جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

وحينئذٍ فلا يتم البيان.

وأما بناء على الملازمة بدلالة الاقتضاء فوجه عدم استقامة البيان هو انه يرجع الى التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وهو غير جائز.

توضيحه : ان كل دليل يخصص بالمخصص العقلي فيما اذا كان له اثر شرعاً ، ويكون لوضوحه بحكم المخصص المتصل ، فلو قال : صدق العادل ، فاطلاقه لا يشمل حجية الخبر الذي لا يترتب عليه أي اثر شرعي ، بل يقيد اطلاقه بحكم العقل بما يترتب عليه من أثر شرعي ، فلو قال : المؤدى بمنزلة الواقع ، فبمقتضى اطلاقه قد يكون المؤدى منزلا منزلة مطلق الواقع حتى الواقع الذي ليس تمام الموضوع ، بل يكون جزء الموضوع وجزؤه الآخر القطع ، وهناك دليل عقلي يدل على ان التنزيل الذي يكون لغوا خارج عن هذا الاطلاق ، وحينئذٍ فلو كان المؤدى منزلا في نفس الأمر منزلة الواقع الذي يكون جزء الموضوع فبدلالة الاقتضاء يكون هناك تنزيل شيء آخر منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، ولو لم يكن المؤدى منزلا منزلة الواقع الذي يكون جزء الموضوع ، فيكون مندرجاً تحت عموم المخصص ، فيتردد الأمر لدينا بين ان يكون هذا المورد داخلا تحت العموم وبدلالة الاقتضاء يستكشف تنزيلا آخر ، وبين أن يكون داخلا تحت المخصص ، وحينئذٍ لا مجال للتمسك بالعام فيه ، ولا تجري فيه دلالة الاقتضاء ، فان مورده ما اذا كان الدليل خاصا لا مطلقا ، اذ لا يلزم حينئذ اللغوية لو لم يترتب اثر على احد افراد المطلق وترتب على الآخر.

وقبل الفراغ من الكلام مع صاحب الكفاية في البناء الذي بناه على المبنى المتقدم لا بد من بيان نكته وهي : ان صاحب الكفاية اشترط في المقام ان يكون التنزيلان عرضيين ، ويكون تنزيل المؤدى منزلة الواقع في عرض تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي على ما مر ، واعترض بأن التنزيلين لا يكونان عرضيين ، بل يكون تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي في طول تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، لان القطع بالواقع الجعلي متأخر عن الواقع الجعلي ، والواقع الجعلي هو نتيجة تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، مع انه يشترط ان

١٢١

يكون التنزيلان عرضيين.

ولكن يرد على هذا الكلام ان كون احد التنزيلين في عرض الآخر غير معقول في المقام ، وذلك لان العرضية انما تتم فيما اذا كان الحكمان والتنزيلان كل منهما ظاهريا أو واقعياً ، لا فيما اذا كان احدهما ظاهريا والآخر واقعياً ، وكانا مختلفين.

توضيح ذلك : ان صاحب الكفاية ذكر في المقام قاعدة كلية وهي : ان موضوع الحكم اذا كان مركبا من جزءين ، وأردنا تنزيل شيئين منزلة هذين الجزءين لا بد ان يكون التنزيلان في عرض واحد ، وذكر في توضيح ذلك ان التنزيل انما يكون من ناحية اسراء حكم المنزل عليه الى المنزل ، ولهذه الجهة ينزّل شيء منزلة شيء آخر ، وإذا كان الحكم واحداً وموضوعه مركبا من جزءين ، وأردنا اسراء حكمه الى شيء وتنزيل شيء منزلة احد أجزائه وشيء آخر منزلة الآخر ، لا يمكن تنزيل احد الشيئين اذا لم ينزل الشيء الآخر من جهة انه اذا لم يتم كلا التنزيلين لا يسري الحكم الى المنزل فلا تتحقق نتيجة التنزيل (١).

ثم طبّق صاحب الكفاية هذه الكبرى الكلية على المقام ، وقال : ان حكم الحرمة تعلق بالخمر المقطوع الخمرية ، فيكون الموضوع مركبا من الخمر الواقعي والقطع به ، فاذا اردنا تنزيل مظنون الخمرية منزلة مقطوع الخمرية ، والظن منزلة القطع ، والمظنون منزلة المقطوع ، لا بد ان يكون التنزيلان عرضيين لما ذكرنا ، ولأجل هذه القاعدة الكلية اشكل على ما ذكره في الحاشية من تصور قيام الامارة مقام القطع الموضوعي بتنزيلين طوليين كما عرفت ، واحترازاً من لزوم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، ونحن قد بينا أنه لا حاجة في مقام تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي بقوله : الظن كالقطع ، الدال حسب الفرض على تنزيلها منزلة القطع الطريقي الى ما افاده في الحاشية من التنزيلين الطوليين ، بل يمكن ذلك بنحو آخر ، ومقصودنا الآن تنقيح الكلام فيما افاده في الكفاية من الكبرى ، فنقول : ان اريد تنزيل مجموع الجزءين منزلة مجموع الجزءين ، بحيث لا يكفي التلفيق في

__________________

(١) كفاية الأصول ، المقصد ٦ ص ٢٦٦.

١٢٢

تحقيق الحكم بان يثبت الحكم بانضمام الجزء الاول من الموضوع الأول مع الجزء الثاني من الموضوع الثاني ، او بالعكس ؛ فلا بد من اتحاد التنزيلين رتبة وزمانا وسنخاً ، بل وحدة التنزيل ، وإلا فنتكلم في ذلك في مقامين :

المقام الاول : فيما لو اريد تنزيل شيئين منزلة جزئي الموضوع مع عدم كون احد الجزءين عبارة عن القطع بالواقع ، بل كلاهما امران واقعيان ، كالاجتهاد والعدالة في جواز التقليد مثلا ، وحينئذٍ ، تارة يفرض ان التنزيلين يكونان من سنخ واحد ، بأن كان كلاهما واقعيا ، أو كان كلاهما ظاهرياً ، وأخرى يفرض خلاف ذلك. وضابط كون التنزيل واقعيا أو ظاهريا انه اذا كان يتلائم مع الواقع ويجتمع معه فهو ظاهري ، واذا كان متكفلا لتعيينه في دائرة الواقع فهو واقعي ، ومقتضى اطلاق الأدلة الواقعية دائما الحمل على كونه ظاهرياً ، فيحمل على الظاهرية إلا إذا لم يمكن حمله على الظاهرية لعدم الشك في الواقع ، أو أمكن حمله عليها لكن كان خلاف ظاهر الدليل ، كما اذا لم يكن موضوعه الشك ، وبالجملة تارة يفرض التنزيلان من سنخ واحد ، واخرى يفرضان متخالفين.

