسدة بعنوان التجري ، فكيف يجتمع في فعل واحد المصلحة والمفسدة والحسن والقبح؟ فلو تخيل المكلف أن زيد بن ارقم عدو الله يجب هتكه وكان في الواقع عالما عادلا يجب احترامه ، كيف تجتمع المصلحة والمفسدة فيه؟

ذكر صاحب الفصول انه يقع التزاحم بينهما ، وبعد الكسر والانكسار يبقى ما هو الغالب منهما.

وأجاب المحقق العراقي (ره) في مقالاته عن ذلك بعد تسليم ان الحسن والقبح مرجعها الى باب المصالح والمفاسد في الاحكام بأن هناك اختلافا في الرتبة ، ومعه لا تزاحم ، وذلك لأن التجري انما هو في طول الحكم الواقعي لا في رتبته فانه قطع بالخمر وحرمته أولا ثم تجرى وخالف قطعه بذلك ، فلو لم يكن الخمر حراما في الواقع لم يتحقق التجري في شرب مقطوع الخمرية (١).

وهذا الجواب ذكره ايضا المحقق في الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية عن شبهة ابن قبه ، فذكر هناك ان الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي فان الشك في الحكم الواقعي مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري ، فلا يكون الحكم الظاهري في رتبة الحكم الواقعي ليقع التنافي ، ونذكر هذا الوجه هناك في الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية مفصلا مع نكاته وخصوصياته.

ولكن هذا الكلام لو تمّ في الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية فهو لا يتم في المقام ، وذلك لأن التجري في المقام انما هو في طول الحرمة المزعومة لا في طول وجوب الاحترام الواقعي في المثال ، فهو تخيل ان زيد بن أرقم عدو الله يحرم اكرامه ، فأكرمه ، فانكشف انه عالم عادل يجب اكرامه ، فالتجري في طول الحرمة المتخيلة ، واما بالنسبة الى الحكم الواقعي وهو وجوب الاكرام فهو في عرضه ، فليس هناك طولية واختلاف في الرتبة كما في باب الأحكام الظاهرية ، حيث ان الحكم الظاهري مجعول في مورد الشك في الحكم الواقعي فيكون في طوله ، ونذكر

__________________

(١) مقالات الأصول ، ص ١٦.

٨١

هناك ان هذا الجواب لا يتم هناك ايضاً.

فالصحيح في الجواب ان يقال : ان الحسن والقبح في باب التجري اجنبيان بالكلية عن باب المصالح والمفاسد في الاحكام ، بل هما امران واقعيان يدركهما العقل العملي كما يدرك العقل النظري استحالة اجتماع النقيضين ، وليستا من المجعولات العقلائية فلا تنافي بينهما.

وعلى هذا فلا نحتاج في الجواب الى ما ذكره صاحب الفصول ، ولا الى ما ذكره المحقق العراقي من الاختلاف في الرتبة ، اذ الحسن والقبح أجنبيان عن باب المصلحة والمفسدة والمحبوبية والمبغوضية ، بل هما امران يدركهما العقل العملي كما يدرك العقل النظري استحالة اجتماع الضدين ، وليستا من المجعولات العقلائية لتكون ممضاة من قبل الشارع ايضا بما انه فرد من العقلاء ليكونا كاشفين عن المصلحة والمفسدة في المتعلق كالاحكام الشرعية.

وعلى هذا فيمكن ان يكون الفعل قبيحا ولكنه محبوب للمولى لا مبغوض له كما في المثال الذي ذكرناه ، وهو ما إذا علم بأن زيد بن أرقم عدو الله ويحرم اكرامه فأكرمه وتبين انه في الواقع عالم عادل يجب اكرامه ، فان اكرامه قبيح من جهة كونه تعديا على المولى وسلبا لحقه ، لما ذكرنا من أنه يكفي في سلب المولى حقه المخالفة فيما اعتقد انه من أوامره ونواهيه ولكنه محبوب للمولى من جهة كونه اكراما للعالم العادل ، إذ لا تنافي اصلا بين قبح التجري وبين الملاك الواقعي للفعل فيما اذا فرض كونه واجبا في الواقع ، كما اذا علم بحرمة صلاة الجمعة ولكنه أتى بها برجاء ان لا تكون حراما في الواقع ، وان لا تنجّز عليه الحرمة لشدة اشتياقه لصلاة الجمعة ، وكانت في الواقع واجبة ، فلا نحتاج الى الجواب عن التنافي بما اجاب به صاحب الفصول أو ما اجاب به المحقق العراقي.

نعم هناك تنافٍ بين دليل الحكم الواقعي وهو وجوب صلاة الجمعة في المثال وبين دليل التنجيز وهو الدليل الدال على حرمتها وان لم يكن تنافياً بين قبح التجري وبين الملاك للوجوب الواقعي ، فالتنافي انما هو بين الدليل المنجز للحرمة وبين

٨٢

دليل الوجوب واقعاً ، وبعبارة اخرى بين الحكم الظاهري وبين الحكم الواقعي.

