جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

مطلق.

وأما الاشكال الذي ذكره السيد الاستاذ فلا يندفع بهذا ؛ لان العبد إن كان على نحو يرتدع بالخطاب الأول ولا ينقدح في نفسه ارادة شرب الخمر ، فالخطاب الثاني لغو. وان كان لا يرتدع ولا يتحرك بتحريك الخطاب الاول بل ينقدح في نفسه ارادة شرب الخمر ، فلا يرتدع بالخطاب الثاني ايضا ، ولا يتحرك عن تحريكه.

إذا تبين ذلك فهنا بحثان : بحث في دلالة هذه الاخبار على حرمة التجري ، وبحث آخر في الجمع بين هاتين الطائفتين من الاخبار ، وهما ما دل على ان الانسان يعاقب على قصد السوء وان لم يفعله ، وما دل على عدم العقاب على القصد المجرد وانه لا يحاسب عليه.

أما البحث الأول : فالاخبار الدالة على ان الانسان يعاقب بقصد السوء ويحاسب عليه لا تدل على حرمة قصد السوء مولوياً ، بل تدل على ان الانسان يعاقب عليه ويحاسب ، وهذا التعبير لا يدل على الحرمة المولوية في المقام الذي استقل العقل بقبح التجري فيه واستحقاق العقاب عليه ، بل يكون الاخبار ارشاداً الى ما استقل به العقل من استحقاق العقاب على التجري.

نعم في مورد حلق اللحية مثلا لو وردت روايات تدل على استحقاق العقاب يستكشف منها الحرمة شرعا ، إذ لا وجه للعقاب إلا حرمته شرعا ، وأما في امثال المقام فلا.

وما جعله السيد الاستاذ شاهداً للجمع بين الطائفتين من الاخبار وهو النبوي المشهور القائل : «اذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول كلاهما في النار ، قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال (ص) : لأنه أراد قتل صاحبه» (١) لا يدل على حرمة التجري ايضا ؛ وذلك لأن قتال المسلم للمسلم من المحرمات الواقعية ، فإذا كان سب المسلم للمسلم حراما فكيف لا تكون مقاتلته حراماً ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١ ، باب د من أبواب مقدمات العبادات.

٦١

فدخول النار انما هو من جهة عنوان المقاتلة لا من ناحية ارادة القتل.

وأما البحث الثاني : فقد جمع السيد الاستاذ بين الطائفتين بحمل ما دل على ان الانسان يعاقب على نية السوء ويحاسب عليها على ما اذا لم يرتدع المكلف عن السوء بنفسه حتى يشغله شاغل خارجي.

ومجمل ما دل على عدم ترتب العقاب على نية السوء ، وانه لا يكتب على القصد الذي ارتدع الانسان عنه بنفسه ، وجعل الشاهد على هذا الجمع النبوي المشهور الذي ذكرناه ؛ بدعوى أن كل رواية تكون نصا في مورد لها ، ومورد النبوي انما هو قصد القتل مع عدم انقداح رادع له عن نفسه ، فحكم على المقتول فيه بالنار ، وتكون نسبته مع ما دل على عدم ترتب العقاب على قصد السوء من الروايات نسبة الخاص الى العام ؛ فان تلك الروايات مطلقة من ناحية حصول الرادع النفساني وغيره ، فتخصص بالنبوي تلك الروايات ، وتختص بصورة تحقق الرادع له من نفسه ، فتنقلب النسبة بينها وبين ما دل من الروايات على ترتب العقاب على قصد السوء ، من التباين ، لان احدهما كان نافيا للعقاب مطلقا والثاني كان مثبتا له مطلقا ، الى العموم المطلق ، فتخصص ما دل على العقاب بما دل على عدمه ، فتخرج صورة وجود الرادع عن قصد السوء عن الروايات الدالة على العقاب على قصد السوء ، ويكون المقام من موارد انقلاب النسبة.

ولكن ما ذكره غير تام ، وذلك اما أوّلاً : فإنا لا نعترف بمبنى انقلاب النسبة على ما يأتي ان شاء الله في محله.

وأما ثانياً : فلان ما ذكره شاهدا للجمع يكون خارجا عن محل الكلام رأسا ؛ وذلك لان كلامنا في التجري ومقاتلة المسلم مع المسلم من المحرمات الواقعية ، اذ ان سب المؤمن حرام فكذلك مقاتلته بطريق اولى :

هذا اذا اراد ان يجعل الشاهد مورد الرواية ، وان اراد جعل الشاهد ذيلها والتعليل الذي فيه. فان كان المراد بقوله : لانه أراد قتل صاحبه ، ما هو الظاهر منه في المقام ، وهو الاقدام على القتل ، فايضا خارج عن محل الكلام ، ويلحق بالشق

٦٢

الاول.

ان كان المراد منه صرف الارادة فهو ايضا خارج عن محل البحث لانه إرادة ارتكاب حرام واقعي لا ما تخيله حراما ، ولم يكن حراما في الواقع كما في موارد التجري.

فالصحيح في الجمع أن يقال : ان ما دل على ان الانسان يعاقب على نية السوء يكون المراد منه استحقاق العقاب لا فعليته.

وما دل على عدم العقاب يكون المراد منه عدم فعليته لا نفي أصل الاستحقاق ، بل عدم الفعلية من ناحية العفو والشاهد على هذا النحو من الجمع مضافا الى ان التعبير في اخبار العقاب لا يدل على أزيد من الاستحقاق ، كقوله : «فيه اثم الرضا وإثم الدخول» كما لا تخفى على من راجع الاخبار التي ذكرها الشيخ الاعظم (ره) في الرسائل ، ان الاخبار الدالة على العقاب صريحة في استحقاقه وظاهرة في فعليته ، والاخبار الدالة على نفي العقاب صريحة في نفي الفعلية وظاهرة في نفي الاستحقاق فيرفع اليد عن ظاهر كل منهما لصريح الاخرى ، فتكون النتيجة ثبوت الاستحقاق والعفو عن الفعلية.

المقام الثاني

أما المقام الثاني : وهو قبح الفعل المتجرّى به عقلا.