فإن فرضنا انهما من سنخ واحد فيمكن ان يكون التنزيلان عرضيين ويمكن ان يكونا طوليين ، لما مضى عن المحقق العراقي (قده) من التنزيل بلحاظ الحكم التعليقي ، فمن الممكن ان ينزل الكرم مثلا منزلة العدالة فيثبت بالنسبة اليه جواز التقليد معلقا على الاجتهاد ، ثم في ساعة اخرى ينزل الهاشمية مثلا منزلة الاجتهاد فيما له من جواز التقليد اذا انضم الى جامع العدالة والكرم.

فان فرضنا انهما من سنخين فهنا لا بد من الطولية بان يكون التنزيل الظاهري في طول التنزيل الواقعي ؛ لان التنزيل الظاهري يكشف عن جعل حكم مماثل للواقع ، والتنزيل الواقعي يتصرف في دائرة المماثل ، وينقح حدوده ، والمماثل (بالفتح) مقدم على المماثل (بالكسر).

المقام الثاني : في الكلام فيما نحن فيه وهو تنزيل المظنون منزلة الواقع وتنزيل شيء آخر منزلة القطع بالواقع ، فنقول ، لا اشكال في أن تنزيل المظنون منزلة

١٢٣

الواقع ظاهري ، لكون موضوعه الشك وقابلية كونه بنحو يكون بداعي التحفظ على الواقع ، فيجتمع هو مع الواقع ، كما انه لا ينبغي الشك في ان تنزيل الآخر تنزيل واقعي ؛ اذ من المعلوم عدم القطع بالواقع ، ولا شك له في ذلك حتى يجعل حكم ظاهري بداعي التحفظ على الواقع ، وحينئذٍ نقول ان تنزيل المظنون منزلة الواقع الذي هو تنزيل ظاهري يجب ان يكون في طول التنزيل الآخر ؛ لما مضى من ان التنزيل الظاهري يكون بمعنى جعل حكم ظاهري مماثل للواقع ، والتنزيل الواقعي مربوط بتحديد حدود المماثل (بالفتح) ، وذلك مقدم على المماثل (بالكسر) ، فيجب ان يكون ما نزل منزلة القطع بالواقع الحقيقي غير القطع بالواقع الجعلي ، بناء على ان القطع بالواقع الجعلي في طول الواقع الجعلي.

وعلى فرض الغفلة عن ما ذكرنا وتخيل ان التنزيلين من سنخ واحد ، فكما ان تنزيل المظنون منزلة الواقع ظاهري ، كذلك تنزيل الشيء الآخر منزلة القطع بالواقع ظاهري ، فينتفي ما ذكرناه من لزوم كون تنزيل المظنون منزلة الواقع في طول التنزيل الآخر.

نعم يمكن ذلك كما يمكن كونهما في عرض واحد ، واما كون التنزيل الآخر في طول تنزيل المظنون منزلة الواقع فغير ممكن ، فانه ان فرض تعليق الحكم الثابت بالتنزيل للمظنون على القطع بالواقع استحال وصوله إلا بفرض اجتماع الضدين ؛ اذ الظن والقطع ضدان لا يجتمعان ، وان فرض تعليقه على شيء آخر لم تتحقق المماثلة بين الحكم الواقعي والحكم الثابت بالتنزيل.

فتحصل مما ذكرناه انه مع الالتفات الى عدم سنخية التنزيلين فيما نحن فيه تجب الطولية بعكس ما ذكره ، وان تخيل كون كلاهما ظاهريا أمكن العرضية والطولية ، بعكس ما ذكره في الحاشية من فرض الطولية بذاك النحو ، فلا هي صحيحة ولا في الكفاية من لزوم العرضية.

هذا تمام الكلام في هذا المقام بناء على مبنى المحقق الخراساني (قده) من ان جعل التنجيز والتعذير في الامارات لا يمكن إلا بجعل حكم تكليفي ، بعد ضم ذلك

١٢٤

الى دعوى ان لسان دليل حجية الامارات هو تنزيل الظن منزلة القطع.

ولا بد لنا من البحث في كلا هذين الأمرين فنقول :

يقع البحث أولاً : فيما هو الممكن في باب الامارات من العملية التي يترتب عليها تنجيز الواقع ، والمعذرية عنها.

وثانياً : فيما هو الواقع من تلك الالسنة ، وهل يتكفل قيام الامارات مقام القطع بكلا قسميه من القطع الطريقي والموضوعي المأخوذ على وجه الكاشفية أو لا؟ فهنا أبحاث ثلاثة :

البحث الأول : فيما هو الممكن من ألسنة الحجية المترتب عليها المنجزية والمعذرية ، فنقول : اشتهر ان ذلك لا يمكن الا بجعل حكم تكليفي ، وغاية ما يمكن ان يقال في وجه ذلك : إن آثار القطع من الكاشفية والمنجزية والمعذرية بعضها تكويني وهو الأولى ، وبعضها عقلي وهو الاخيرتان ، ومن المستحيل جعل هذه الآثار بالتعبد ، فان الشارع لا يمكنه ان يوجد بالتشريع المنجزية والمعذرية ، كما لا يمكنه ان يوجد بالتشريع سائر الامور العقلية كاجتماع الضدين ونحو ذلك.

والتحقيق انه لو أريد ايجاد نفس هذه الآثار وحقيقتها بالجعل فهذا واضح الاستحالة ، ولا يظن بأحد الالتزام بذلك ، ولو اريد ايجاد عناوينها اعتبارا وفرضا من قبيل التبني في مجتمع يرمي ذلك ، فيجعل شخصا بالجعل والاعتبار والفرض والخيال ابنا له ، فهذا لا ينبغي الاشكال في امكانه.

نعم ، ينبغي الكلام في أنه هل يترتب على هذا الجعل والاعتبار المنجزية والمعذرية الحقيقيتان أم لا؟ وفي تحقيق ذلك لا بد من التفتيش عن نكتة التنجز والمعذرية حتى يرى ان هذه النكتة هي موجودة في هذا الجعل والاعتبار أو لا؟.