ويأتي الكلام فيه في باب الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية في الجواب عن شبهة ابن قبه ، وهناك اجوبة تكفي في الجواب عن الشبهة فيما اذا كان الحكم الواقعي الزاميا والظاهري ترخيصيا أو بالعكس ، ولا تكفي فيما اذا كان الحكمان إلزاميين كما في المثال ، فلا بد من التفصيل هناك ، وفي الحقيقة هو التزام بنصف شبهة ابن قبه ، وتمام الكلام هناك ان شاء الله.

التنبيه الثالث : ذكر المحقق العراقي (قده) ثمرة للبحث عن قبح التجري ، وهي انه لو قلنا بقبح التجري تكون الصلاة فيما اذا علم بحرمة صلاة الجمعة وأتى بها برجاء كونها حراماً وكانت في الواقع واجبة باطلة ، واما لو قلنا بعدم قبحه تكون الصلاة صحيحة (١).

ولكن التحقيق في المقام ان الفعل المتجرّى به تارة يكون توصليا واخرى يكون تعبدياً ، فان كان توصليا فان استكشفنا من الدليل سعة الملاك وانه موجود حتى في الفرد المحرم يكون الفعل صحيحا ان كان واجبا توصليا في الواقع وان كان قبيحا ومحرما في الظاهر ، واما ان لم نستكشف سعة الملاك وكونه موجوداً حتى في الفرد الحرام فلا يمكن القول بصحته على القول بقبح التجري.

وأما إن كان الفعل تعبدياً كما في المثال فحيث انه لا بد في صحة الفعل التعبدي من وجود امرين :

احدهما : ان يكون قابلا في نفسه لأن يتقرب به.

الثاني : فعلية التقرب به ، فلا يكون الفعل صحيحاً إن لم يقصد العبد التقرب به واقعا ، سواء قلنا بقبح التجري أم لا ، أما على القول بالقبح فواضح ، لأن الاتيان بالفعل يكون سلبا للمولى حقه وظلماً له ، وحينئذٍ فلا يمكن ان يتقرب بمثل ذلك الفعل الى المولى لعدم صلاحيته في نفسه لان يتقرب به ، واما على القول بمقالة

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٤٢.

٨٣

الشيخ الاعظم من انكار قبح التجري رأسا فمن جهة ان التجري هو اتيان العبد بما يكون معصية في الواقع لا بما اعتقد المكلف كونه معصية فحينئذٍ وان كان الفعل مما يمكن ان يتقرب به في نفسه إلا أنه حيث يحتمل المكلف مخالفة قطعه للواقع ويحتمل مصادفته له فلا ينقدح في نفسه التقرب بالفعل الى الله فيكون الشرط الثاني مختلا وهو المقربية الفعلية ، هذا تمام الكلام في بحث التجري.

٨٤

قيام الامارة والاصل

مقام القطع

٨٥
٨٦

الأمر الثالث

وفيه جهتان :

الجهة الأولى : في أقسام القطع.

الجهة الثانية : في قيام الامارة والأصل مقام القطع.

الجهة الأولى

في أقسام القطع

قسموا القطع إلى قسمين رئيسيين :

١ ـ القطع الطريقي : وهو ما يكون طريقا إلى حكم شرعي.

٢ ـ القطع الموضوعي : وهو ما يكون موضوعا لحكم شرعي. كما إذا جعل القطع بعدالة الامام موضوعا لجواز الاقتداء به في الصلاة.

ثم قسموا القطع الموضوعي إلى قسمين :

أ ـ ما يؤخذ على نحو الصفتية ، أي صفة خاصة وحالة نفسية للقاطع ، فلو كان القطع بعدالة الامام موضوعا لجواز الاقتداء به في الصلاة ؛ وكان مأخوذاً على نحو الصفتية ، كانت الصلاة خلف مقطوع العدالة صحيحة فيما إذا تبين فيما بعد فسقه.

ب ـ ما يؤخذ على نحو الكاشفية ، أي بما هو طريق وكاشف عن الواقعي ، وفي المثال المتقدم لو كان القطع بعدالة الامام مأخوذاً على نحو الكاشفية ثم تبين فسقه تقع الصلاة باطلة.

٨٧

ثم قسّموا كلا من هذين القسمين إلى ما يكون تمام الموضوع وما يكون جزء الموضوع.

فتصبح اقسام القطع الموضوعي أربعة :

١ ـ ما أخذ على نحو الصفتية وكان تمام الموضوع.

٢ ـ ما أخذ على نحو الصفتية وكان جزء الموضوع.

٣ ـ ما أخذ على نحو الطريقية وكان تمام الموضوع.

٤ ـ ما أخذ على نحو الطريقية وكان جزء الموضوع.

هكذا قسم الشيخ الاعظم (ره) القطع الى هذه الأقسام (١).

وأشكل عليه بأن حقيقة القطع هو الانكشاف وإراءة المقطوع به ، فلا يمكن ان يؤخذ في موضوع الحكم مع قطع النظر عن كاشفيته بل بما هو صفة خاصة ، اذ لا تنفك الكاشفية عن القطع بل هي عين حقيقته ، فلا يمكن اخذه في الموضوع تارة بما هو صفة للقاطع مع قطع النظر عن كونه كاشفاً ، واخرى بما هو كاشف ، بل لا بد ان يؤخذ دائما بما هو كاشف ، وذلك كما في الانسان فانه لا يمكن لحاظه مع قطع النظر عن انسانيته لأن الانسانية عين حقيقة الانسان.

