جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

وللرائحة الطيبة ، وللطعم اللذيذ ادراكاً للملائم ، فتنبسط عند هذا ، وتنقبض عند ذاك ، كذلك القوة العاقلة تنبسط وتنقبض بادراك الملائم والمنافر فيكون الشيء ملائماً ومنافراً لها بملاك السنخية وعدمها من حيث سعة الوجود وضيقه ، ولا نريد بالحسن والقبح العقليين إلا ذلك ، وهو يكفي لصحة المدح في الأول ، وصحة الذم في الثاني (١). هذا تمام توضيح ما أفاده (قدس سره).

ويرد عليه اولاً : ان في ذلك خلطاً بين المدرك بالذات والمدرك بالعرض ، بعد فرض الاعتراف بالمقدمة الفلسفية التي بنى عليها كلامه ، فان القوة العاقلة حين تدرك العدل والظلم أو أنواعهما ادراكاً تصورياً أو تصديقياً يكون لها مدركاً بالذات ، وهو الصورة القائمة في عالم النفس التي هي نفس الادراك حقيقة لاستحالة تعلق الادراك بالخارج ، كما حققناه في بحث اجتماع الأمر والنهي ، ولها مدرك بالعرض ، وهو ما تحكي الصورة عنه ، وتكون فانية فيه فناء المرآة في ذي المرآة.

وبعد هذا التحليل نقول : ان المناسبة بين القوة العاقلة وبين مدركها التي جعلت ملاكاً للمنافرة والملاءمة وجوداً وعدماً إما ان تلحظ بين القوة العاقلة والمدرك بالذات ، وإما ان تلحظ بين القوة العاقلة والمدرك بالعرض ، اما بلحاظ المدرك بالذات الذي هو نفس الادراك فمناسبة القوة العاقلة مع جميع ادراكاتها على حد واحد لأن ادراكات كل قوة مجردة وجودياً بالقدر الذي يناسب صدورها عن تلك القوة ، ومناط سعة وجودها هو صدورها عن تلك القوة لا سعة وجود المدرك بالعرض وضيقه ، فادراك القوة العاقلة للجوهر المادي وادراكها للجوهر المجرد لا يختلفان في تجردهما وسعة وجودهما ، من حيث عقلانية القوة الصادر كل منهما عنها ، فليس ادراك الجوهر المادي مادياً مثلاً ، وادراك الجوهر المجرد مجرداً ليكون الاول اضيق وجوداً من الثاني وعليه فادراك العقل للظلم والعدل بأي معنى فرض يكون مناسباً للقوة العاقلة على نهج واحد ، ولهذا لا يمكن ان يقاس ذلك بالقوى الأخرى الدراكة ، كما وقع في كلامه (قدس‌سره).

__________________

(١) الفوائد ، المحقق الخراساني ، ص ٣٣٠ ، فائدة في اقتضاء الأفعال للمدح والذم.

٢٢١

ونقطة عدم القياس هي انه في قوة الشم مثلاً يكون الملائم والمنافر هو نفس المدرك بالذات الحاضر لدى القوة ، فانه يناسبها بما هي قوة شم ، ويلائمها ادراك الروائح الطيبة بما هو ادراك ، حتى لو فرض عدم وجود مطابق له ومدرك بالعرض ، كما انه ينافرها ادراك الرائحة الكريهة بما هو ادراك ايضاً ، بقطع النظر عن مطابقه ، فالأولى بحال قوة الشم في مرتبتها ان تدرك الرائحة الطيبة ، ولا تدرك الرائحة الكريهة ، وليس الأولى بالقوة العاقلة ان تدرك العدم ولا تدرك الظلم.

فاتضح ان انبساط قوة الشم وانقباضها انما هو لوجود الملائم والمنافر في افقها ، وحضوره لديها ، وهو نفس ادراك الرائحة الطيبة والكريهة ، وأين هذا من القوة العاقلة التي يكون الحاضر لديها ادراكاً مجرداً تجريدياً عقلانياً دائماً ، ونسبته الوجودية اليها على حد واحد؟.

وأما المدرك بالعرض فهو وإن كان يختلف في مناسبته مع القوة العاقلة باختلاف سعة وجوده وضيقه ولكنه ليس حاضراً لدى القوة ليؤثر في انبساطها وانقباضها ، وفناء الصورة فيه انما يصلح ان يحكم عليها بما له من خصوصيات وصفات كما يحكم على صورة النار في العقل بأنها حارة باعتبار فنائها في الخارج ، ولا يوجب الفناء سريان خصائص وصفات الخارج الى الصورة حقيقة لكي تسري المناسبة وعدمها من الخارج الى الصورة العقلية.

ويرد عليه ثانياً : النقض بأمور ان امكن الجواب على بعضها بالتكلف فهي بمجموعها نافعة للمقصود.