فنقول : ان سلكنا على ما مضى منا في المقام الاول ، من ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ليس موضوعها خصوص عدم البيان ، بل موضوعها عدم شيئين : البيان ، والعلم بان اهمية الحكم عند المولى تكون بنحو لا يرضى بتركه عند الشك ، كما لو غرق شخص وعلم ان فرض وجوب انقاذه هو فرض كونه ابنا له ، وهو لا

١٢٥

يرضى بترك انقاذ ابنه حتى عند الشك ، فنكتة التنجز في ظرف الشك على فرض وجوده ، وهذه النكتة تنكشف بمثل قوله : جعلت الظن قطعا ، أو ، جعلته منجزاً ، ونحو ذلك من الالسنة.

والحاصل : ان ترتب التنجز على هذه الألسنة يكون بما لها من جهة الكشف ، لا بما لها من جهة الايجاد ، كما يتخيل. وان لم نسلك هذا المسلك ، وقلنا ، كما لعله المشهور : إن رفع قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يكون الا بالبيان ، فحينئذ لا بد من ان يكون ترتب التنجز على لسان الحجية بما له من جهة الايجاد ، وبما انه لا شك عند احد في تنجز الواقع بقيام امارة شرعية عليه ، لا بد لارباب هذا المسلك من دعوى ان المراد من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ما يعم البيان الحقيقي وبعض هذه الالسنة من جعل الطريقية أو المنجزية أو الحكم التكليفي ونحو ذلك ، أو جميع هذه الالسنة. واما لو اقتصر في تفسير موضوع القاعدة على البيان الحقيقي فارتفاع قبح العقاب بمجرد قيام الامارة مع ان من المعلوم وجدانا عدم العلم من المحالات.

وإذا بني على البيان ، وجعل موضوع القاعدة انتفاء امرين : البيان وبعض هذه الالسنة ، وتعيين بعضها في قبال بعض لا يكون ببرهان فني ، وينسد هنا باب البحث وانما يكون تعيين ذلك بالوجدان ، فربما يعيش شخص بوجدانه أحد الألسنة ، وشخص آخر لسانا آخر.

ان قلت : ان المتعين هو لسان جعل الطريقية والبيان تعبدا لانه انسب لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فان موضوعها هو البيان ، ويناسبه جدا جعل البيان والطريقية تعبداً.

قلت : ليست كلمة البيان واردة فيما نحن فيه في حديث مثلا حتى يفتش عما يناسبه ، ويقال : ان المراد من البيان ما يعمه ، والحاصل : ان القرب من معنى هذه الكلمة بما هي لا اثر له اصلا.

ثم انه قد انقدح مما ذكرناه وجود الخلل فيما افاده المحقق النائيني (قده) من

١٢٦

حيث إنه بنى على امكان التنجيز بغير الحكم التكليفي ، لكنه فصّل في ذلك ، فقال بصحة جعل الطريقية دون جعل المنجزية ، وفي الحقيقة يكون كلامه مركبا من عقد سلبي ، وعقد ايجابي.

أما العقد السلبي فهو دعوى استحالة جعل المنجزية ، وبرهن على ذلك بانه يلزم من ذلك التخصيص في حكم العقل ، وهو قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بخلاف جعل الطريقية فان به ترتفع القاعدة بارتفاع موضوعها.

ويرد عليه : انه إن أريد من جعل المنجزية جعل واقع المنجزية التي هي امر عقلي بالتشريع ، فهذا واضح الاستحالة وليس مراد المحقق الخراساني (قده) المشكل عليه بهذا الاشكال ، وذلك كما ان المراد من جعل الطريقية ايضا ليس جعل واقع الطريقية.

وإن أريد من جعلها جعلها عنوانا واعتباراً فهو الامكان ، وحينئذٍ ان التزم بما ذكرناه من عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان عند العلم بأهمية الحكم المشكوك فهذا اللسان كاشف عن اهميته ، وإلا فان التزم بان موضوع القاعدة عدم البيان الحقيقي استحال ارتفاعها حتى بجعل الطريقية واعتبارها.

وان التزم بقيام بعض الألسنة مقام البيان الحقيقي ، أي ان حكم العقل بصحة العقاب يعمه فذلك اللسان لا يمكن تعيينه وابطال غيره بالبرهان كما توهمه (قده) ، وانما هو امر يرجع الى الوجدان ، فربما يدعي هذا ان الوجدان حاكم بكذا ، وذاك أن الوجدان حاكم بالشيء الآخر.

وأما العقد الايجابي فهو دعوى حصول التنجز بجعل الطريقية لانه اثبات للبيان ورفع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأورد على ذلك بوجهين :

الأول : ما هو المشهور في مقام الايراد عليه ، وهو ان تنزيل شيء منزلة العلم الطريقي محال ، لأن آثار العلم الطريقي غير قابلة للجعل. وجوابه ما أفاده المحقق النائيني (قده) في بعض كلماته في توضيح مرامه من أنه ليس المراد تنزيل الظن منزلة القطع ، ومعنى ذلك جعل احكام القطع للظن ، وانما المراد فرضه واعتباره قطعا

١٢٧

بالجعل (١).

وهذا الكلام كما ترى ، لا يرد عليه اشكال استحالة التنزيل ، نعم يتوجه عليه سؤال وهو انه ما فائدة هذا الجعل والاعتبار؟ فانه مع عدم ثبوت فائدة له يكون لغواً ، فان ترتب عليه فائدة كما لو أعطى أحد للمولى ديناراً ليجعل الظن علما لم يكن لغواً ، وإلا فهو لغو ، وهو (قده) يقول : إن فائدته أن يرتفع بذلك موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، اذ موضوعه ما يعم البيان الحقيقي والبيان الاعتباري ، فالشارع اوجد فرداً من افراد الموضوع (٢).

الثاني : ما ذكره المحقق الاصفهاني (قده) من منع كون موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ما يعم البيان الحقيقي والاعتباري ، سواء قلنا بأن استحقاق العقاب المترتب على البيان وعدمه المترتب على عدمه حكم عقلي ، ام قلنا بأنه حكم عقلائي (٣).

أما على الأول فلأن الأمر الواقعي لا يعقل تقومه بالاعتبار.