فتارة يكون الكلام في مقابل الشيخ الاعظم (ره) الذي ينكر قبح التجري فعلياً وفاعلياً ، ويقول : ان التجرّي لا يدل إلا على سوء سريرة العبد وخبث طينته.

واخرى يقع الكلام مع المحقق النائيني (قده) الذي يقول بقبح التجرّي فاعليا فقط ، وينكر قبحه فعليا.

اما الكلام مع الشيخ الأعظم (ره) فيمكن ان يقرب دعواه بأن حرمة التجري عقلا وقبحه لا بد ان يكون من جهة التعدي على المولى وحق المولوية ، والتعدي على حق المولى دائر امره بين ثلاث صور :

٦٣

١ ـ إما أن يكون من جهة عدم العمل على طبق تكاليفه الواقعية وان لم يصل اليها المكلفون.

٢ ـ اما ان يكون من جهة عدم العمل على التكليف الواصل.

٣ ـ إما أن يكون من جهة عدم العمل على طبق ما اعتقده المكلف من أنه من تكاليف المولى واغراضه.

أما الصورة الأولى : فهي خارجه عن البحث ، وذلك لأن عدم العمل على طبق التكليف الواقعي الغير الواصل لا يكون تعديا على المولى وقبيحا وموجبا للعقاب لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فيدور الامر بين الصورتين الأخيرتين.

أما الصورة الثالثة التي يتحقق التجري بها فدون اثباتها خرط القتاد ، على ما في تعبيرات المحقق النائيني ، فيبقى تحقق التعدي على المولى في ضمن الصورة الثانية ، ففي مورد التجري لا يكون تعديا على المولى ليكون قبيحا عقلا.

وأحسن ما يمكن ان يقرب به مدعى الشيخ هو : ان قبح الفعل المتجرّى به انما يكون من ناحية كونه منافيا لحق المولى وتفويتا له ، فلا بد في المرتبة السابقة على معرفة انه قبيح أو لا من معرفة أن حق المولى ما هو؟ وصوَره المتصورة ابتداءً ثلاث.

الأولى : أن يقال : ان حق المولى هو ان يطاع ولا يخالف في حكمه الواقعي.

الثانية : أن يقال : ان من حقه ان يطاع ولا يخالف في حكمه الواصل.

الثالثة : ان يقال : أن من حقّه ان يطاع ولا يخالف فيما اعتقد انه حكم المولى سواء كان حكمه واقعيا أم لم يكن.

والصورة الأولى باطلة جزماً ، لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فتبقى الصورة الثانية والثالثة ، فان قلنا بالصورة الثانية فالتجري ليس تفويتا لحق المولى لعدم الحكم واقعا ، وان قلنا بالثالثة فالتجري تفويت لحق المولى لأن اعتقاد الحكم موجود وان لم يكن هناك حكم واقعا.

٦٤

هذا هو مركز النزاع الرئيسي في المقام ، وبه يتضح حال جملة من الكلمات التي قيلت في المقام من المثبتين والنافين وانها ليس لها محصّل. وعلى كل حال فالنافي للقبح يختار الصورة الثانية ، وله أن يدعي ان الاطاعة والمخالفة فرع ثبوت الحكم واقعا ، فاذا فرض انتفاء الحكم واقعا فينتفي موضوع الاطاعة والمخالفة ، وذلك كحق زيد على عمرو فان له ان لا يتصرف عمرو في ماله ، وان يضمن له إن تصرف ، فان هذا الحق انما يثبت اذا كان المال ملكا لزيد واقعا ، فلو تخيل عمرو ان المال ملك لزيد فأتلفه ، ثم ظهر له انه ليس ملكا لزيد وانما كان ملكا لنفسه ، فانه لا يتوهم احد ان يكون ضامنا لزيد بمجرد تخيل انه ملكه.

ولكن الحق هو الصورة الثالثة ، وذلك لأن حق المولى ليس أمراً واقعياً محضاً مع قطع النظر عن مولوية المولى وعبودية العبد كالضمان في المثال المذكور ، بل ان حق المولى عبارة عن مرتبة من احترام المولى بحكم العقل بوجوب التحفظ عليها وعدم الاتيان بما ينافيها ، ومن المقطوع ان العقل لا يفرق في تفويت تلك المرتبة من الاحترام بين مخالفة الحكم الواقعي المقطوع به وبين المقطوع به من الحكم وان كان مخالفا للواقع ، ولا يقاس ما نحن فيه بالضمان في المثال المذكور ، فان الضمان حيث انه أمر واقعي محض ليس لشيء دخل فيه فلا يدور مدار العلم لا وجوداً ولا عدماً ، اما عدماً فلما تقدم في المثال من انه لو تخيل عمرو ان المال ملك زيد فاتلفه ، وظهر بعد ذلك انه ملكه فان لا يضمن له ، واما وجودا فلأنه لو تخيل انه ملكه فأتلفه ، ثم ظهر انه ملك زيد فانه يضمن له ، كما لا يخفى.

هذا كله واضح بناءً على كون الحسن والقبح من مدركات العقل، واما بناءً على أنه من بناء العقلاء ومجعولاتهم لأجل حفظ النظام. فيأتي عليه ما أورده السيد الأستاذ على حرمة الفعل المتجزى به شرعاً حرفاً بحرف، فانه يقال في المقام: ان العبد ان كان ممن ينتظم بنظام بناء العقلاء ويتحرك به فيكفيه بناء العقلاء على قبح المعصية، وإن كان ممن لا ينتظم بنظام ولا يتحرك ببناء العقلاء فحال بناء العقلاء على قبح الفعل المتجزى به بالنسبة اليه حال بنائهم على قبح المعصية فيكون لغواً ، فلو تم الاشكال هناك فلا مخلص منه في المقام أيضاً.

٦٥

ومن هنا يظهر التأمل فيما ذكره المحقق الاصفهاني (ره) في المقام فانه ذكر انه لا فرق في قبح الفعل المتجرّى به بين أن يكون الحسن والقبح من مدركات العقل مع كونها أمرين واقعيين ، وان يكونا من مجعولات العقلاء ، ثم اختار انهما من مجعولات العقلاء.