ولذا غيَّر المحقق الخراساني العبارة في مقام التقسيم لتصحيحه ، وعبَّر بعبارة يستخلص منها تقريبان لدفع الاشكال وان كان بحسب الصورة تقريبا واحدا.

التقريب الأول : ان العلم نور لنفسه ونوره لغيره على ما ذكره الفلاسفة ، وعلى هذا يندفع الاشكال وذلك لان معنى أخذه موضوعا على وجه الطريقية والكاشفية لحاظ كونه نوراً لغيره ، ومعنى اخذه موضوعا على وجه الصفتية لحاظ كونه نوراً لنفسه وعدم لحاظ كونه نوراً لغيره.

وهذا التقريب لا محصل له ؛ وذلك لان الغرض من كون العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره هو ان ظهور كل شيء عند العقل انما هو بالعلم ، وظهور العلم عنده

__________________

(١) الرسائل ، ص ٤.

٨٨

ليس بعلم آخر بل هو بنفسه ظاهر عند العقل ، وكونه لنفسه ظاهراً عند العقل لا يختص به بل تمام الموجودات الذهنية كالحب والبغض والارادة ونحوها كذلك ، فانها بنفسها ظاهرة لدى العقل ولا تحتاج الى مظهر ، فمن هذه الناحية يشترك العلم مع باقي المجردات الموجودة في عالم النفس ، وانما الشيء الذي يميزه عن غيره هو كونه كاشفاً وطريقا وغيره ليس كاشفاً وطريقاً ، فتمام حقيقته هو كونه كاشفاً وطريقاً.

وحينئذٍ يعود الاشكال ، حيث ان المأخوذ موضوعا ان كان عنوان الظاهر بنفسه فهو ينطبق على باقي المجردات في عالم النفس فيلزم ان يكون غيره ايضا موضوعاً ، وهذا خلف ، وإن كان خصوص هذا الظاهر بنفسه فلا خصوصية له عن غيره إلا بكاشفيته وطريقته.

التقريب الثاني : ان العلم من الصفات الحقيقية ذات الاضافة على ما ذهب اليه كثير من الفلاسفة ، وتوضيح هذا الكلام وتقريب كونه وجها لدفع الاشكال ومصححا للتقسيم المذكور هو ان الصفة إما أن تكون حقيقية وإما أن تكون اضافية ، والصفة الحقيقية هي التي يكون لها وجود في الخارج حقيقة كالسواد والبياض ، والصفة الاضافية هي التي ليس لها وجود حقيقة ، بل هي امر اعتباري وانتزاعي ينتزعها العقل من منشأ انتزاعه ، كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية وغير ذلك ، والصفة الحقيقية إما أن تكون ذات اضافة كالقدرة والارادة والحب والبغض وغير ذلك فان القدرة بلا مقدور والارادة بلا مراد والحب بلا محبوب غير متعقلة.

وأما ان لا تكون الصفة الحقيقية ذات اضافة كالسواد والبياض وغيرهما فانهما يحتاجان الى محل فقط يعرضان عليه ، والعلم على ما ذهب اليه كثير من الفلاسفة من الصفات الحقيقية ذات الاضافة وان ذهب بعضهم الى انه من الصفات الاضافية لكنه ليس بشيء.

وبناء على كونه من الصفات الحقيقية ذات الاضافة تكون الاضافة غير حقيقة العلم ، ويكون العلم واجداً للاضافة ، وحينئذٍ يقال في تقريب التقسيم : ان المراد بالقطع المأخوذ في موضوع الحكم على وجه الصفتية العلم مع قطع النظر عن

٨٩

اضافته ، والمراد بالقطع المأخوذ على وجه الطريقية والكاشفية هو العلم مع لحاظ اضافته فيندفع الاشكال لا محالة.

وتحقيق المقام ان الاضافة في الفلسفة على قسمين :

احدهما : الاضافة المقولية ، وهي النسبة المتكررة بين شيئين موجودين الموجبة لتعنونهما بعنوانين متكافئين في التعقل والوجود الخارجي ، بحيث كلما تعقل احدهما ، أو وجد خارجاً تعقل الآخر ، أو وجد خارجا كالاضافة الموجودة بين الأب والابن فانها نسبة متكررة بين زيد وعمرو ، وتوجب تعنون زيد بعنوان الأب ، وتعنون عمرو بعنوان الابن ، وعنوان الاب والابن متكافئان في التعقل ، والوجود الخارجي وانما سميت هذه الاضافة المقولية لانها من المقولات العشر التي احداها الجوهر والبقية الاعراض التسعة.