وأما على الثاني فلأن الحكم العقلائي لا يكون بنحو القضية الحقيقية كأحكام الشارع مجعولة على موضوع كلي يعم الافراد الخارجية والافراد التقديرية حتى يقال : ان هذا حكم جعل على مطلق البيان ، وندعي ان الشارع أوجد فرداً لهذا الموضوع ، وانما حكم العقلاء عبارة عن عملهم الخارجي في الموارد الجزئية كالعقاب في مورد ثبت البيان ، وعدم العقاب في مورد آخر لم يثبت البيان ، والعقلاء ليسوا مشرعين.

وفيه : إنا نختار الشق الأول ، وهو كون استحقاق العقاب وعدمه حكما عقلياً ، كما هو الصحيح ، وهو المشهور بين الاصوليين ، والمختار للمحقق النائيني (قده) ، فلا يلزم من ذلك كون قوام الأمر الواقعي بالامر الاعتباري بمعنى

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ١٢.

(٢) المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٧٥.

(٣) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ١٩.

١٢٨

تحقق الأمر الواقعي بجعله واعتباره الذي يكون بطلانه من القضايا التي قياساتها معها ، بل ندعي ان هذا الامر الواقعي يكون ناشئا عن امر اعتباري ، لا بمعنى نشوئه من المعتبر الذي هو بالحقيقة معدوم حتى يلزم نشوء الموجود من المعدوم ، بل بمعنى نشوئه عن اعتبار ذلك الشيء الذي هو بنفسه امر حقيقي واقعي لا اعتباري ، نظير ما يجعل لشخص من تصور بحر من زيبق ، واعتباره حالة نفسانية حقيقية.

ثم نختار الشق الثاني ، ونقول : ان العقلاء كثيراً ما يجعلون فيما بينهم قضايا كلية ، كجعل وجوب اطاعة أوامر الشخص الفلاني على انفسهم ، فاي فرد أوجده ذلك الشخص من الأوامر فقد اوجد فردا من موضوع حكمهم ، كما انه كثيراً ما يجعلون فيما بينهم امورا جزئية بالاعمال الخارجية ، لكنه بالتدريج ينعقد في اذهانهم حكم كلي ، فمن الممكن دعوى انه صدر منهم العمل الخارجي بالنسبة الى الموارد الجزئية التي في بعضها تم البيان حقيقة وفي بعضها اعتباراً ، وتحقق من ذلك الحكم الكلي.

والتحقيق في مقام الايراد على المحقق النائيني (قده) ان يقال : بعد معلومية انه ليس المراد من جعل الطريقية جعل واقع الطريقية والقطع ، فان هذا واضح الاستحالة ، وانما المراد هو جعل عنوان الطريقية ، واعتباره انه ان كان تنجز الواقع بذلك لكشفه عن أهميته فهذا لا يفرق فيه بين جعل الطريقية وجعل المنجزية ونحو ذلك ، وان فرض تنجز الواقع بذلك لا لكشفه عن أهميته بأن ادعى بأنه يتنجز الواقع بهذا الجعل والاعتبار ، ولو لم يكن الواقع مهما عند المولى بحيث لا يرضى بتركه عند الشك ، وانما اوجب هذا الاعتبار لأجل انه اعطاه شخص مثلا دينارا لاجياده فعهدة هذه الدعوى على مدعيها.

هذا وقد تحصل من تمام ما ذكرناه ان هذا البحث انما صار معركة للآراء لما تخيلوا من ان ترتب التنجز على هذه الالسنة يكون لما لها من جهة الايجاد ، وبالالتفات الى انه انما يترتب عليها لما لها من جهة الكشف عن اهمية الحكم تنحل الاشكالات ، ويسهل الامر. هذا تمام الكلام فيما هو الممكن من ألسنة الحجية ، وقد عرفت ان جميع هذه الألسنة ممكنة بحسب مقام الثبوت.

١٢٩

البحث الثاني : بعد الفراغ عن مقام الثبوت وإثبات أن جميع السنة الحجية من المنجزية والمعذرية والطريقية وجعل الحكم التكليفي ممكنة نبحث عن أن أي واحد منها يمكن إثباته بحسب ظاهر الدليل الدال على حجية الخبر الواحد.

فنقول : ان المحقق النائيني (قدس‌سره) ، حيث يرى دوران الأمر بين جعل الحكم التكليفي والطريقية من السنة الحجية على ما تقدم منه ، ذكر في المقام ، وهو مقام الإثبات ، أن أهم الإمارات هو الظواهر والخبر الواحد ، وعمدة الدليل على حجيتهما هو السيرة العقلائية ، أما بالنسبة الى حجية الظواهر فواضح ، وأما بالنسبة الى حجية الخبر الواحد فلأن الأدلة الشرعية الدالة على حجيته انما هي امضاء للسيرة العقلائية ، وليست بأدلة تأسيسية ، فعمدة الدليل هو السيرة العقلائية.

والعقلاء بما هم عقلاء ليسوا مشرعين ، وليست وظيفتهم البعث والزجر ، لان البعث والزجر من وظائف المولى ، فليس لهم جعل الاحكام التكليفية ، وانما الذي يمكنهم هو جعل الاحكام الوضعية من الملكية ونحوها ، ففي المقام ليس لهم جعل الحكم التكليفي في مورد الامارة ، بل لهم جعل الحكم الوضعي ، وهو جعل الامارة طريقا الى الواقع كالعلم وتتميم كشفه عن الواقع. والأدلة الشرعية بما أنها إمضاء للسيرة العقلائية لا دليل برأسها تكون تابعة للسيرة في المضمون ، فيكون مضمونها ايضا جعل الطريقية للامارة وتتميم كشفه لا جعل الحكم التكليفي ، فاذا لم يكن المجعول حكما تكليفيا ينحصر في الطريقية ؛ لدوران الأمر بينهما (١). هذا ما افاده المحقق النائيني (قدس‌سره) في المقام ، ووافقه على ذلك السيد الاستاذ وكثير ممن نعلم ، وفرّعوا عليه فروعا كثيرة.

ولكن ما أفادوه غير تام ؛ وذلك لأن السيرة العقلائية ببعض معانيها لا يمكن أن يكون لها حكم اصلا ، وببعض متصوراتها معقولة ، وببعض معانيها وان كانت معقولة وكان لها حكم إلا أنه كما يتناسب مع جعل الطريقية يتناسب مع جعل الحكم

__________________

(١) أجود التقريرات بتصرف.