فمنها : ان لازم ما افيد ان العقل العملي بالتعبير العلمي ، او الضمير الخلقي بالتعبير الوعظي ، يتناسب طرداً وعكساً مع تجرد القوة العاقلة ، فكلما كانت اكثر تجرداً واقتناصاً للكليات وتجريداً لها عن شوائب الخصوصيات كانت اكثر ادراكاً لحسن الحسن وقبح القبيح ، مع ان المشاهد خارجاً هو ان كمال العقل العملي لا يرتبط بكمال العقل النظر وشدة تجرد القوة العاقلة في ادراك الكليات.

ومنها : ان لازم ذلك ان يدرك الأقوى تجرداً قبح ما لا يستقبحه الأدنى ، أي

٢٢٢

قبح صدور فعل من الأدنى لا يرى الأدنى قبحاً في صدوره منه لان النسبة بين الاقوى وهذا الفعل كالنسبة بين الأدنى وأول مراتب القبيح من حيث سعة مراتب الوجود وضيقه.

ومنها : ان لازم ذلك ان يتساوى في العقل العملي العملي لانسان واحد قبح صدور الكذب من النبي (ص) وقبح صدوره من احد الرعية ؛ لأن النسبة الوجودية على حد واحد ، بل ان لا تدرك القوة العاقلة العملية قبح أمر وجودي ما لم تستحضر الاعدام الملازمة له ، لأن الوجود لا يكون شراً وضيقاً الا باعتبار مساوقته مع تلك الاعدام ، ولا ادري هل ان عدم المناسبة بين القوة العاقلة وتلك الاعدام يكون سبباً عنده لحصول المنافرة مع الأمر الوجودي الملازم لها ، وهو الكذب ، وثبوت القبح له حقيقة او عرضاً ومجازاً؟

فان ادعى الثبوت الحقيقي كان مرجعه الى التسليم بان حسن الضد يستلزم قبح ضده الخاص ، وبالتالي ان وجوب الفعل يستلزم حرمة ضده الخاص ، إلا أن يقصد بالعدم المصحح لقبح الكذب هو الحد العدمي لنفس ماهية الكذب ، لا الاعدام الملازمة ، وحينئذٍ يرد عليه ان الكذب بما هو كيف مسموع وكيف نفساني لا يختلف في حد نقصانه الماهوي عن الصدق ، وان اراد ان القبح يثبت للكذب بالمجاز والمسامحة ، وانه ثابت في الحقيقة للاعدام الملازمة ، فهذا اقرب من الأول ، كما يظهر بمراجعة الوجدان.

ثم ان هذا الانبساط والانقباض المتصور في كلامه للقوة العاقلة ليس هو نفس صحة المدح والذم ، بل هو حالة انفعالية في القوة كسائر الحالات الانفعالية في سائر القوى الدراكة ، وحينئذٍ لا بد من تصوير لصحة المدح والذم فان فرض ان ذلك بالاعتبار وبالجعل التشريعي سواء كان من الشارع أو من العقلاء فقد رجع الكلام الى انكار الحسن والقبح العقليين في الحقيقة بالمعنى الذي يصور ضامناً عقلياً للتحرك نحو الخير واجتناب الشر ، ورجعت محركية الخير وزاجرية الشر الى قوة القانون المتكفل لجعل صحة المدح أو الذم من قبل الشارع أو غيره.

٢٢٣

وأما اذا كانت صحة المدح والذم أمراً واقعياً ثابتاً بقطع النظر عن أي اعتبار ، فيكفي ذلك في تصوير الحسن والقبح العقليين بلا حاجة الى ضم دعوى الانبساط والانقباض والملاءمة والمنافرة في القوة العاقلة ، إلا أن يكون مقصوده (قدس‌سره) مجرد كونه معرفاً ، وقد ظهر من تضاعيف ما ذكرناه عدم امكان ارجاع العقل العملي المدعى الى باب الميل والغريزة وسلخه عن الصفة الادراكية ، بحيث يكون مجرد دافع نفسي في مقابل سائر الدوافع والميول المركوزة في طبيعة الانسان ، فان ارجاعه الى ذلك يؤدي الى عدم امكان تطبيق قضاياه على خارج حدود الفعل المباشر لصاحب الميل والغريزة ، فان الميل في كل انسان انما يقتضي فعلاً ولا يقتضي حكماً ، ولا ربط له بالفعل الصادر من الغير ، ولو كان مخالفاً سنخاً للفعل الذي يقتضي الميل صدوره من صاحب الميل ، مع اننا نطبق العقل العملي حتى على الباري سبحانه ، فنقول : ان العدل منه حسن ، والظلم منه قبح مثلاً ، كما ان من زال عنه الميل الى الخير بسبب توغله في الشر يميز بين الحسن والقبح ايضاً ، مع انه لا يشتهي الحسن ، فالتمييز اذاً تمييز عقلي ادراكي لا ميلي غريزي.