ثانيهما : الاضافة الاشراقية ، وهي النسبة بين شيئين هما شيء واحد بحسب الحقيقة والوجود الخارجي ، لكن بحسب التحليل هما شيئان :

الأول : له فعليه والثاني لا فعلية له ، وإنما يصير له فعلية بفعلية الأول ، كالاضافة بين الماهية والوجود في قولنا مثلا : ماهية الانسان موجودة ؛ فان الماهية والوجود بحسب الحقيقة والوجود الخارجي شيء واحد ، إلا انهما بحسب التحليل شيئان ، احدهما وهو الوجود له فعلية ، والآخر وهو الماهية لا فعلية له ، وتصير فعلية بنفس فعلية الوجود وبسبب النسبة ، فالاضافة هنا ليست اضافة حقيقية وانما هي اشراقية من جهة التحليل العقلي ؛ ولذا يسمى بالاضافة الاشراقية ، وانما لم تعد هذه الاضافة من المقولات لأن المقولات انما هي في الماهيات وهذه الاضافة ، كما ترى انما هي بين الماهية والوجود ، أو ما هو من قبيل الماهية والوجود ، ومن الواضح ان الوجود ليس ماهية ، والفرق بين هذه الاضافة وتلك الاضافة هي ان الأولى تستدعي طرفين حقيقيين ، والثانية لا تحتاج إلا إلى طرف واحد حقيقي ؛ وان كان لها طرفان بالتحليل.

ثم ان العلم له معلوم بالذات ومعلوم بالعرض ، فاما معلومه بالذات فهو

٩٠

الصورة الحاصلة لدى النفس ، وانما تسمى بالمعلوم بالذات لأنها هي المنكشفة لدى النفس حقيقة لا غيرها ، واما المعلوم بالغرض فهو الامر الخارجي الذي انعكست صورته في الذهن ؛ وانما سمى بالمعلوم بالعرض لانه ليس في الحقيقة هو المنكشف لدى النفس ، وانما المنكشف هو صورته الذهنية ، وهو معلوم ومنكشف مجازاً ، وباعتبار مطابقته لما هو معلوم ومنكشف بالذات وهو صورته الذهنية ومماثلته له.

إذا تبين هذا فنقول : ان الاضافة المدعاة في كلام المحقق الخراساني (قدس‌سره) إن أُريد بها اضافة العلم الى المعلوم بالذات فالاضافة المقولية غير معقولة لاحتياجها الى طرفين ، مع ان العلم والمعلوم بالذات شيء واحد كما لا يخفى ، فلا بد ان تكون الاضافة هي الاضافة الاشراقية ، حيث ان العلم والمعلوم بالذات هو الوجود والماهية.

ويرد حينئذ ان الاضافة الاشراقية ليس لها إلا طرف واحد في الحقيقة ، وان كان لها طرفان بالتحليل ، فان الماهية على ما تقدم لا فعلية لها وتصير فعلية بنفس فعلية الوجود وبسبب اضافة الوجود اليها ، فالمعلوم بالذات هو حقيقة العلم في الحقيقة والوجود ، إذن فيعود الاشكال ، حيث ان اخذ العلم مع قطع النظر عن اضافته الى معلومه بالذات تهافت وتناقض كما لا يخفى.

وان اريد بالاضافة اضافة العلم الى المعلوم بالعرض فالاضافة الاشراقية غير معقولة حينئذ ، كما لا يخفى ، انما المتوهم هو الاضافة المقولية ، وهي ايضا غير صحيحة ؛ لما قلناه من ان العلم ليس له اضافة حقيقية الى المعلوم بالعرض ، وان المعلوم بالعرض ليس معلوما ومنكشفا لدى النفس حقيقة وواقعاً ، بل هو معلوم عرضا ومجازاً ، كما تقدم فللعلم اضافة مجازية اليه ، ولا مضايقة ، لدعوى ان المراد من الاضافة هي هذه الاضافة المجازية ، فانه من الممكن حينئذ أن يأخذ الشارع العلم في الموضوع ، تارة بما هو صفة حاصلة في النفس ، واخرى يأخذه في الموضوع بما هو مضاف الى المعلوم بالعرض ، وحينئذٍ يصح تقسيم القطع

٩١

الموضوعي الى المأخوذ على وجه الصفتية تارة ، وعلى وجه الطريقية اخرى.

ويندفع الاشكال الذي تصدّى المحقق الخراساني (قدس‌سره) لدفعه ، لكن يرد عليه حينئذ ان القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية والكاشفية لا يصح تقسيمه الى ، ما أخذ تمام الموضوع تارة ، وجزء الموضوع اخرى بل ان هذا القسم دائما يكون جزء الموضوع ؛ لأن معنى القطع المأخوذ على وجه الطريقية على هذا التفسير للاضافة ، هو اخذ المعلوم بالعرض وهو متعلق القطع في الموضوع ، فلا يتصور اخذه تمام الموضوع ، فيكون التقسيم ثلاثيا لا رباعياً.

واشار المحقق النائيني (قدس‌سره) الى تثليث الاقسام ايضاً ، مع ان المحقق الخراساني ذكر الاقسام رباعياً ، فهو قرينة على انه لم يفسر الاضافة بهذا التفسير ، فالاشكال وارد على كلامه لا محالة.

ثانياً : يرد عليه على كل حال انه ذكر ان ظاهر القطع المأخوذ موضوعاً في لسان الشارع هو ان يكون مأخوذاً على وجه الطريقية ، وكونه مأخوذاً على وجه الصفتية خلاف الظاهر ويحتاج الى قرينة ، مع ان صحة التقسيم الى الطريقي والصفتي انما هي على تفسيرنا للاضافة ، وعلى تفسيرنا للاضافة يكون الظاهر من القطع المأخوذ في الموضوع ان يكون القطع مأخوذا على وجه الصفتية لا على وجه الطريقية على عكس ما ذكره ؛ لان اخذ القطع على وجه الطريقية انما هو بلحاظ المعلوم بالعرض في القطع ، ولحاظه كذلك فيه مئونة زائدة مندفعة بالاصل كما لا يخفى ، فقد تبين الى هنا ان تعقل التقسيم الاول يقتضي عدم تعقل التقسيم الثاني.