وذكر في وجهه ان حسن العدل وقبح الظلم ليسا من القضايا البرهانية ، وذلك لأن مواد القضايا البرهانية منحصرة في ست : الأوليات ، والفطريات ، والحسيّات ، والمتواترات ، والتجربيات ، والحدسيات. وحسن العدل وقبح الظلم ليسا من الأوليات لانهما ليستا كقضية «الكل اعظم من الجزء» من الضروريات وليسا من الفطريات وهي القضايا التي تكون قياساتها معها ، ومدركه بادراكها كقضية «الأربعة زوج» ، فان قياس هذه القضية وهو كونها منقسمة بمتساويين يدرك بإدراكها ، وليسا من المحسوسات لأن أياً من الحواس الظاهرة والباطنة لا يدركهما ، وليسا من الثلاث الأخيرة كما هو واضح فلا بد أن يكونا من المشهورات (١).

فان هذا الكلام منظور فيه ، أولاً : لما تقدم من جريان الاشكال المتقدم الذي ذكره هو ايضا كالسيد الاستاذ في تعدد الجعل الشرعي.

وثانيا : لأن ما استدل به على كونهما من مجعولات العقلاء والمشهورات ، وهو انحصار مواد القضايا البرهانية في الست المذكورة بنفسه ، ليس من جملة المواد الست ؛ فان الانحصار ليس من الاوليات بحيث يكون ضروري الادراك ، ولا من الفطريات بحيث يكون قياسه مدركا بادراك نفسه ، ولا من المحسوسات لعدم ادراكه بأحد الحواس الظاهرة والباطنة ، ولا من المتواترات ، والتجربيات ، والحدسيات كما لا يخفى.

إذا فانحصار مواد القضايا البرهانية في الست من المشهورات ، فيتوقف هذا الانحصار على عدم كون حسن العدل وقبح الظلم اللذين ليسا من القضايا الست من

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٨.

٦٦

مدركات العقل ، وإلا فلو كانا من مدركات العقل لا يتم الانحصار ، وحينئذٍ فلو كان عدم كونهما من مدركات العقل ثابتا بالانحصار كما أفيد لزم منه الدور كما لا يخفى.

وأما الكلام مع المحقق النائيني (ره) الذي يعترف بأصل قبح الفعل المتجرّى به ، ولكنه يدعي انه قبح فاعلي وليس فعلياً ، فقد ذكر في تقريرات الكاظمي ان الفعل المتجرّى به في نفسه ليس فيه أي قبح اصلا وإنما صدوره من الفاعل يكون قبيحا.

أقول : ان كان المراد من الصدور ـ الذي هو محكوم بالقبح في كلامه ـ العنوان الثانوي للفعل المتجرى به ، فيكون المقصود ان الفعل المتجرّى به ليس بعنوانه الأولي قبيحا بل هو بعنوانه الثانوي ، وهو عنوان صدوره من الفاعل قبيح ، فنحن ايضا لا نقول بقبح الفعل المتجرّى به بعنوانه الأولي ، لكن تسمية القبح بالقبح الفاعلي لا معنى له بل نفس الفعل يكون قبيحا.

وان كان المراد من الصدور نسبة خارجية حقيقية بين الفاعل والفعل ، تلك النسبة متصفة بالقبح ، فقد مرّ انه ليس هناك نسبة خارجية بين الفعل والفاعل. نعم ، في عالم الذهن تحصل نسبة ذهنية بين الفعل والفاعل حينما يضاف الفعل الى الفاعل ، فيقال : «ضرب زيد» ، إلا أن هذه النسبة لا خارج لها إذا لا يوجد في الخارج غير زيد ، والضرب الصادر منه يكون هو صدور الضرب من زيد. هذا ما ذكره الكاظمي في تقريراته.

وقد ذكر في أجود التقريرات في تفسير القبح الفاعلي انه عبارة عن كشف الفعل عن سوء سريرة العبد وهذا الكلام يناسب انكار قبح التجري رأسا كما صدر من الشيخ الاعظم (قده).

استدل صاحب الكفاية (قده) لعدم كون الفعل المتجرّى به قبيحا عقلا بوجوه اربعة ، ثلاثة منها برهانية ، وواحد منها وجداني.

الوجه الأول : إن ما يتصف بالحسن والقبح لا بد ان يكون فعلا اختيارياً

٦٧

للمكلف ، وإلا لا يتصف بالحسن والقبح كما لا يخفى ، والفعل المتجرّى به بعنوان كونه شربا للخل لا يكون قبيحا كما هو واضح ، وبعنوان كونه شربا للخمر ايضا لا يكون قبيحا اذ لا يتحقق شرب الخمر في الخارج ، وبعنوان كونه شربا للخمر ايضا لا يكون قبيحا اذ لا يتحقق شرب الخمر في الخارج ، وبعنوان كونه مقطوع الخمرية لا يكون فعلا اختياريا للمكلف ليتصف بالحسن والقبح اذ المكلف اراد شرب الخمر الواقعي ، فشرب مقطوع الخمرية ، ولم يُرد شرب مقطوع الخمرية بعنوان كونه مقطوع الخمرية ، فلا يكون تحت ارادته ، فلا يكون فعلا اختياريا له ، اذ الفعل الاختياري ما يكون تحت الإرادة والقدرة ، فلا يتصف الفعل بالقبح اصلا.

ويمكن الجواب عنه حلا ونقضا.

أما حلا : فلما ذكرناه في بحث الطلب والإرادة من ان الفعل الاختياري ما يكون تحت استيلاء المكلف ويكون المكلف مستوليا عليه ، ويكفى في ذلك كونه مقدوراً له وملتفتاً اليه بحيث يصدر عن قدرته والتفاته. وإن أراد صاحب الكفاية بما ذكره من المعنى للفعل الاختياري ، وهو كونه تحت القدرة ومتعلقا للارادة ، بيان معنى اصطلاحي له فلا مشاحة في الاصطلاح إلا أنه يكفي في واقع الاختياري كون الفعل مقدوراً وملتفتاً اليه ، هذا اجمال الجواب ، وتفصيله برهاناً في بحث الطلب والارادة. هذا هو الجواب الحلّي.

وأما الجواب النقضي فقد التفت المحقق الاصفهاني (ره) في حاشيته الى ايراد النقض على استاذه ، فذكر نقضين ، وأجاب عنهما.