كما انه بما ذكرناه يظهر ما هو المعروف عن الفلاسفة في هذا المقام ، فانهم سموا قضايا الحسن والقبح العقليين بالقضايا المشهورة ، وجعلوها من القضايا الواجبة التسليم ، وإن لم تكن من القضايا الواجبة الاعتقاد والضرورية الصدق ، وقالوا بشأنها انها ترجع الى مصالح ومفاسد لبقاء النوع وحفظ النظام ، ولكن لا كل مصلحة ومفسدة ، بل تلك المصالح والمفاسد التي يدركها العاقل بما هو عاقل بلا مزية تمعن وتأمل ، ويترتب على ذلك ان تكون الملاكات مدركة لتمام العقلاء لاشتراكهم في سبب الادراك ، ونتيجة لهذا يتطابق العقلاء على صحة المدح وصحة الذم ، ويتكون العقل العملي.

وقد عرفنا سابقاً أن ربط الحسن والقبح بالمعنى المدرك لمعاشر العقلاء بباب المصالح والمفاسد المترتبة على الافعال الحسنة والأفعال القبيحة أمر غير صحيح ، سواء أريد بالمصالح والمفاسد المترتبة أو الملحوظة ملاكاً ما يعود على النفس بالكمال أو على المجتمع لحفظ النظام وبقاء النوع ، لأن ذلك يؤدي الى تطبيق

٢٢٤

قوانين باب التزاحم بين المصالح والمفاسد على باب العقل العملي ، مع انا عرفنا عدم خضوع المقام لتلك القوانين. هذا بالنسبة الى ملاك المدعي.

وأما بالنسبة الى نفس العقل العملي فلم يستحصل لنا من كلماتهم معنى واضح ، لأن جملة من هذه الكلمات التي وجدناها قد يمكن تطبيقها على وجهين :

أحدهما : ان الفلاسفة بقولهم مثلاً : انه لا محصل للقضايا المشهورة إلَّا الشهرة ، يريدون أنه لا سند لحقانيتها ، ولا ضمان لمطابقتها للواقع سوى الشهرة التي لا تصلح ضماناً من الناحية المنطقية ، لأن مفاد القضية ليس مما تدركه القوى العقلية أو الادراكية بشكل عام المركوزة في طبيعة الانسان وفطرته.

ولهذا ترى الشيخ الرئيس (قدس‌سره) يقول : ان الانسان لو خلق منفرداً لم يدرك قبح الظلم ولا حسن العدل لا بعقله ولا بحسه ولا بفهمه ولا بوهمه (١) ، فهذا الكلام غاية ما يعطي بيان عدم كون المعقول العملي معقولاً او مدركاً فطرياً للانسان لا عدم صحته في نفسه.

كما انه ذكر هو وشارح اشاراته المحقق الطوسي (قدس‌سره) ان القضايا المشهورة ليست بينة الصدق وإن كانت قد تصدق ، وهذا ايضاً يناسب مرتبة التشكيك في الحقانية ، لا دعوى كذب القضية رأساً ونفي حقانيتها (٢).

والوجه الآخر : ما هو الظاهر من كلمات المحقق الاصفهاني (قده) من دعوى انكار واقعية الحسن والقبح رأساً ، وان مرجع العقل العملي الى تطابق آراء العقلاء ، ولا واقع له وراء ذلك ، وبالرغم من اصراره على ذلك فانه لا يتحصل من كلماته في مقام الاستدلال سوى ما يكون نافعاً للمدعي على الوجه الاول دون الثاني ، لأنه في بحث التجري يحاول ان يبرهن على عدم كون قضايا العقل العملي من مواد البرهان ، وهذا المقدار من البرهنة لو تم وأخرج العقل العملي عن مواد البرهان فهو

__________________

(١) شرح الاشارات ، ج ١ ، ص ٢٢٠.

(٢) المصدر السابق.

٢٢٥

لا يعني سلب صفة الصدق عنه ، بل سلب صفة ضمان الحقانية ؛ لان ما هو مضمون الحقانية هو العقل البرهاني خاصة ، وكيف كان ، فان اريد الأول فهو يرجع الى الجهة الثالثة أي البحث في حقانية الادراك وعدمه ، وسيأتي الكلام عنها ان شاء الله تعالى.

وإن اريد الثاني فليس له محصل إلَّا بالغاء العقل العملي رأساً ، وجعل هذا اللفظ مجرد اصطلاح.

توضيح ذلك ان المدرك بالعقل العملي على الوجه الثاني إما أن يكون هو نفس تطابق العقلاء على صحة المدح والذم ، وإن متعلق التطابق ، والأول الغاء للعقل العملي لأن تطابق العقلاء على المدح والذم قضية واقعية كتطابقهم على حب اولادهم مثلاً ، أو على الاشمئزاز من الروائح الكريهة ، وكل ذلك مما يدركه العقل النظري بحتاً ، وإن كان الثاني فمتعلق التطابق هو صحة المدح والذم ، وهذا المتعلق إما ان يكون له نحو من الواقعية بقطع النظر عن عمل العقلاء ، وإما أن يكون مرجعه الى عملين من العقلاء أحدهما تشريعي وهو جعل القانون ، والآخر خارجي وهو تنفيذ القانون ، والأول هو المطلوب ، والثاني مما يدرك بالعقل النظري لا العملي ، فان حال قانون العقلاء هو حال قانون الشارع وكون الجاعل هو العقلاء أو الشارع أو عاقلا واحداً دون غيره من العقلاء لا يوجب فرقاً في سنخ هذه القضايا ادراكاً ولا مدركاً. هذا تمام الكلام في الجهة الثانية.