والتحقيق في المقام انه يمكن تصحيح تقسيم القطع الموضوعي الى ما هو مأخوذ على وجه الصفتية وما هو مأخوذ على وجه الطريقية ، كل منهما بنحو تمام الموضوع تارة وبنحو جزء الموضوع اخرى ، بتقريبين احدهما عرفي ، والثاني دقي.

اما التقريب الأول العرفي فهو ان يقال : ان للقطع خصوصيات ولوازم لا تنفك عنه وجودية كانت أو عدمية ، كاستقراء النفس وسكونها وعدم تذبذبها واضطرابها ، فان هذه الخصوصية ملازمة للقطع يغر منفكة عنه ، وليست عين حقيقة

٩٢

القطع ، ولذا ورد : «من وجد اليقين فقد وجد برد اليقين» ، وحينئذٍ فمن الممكن ان يأخذ الشارع القطع موضوعاً بما انه كاشف وبما هو قطع فيكون مأخوذاً على وجه الطريقية والكاشفية ، وان يأخذ القطع موضوعاً بما انه مسكن للنفس ومبرد لها ، وواجد لصفة المسكنية والمبردية فيكون مأخوذاً على وجه الصفتية.

ثم ان الخصوصية الملازمة للقطع المأخوذة في الموضوع قد تكون مأخوذة بدلا عن القطع ، وقد تكون مأخوذة منضمة الى القطع ، وعلى هذا التقريب يصح التقسيم الثاني ايضا كما لا يخفى ، وهذا التقريب يلائم المثال الذي ذكره الشيخ الاعظم (قدس‌سره) ، وهو ما لو كان ابنه في الهند ونذر أن يتصدق لو علم بحياة ابنه كي يخرج نفسه عن الاضطراب وعدم الاطمئنان ، كما ان التقريب مستفاد من المثال الذي ذكره (قده).

وأما التقريب الثاني فهو بعد بيان أمر وهو ان العلم عبارة عن الانكشاف ، وقد يكون الانكشاف للغير ، وقد يكون لنفس العلم ، وبعبارة اخرى قد يكون العلم انكشافاً لنفسه ، وقد يكون انكشافا لغيره ، والأول : كما في علم الباري تعالى على ما ذهب اليه الشيعة من ان علمه عين ذاته ، فيكون العلم انكشافا لنفسه ، والثاني : كما في علم الانسان ؛ فان العلم بالنسبة الى الانسان حيث انه عرض قائم بالنفس ، والنفس تكون محلا له فيتحقق هناك ربط بين العلم والنفس ، وهذا الربط يوجب كون العلم انكشافا للنفس ، فالربط بين النفس والعلم اثنان في الحقيقة ، احدهما : كون العلم علما وانكشافاً في النفس وقائما بها ، والثاني : كون العلم انكشافاً للنفس لا لغير النفس.

إذا عرفت هذا فنقول : انه يمكن للشارع أخذ القطع موضوعاً ، تارة بما انه انكشاف في النفس فيكون مأخوذاً على وجه الصفتية ، وأخرى بما انه انكشاف للنفس فيكون مأخوذاً على وجه الطريقية ، ويصح حينئذٍ التقسيم الرباعي كما لا يخفى ، وهذا التقريب يلائم عبارة من عبارات المحقق الخراساني (قدس‌سره) في المقام ، وهي قوله : ان القطع قد يكون مأخوذاً بما هو حالة في النفس ، وقد يكون مأخوذاً بما هو كاشف للنفس ، هذا مضمون كلامه.

٩٣

بقي هنا شيء وهو ان المحقق الخراساني (قدس‌سره) ذكر في المقام ان القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية ، تارة يؤخذ بما هو صفة للقاطع ، وأخرى يؤخذ بما هو صفة للمقطوع به ، كما ان المأخوذ بما هو صفة للقاطع ، تارة يكون تمام الموضوع ، واخرى يكون جزء الموضوع كذلك المأخوذ بما هو صفة للمقطوع به ، تارة يكون تمام الموضوع ، واخرى يكون جزء الموضوع (١).

والتحقيق : ان هذا التقسيم غير معقول ؛ فان المقطوع به هو المعلوم ؛ فان اراد ان القطع يؤخذ بما هو صفة للمعلوم بالذات في قبال اخذه بما هو صفة للقاطع ، فهو غير معقول ؛ لان اخذه بما هو صفة للعالم هو اخذه بما هو صفة للمعلوم بالذات ، فليس اخذه بما هو صفة للمعلوم بالذات قسما في قبال اخذه بما هو صفة للعالم ؛ وذلك من جهة انه تقدم ان العلم والمعلوم بالذات شيء واحد في الحقيقة والوجود ، فلو اخذ بما هو صفة للقاطع لا بما هو صفة للمقطوع به بالذات يلزم ان تكون حرمة الشرب ثابتة لاي علم تعلق بأي معلوم وبأي شيء ولو بغير خمرية هذا المائع مثلا ، فلو علم بكون هذا المائع سكنجبين مثلا ، أو علم ان ذاك المائع ماء يلزم ان يكون حراما ، وهكذا.