النقض الأول : لو شرب الخمر مع الالتفات الى انه خمر لا بقصد انه خمر بل بقصد التبريد لكونه مبردا لا شبهة في قبحه عقلاً ، مع ان القصد والارادة لم تتعلق بشرب الخمر بل تعلقت بالتبريد.

وأجاب عن النقض بان شرب الخمر وإن لم يكن متعلقا للارادة مستقلاً إلا أنه تعلق به تبعا ، حيث ان التبريد معلول لشرب الخمر ، ويتوقف شرب الخمر عليه ، فالارادة النفسية تعلقت بالتبريد إلا أن الارادة الغيرية تعلقت بشرب الخمر.

النقض الثاني : لو اراد شرب المائع فشرب الخمر بما هو مائع من المائعات

٦٨

لا شبهة في انه قبيح عقلا مع انه لم تتعلق الارادة بشرب الخمر بل تعلقت بشرب جامع المائع.

وأجاب عن هذا النقض بان هذا النقض وإن كان احسن من النقض السابق لأنه لا يرد عليه الجواب السابق ، إذ لا يكون شرب الخمر مقدمة لشرب المائع كي تتعلق به الارادة الغيرية المقدمية بل هما موجودان بوجود واحد إلا أنه لا بد في ترجيح شرب الخمر على غيره من المائعات من خصوصية تتعلق به الارادة لئلا يكون ترجيحا بغير مرجح ، فشرب الخمر ايضاً تعلقت به الارادة. هذا ما ذكره المحقق صاحب الحاشية (١).

ولكن يرد عليه نقوض لا يمكن الجواب عنها.

النقض الأول : ان النقض الثاني الذي ذكره المحقق الاصفهاني (ره) يمكن فرض المائع فيه على نحو الانحصار في الخمر لئلا يحتاج الى الترجيح ، فلو كان المائع الذي اراد شربه منحصراً في الخمر حينئذ تعلقت الارادة بالمائع أي بجامعه ، ومن جهة انحصاره في الخمر شربه فلم يكن خصوصية في الخمر كي تتعلق الارادة به.

ويمكن ان نفرض فرضاً ثانيا وهو ان تكون الخصوصية الموجبة لترجيح الخمر على غيره خارجة عن الخمر ؛ وذلك بان نفرض بان هناك اناءين احدهما قذر وفيه الماء ، والثاني نظيف وفيه الخمر ، وهو اراد شرب المائع لاحتياج معدته اليه فاختار شرب الخمر لخصوصية كونه في اناء نظيف ، فحينئذ شَرِبَ الخمر مع عدم تعلق الارادة به ، مع انه قبيح يقينا.

النقض الثاني : انا نعكس النقض الأول ونفرض فرضا يكون فيه الحرام معلوما للمباح لا علة مقدمية له كي تترشح الارادة من المباح اليه فيكون مراداً بالتبع ، وذلك كما اذا اراد الإضاءة ، فضغط على زر الكهرباء لذلك ، وهو ملتفت الى

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ١٠.

٦٩

انه يترتب عليه قتل المؤمن ايضاً ، فقتل المؤمن في المقام معلول لانارة الكهرباء لا أنه مقدمة له كي يقال : تترشح الارادة من ارادة الضياء اليه ، ولا شبهة في انه حرام مع عدم كونه مراداً.

هذا كله ان اراد صاحب الكفاية ان المتلازمين في الوجود يمكن انفكاكهما في الارادة التكوينية كما ذهب اليه في الارادة التشريعية.

وان أراد ان المتلازمين لا يمكن انفكاكهما في الارادة التكوينية وان لم يكن احدهما متوقفا على الآخر ، بل كان بينهما مجرد الملازمة على خلاف ما ذهب اليه في الارادة التشريعية ، فلا يرد عليه النقضان اللذان ذكرهما المحقق الاصفهاني حتى يحتاج في الجواب الى التمحلات التي تمحلها المحقق المزبور ، كما انه لا يرد عليه النقوض التي ذكرناها الا انه يرد عليه ان عدم الانفكاك بين المتلازمين في الشوق والارادة خلاف الوجدان ، اذ يمكن ان يشتاق الانسان الى استقبال القبلة ولا يشتاق الى استدبار الجدي ، فكما انه يمكن الانفكاك في الارادة التشريعية عند المولى بين المتلازمين ، على ما اعترف به صاحب الكفاية (قده) ، فكذلك يمكن الانفكاك بين المتلازمين في الارادة التكوينية عند العبد.

وثانيا : ان هذا لو تم فانما يتم في موارد الخطأ في الموضوع في التجري ولا يتم في مورد الخطأ في الحكم ، كما اذا شرب التتن باعتقاد انه حرام فتبين انه حلال ؛ وذلك لان ارادة شرب التتن تكون مستلزمة لارادة مقطوع الحرمة الذي هو ملازم لشرب التتن ، فبناء على عدم انفكاك المتلازمين في الارادة لا يأتي استدلاله الأول في مورد الخطأ في الحكم ، وانما في مورد الخطأ في الموضوع.

فان التزم صاحب الكفاية بانه في مورد التجري لا يوجد فعل اختياري اصلاً ، كما يلتزم به في الدليل الثالث على ما سيأتي ، فهذا الوجه حينئذٍ يرجع الى الوجه الثالث وليس وجهاً مستقلا ، وإن لم يلتزم به ، بل قال في مورد التجري بأنه يوجد فعل ارادي واختياري بوجه من الوجوه ولو بعنوان الجامع ، فيلزم من ارادة ذلك الفعل ارادة ملازمه ، وهو مقطوع الخمرية مثلا ، فينحل الاشكال.

٧٠

الوجه الثاني : ان الفعل المتجرّى به لا يكون قبيحا بعنوان كون شربا للخل ولا بعنوان كونه شربا للخمر اذ ليس هو شربا للخمر ، على الفرض ، وبعنوان كونه مقطوع الخمرية لا يكون ملتفتاً اليه غالبا ، فلا يكون فعلا اختياريا حتى على المبنى القائل بانه يكفي في اختيارية الفعل كونه مقدورا وملتفتا اليه ، فلا يكون قبيحا لما ذكرنا من انه لا بد في اتصاف الفعل بالقبح والحسن ان يكون فعلا اختياريا للمكلف (١).