الجهة الثالثة

يقع الكلام في الجهة الثالثة في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في تصوير ما هو المدعى في المعقول بالعقل العملي.

المقام الثاني : فيما يبرهن به على نفي هذا المدعى.

المقام الثالث : بعد فرض عدم قيام برهان نافٍ نتكلم عن مقدار ضمان حقّانية هذا المدّعى وثبوته.

٢٢٦

المقام الاول

أما المقام الأول فمرجع الحسن والقبح المدرك بالعقل العملي الى الضرورة ، ولكن لا تلك الضرورة التكوينية المقابلة للامكان بحسب عالم التكوين ، بل سنخ آخر من الضرورة يختلف عن الضرورة التكوينية مرتبة وسنخاً ، فمن حيث المرتبة هي ضرورة في طول السلطنة التي هي قسيمة للوجوب أي الضرورة التكوينية والامكان ، وحيث كانت في طول السلطنة لا في عرضها كالضرورة التكوينية فلا محالة كانت تختلف عنها سنخاً ، لأنها لو كانت من سنخها ، وكان محصلها امتناع التخلف لكان ذلك خلف فرض السلطنة ، وفرض ان له ان يفعل وان لا يفعل ، فنفس تفرعها عن السلطنة تقتضي تغاير الضرورتين سنخاً.

والتمايز بين الضرورتين في عالم التصور بديهي لا يحتاج الى توسيط تعريفات منطقية ، كالتمايز بين الامكان والوجوب ، والوجود والعدم ، ونسمي هذه الضرورة التي هي في طول السلطنة بالضرورة الاخلاقية ، في قبال اطلاق اسم الضرورة التكوينية على الوجوب المقابل للسلطنة.

وهذه الضرورة الاخلاقية امر واقعي ، بمعنى انها ثابتة في لوح الواقع الذي هو في مبانينا اوسع من لوح الوجود ، فكما ان النسبة بين الوجود والماهية هي في لوح الواقع ، اما بالضرورة او بالامكان مثلاً كذلك النسبة بين الفعل والسلطنة على ذلك الفعل ، أو بين الترك والسلطنة على ذلك الترك.

وكما ان صفات تلك النسبة بين الوجود والماهية أمور واقعية ، بقطع النظر عن اعتبار أي معتبر ، كذلك ايضاً صفات هذه النسبة القائمة بين السلطنة والفعل والعقل ، وحيث كانت هذه النسبة متقومة بطرفيها وكان احد طرفيها هو السلطنة فلا محالة تختص الضرورة الاخلاقية بموارد السلطنة ، وهذا هو معنى اختصاص الحسن والقبح العقليين بالافعال الاختيارية.

وهكذا يتضح ان واقعية هذه الضرورة الخلقية هي بمعنى واقعية الضرورة

٢٢٧

التكوينة وعلى حدّها ، وان اختلفا سنخاً ومرتبة كما عرفنا.

وبهذا يظهر ان حسن الفعل بعد ارجاعه الى تلك الضرورة الخلقية القائمة بالنسبة بين الفعل والسلطنة ، أي بين الصدق والسلطنة مثلاً ، لا يمكن تفسير هذا الحسن بصحة المدح ، كما هو مقتضى القول المشهوري المتعارف الذي يفسر الحسن والقبح بصحة المدح وصحة الذم ، فان المدح والذم فعلان من الافعال الاختيارية ، ويتصفان بالحسن والقبح بخصوص هذين الفعلين ، وارجاع حسن الافعال وقبحها اليهما ، فالصدق مثلاً حسَن في نفسه ومدحه حسَن ، لا ان حُسن الصدق معناه حُسن المدح له ، فان ادراك العقل العملي لحُسن مدح الصدق على حد ادراكه لحُسن الصدق في نفسه بقطع النظر عن كل مادح.

وبهذا نعرف انه في مورد كل فعل حسَن أو قبيح يوجد لدينا حكمان عقليان طوليان احدهما : حُسن الفعل ، والآخر : حُسن مدحه وقبح ذمه ، أو أحدهما : قبح الفعل ، والآخر : قبح مدحه وحُسن ذمه ، وهذا الحكم العقلي الثاني انما يصدق بالنسبة الى فاعل مدرك للحكم الاول ، فالعلم بالحكم الأول مأخوذ في موضوع الثاني.

وبذلك نفسر فنياً ما هو الثابت وجداناً من عدم صحة معاقبة القاصر في عقله العملي الذي لا يدرك قبح الاشياء ولا حسنها بالرغم من اتصاف افعاله بالقبح ، فان مرد ذلك الى اطلاق الحكم العقلي الاول ، وتقييد الثاني بعلم الفاعل بالأول ، ولو لا ذلك ، أي لو التزم بوحدة الحكم العقلي ، لما امكن تفسير هذا الوجدان ؛ لاستحالة اخذ العلم بالحكم العقلي في موضوع نفسه وإن امكن ذلك في الحكم الشرعي ؛ لانه انما يمكن هناك بلحاظ التفكيك بين الجعل والمجعول في الامور الاعتبارية ، ودعوى كون العلم بالجعل مأخوذاً في موضوع المجعول ، وأما في المقام فالمفروض انه امر واقعي لا معنى لتحليله الى جعل مجعول ليؤخذ العلم باحدهما في موضوع الآخر.