١٣٠

التكليفي أيضاً.

والوجه في ذلك ان السيرة العقلائية تتصور على معان ثلاثة ، فإن كان المراد من السيرة العقلائية التي تكون دليلا على حجية الخبر الواحد في كلام الميرزا هو الجري العملي من العقلاء على طبق اغراضهم الشخصية فكل عاقل في السوق يجري على طبق اغراضه الشخصية ، ويعتمد فيها على الخبر الواحد الثقة.

فهذا المعنى من السيرة لا يمكن جعل حكم في مورده اصلا ؛ لأن الجري العملي على طبق خبر الثقة لا يحتاج الى جعله حجة أولا والجري على طبقه ثانيا ، بل كل عاقل يجري على طبق خبر الثقة في اغراضه الشخصية بلا حاجة الى جعله حجة ، فيكون جعل الحكم على طبقه من اللغو الواضح.

هذا هو المعنى الاول للسيرة العقلائية ، ويستفاد من هذا المعنى من السيرة العقلائية الحكم الشرعي بنكات وخصوصيات تأتي في محلها ، ولسنا الآن بصدد بيانها ، بل الغرض في المقام الجواب عن المحقق النائيني (قدس‌سره).

المعنى الثاني من السيرة هو ان يقال : ان كل عاقل اذا تقمص قميص المولوية يرى خبر الثقة حجة في حق العبيد وبيانا لهم ، وفي هذه الصورة نفرض مجتمعا فيه عبيد واحرار ، بخلاف الصورة السابقة التي نفرض ان المجتمع ليس فيه سوى الأحرار ، ويجري كل واحد منهم على طبق اغراضه الشخصية ، وهذه الصورة تنقسم الى قسمين :

تارة يقال : ان كل عاقل اذا تقمص قميص المولوية يرى خبر الثقة حجة وبيانا حتى بالنسبة الى عبد غيره ، وهذا المعنى غير معقول ، اذ كل عاقل لا يمكنه ان يجعل الامارة حجة وبيانا لعبد غيره بالنسبة الى احكام مولاه ؛ اذ ليس له التصرف في حكم غيره ، وهذا هو المعنى الثاني للسيرة.

وأخرى يقال : إن كل عاقل إذا تقمص قميص المولوية يرى خبر الثقة حجة وبيانا بالنسبة الى عبد نفسه لا عبد غيره ، وهذا المعنى معقول ، وله حكم مجعول ، اذ كل عاقل بما انه عاقل لا يمكن له ، على ما ذكره الميرزا ، جعل الحكم وتشريعه.

١٣١

اما بما انه مولى فيمكنه جعل الحكم التكليفي ، كما انه يتمكن من جعل الحكم الوضعي والطريقية ، ويمكنه البعث والزجر ، فهذا من السيرة كما انه يناسب الطريقية يناسب الحكم التكليفي ، فما افاده المحقق النائيني (قده) غير تام. هذا مع قطع النظر عن أصل المبنى الذي بنى عليه عليه هذا الكلام ، وهو دوران الأمر بين جعل الطريقية والحكم التكليفي ، وإلا فاصل المبنى غير صحيح على ما تقدم في البحث الاول ، وما افاده المحقق النائيني (قدس‌سره) غير تام ، لأن المعنى المعقول من السيرة والذي له حكم مجعول مجعول كما انه يناسب جعل الطريقية يناسب جعل الحكم التكليفي ، كما ان ما افاده في البحث الأول غير تام ، هذا بالنسبة الى السيرة العقلائية من ادلة حجية الخبر.

وأما غيرها من الأدلة الدالة على حجية الخبر من الآيات والروايات فهي على طوائف ثلاث ، على ما راجعته سابقاً ، ولم يسعني الوقت للمراجعة الجديدة ، واطلعت على كتاب جامع اخبار الشيعة (١) للسيد البروجردي (قده) فرأيت أنه ذكر في مقدمته أموراً ، منها أمر مختص بذكر الاخبار الدالة على حجية الخبر الواحد باجمعها ، فلا بد في الاستقصاء من مراجعة هذا الكتاب ، ولم يسعني المجال لمراجعته ، وكيف كان فالاخبار الدالة على حجية الخبر بناء على ما راجعته سابقا على طوائف ثلاث :

الطائفة الأولى : ما دلّ على حجية الخبر بالملازمة وبالدلالة الالتزامية ، وذلك كالاخبار الواردة في تعارض الدليلين والخبرين في كيفية حل مشكلة التعارض بينهما ، فانها لا تدل على حجية الخبر بالمطابقة ، بل حيث انها تدل على كيفية حل التعارض يستكشف منها بالالتزام حجية الخبر ، وإلا لو لم يكن حجة لا وجه للتعارض بين الخبرين حتى يحتاج الى بيان حل مشكلة التعارض ، ومثل هذه الاخبار آية النبأ بناء على دلالتها على حجية الخبر ، فان مفهومها ان ان جاءكم عادل بنبإ لا يجب عليكم التبين ، فحيث انها تثبت آثار الحجية يستكشف من ذلك حجية

__________________

(١) مراده (قده) كتاب جامع أحاديث الشيعة.

١٣٢

الخبر بالالتزام ، وإلا لم يكن وجه لعدم وجوب التبين.

وكذا مثل هذه الاخبار في الدلالة على الحجية من جهة ذكر آثارها آية الحذر ، فانها تدل على العقاب المترتب على وجوب الحذر المترتب على الانذار المترتب على حجية الخبر ؛ اذ لو لم يكن الخبر حجة لما وجب الحذر من الانذار به ، ولما امكن الانذار به.

فهذه الطائفة من الأدلة لا تدل على حجية الخبر بالمطابقة ليقال : ان المستفاد منها جعل الطريقية ام الحكم التكليفي او غيرهما ، بل تدل بالمطابقة على الآثار المترتبة على الحجية ، وبالدلالة الالتزامية تدل على حجية الخبر.

الطائفة الثانية : ما يكون مجملاً من حيث النتيجة ، وهو ما يقول : نعم ، في جواب الراوي حيث يسأل عن وثاقة يونس بن عبد الرحمن بقوله : (أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال عليه‌السلام : نعم) (١) ، فان معناه ان يونس بن عبد الرحمن ممن يؤخذ عنه معالم الدين ، واما ان هذا الاخذ يكون من جهة كونه طريقا الى الواقع ، او من جهة وجوبه تكليفا فهو مجمل من هذه الناحية.