وأشكل عليه المحقق النائيني بأنه على هذا لا يمكن ان يؤخذ القطع في موضوع الحكم ، وذلك من جهة انه اذا لم يكن القطع ملتفتاً اليه لا يمكن وصول الحكم الذي اخذ القطع موضوعاً له ، فان العلم بالحكم متوقف على الالتفات الى موضوعه ، فاذا فرض اخذ القطع في الموضوع ولم يكن ملتفتاً اليه لا يمكن وصول الحكم ، وجعل الحكم الذي لا يمكن وصوله لغو محض ، مع ان صاحب الكفاية نفسه قائل بالقطع الموضوعي (٢).

ولكن التحقيق عدم تمامية كلا الكلامين.

أما كلام المحقق النائيني (ره) فلأن صاحب الكفاية لم يقل بأن الالتفات الى القطع محال عقلا ، بل المراد من كلامه ان المكلف حيث أراد شرب الخمر فيكون عنوان مقطوع الخمرية طريقا الى الخمر الواقعي ، ويكون النظر اليه نظرا آليا لا استقلالياً ، بل النظر الاستقلالي الى الخمر وشربه ، فيكون القطع بالخمر آلة ومرآة ، والشاهد على ذلك قيد الغالب في كلامه ، حيث ذكر انه لا يلتفت اليه غالبا ، فالقطع حيث إنه آلة ومرآة الى الواقع لا يكون ملتفتاً اليه بالتفصيل والاستقلال بل يكون الالتفات اليه بنحو الآلية والاجمال. وهذه النكتة لا تأتي فيما اذا كان القطع موضوعياً ، فان القطع فيه لا يكون آلة ومرآة الى أمر واقعي ، بل هو بنفسه موضوع للحكم ، فيكون ملتفتاً اليه بالاستقلال ، ولا يكون مغفولاً عنه.

__________________

(١) كفاية الأصول ، المقصد ٦ ، ص ، ٢٦٠.

(٢) فوائد الأصول ، ج ٣ ، ص ٤٤.

٧١

وأما كلام المحقق الخراساني فلأنه أولا : يكفي في اختيارية الفعل الالتفات اليه بنحو الاجمال مع كون مقدوراً للمكلف ، ولا يحتاج الى ازيد من ذلك.

وثانيا : أن الفعل المتجرّى به لا يكون قبيحاً بعنوان كونه مقطوع الخمرية ، بل يكون قبيحاً بعنوان كونه معلوم الحرمة ، اذ الملازمة إنما هي بين معلوم الحرمة والقبح لا بين مقطوع الخمرية والقبح.

الوجه الثالث : انه لا يوجد في مورد التجري فعل اختياري أصلا ليتصف بالحسن أو القبح ، وذلك لأن شرب الخمر الذي هو مقصود للمتجري لم يقع في الخارج ، وشرب الخل الذي وقع في الخارج غير مقصود ولم تتعلق به الارادة ، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، هذا الوجه ذكره في حاشيته على الرسائل وعلى الكفاية (١).

واعترض على نفسه بأن شرب الخل وإن لم يكن مقصوداً بعنوانه الخاص الا انه مقصود بعنوان الجامع ، وفرض جامعين ؛ احدهما : عنوان المائع ، والثاني : عنوان التجري بمعناه العام الشامل للمعصية ، ويمكن فرض جامع آخر وهو عنوان مقطوع الخمرية الشامل لمورد المعصية والتجري ، فشرب مقطوع الخمرية يوجب قصد الجامع حيث ان الجامع موجود في ضمن المقصود والمتحقق فهو مقصود ومتحقق ، اما انه مقصود فلأن قصد الفرد يستدعي قصد الجامع ، وأما انه متحقق فلأن الكلي يوجد بوجود فرده ؛ فالجامع مقصود ومتحقق.

وأجاب بان ارادة الجامع بارادة فرده تكون ضمنية لا محالة فان المراد استقلالاً انما هو الخمر ، وإرادة المائع بارادة الخمر انما هي ارادة ضمنية بلا اشكال ، وبقانون الارادة الضمنية تكون ارادة المائع ارادة له في ضمن حصة الخمر لا ارادة لمطلق المائع حتى الحصة الموجودة في ضمن الخل.

فحينئذ يرجع الكلام الذي قلناه من ان ما اريد وهو الجامع في ضمن حصة

__________________

(١) كفاية الأصول ، المقصد ٦ ، ص ٢٦٢.

٧٢

الخمر لم يقع ، وما وقع وهو الجامع في ضمن حصة الخل لم يرد ، وهكذا الكلام فيما لو كان الجامع هو عنوان التجري على المولى ، فإننا نقول : ان ما اريد وهو التجري على المولى في حصة المعصية لم يقع ، وما وقع وهو التجري في حصة الحرام الخطئي لم يقصد ، فعاد المحذور وهو ان الفعل المتجرّى به ليس اختيارياً اصلا.

والتحقيق انه لو كان مناط اختيارية الفعل عند المحقق الخراساني (ره) هو انطباق العنوان على الفعل بالفعل يكون ذلك العنوان مراداً للفاعل ، فيتم هذا الوجه ، فانه ليس في المقام عنوان ينطبق على الفعل يكون مراداً للفاعل ، حيث ان عنوان الخل ينطبق على الفعل ولكنه ليس مراداً للفاعل ، وعنوان الخمر يكون مراداً للفاعل ولكنه لا ينطبق على الفعل ، وعنوان الخمر يكون مرادا للفاعل لكنه لا ينطبق على الفعل ، وعنوان مقطوع الخمرية ايضا بعنوان الخل ينطبق على الفعل لكنه ليس مرادا للفاعل مع قطع النظر عما قلناه في ما تقدم ، وأما لو كان مناط اختيارية الفعل كون الفعل صادرا بتحريك الارادة فالفعل المتجرّى به يكون فعلا اختياريا بلا اشكال ، ولا يتم ما ذكره في هذا الوجه.