٢٢٨

ويستخلص من جميع ما ذكرناه في تصوير المدعى الامور الآتية :

أولاً : ان الحسن والقبح صفة للنسبة القائمة بين السلطنة والفعل ، ومرجع هذه الصفة الى ضرورة ايقاع النسبة او ضرورة عدمها.

ثانياً : ان هذه النسبة حيث كانت متقومة بالسلطنة فلا محالة تكون الضرورة فيها ضرورة في طول السلطنة ، ولأجل ذلك يختص العقل العملي بموارد الافعال الاختيارية ؛ إذ لا سلطنة في غير تلك الموارد.

ثالثاً : ان هذه الضرورة التي هو في طول السلطنة تختلف عن الضرورة التكوينية المقابلة للامكان مرتبة وسنخاً ، أما من حيث المرتبة فلأن السلطنة هي قسيم للضرورة التكوينية ، بناءً على ما حققناه في محله من كون النسبة إما الوجوب أو الامكان ، أو السلطنة ، بينما ان الضرورة الخلقية أي ضرورة العقل العملي في طول السلطنة ، كما أن الصورتين مختلفتان سنخاً ؛ لأن احداهما تكوينية والأخرى اخلاقية.

رابعاً : ان واقعية الضرورة التي نتكلم عنها في باب العقل العملي على حد واقعية الضرورة التكوينية ، بمعنى انها ثابتة في لوح الواقع بقطع النظر عن اعتبار أي معتبر.

خامساً : ان المدح والذم لا مزية لهما في باب العقل العملي ، بل هما فعلان كسائر الافعال الاختيارية ، وليس معنى حسن سائر الافعال أو قبحها حسن المدح أو الذم ، بل حسن المدح والذم انما هو بملاك حسن الممدوح وقبحه.

سادساً : ان اتصاف المدح والذم للفعل الاختياري بالحسن والقبح ، انما هو في طول علم الفاعل بحسن الفعل الممدوح ، أو قبح الفعل المذموم في نفسه ، بمعنى ان العلم بحكم عقلي من قبل الفاعل اخذ في موضوع حكم عقلي آخر.

هذا تمام الكلام في تصوير المدعى ، وستأتي بعض التفصيلات في تضاعيف البحث ، كما ان اصل الحديث عن السلطنة التي تكون الضرورة الخلقية في طولها قد

٢٢٩

سبق مفصلاً في بحث الجبر والاختيار من مباحث اتحاد الطلب والارادة ، وسوف نكتفي هنا بمجرد الاشارة المختصرة الى ذلك بالمقدار الذي يتناسب مع ما نحن بصدده من تصوير المدعى في باب العقل العملي محيلين التفصيلات واكثر النكات والخصوصيات الى تلك المسألة.

فنقول : ان نسبة الفعل الى الفاعل عند الفلاسفة لا تخلو من احد امرين : الوجوب أو الامكان ، وعلى الأول تتم الفاعلية ويوجد الفعل ، وعلى الثاني تحتاج الى التتميم ؛ لأن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وبناءً على ذلك وقع الاشكال بين الافعال الاختيارية وغير الاختيارية من حيث ان كلا منهما اذا لوحظ بالاضافة الى فاعله التام فهو بالوجوب والضرورة ، وإذا لوحظ بالاضافة الى الفاعل الناقص المحتاج الى التتميم أو الى المادة القابلة فهو بالامكان ، فأي فرق يبقى بين الفعلين بعد فرض استوائهما في كلتا النسبتين.

وفي مقام حل هذا الاشكال وتصوير الفرق اتجه الفلاسفة وانصارهم الى بيان الفرق والمائز للفاعل الاختياري مع التحفظ على نسبة الوجوب والامكان وانحصار النسبة بهما.

وذهب جماعة من المحققين الاصوليين الى اختيار كون النسبة الامكان دون الوجوب ، بدعوى كفايته في تحقق الفعل الاختياري بالتقريب الذي سوف نشير اليه ، وكلا الاتجاهين مما لا يمكن المساعدة عليه.

ولا بد لكي يتضح ذلك ان نشرح كلا النظرين بمزيد الاختصار.

أما النظر الأول الفلسفي فحاصله التفرقة بين الانسان المختار وأفعاله وبين غيره من العلل وآثارها بلحاظ تلك النسبتين ؛ أي نسبة الامكان ونسبة الوجوب ، فمن حيث النسبة الامكانية يلاحظ ان منطقة الامكان التي يمارسها الموجود تتناسب طرداً مع قوة ذلك الموجود ، فالحجر والنبات والحيوان والانسان لكل واحد منها منطقة امكان إلا أن كل متأخر في هذه السلسلة باعتبار كونه أكمل وجوداً من المتقدم عليه يتمتع بمنطقة أوسع ونطاق أرحب.