الطائفة الثالثة : ما يكون مناسباً للحكم التكليفي ولا يكون مناسبا للطريقية ، وهي كقوله (ع) : (خذوا ما رووه وذروا ما رأوا) (٢) وغيره من الاخبار الدالة على وجوب الاخذ بالخبر ، والآمرة بذلك ، والناهية عن ترك العمل بالاخبار ، كقوله (ع) : (فانه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا ثقاتنا) (٣) فإن المراد من التشكيك ليس الشك الاعتقادي ، بل المراد به التشكيك في العمل الخارجي ، والنهي عن هذا التشكيك ، وإلا فإن التشكيك الاعتقادي ليس تحت اختيار المكلف حتى ينهى عنه ، بل هو في يد المولى والشارع فيجعل الخبر حجة

__________________

(١) اختبار معرفة الرجال ج ٢ ص ٧٨٤ ح ٩٣٥.

(٢) جامع أحاديث الشيعة ، ج ١ ، باب حجية أخبار الثقات ، ح ٣٦.

(٣) نفس المصدر ، باب حجية أخبار الثقات ، ح ٣.

١٣٣

لئلا يشك في حجيته ، وانما الذي بيد المكلف هو التشكيك الخارجي وعدم العمل بالخبر بحسب الخارج ، فينهى المولى عنه ، فهذه الاخبار دالة على وجوب الاخذ بالخبر وحرمة تركه ، فتكون مناسبة للحكم التكليفي لا للطريقية.

نعم يمكن ان يقال : ان هذه الطائفة ايضا تكون مجملة كالطائفة الثانية ، وذلك بان يقال : انها ارشاد الى أهمية الواقع ، بحيث لا يرضى المولى بتركه ، فجعل هذه للتحفظ عليه ، فتحصل انه ليس هناك دليل عقلي أو شرعي يكون بحسب مقام الاثبات ظاهرا في جعل الطريقية ومناسبا له ؛ فما افاده المحقق النائيني (قدس‌سره) في البحث أيضا غير تام ، كما ان ما افاده في البحث الاول كذلك ، كما مر.

البحث الثالث : وهو ان اللسان الذي ثبت في البحث الثاني وهو مقام الاثبات من السنة الحجية ، هي يفي بقيام الامارة مقام القطع الطريقي والموضوعي معا أم لا يفي بذلك؟ قلنا : فيه كلامان ؛ كلام في نفسه ، وكلام مع المحقق النائيني (قدس‌سره).

أما الكلام في نفسه فهو : ان هناك لسانا واحدا فقط يمكن ان يتكلف بقيام الامارة مقام القطع الطريقي والموضوعي معا ، وهو قوله (ع) : (لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا) فان المراد من التشكيك ليس التشكيك بحسب الاعتقاد ، بل المراد منه التشكيك بحسب العمل الخارجي ، فان التشكيك في الاعتقاد ليس تحت اختيار المكلف بالنسبة الى الخبر ، وانما هو بيد الولي فيجعله حجة لئلا يشك المكلف في حجيته ، وانما الذي بيد المكلف هو التشكيك الخارج وعدم العمل بالخبر فينهى عن ذلك ، ويكون حراما بمقتضى الرواية ، ويكون باطلاقه شاملا للتشكيك العقلي والشرعي ، فكما انه يحرم التشكيك العقلي ويجب ترتيب آثار العلم على الخبر عقلا ، وهو كونه طريق إلى الواقع كالعلم والقطع فكذلك يحرم التشكيك الشرعي ، ويجب ترتيب آثار القطع وعدم الشك عليه شرعاً ، وهو كونه موضوعا للحكم الشرعي كالقطع وترتيب الآثار الشرعية عليه.

ولكن هذا اللسان غير مربوط بباب حجية الامارة ، بل هو وارد في التوقيع

١٣٤

الشريف عن صاحب الزمان (عج) ، وفي ذيله قرينة على اختصاصه بنوابه الخاصين ، وليس المراد به الثقاة من رواة الشيعة ، والقرينة قوله (ع) في ذيله : (قد عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا ونحمِّلهم اياه اليهم) فان تفويض السر ونحوه انما هو من مختصات نوابه الخاصين وليس غيرهم.

وأما الكلام مع المحقق النائيني (قدس‌سره) فهو : ان المحقق النائيني (قده) حيث ذهب في البحث الثاني وفي البحث الاول الى ان اللسان الممكن بحسب مقام الثبوت ، والواقع بحسب مقام الاثبات ، هو لسان جعل الطريقية في الامارات ذهب في هذا البحث وهو البحث الثالث ايضا ـ الى ان اللسان الذي ثبت في مقام الاثبات من ألسنة الحجية ، وهو لسان جعل الطريقية ، يمكن قيامه مقام القطع الطريقي والموضوعي معاً ، وذلك لأن دليل حجية الامارة يكون حاكما على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث يجعل الامارة بيانا للواقع وطريقا اليه بالتعبد الشرعي ، ويكون حاكما على دليل الحكم الشرعي الذي جعل القطع موضوعاً له ، ويوسع دائرة موضوعه ، ويجعله أعم من القطع والقطع الحاصل بالامارة بالتعبد الشرعي ، فدليل حجية الامارة حيث يكون مفاده جعل الطريقية يكون حاكما على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ويوسع البيان ، ويجعله أعم من البيان الحقيقي والبيان الحاصل بالتعبد والجعل الشرعي ، ويكون حاكما على دليل حرمة شرب الخمر المقطوع بخمريته الذي جعل الموضوع في الحرمة فيه القطع بالخمرية ، فيوسع دائرة الموضوع ، ويجعله أعم من القطع الوجداني والقطع الحاصل بالتعبد الشرعي ، ويقول : ان ما اخبر الثقة بخمريته هو حرام ايضاً. هذا ما افاده المحقق النائيني (قدس‌سره) في المقام.