والوجه في ذلك ان موضوع الحرمة في قوله : «لا تشرب معلوم الخمرية» ، هو المائع الذي وقع موصوفاً للعلم ، أي أن الموضوع هو المعلوم ، لكن لا مجرد اتصافه بالعلم بأي علم ، بل اتصافه بالعلم بالخمر ؛ فالموضوع هو معلوم الخمرية لا كل معلوم ، وهذا يستدعي ان يكون نفس ما اتصف به العالم وهو العلم بالخمر صفة للمعلوم بالذات ، ولا يتصور ان يكون العلم بالخمر صفة للقاطع ، ولا يكون صفة للمعلوم بالذات ، ولو فرض محالا انه لا يكون صفة للمعلوم بالذات ، فمعناه ان المعلوم بالذات هو نفس المتصف بالعلم أي نفس المعلوم لا معلوم الخمرية ، ومن الواضح ان معلوم السكنجبينية أيضاً معلوم ، ومعلوم المائية ايضا معلوم ، فيلزم ان تكون الحرمة ثابتة لهما أيضا ، لأنهما أيضا معلومان ، هذا في المعلوم بالذات.

__________________

(١) كفاية الاصول : مقصد ٦ ، ص ٢٦٣.

٩٤

وأما لو اريد ان العلم يؤخذ بما هو صفة للمعلوم بالعرض في قبال اخذه بما هو صفة للعالم فيرد عليه أولاً : انه على هذا لا يصح بعد ذلك تقسيم هذا إلى المأخوذ بما هو صفة للمعلوم بالعرض الى تمام الموضوع وجزء الموضوع ، بل يكون جزء الموضوع دائما ؛ لان المعلوم بالعرض هو الأمر الخارجي الذي تعلق به العلم وأخذ الأمر الخارجي في موضوع الحكم هو فرض اصابة العلم ، واخذ المتعلق في الموضوع فيكون جزء الموضوع ، كما لا يخفى.

وثانياً : ان اخذه بما هو صفة للمعلوم بالعرض عبارة اخرى عن أخذه على وجه الطريقية والكاشفية ، فيخرج عن كونه صفتيا ويصبح طريقياً ، كما مرّ تفصيل ذلك في تفسير الاضافة في التقريب الثاني المستفاد من كلام المحقق الخراساني (قدس‌سره).

الجهة الثانية

في قيام الامارات والأصول مقام القطع

ويقع البحث في هذه الجهة في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في قيامها مقام القطع الطريقي المحض.

المقام الثاني : في قيامها مقام القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الصفتية.

المقام الثالث : في قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الكاشفية.

المقام الأول

قيام الامارات والأصول مقام القطع الطريقي المحض

أما المقام الأول : وهو قيام الامارات والاصول مقام القطع الطريقي المحض في المنجزية فلم يقع ولم يظهر فيه اشكال من أحد إلا ممن سوف نشير اليه ، نعم هنا شبهة وهي : ان في المقام قاعدتين عقليتين ، إحداهما حسن العقاب مع البيان ، الذي هو عبارة عن منجزية القطع ، والثانية قبح العقاب بلا بيان ، ولا بد في منجزية شيء

٩٥

ان يخرج مورده عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ويدخل في قاعدة حسن العقاب مع البيان. والامارات والاصول التنزيلية فضلا عن غيرها بما أنه قد تكون مخالفة للواقع فلا تكون بيانا ليخرج موردها عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ويدخل في قاعدة حسن العقاب مع البيان ، لا يمكن قيامها مقام القطع في المنجزية.

وهذه الشبهة انما تأتي على القول بالطريقية في باب الامارات وكونها طريقا الى الواقع ، واما على القول بالسببية وكونها موجبا لحدوث الملاك في مواردها فلا تأتي الشبهة ، وذلك لأنه على هذا تكون منجّزة للملاك الموجود في مؤداها ومصححة للعقاب عليه لا على الواقع حتى يقال : بأن الواقع لا يكون محرزا بالامارة أو الاصل كي يكون منجزا له ، بل يحتمل الاصابة وعدمها فيكون فيه تخيل وجود الملاك ، وهذا بخلاف القول بالطريقية ؛ فان فيه لا يكون في مؤدَّى الامارة ملاك ليكون منجزاً له ، ومصححا للعقاب عليه ، بل لا بد ان يكون منجزا للملاك الموجود في الواقع ، وهو غير مبين لاحتمال الخطأ.

هذا ولكن هذا الجواب انما يصحح العقاب على الملاك الموجود في مؤدى الأمارة بناء على اقول بالنسبية وتكون الامارة منجزة له ، ولا يكن مصححا للعقاب على الملاك الموجود في الواقع ، ولا يكون موجبا لتصحيح تنجيز الواقع بالامارة والاصل ، مع ان البحث في المقام في ذلك المعنى من التنجيز لا في تصحيح العقاب على الملاك الموجود في الامارة نفسها.