٢٣٠

بينما كان الحجر محكوماً بقانون طبيعي صارم واحد بحيث يمكن التنبه بما سيقع عند ما تقذفه الى جهة ، ولا يمكن في حق الحجر بحال من الاحوال ان يغير من موقفه أو من وضعه حسب الظروف نجد أن النبات يمكن في حقه ان يكيف تصرفه حسب الظروف ويتفادى الاصطدام.

ويزيد عليه الحيوان الممكن في حقه الوان عديدة من الحركة والفعل ، إلا أنه بالرغم من سعة منطقة الامكان له نسبياً فهي منطقة مقفلة في حدود غرائزه وشهواته.

وأما الانسان فهو أوسع منطقة من كل ذلك لأن منطقته ليست مقفلة في حدود غرائزه ، لإمكان حكومة العقل على الغريزة في الانسان.

وأما من ناحية نسبة الوجوب فالوجوب في الانسان يختلف عن الوجوب في العلة الطبيعية باعتبار كونه وجوباً في طول الاختيار ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار وإلا لزم من وجوده عدمه ، بخلاف الوجوب في سائر الموارد فانه لم ينشأ من الاختيار ، بل هو في قباله.

هذا خلاصة ما يستنتج من روح كلماتهم في تصوير الفرق ، وهو فرق لا يرجع الى محصل.

أما من حيث نسبة الامكان فلأن سعة دائرة الامكان للانسان نسبياً لا يصحح عنوان الاختيار ، ولا ينتزع منه مفهوم الحرية ، فان الانسان بقطع النظر عن ارادته ومبادئ الارادة ليس في الحقيقة على اساس المظهر الفلسفي إلا مادة قابلة للتكيف بالصلاة وغيرها من الأفعال ، فيكون امكان الصلاة على الانسان بما هو على حد امكان كل شيء بالنسبة الى مادته القابل له ، فكما ان اوسعية دائرة الامكان في قبول المادة لا يكون مصححاً لاختيارية مادة في قبال مادة اخرى كذلك الحال في المقام.

وأما من حيث نسبة الوجوب فما يكون في طول الاختيار وإن كان لا ينافي الاختيار ، كما افيد ، ولكن ما هو هذا الذي يكون الوجوب في طوله والذي يسمى بالاختيار ، ان الوجوب عندهم في طول الارادة التي هي العلّة الفاعلية ، وتسمية الارادة اختياراً إن كانت مجرد اصطلاح فلا نزاع فيه ، ولا يجدي مجرد الاصطلاح

٢٣١

في تحقيق ما هو المقصود من الاختيار ، وإن كان المدعى انه اختيار بالمعنى المقصود فهو باطل ضرورة ؛ لأن المعنى المقصود هو تلك الخصوصية التي يراها العقل العملي دخيلة في اتصاف الافعال بالحسن والقبح واستحقاق المدح والذم والثواب والعقاب ، وبديهية العقل العملي تحكم بان من خلق ارادة تامة في تأثيرها في نفس غيره ، وصدر عنها الفعل لا يدرك حسن ذلك الفعل من الفاعل ولا قبحه ، ولا يصح منه عقابه أو اثابته.

وهنا لا بد من الالتفات الى نكتة وهي ان الفلاسفة اذا فرض انهم ينكرون واقعية العقل العملي لا يبقى معنى للنزاع معهم في اختيارية الافعال وعدمها إلا في مجرد الاصطلاح ، لما عرفت من ان العقل العملي هو المقياس الواقعي للاختيارية ولتحديد حدودها.

وعلى هذا إن رجع قولهم : ان الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، في قبال من يدعي المنافاة ، الى ان الوجوب بالارادة لا ينافي الارادة فهذا مما لم ينكره احد ، بل هو على حد قولنا : ان وجوب الحرارة بالنار لا ينافي النار ، ويكون اجنبياً عن محل الكلام.

وإن رجع هذا الكلام الى ان الوجوب بشيء نسميه اصطلاحاً بالاختيار لا ينافي الاصطلاح فهذا ايضاً كلام لا معنى له لأن باب الاصطلاح واسع ، ولا برهان فيه. وان رجع الى ان الوجوب في طول الاختيار بالمعنى المدرك بالعقل العملي شرطيته لا ينافي الاختيار فهو مما لا يثبت المطلوب إلا بعد اثبات ان الاختيار المدرك بالعقل العملي هو نفس الارادة التي حصل الوجوب بسببها ، بحيث ان هؤلاء ينكرون العقل العملي على ما ينسب اليهم ، فلا يناسبهم ايضاً هذا المحمل ، وهذا يؤيد ان مقصودهم من هذه العبارة ايقاع الصلح الظاهري مع العامة لا البرهان.

اما النظر الآخر الذي اتجه اليه جماعة من المحققين الاصوليين فهو دعوى تمحض النسبة في باب الافعال الاختيارية بالنسبة الامكانية.