والكلام معه يتوقف على تحقيق امر في باب الحكومة لم يظهر مرادهم فيه ، وهو انه يتردد في كلام الميرزا كثيرا ان الدليل الحاكم قد يكون حاكما بالنسبة الى عقد الحمل ، كأدلة نفي الضرر والحرج بالنسبة الى الاحكام الواقعية ؛ فان حرمة الربا التي تكون محمولا في قوله : (الربا حرام) ترتفع بدليل نفي الضرر اذا كانت حرمته ضررية ، ويكون نفي الضرر حاكما بالنسبة الى عقد الحمل ، وقد يكون الدليل

١٣٥

الحاكم حاكما بالنسبة الى عقد الوضع ، كما في قوله (ع) : (لا ربا بين الوالد وولده) (١) بالنسبة الى قوله : (الربا حرام) ، فانه تصرف في الربا الذي جعل موضوعاً في هذه القضية ، ويكون حاكما بالنسبة الى عقد الوضع ، وكذا قوله (ع) : (بيع المسلم من الكفار ربا) (٢) فانه ايضا يتصرف في موضوع القضية ويوسع دائرته.

فهذا المطلب معلوم من كلمات الميرزا النائيني (قده) ، وكذا معلوم من كلامه ان الدليل الحاكم بالنسبة الى عقد الحمل لا بد ان يكون ناظرا الى الدليل المحكوم ، لكن لم يعلم من كلماته في باب الحكومة ، ولا من مجموع كلامه في التقريرات ، ولا من افاداته في رسالة اللباس المشكوك الدليل الحاكم بالنسبة الى عقد الوضع ايضا لا بد ان يكون ناظرا الى الدليل المحكوم أو لا؟ فلا يلزم ان يكون ناظراً اليه ، أم فيه تفصيل؟ وهذا لم يظهر مرامه فيه ، وفيه ثمرات كثيرة في الفقه ؛ اذ لو كان يلزم ان يكون ناظرا الى الدليل المحكوم لا بد في كل مورد ينظر الى ان له نظرا الى الدليل المحكوم أم لا؟ فهذه الكبرى لا بد من تحقيقها في باب الحكومة.

وفي المقام نقول : بانه ان ثبت في باب الحكومة ان الدليل الحاكم بالنسبة الى عقد الوضع ايضا لا بد ان يكون ناظرا الى الدليل المحكوم ، كما والحال في الدليل الحاكم بالنسبة الى عقد الحمل ، فما افاده المحقق النائيني (قدس‌سره) من ان دليل حجية الامارة يكون حاكما على دليل الحكم الشرعي الذي جعل القطع موضوعاً له ، ويتصرف في دائرة موضوع ، ويجعله اعم من القطع الوجداني والامارة الشرعية بناء على الطريقية (٣) ، غير تام ؛ لأن دليل حجية الامارة لا يكون ناظرا الى عقد الوضع في الحكم الشرعي الذي جعل القطع موضوعا له.

وان ثبت في باب الحكومة ان دليل الحاكم بالنسبة الى عقد الوضع لا يلزم ان يكون ناظرا الى الدليل المحكوم ، بخلاف الديل الحاكم بالنسبة الى عقد الحمل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، باب ٧ من أبواب الربا.

(٢) ذات المصدر بتصرف.

(٣) أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ٩.

١٣٦

فما ذكره تام ، وتمامية كلامه تدور مدار ثبوت ان الحكومة بالنسبة الى عقد الوضع لا تحتاج الى نظر من دليل الحاكم الى الدليل المحكوم ؛ فان ثبت ذلك فكلامه تام ، وإلّا فلا.

لا يقال : إنا نتمسك باطلاق دليل حجية الامارة ، ونثبت به ان الدليل الحاكم ناظر الى الدليل المحكوم بالنسبة الى عقد الوضع.

لأنا نقول : تارة يفرض ان الامارة القائمة يكون لها اثر آخر أيضا ، كما إذا كان شرب الخمر الواقعي حراما ، ونذرنا ان نتصدق اذا قطعنا بخمرية شيء ، وقامت الامارة على ان المائع الفلاني خمر ، فحينئذ نقول : انه لا يمكن التمسك بالاطلاق واثبات ان الامارة ناظرة الى الدليل المحكوم ، وهو ما يقول : اذا قطعت بخمرية شيء يجب عليك التصدق ؛ وذلك لأن التمسك بالاطلاق انما هو في ما اذا شك في دخول شيء تحت المطلق وعدمه ، فنتمسك بالاطلاق للدخول ، لا في ما اذا شك في ثبوت اثر لشيء وعدمه ؛ فانه لا يتمسك بالاطلاق لثبوت ذلك الأثر ، فلا يمكن التمسك بالاطلاق في المقام لاثبات الأثر للامارة وكونها ناظرة الى الدليل المحكوم.

واخرى نفرض ان الامارة ليس لها أثر آخر ، وهو قيامها مقام القطع الطريقي كما في الأول ، بل الاثر منحصر فيه بقيامها مقام القطع الموضوعي ، كما اذا كان مقطوع الخمرية حراما ، وكان الخبر الواحد دالا على خمرية شيء ففي هذه الصورة ايضا لا يمكن التمسك بالاطلاق لاثبات كون الامارة ناظرة الى ما دل على حرمة مقطوع الخمرية ، وذلك لأنه يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فان كل دليل مخصص بالمخصص العقلي بما اذا كان له أثر شرعا ، ويكون لوضوحه كالمخصص المتصل ، على ما اشرنا اليه في الجواب عن استدراك المحقق الخراساني (قدس‌سره) لما افاده في الحاشية.

فلو شككنا في مورد في ثبوت الاثر بالدليل ، كما في هذا الفرض الذي ليس له أثر إلا أن يكون ناظرا الى الدليل المحكوم ، لا يمكننا التمسك بالاطلاق لاثبات

١٣٧

الاثر له ؛ لانه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فلا يمكن التمسك بالاطلاق كون الحاكم ناظرا الى المحكوم ، واثبات الاثر بذلك ، له ، كما لا يخفى. فدلالة الاقتضاء لا تجري في أمثال المقام ، على ما اشرنا اليه في الجواب عن صاحب الكفاية سابقا.

فتحصل مما ذكرناه الى الآن ان الامارة لا تقوم مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية ، فكيف بالقطع المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتية؟ تبعا للمحقق الخراساني (قدس‌سره) وله ثمرات عديدة في الاصول تأتي كل واحدة منها في موضعها إلا ثمرة واحدة أشار اليها آقاي انصاري (١) ليس لها موضع في الاصول.