وتوضيح ذلك : ان الارادة دائما تتعلق بالكلي ، والفعل الصادر من الفاعل دائما يكون جزئيا خارجيا كما لا يخفى ، والارادة المتعلقة بالكلي انما تحرك الفاعل نحو الاتيان بالفرد الخارجي حيث قطع الفاعل بانطباق الكلي على الفرد الجزئي او توهم ذلك ، فمحركية الارادة نحو الاتيان بالفرد انما تكون فيما اذا كان هناك طريق الى انطباق الكلي على الفرد ، والطريق وهو القطع او غيره قد يكون مصيبا فيكون الكلي الذي تعلقت به الارادة منطبقا حقيقة على الفرد ، وقد يكون مخطئا فلا يكون الكلي منطبقا على الفرد وإصابة الطريق وخطؤه لا يفرقان في محركية الارادة نحو الاتيان بالفرد قطعا ، فانطباق العنوان الكلي المتعلق به الارادة وعدم انطباقه على الفعل لا يؤثران في اختيارية الفعل وعدمه.

الوجه الرابع : انه في مورد انقاذ العبد للغريق بتخيل انه عدو المولي وانكشاف انه ابن الملوى بعد الانقاذ ، إن قيل بمحبوبية الانقاذ في عرض كونه قبيحا لكونه تجريا فيلزم منه اجتماع الضدين ، وان قيل بعدم محبوبيته لكونه تجريا وقبيحا فهو

٧٣

خلاف الوجدان قطعا ، فانا نقطع ببقاء الانقاذ على محبوبيته عند المولى حتى في ظرف كونه تجريا عليه ، فيتبين حينئذ أنه لا قبح فيه.

والجواب : ان هذا الكلام ناشئ عن الخلط بين باب الحسن والقبح وباب المصلحة والمفسدة والمحبوبية والمبغوضية وتخيل ان باب الحسن والقبح يرجع الى باب المصلحة والمفسدة كما تقدمت الاشارة اليه ، وسيأتي تفصيل الكلام فيه في تنبيه مستقل في هذا البحث.

والكلام فيه اجمالا هو ان هذا الكلام لو تم فإنما يتم بناء على ان الحسن والقبح من مجعولات العقلاء الممضاة من الشارع بما انه فرد من العقلاء ، فيكونان دائرين مدار الملاكات من المحبوبية والمبغوضية والمصلحة والمفسدة كالاحكام الشرعية.

وأما بناء على أنها من الأمور الواقعية التي يدركها العقل العملي كما يدرك العقل النظري استحالة اجتماع الضدين فلا يدوران مدار الملاكات ، ولا يكون هناك تناف بين ان يكون الفعل مذموما من ناحية التجري ويكون محبوبا من ناحية وجود المصلحة فيه ، اذ التنافي انما هو بين المحبوبية والمبغوضية لا بين كون الفعل مذموما من جهة ومحبوبا من جهة اخرى ، كما انه لا يكون هناك تناف بين أن يكون ممدوحا من ناحية الانقياد ومبغوضا من ناحية وجود المفسدة فيه.

تنبيه :

اعلم أن توهم كون القبح في مورد التجري فاعليا أو فعليا مبني على توهم رجوع الحسن والقبح الى المصلحة والمفسدة قد تترتب على الفعل في حد نفسه وقد تترتب على الفعل باضافته الى الفاعل ، وذلك ككنس المعبر مثلا ، فانه في حد نفسه لا يترتب عليه مفسدة لكن اذا صدر من الامير فيترتب عليه المفسدة ، كما لا يخفى ، فالقبح ايضا كذلك قد يتصف الفعل به في حد نفسه ، وقد يتصف به باعتبار اضافته الى الفاعل.

ولكن هذا التوهم غير صحيح.

٧٤

أما أولاً : فلأن المفسدة فاعلية تارة وفعلية اخرى ، وذلك لما قلناه من انه ليس هناك نسبة خارجية بين الفعل والفاعل فلا معنى لكونه تترتب عليه المفسدة تارة ولا تترتب عليه اخرى. والنسبة الذهنية القائمة بين الفعل والفاعل في عالم الذهن باعتبار اضافة الفعل الى الفاعل انما هي باعتبار حصص الفعل وافراده ، يعني ان الفعل له حصص وافراد خارجية فضرب زيد فرد من الضرب ، وضرب عمرو فرد آخر من الضرب ، وتصور هذين الفردين في الذهن يستدعي وجود نسبة ذهنية قائمة بين الضرب وزيد ، اذاً فكنس المعبر له افراد وحصص في الخارج بعضها يترتب عليه المفسدة وبعضها لا يترتب عليه المفسدة.

واما ثانيا : فلأنا لو سلمنا ذلك في المفسدة والمصلحة فلا نسلم رجوع الحسن والقبح الى المصلحة والمفسدة ، فان الفعل في حد نفسه لا يتصف بالحسن والقبح اصلا ، وانما يتصف بهما باعتبار صدوره من الفاعل كما قلنا ، فقبح الفعل دائما يكون فاعليا أي باعتبار صدوره من الفاعل ، وهذا لا ينافي ما مر من ان القبح دائما يتقدم بالفعل كما لا يخفى وجهه على المتأمل.

المقام الثالث

في كون المتجري مستحقا للعقاب

بناء على ما ذكرنا في المقام الثاني من ان التعدي على المولى وسلبه حقه انما هو باتيان المكلف بما اعتقد حرمته وان فيه مخالفة لأمر المولى ، وبناء على ما مر ايضا في الابحاث السابقة من ان المعروف بينهم ان استحقاق العقاب من الآثار المترتبة على سلب المولى حقه وظلمه ، وان العقل يدرك استحقاق العقاب على سلب المولى حقه وظلمه فاستحقاق العقاب في مورد التجري واضح لا غبار فيه ، ويكون استحقاق العقاب فيه بعين الملاك الذي يستحق العاصي فيه للعقاب بلا تفاوت اصلا.

وأما بناء على ما ذكره بعضهم ، ويوجد في كتب الفلسفة أيضا ، من ان استحقاق العقاب ليس من مدركات العقل وانما هو بجعل من الشارع لتتميم محركية

٧٥

الخطابات الشرعية بالنسبة الى العبد ، فان الناس عبيد وتجار غالبا فلا يعبدون الله لانهم وجدوه أهلا للعبادة كأمير المؤمنين (ع) ، بل يعبدونه خوفا من ناره ، أو طمعا في جنته ، فلا تكون الخطابات الشرعية محركة لهم ما لم يكن وعيد بالعقاب ، أو وعد بالثواب.