وحاصل تقريب ذلك في كلماتهم ان نسبة الوجوب انما يلتزم بها بقاعدة ان

٢٣٢

الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وهذه القاعدة لا نسلم اطلاقها لباب الافعال الاختيارية ، فان صدور الفعل الاختياري من الفاعل لا يحتاج إلا الى الامكان ، وبعد فرض الامكان يعمل الفاعل قدرته ويترتب الفعل حينئذٍ.

ولتوضيح مقصودهم قالوا : ان للانسان في موارد الاختيار عملين اختياريين ؛ احدهما : اختياري بنفسه وبالذات ، وهو نفس الاختيار وهو اعمال القدرة في عالم النفس ، والآخر : العمل الاختياري الخارجي الذي هو اختياري باعتبار نشوئه من الفعل النفساني الأول ، والفعل الثاني وإن كان مترتباً حتماً على الفعل الأول إلا أن هذه الحتمية لا تنافي الاختيار ، لأنها في طول الاختيار ، غير ان هذا الاختيار الذي تكون هذه الحتمية في طوله ليس هو الارادة التي اصطلح عليها الفلاسفة باسم الاختيار ، بل هو نفس اعمال القدرة في عالم النفس الذي هو فعل للنفس لا كيفية من كيفياتها ، ونسبته الى النفس نسبة الفعل الى الفاعل ، ونفس هذا الاعمال لا يحتاج الى اعمال سابق ، بل يكفي فيه مجرد امكان صدور الفعل من الفاعل ، وهذا معنى تخصيص قاعدة «ان الشيء ما لم يجب لم يوجد» ، ولتفصيل الكلام في شرح هذه النظرية ، وبيان وجوه الاعتراضات عليها مقام آخر ، إلا أننا نقول بنحو الاشارة هنا ان توسيط هذا الفعل النفساني في حل الاشكال لا موجب له ولا مسوغ.

إذ يمكن ان يُدعى في نفس الفعل الاختياري الخارجي ما ادعي في هذا الفعل النفساني ابتداء بعد فرض امكان تخصيص قاعدة «ان الشيء ما لم يجب لم يوجد» ، بل لا معنى لفرض كون اعمال القدرة فعلاً صادراً من النفس في صفتها ؛ لأن الإعمال والعمل شيء واحد على حد الايجاد والوجود ، فان اريد بالاعمال ايجاد نفس القدرة فمن المعلوم ان هذا خارج عن حدود اختيار الانسان ، فان اعمال القدرة بمعنى ايجادها فعل الواجب ، سبحانه وتعالى ، فينبغي ان يراد اعمال القدرة بمعنى ايجاد العمل المقدور ، ويكون حينئذٍ عنواناً ثانوياً لنفس الفعل الخارجي ، لا فعلا نفسانياً متقدماً عليه في الرتبة.

وأظن أن هؤلاء المحققين انما التزموا بتصور هذا الفعل النفساني المتوسط بين الفعل والفاعل باعتبار انهم ادعوا تخصيص قاعدة «ان الشيء ما لم يجب لم

٢٣٣

يوجد» ، وأدركوا ان هذا التخصيص اذا ادعي في مورد يمكن ان يدعى في مورد آخر حتى ينتهي المطلب الى سد باب اثبات الصانع ، فانه اذا كفى في صدور الصلاة من الانسان امكانها فليكفِ في وجود المادة امكانها ، فأرادوا الوقوف في قبال سريان هذا التخصيص بتصوير هذا الامر المتوسط ليقال حينئذٍ ان هذا الأمر المتوسط لا يتصور في عالم المادة ، لأنه فعل نفساني ، مع ان الاشكال في الحقيقة باقٍ ، لأن نفس هذا الفعل المتوسط إن كفى في وجوده امكانه يتجه السؤال عن الفرق بينه وبين افعال المادة وحركاتها التي لا يكفي في وجودها امكانها.

وكل هذا الاضطراب نشأ من عدم وضع الشق الثالث في قبال الوجوب والامكان ، وهو السلطنة أو ما يعبر عنه بالمعنى الحرفي ، له ان يفعل وله ان لا يفعل ، فالوجوب حيثية الفاعلية محضاً ، والامكان حيثية القبول والاستعداد محضاً ، والسلطنة حيثية بين الحيثيتين ، وهي بحسب عالم التصور بديهية كبديهية تصور مفاهيم الوجوب والامكان والوجود والعدم.

ان كل انسان يدرك تصوراً الفرق بين قولنا لا بد ان يفعل ، ويمكن ان ينفعل ، وله ان يفعل ، وبعد اقامة البرهان على ان هذا المفهوم البديهي له مصداق في الخارج يلتزم حينئذٍ بصدور الفعل الاختياري ببركة هذه السلطنة ، ولا يلتزم بلابديّة الفعل تكويناً ، لأنها خلف فرض السلطنة ، كما لا يلتزم بفرض كفاية الامكان تخصيصاً لقاعدة «ان الشيء ما لم يجب لم يوجد» ، فان مرجع كلامنا ليس دعوى التخصيص الجزافي لهذه القاعدة العقلية ، بل الى وضع عدل للوجوب فيها ، بحيث نقول : ان ما يحكم به العقل هو ان الشيء ما لم يجب ، أو تكون هناك سلطنة على ايجاده لا يوجد. فنفي العدم إما بالوجوب أو بالسلطنة ، ولا يكفي فيه الامكان في جميع الموارد.