كما ان ما يقال على مبنى الطريقية من ان العقل يحكم بوجوب امتثال الانشاء ، سواء كان صادراً عن الارادة حقيقة ، أو كان الانشاء صادرا عن الارادة بتوسط الشك ، كما في الاحكام الظاهرية ، فان للمولى اغراض لا يمكن تعيينها للمكلف فيبقى مشكوكا للمكلف في ضمن امور فينشأ المولى الاحكام الظاهرية للتحفظ على تلك الاغراض والارادات لكن بتوسط الشك ، وهذا بخلاف الحكم الواقعي ، فان الانشاء فيه صادر عن ارادة حقيقية ، فهذا القول ايضا لو تم فإنما يصحح العقاب على الحكم الظاهري وموجبا لتنجزه ، ولا يكون موجبا لتنجز الواقع بالامارة أو الاصل الذي هو محل الكلام ، فان محل كلامنا انما هو في قيام الامارات

٩٦

والاصول مقام القطع في تنجز الواقع.

ولكن هذه الشبهة انما ترد على مباني القوم القائلين بان التنجز إنما هو من لوازم القطع وآثاره ، ولذا أسسوا على هذا المبنى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، واما على مبنانا من ان التنجز وتصحيح العقاب انما يكون من آثار سلب المولى حقه والتعدي عليه ، ولا بد ان يبحث عن ان سلب المولى حقه هل يختص بالمخالفة والعصيان فيما اعتقد كونه غرضا له أو يعم ما احتمل كونه من اغراضه وملاكاته؟ وبعبارة اخرى ، لا بد من البحث عن ان من حق المولى ان يطاع ولا يخالف فيما اعتقد انه حكم المولى فقط او يعم الاطاعة وعدم المعصية فيما احتمل انه حكم المولى ايضا؟

فنقول : ما احتمل كونه حكم المولى تارة يكون بدرجة من الاهمية بحيث يقطع المكلف بانه لو كان هناك حكم وملاك لا يرضى المولى بتركه حتى في صورة الشك ، كما اذا كان هناك غريق يحتمل كونه ابن المولى ، ويحتمل كونه عدوه ، فانه لو كان ابن المولى يجب انقاذه للمكلف ، وهذا الوجوب بدرجة من الأهمية يقطع المكلف بعدم رضى المولى بتركه حتى في صورة الشك.

وأخرى لا يكون الحكم وملاكه بدرجة من الأهمية بحيث يقطع المكلف بوجوب امتثاله حتى في صورة الشك ، فان كان الحكم بنحو لا يقطع المكلف بعدم رضى المولى بتركه حتى في صورة الشك لا يكون احتماله منجزاً ، واما ان كان الحكم بنحو يقطع المكلف بعدم رضى المولى بتركه حتى في صورة الشك في وجوده ، فيعلم المكلف بأنه لو كان مثل هذا الحكم موجوداً في الواقع لا يرضى المولى بتركه حتى في صورة شك المكلف ، فمثل هذا الحكم يكون نفس احتماله منجزاً للواقع بلا احتياج الى امارة أو اصل ، وانما تكون الامارة أو الأصل دافعا لاحتمال المؤمّن ، فمن حق المولى ان يطاع ولا يخالف في احتمال هذا الحكم ايضاً ؛ لان نفس احتماله يكون منجزاً ، فعلى مبنانا لا بد من البحث عن ان الامارات والاصول كيف تكون معذرة عن

٩٧

الواقع (١).

وأجاب المحقق النائيني (قدس‌سره) عن هذه الشبهة بان الامارات ، والاصول الشرعية طريق الى الواقع شرعاً من ناحية ادلة الجعل ، فتكون علماً بالواقع ، وكاشفة عنه تعبداً ، فالقطع يكون بيانا للواقع ذاتا وكاشفا عنه ، والامارة والاصل يكونان بيانين له بالتعبد الشرعي ، فيخرج مورده عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ويدخله في قاعدة حسن العقاب مع البيان ؛ لانه بيان تعبدي (٢).

والبحث عن هذا المبنى ، وهو كون الامارات والاصول طريقا الى الواقع ، وكاشفاً عنه ، يجيء في باب الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، ونذكر هناك خصوصياته ودقائقه وتماميته وعدمها.

ولكن لو تم هذا المبنى في باب الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، فانما يفيد في الجواب عن الشبهة في باب الامارات ، واما في باب الاصول التنزيلية فلا يفيد بوجه ؛ وذلك لانها ليست مجعولة بنحو الطريقية والكاشفية عن الواقع بل في باب الاصول يكون المجعول حكما ظاهريا في ظرف الشك في الحكم الواقعي وليس فيها أي طريقية.

وذكر المحقق العراقي (قدس‌سره) في الجواب تقريبين : (التقريب الأول) ويتضح بعد بيان مقدمة وهي ان الاحكام الواقعية على نحوين :

أحدهما : ما يكون الملاك فيه بدرجة من الأهمية يقطع المكلف بعدم رضى المولى بتركه حتى في صورة الشك في وجود الحكم واحتمال وجوده ، فيقطع المكلف بانه لو كان هناك حكم موجود لكان بدرجة من الاهمية لا يرضى المولى

__________________

(١) وهذا الأمر أيضاً ظهر جوابه مما تقدّم وذلك لأنه إذا كان من حقّ المولى أن يطاع ولا يخالف حتى في احتمال الحكم الذي لو كان موجوداً لكان بدرجة من الأهمية لا يرضى الشارع بتركه حتى في صورة الشك ، يكون ذلك حق المولى فله الترخيص في تركه ، فإذا جعل امارة أو أصل يكون ذلك رخصة ومؤمّناً ومعذّراً للعبد عن الواقع. من المقرر.