فيشكل حينئذٍ استحقاق المتجرّي للعقاب ؛ وذلك لأن جعل استحقاق العقاب من قبل الشارع المقدس ليس بملاك التشفي كما في الموالي العرفيين ليجعل في مورد التجري ايضا ، بل يجعل لتتميم محركية الخطابات الصادرة من الشارع ، وفي مورد التجري يحرك العبد من جهة تخيل كونه عاصيا ، فجعل العقاب على خصوص العاصي يكفي في تحريك المتجري ايضا لأنه يرى نفسه عاصيا في ارتكابه ، فيُحرّك من نفس العقاب المجعول على العاصي ، فيكون جعله في مورد التجري لغوا ، بل يكفي فيه جعله على خصوص العاصي.

فبناء على هذا المبنى يشكل استحقاق المتجري للعقاب ، واما بناء على المبنى المعروف فاستحقاقه للعقاب واضح كما ذكرنا ولا يحتاج الى الاستدلالات العديدة التي ذكرها المحققون في المقام مضافا الى عدم تماميتها في نفسها ، وهي استدلالات عديدة :

أولها : ما نسبه المحقق النائيني (ره) الى السيد الميرزا الشيرازي الكبير (ره) ، على ما في اجود التقريرات ، وهو : ان العلم الذي يؤخذ في موضع حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفته لا بد ان يكون أعم من القطع المصادف للواقع وغير المصادف له ؛ وذلك لانه لو كانت مخالفة خصوص القطع المصادف موجبة لاستحقاق العقاب لوجب احراز المصادفة للواقع في حكم العقل بوجوب الاطاعة وحرمة المعصية واستحقاق العقاب على المخالفة ، واحراز المصادفة خارج عن اختيار المكلف ، فيلزم ان لا يكون هناك حكم يجب امتثاله ؛ لاحتمال ان يكون القطع مخالفا للواقع ، فجزء الموضوع وهو المصادفة غير محرز ، فلا بد أن يكون الموضوع لوجوب الطاعة وحرمة المعصية أعم من القطع المصادف للواقع وغيره ، فيكون القطع الغير المصادف في مورد التجري موجبا لحرمة المعصية واستحقاق

٧٦

العقاب على مخالفته (١).

ولكن هذا الوجه لا يتم ، وذلك لانه يكفي لاحراز المصادفة قطع المكلف بالواقع ، فنفس القطع المأخوذ في موضوع حكم العقل بحرمة المخالفة واستحقاق العقاب عليها يكون محرزاً للمصادفة ، فالمصادفة أي احرازها اختياري للمكلف ، فلا مانع من اخذ خصوص القطع المصادف للواقع موضوعا لحكم العقل. وهذا الوجه جعل في اجود التقريرات مقدمة ثالثة لمقدمات اربع للبرهان على استحقاق المتجرّي للعقاب ، مع ان المقدمة الاولى والثانية لا ربط لها بذلك ، وهذه المقدمة ايضا يمكن جعلها وجها مستقلا كما ذكرنا.

ومما ذكرنا يظهر أن ما اجاب به المحقق النائيني (ره) عن هذا الوجه وهو أنه في مورد التجري ليس لدينا علم بالواقع اصلا كي يقال بان العلم والقطع الموضوع لحكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية واستحقاق العقاب على المخالفة هو الأعم من العلم المصادف للواقع وعدم المصادف بل ما هو موجود في مورد التجري انما هو الجهل المركب لا العلم.

ومما ذكرنا يظهر أن هذا الجواب ليس بتام ، كما ان اصل الاستدلال لا يكون تاماً ، وذلك لان نظر الميرزا الشيرازي الكبير (ره) في الاستدلال كان إلى اقامة البرهان على عدم امكان اخذ خصوص العلم المصادف للواقع موضوعا لحكم العقل ، وانه لا بد من تعميم العلم ، فلو كان دليله تاما لوجب تعميم موضوع حكم العقل الى العلم والجهل المركب ايضا لعدم امكان اخذ خصوص العلم وهو المصادف للواقع على الفرض من تمامية الدليل ، فاثبات انه في مورد التجري لا يكون العلم موجودا بل الموجود انما هو الجهل المركب لا يكفي في الجواب عن الدليل.

ثانيها : هو المقدمة الرابعة من برهان الميرزا الشيرازي الكبير (ره) ،

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ٢٩.

٧٧

على ما في اجود التقريرات ، وهو ان استحقاق العقاب لا يمكن ان يكون من ناحية القبح الفعلي وذلك من جهة انه في موارد الشك والجهل يكون القبح الفعلي موجودا مع عدم استحقاق العقاب ، فمن شرب الخمر جاهلا بكونه خمرا لا يخرج فعله هذا عن كونه قبيحا لأن مفسدة شرب الخمر موجودة فيه مع أنه غير مستحق للعقاب ، فلا يمكن اناطة استحقاق العقاب بالقبح الفعلي ، فلا بد ان يكون منوطا بالقبح الفاعلي لعدم وجود شيء ثالث يكون استحقاق العقاب منوطا به ، والقبح الفاعلي كما انه موجود في مورد المعصية يوجد في مورد التجري ايضا (١).

ويظهر الجواب عن هذا الوجه ايضا مما ذكرناه في المباحث السابقة من انه ليس هناك قبحان موجودان احدهما فعلي والآخر فاعلي بل ليس لدينا إلا قبح واحد وهو قبح الفعل مضافا الى الفاعل ، فليس الأمر دائرا بين القبح الفعلي والقبح الفاعلي ، بل هناك شيء ثالث وهو قبح الفعل مضافاً الى الفاعل.

ثالثها : ما يوجد في رسائل الشيخ الاعظم (ره) ، وذكر في الكتب المتأخرة عنه ايضا ، وهو على ما في الرسائل وتقريرات الكاظمي لبحث المحقق النائيني (ره) ان يقال : ان العاصي والمتجري إما أ ، يكون كلاهما مستحقين للعقاب أو لا يكون واحدة منهما مستحقا له ، والثاني باطل كما هو واضح ، فيلزم الاول (٢).