ولذا نتعرض لها الآن وهي : ان أخبار الآحاد التي وردت في غير الفروع الفقهية ، كأخبار السماء والارض ، ولم تصل الى حد التواتر ، ولم تكن محفوفة بقرينة قطعية ، ولا تكون حجة ولا يمكن نسبة مضمونها الى النبي او الامام ، عليهما‌السلام.

وتوضيح ذلك يحتاج الى ذكر مقدمة ، وهي أنه عندنا عنوانان في الفقه يترتب عليهما الحرمة شرعا اذا تحققا :

أحدهما : عنوان الكذب ، وظاهر المشهور انه عبارة عن الإخبار المخالف للواقع لا الاعتقاد ، فلو اخبر عن شيء باعتقاد انه في الواقع كذلك ، ولم يكن كذلك واقعا يكون هذا كذباً ، بخلاف ما لو اخبر عن شيء باعتقاد انه ليس في الواقع مطابقاً لاخباره ، وتبين انه كان مطابقا لاخباره ، فانه لا يكون كذبا.

والثاني : عنوان القول بغير علم والاخبار عن النبي او الامام ، عليهما‌السلام بغير علم ، فهذا العنوان أيضا تشريع ومحرم بمقتضى الآيات والروايات الكثيرة ، كقوله تعالى وتقدس : (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ

__________________

(١) يقصد به المقرر.

١٣٨

تَفْتَرُونَ) (١) وكيف كان فان هذين العنوانين ثبت حرمتهما في الفقه ، ويبحث عنهما في المكاسب المحرمة ، وانما ذكرنا ذلك من باب المقدمة.

اذا اتضح هذا فنقول : اذا اخبر الثقة عن الامام (ع) بشيء من اخبار الارض والسماء فلكلامه هذا دلالتان ؛ دلالة مطابقية ، ودلالة التزامية ، فبالدلالة المطابقية يدل على ان هذا المعنى صدر من الامام (ع) ، وبالدلالة الالتزامية يدل على ان الراوي لا يكذب على الامام ؛ لان لازم صدوره عن الامام (ع) ان لا يكون اخباره عنه كذبا.

اما من ناحية الدلالة التزامية فلا اشكال في شمول دليل الحجية له ، واثبات عدم كونه كاذبا بذلك ، لأنه من قبيل ما اذا كانت الحرمة مترتبة على الخمر ، واخبر الثقة بان هذا المائع ليس بخمر ، فلا تترتب الحرمة عليه ، فكذا في المقام ، حيث ان الحرمة مترتبة على الكذب ، واخبر بالدلالة الالتزامية لكلامه ان هذا ليس كذبا ، فلا تترتب عليه الحرمة ، فمن جهة حرمة الكذب لا اشكال في هذا الكلام.

وأما من جهة الدلالة المطابقية فلا يمكن شمول دليل الحجية له على جميع المباني ، إلا على مبنى الطريقية على فرض تمامية الاطلاق ، او الاثبات في باب الحكومة ان الدليل الحاكم بالنسبة الى عقد الوضع لا يلزم ان يكون ناظراً الى عقد الوضع من المحكوم.

والوجه في ذلك انه لا يكون في باب ادلة حجية الامارات دليل يفي بقيام الامارات مقام القطع الطريقي والموضوعي معاً ، وما يكون جائزاً هو القول عن علم ، والقول بغير علم حرام شرعا ، فأخذ في موضوع جواز القول وانتساب شيء الى النبي او الامام ، عليهما‌السلام ، القطع والعلم ؛ فلا يمكن قيام الامارة مقام العلم بناء علي المباني المتقدمة ، فلا يمكن الاخبار عن مدلول الامارة المخبرة عن شيء من اخبار الارض والسماء.

__________________

(١) سورة يونس ، آية ٥٩.

١٣٩

ثم انه بناء على القول بقيام الامارة مقام القطع الموضوعي وحكومة ادلة حجية الامارات على دليل ما اخذ في موضوعه القطع تكون هذه الحكومة حكومة واقعية لا ظاهرية ، على ما اشرنا اليه سابقا ، وانما نكرره من جهة ان المحقق النائيني (قدس‌سره) والمحقق الاصفهاني (قده) ذهبا الى ان الحكومة حكومة ظاهرية.

والوجه في ان الحكومة حكومة واقعية لا ظاهرية ان الحكومة الظاهرية يكون المجعول في موردها حكما ظاهريا ، كما في حكومة أدلة حجية الامارات على أدلة الأحكام الواقعية بناء على الطريقية للقطع وأخذه طريقيا لا موضوعيا ، كما اذا كان الحكم وهو الحرمة مترتبا على واقع الخمر لا على مقطوع الخمرية ، وفرض ان الخبر الواحد قال بان هذا خمر ، فبمقتضى أدلة الحجية يحكم بأن شرب هذا المائع حرام ، ولكن الحكم بالحرمة حكم ظاهري ، ويكون قوام الحكم الظاهري بأمرين :

أحدهما : وجود الحكم الواقعي في مورده.

الثاني : الشك في ذلك الحكم الواقعي وعدم وصوله. والحكومة الواقعية يكون المجعول في موردها حكما واقعيا ، ويكون الدليل الحاكم موسعا للحكم الواقعي أو مضيقا له ، كما في قوله (ع) : (الطواف بالبيت صلاة) (١) فان حكومته بالنسبة الى قوله (ع) : (لا صلاة إلا بطهور) حكومة واقعية ، ويحكم بوجوب الطهارة في الطواف ، ويوسع دائرة موضوع الصلاة ، ويترتب على الحكومة الواقعية انه لا يكون في موردها انكشاف الخلاف اصلا ، بل توسع دائرة الواقع أو تضيق ، بخلاف الحكومة الظاهرية.

اذا اتضح هذا فنقول : ان الحكومة الظاهرية في المقام غير معقولة اصلاً ، وذلك لعدم الشك في الواقع ، بل نقطع بان الحكم مترتب على المقطوع بالوجدان ، كما اذا كان اكرام الشخص المقطوع بفسقه حراما ، فانا نعلم بأن حرمة الاكرام مترتبة على القطع بالفسق ، ودليل حجية الخبر يقول بان الظن قطع ، ويوسع دائرة

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، باب ٣٨ من أبواب الطواف ، ح ٢.

١٤٠