(٢) أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ٩.

٩٨

بتركه حتى في صورة الشك في وجوده.

ثانيهما : يكون الحكم بنحو لا يقطع المكلف بانه لو كان موجوداً لكان بدرجة من الاهمية لا يرضى المولى بتركه حتى في صورة الشك.

وبعد هذا ذكر المحقق العراقي ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا تعم كلا الصورتين ، بل يختص موردها بصورة علم المكلف بان التكليف لو كان موجوداً لكان بدرجة من الأهمية لا يرضى المولى بتركه حتى في صورة الشك ، واما في صورة قطع المكلف بان الحكم لو كان لكان بدرجة من الأهمية لا يرضى المولى بتركه حتى في صورة الشك فلا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ولذا نلتزم بوجوب النظر إلى المعجزة ، ولو لا الاهتمام المزبور أو عدم كفايته في حسن العقاب لا وجه لوجوبه مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وانما تكون الامارة او الاصل في موردها كاشفة عن الاهمية بتلك الدرجة ، فيستكشف من وجود الامارة او الاصل كون التكليف بتلك الدرجة من الاهمية ، ويكون احتمال التكليف منجزاً حينئذ ، فنتيجة وجود الامارة او الاصل هو الكشف عن الاهمية ، وإلا فاحتمال مثل هذا التكليف منجز.

وهذا الكلام من المحقق العراقي (قدس‌سره) بظاهره مستلزم للدور ؛ وذلك لان كشف الامارة عن اهمية الواقع بتلك المرتبة متوقف على كون الامارة منجزة للواقع وحافظة له وإلا فلا وجه لكاشفيتها عن الاهمية ، وتنجيزها للواقع موقوف فرضاً على كونها كاشفة عن الاهمية بتلك المرتبة ، فمنجزيتها متوقفة على منجزيتها.

ولكن يمكن تأويله وتصحيحه بنحو يكون تقريبا متينا غاية المتانة عن الشبهة ؛ وذلك بأن يقال : ان جعل الامارة كاشف بالظهور العرفي عن تلك المرتبة من الاهمية ، فتكون الامارة بنفسها ظاهرة في نظر العرف عن تلك المرتبة فاذا انكشفت تلك المرتبة من الاهمية لا بد من العمل على طبق الامارة لكونها منجزة للواقع بلا لزوم دور اصلا. فهذا التقريب بعد هذا الاصلاح الذي اصلحناه به يكون جوابا متيناً

٩٩

عن الشبهة بلا فرق بين ان يكون لسان الدليل «صدّق العادل» ، أو كان «ما أديا عني فعني يؤديان» ، أو غيرها من التعابير ، بل كل تعبير يكون مناسبا لهذا الظهور والكشف العرفي عن الاهمية المذكورة يكون كافياً ، ومن هنا ظهر ان ما افاده المحقق النائيني (قدس‌سره) في الجواب عن الشبهة بان لسان الدليل هو جعل الطريقية والكاشفية لا يفيد في الجواب ، بل لا بد من وجود هذه النكتة وهي الكشف عن الأهمية بتلك الدرجة سواء كان لسان الدليل جعل المؤدى أو جعل الطريقية والكاشفية أو غيرهما.

التقريب الثاني : يظهر بعد بيان بمقدمتين :

الأولى : ان عدم الشيء انما يستند الى وجود المانع في صورة وجود المقتضي فعدم احتراق ما يكون مبتلاً بالماء مع عدم وجود النار مثلاً يستند الى عدم النار لا الى مانعية الماء.

الثانية : ان الحكم الواقعي مقتضٍ للعقاب على مخالفته ، وعدم البيان مانع عن ذلك. واستنتج (ره) من ذلك أي من هاتين المقدمتين ان موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان انما هو عدم البيان على تقدير وجود الحكم في الواقع لا مطلق عدم البيان ، وهذه النتيجة هي نكتة الجواب ، وعليه يقال : ان خطاب حرمة شرب التتن مثلاً ، الواصل بدليل الحكم الظاهري ان كان موافقاً للواقع فهو بيان للحكم الواقعي الناشئ عن مبادئ الحكم الحقيقية ، وان كان مخالفا له فانما هو صرف انشاء بلا روح وليس بيانا للحكم الواقعي ، وقد عرفت ان موضوع البراءة العقلية انما هو عدم البيان على تقدير وجود الحكم في الواقع ، وهذا الموضوع منتف بهذه الامارة أو الاصل لتحقق البيان على تقدير الواقع بذلك.

ويرد عليه أولا : فيما يسلمه من قاعدة قبح العقاب بلا بيان انه إن كان المراد من البيان هو ما يكون وظيفة للمولى من ذكره لكلام يدل على حكمه ، وجعل ذلك في معرض الوصول ، فالقول بتمامية البيان وانتفاء موضوع قاعدة البراءة العقلية صحيح ، لكن ليس مراده ذلك لأنه قائل بجريان البراءة العقلية في الشبهات

١٠٠