والوجه في ذلك : انه لا فرق بين العاصي والمتجري الا في ان قطع العاصي مصيب للواقع وقطع المتجري غير مصيب له ، والاصابة ليست اختيارية للمكلف ليناط استحقاق العقاب بها إذ لا فرق بين العاصي والمتجري في ذلك ، فإما أن يكون كلاهما مستحقين للعقاب أو لا يكون واحد منهما ، فإذا بطل الثاني بالضرورة يتعين الاول.

والجواب عنه : ان عدم شرب الخمر قد يكون من جهة عدم وجود العنب والزبيب في الدنيا ليعصر منه الخمر ، وقد يكون من جهة عدم وجود المال لديه

__________________

(١) ذات المصدر السابق.

(٢) الرسائل ، ص ٥ ، وفوائد الأصول ، ج ٣ ، ص ٣٨.

٧٨

ليشتري الخمر ويشربه ، وقد يكون من جهة كونه مريضا ولا قدرة له على تناول الخمر ليشربه مع كونه موجوداً ، وقد يكون من جهة انه شرب ما يتخيل كونه خمرا كالخل مثلا فلا يشرب الخمر بعد ذلك ، وقد يكون من جهة عدم الميل والارادة الى شربه فلا بد في تحقق شرب الخمر من سد باب جميع هذه الاعدام الخمسة ؛ بان يكون العنب أو الزبيب موجوداً ، ويكون المال موجوداً عنده ، واعطاه العلي القدير العافية من المرض ليتمكن من اخذ الاناء وشربه ، ولم يكن قطعه بأن هذا خمر مخالفا للواقع ، وكان عنده الميل والارادة النفسية لشرب الخمر. ويكفي في كون الفعل اختيارياً للمكلف ان يكون سد باب العدم الاخير بيده وهو عدم شرب الخمر من جهة عدم الميل اليه ، ولا يلزم كون سد باب جميع الاعدام بيده وإلا لم يوجد فعل اختياري اصلا ، إذ لا أقل من أن لا يوجد هناك فاعل أو لا يوجد عنب أو زبيب اصلاً ، وليس في الدنيا معصية لم ينسد على المكلف باب من ابواب عدمها ، ولا أقل من انسداد باب العدم الناشئ من عدم الفاعل. هذا بالنسبة الى من صادف قطعه الواقع ، وأما بالنسبة الى الآخر فنسلم استناد عدم استحقاق عقابه الى انه خارج عن الاختيار ، بل لا بد من الالتزام بذلك في كثير من الموارد ، فمن ترك كثيراً من المعاصي لعدم قدرته عليها لمرض ونحوه لم يكن مستحقا للعقاب على تلك المعاصي قطعا.

تنبيهات

وينبغي التنبيه على أمور :

التنبيه الأول : قلنا في اول البحث : إن مخالفة التكليف المنجز يكون تجريا سواء كان تنجزه بالوجدان كالقطع ، أو كان بتعبد شرعي من امارة ونحوه كالاستصحاب ، أو كان تنجزه بأصل عقلي كأصالة الاشتغال وأصالة وجوب الفحص ، ولا اشكال في ذلك إلا في مورد واحد وهو ما اذا خالف الواقع المنجز برجاء غيره كما اذا شرب الخمر الذي شهدت البيّنة بخمريته برجاء انه ليس بخمر.

فيقع الكلام في ان هذا الرجاء يدفع تنجزه أم لا؟ وظاهر ان الرجاء لا يوجب

٧٩

دفع تنجز ما يكون منجزاً بمنجز ، فمخالفة الواقع المنجز بأي منجز كان يكون تجرياً ، كما انه إذا كان هناك مؤمن شرعي أو عقلي لا يكون مانع من الارتكاب بلا اشكال إلا في صورة واحدة وهو ما إذا كان هناك مؤمّن عن شرب المائع بأن شهدت البينة بعدم خمريته مثلا فشربه برجاء كونه خمراً.

فيقع الكلام في أن هذا حرام أم لا؟ ذكر المحقق النائيني (ره) على ما في تقريرات بحثه ان هذا يكون تجرياً ، وكذا غيره من المحققين.

ولكن الصحيح ان يقال : انه تارة يشربه برجاء ان يكون خمراً مع الاستناد الى المؤمّن بحيث لو لم يكن هناك مؤمّن لا يشربه من جهة كونه تجريا وهتكاً للمولى وموجبا للعقاب ، ولو قطع بعدم كونه خمراً ايضا لا يشربه لأنه شرب السكنجبين كثيرا وانما يريد ان يعرف طعم الخمر ويحصل له معلومات بالنسبة اليه مع عدم الابتلاء بتبعاته وعقوباته فحينئذ لا شبهة في انه لا يكون تجريا اذ الفعل الخارجي لا يكون تجريا لوجود المؤمّن والارادة ايضا ليس تجريا لعدم استقلاله في ارادته عن المولى ، بل تحفظ على المولى في ارادته ، وراعى حقه.

واخرى يشرب ما يكون المؤمّن عن خمريته موجودا برجاء انه خمر مع عدم الاستناد الى المؤمّن بل هو يريد شرب الخمر ولو لم يكن هناك مؤمن ايضا لشربه ، ولا يحتفظ بحقوق المولى ولا يراعي حقه ، ففي هذه الصورة بالنسبة الى الفعل الخارجي لا يكون هناك تجرٍّ لوجود الرخصة من المولى في ارتكابه والاذن فيه ، واما بالنسبة الى الارادة والأمر النفسي فقد يقال بانه تجرٍ من جهة استقلاله في ارادته عن المولى وعدم الاهتمام به ، ولكن هذا لو تم فلا اختصاص له بصورة شربه برجاء كونه خمرا بل يأتي فيما اذا شربه مع عدم الاستناد الى المؤمن مطلقا سواء شربه برجاء كونه خمراً أم لا.

التنبيه الثاني : انا ذكرنا سابقا انهم تخيلوا أن الحسن والقبح في باب التجري مرجعهما الى الملاكات الواقعية للأحكام من المفسدة والمصلحة ، وحيث اشتبه عليهم ذلك وقع الكلام في ان الفعل في مورد التجري حسن وذو مصلحة بعنوانه

٨٠