ومن هنا لم يكن الامكان كافياً في المادة وكان لا بد هناك من الوجوب لعدم ثبوت السلطنة للمادة ، ولم يبق إلا اقامة البرهان على ثبوت مصداق لهذه السلطنة ، وهذا ايضاً بحث مفصل لا بد من الاشارة اليه على وجه الاختصار والتلميح ، كما صنعنا بالنسبة الى النكات السابقة.

٢٣٤

فنقول : ان برهاننا على ثبوت مصداق هذه السلطنة ، بحيث تخرج دعوى الاختيار عن حيز الوجدان الصرف الى حيز البرهان ، لأول مرة في تاريخ هذه المسألة ان برهاننا على ذلك يتوقف على تحقيق مقدمة وهي : ان الممكن بالذات لا يمكن ان يستلزم وان يكون علة للمحال بالذات ، نضيف الى ذلك ان المحال بالذات لا يمكن ان يكون معلولاً لشيء سواء كان ذلك الشيء ممكناً بالذات أو محالاً بالذات ، وكل من هذين الامرين مما نبرهن عليه في غير مجال هذه الاشارة.

نضيف الى ذلك : ان ارتفاع النقيضين أو ما بحكمهما أي الضدين الوجوديين اللذين لا ثالث لهما محال بالذات ، واستحالة ذلك بديهية عند الجميع ، على حد استحالة اجتماع النقيضين أو ما بحكمهما.

ونضيف الى ذلك ايضاً ان فرض تساوي نقيضين أو ما بحكمهما في تمام الخصوصيات المرجحة لوجود احدهما على الآخر لأي فاعل يفرض في العالم أمر ممكن بالذات ، ولا أعني بذلك ان الانسان قد يصادف امرين من هذا القبيل ولا يجد في نفسه مرجحاً لا حدهما على الآخر ، كطريقي الهارب ، ورغيفي الجائع ، ليقال بانك لما ذا تكتفي بدعوى الامكان دون الوقوع ؛ إذ في مثل ذلك يقال فلسفياً : ان المرجح موجود من قبل فاعل أرقى من الانسان رتبة ، فلم يصدر الفعل بلا مرجح ، ونفي هذا بالدليل بعد فرض الاعتراف بالفاعل الارقى من الانسان غير ممكن ، ولهذا التجأنا الى فرض ذلك بنحو الامكان. هذه هي الأمور الاربعة التي لا بد من تفصيلها في المقدمة.

وبناءً عليها ، فلو فرضنا امرين كالنقيضين لا يكون هناك مرجح لاحدهما على الآخر اطلاقاً ، وبلحاظ تمام الفواعل الطولية ، لكان هذا سببا وعلة ، أي أن عدم المرجح يكون سبباً لامتناع كل من الطرفين امتناعاً غيرياً ، والامتناع بالغير سبب لنفيه ، لأن الشيء ما لم يمتنع لم يعدم ، كما ان الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فيكون هذا الفرض الذي فرضناه علة لارتفاع النقيضين ، وهذا مستحيل.

أما لأجل ادائه الى علية الممكن بالذات للمحال بالذات ، أو لأجل ادائه الى

٢٣٥

كون المحال بالذات وهو ارتفاع النقيضين معلولاً لعلة اخرى سواء فرضت ممكنة في نفسها أو لا؟

فيتعين بهذا البرهان لزوم الالتزام بعدلٍ للوجوب وهو السلطنة ، ففي مثل هذا الفرض يكون اصل وقوع الجامع بالوجوب والضرورة لاستحالة ارتفاع كلا فرديه ، ويكون تخصصه بأحدهما دون الآخر بالسلطنة ، هذا هو البرهان على نحو الاختصار ودمج المقدمات والنتائج والاشارة ، فتدبره جيداً ، واحتفظ به الى وقته. هذا تمام الكلام في المقام الأول من الجهة الثالثة وما يرتبط به.

المقام الثاني

وأما المقام الثاني من الجهة الثالثة فهو في ما يمكن ان يبرهن به على بطلان المدعى ، وبهذا الصدد يمكننا ان نذكر برهانين ؛ احدهما : برهان أشعري ، والآخر : برهان فلسفي.

١ ـ أما البرهان الاشعري ؛ فيتلخص في دعوى عدم اختيارية افعال الانسان له ، وما دامت ليست اختيارية كما هو مقتضى جبر الاشعري فلا تتصف بحسن ولا قبح ، وهذا البيان في الحقيقة ليس انكاراً للعقل العملي ، ولا برهنة على ابطال الكبرى المدعاة له ، بل ان مرجعه الى انكار الصغرى ؛ أي انكار التطبيق والصغرى ، وهي أن سلطنة الانسان على افعاله ليست من قضايا العقل العملي ، بل هي من قضايا العقل النظري ، وما يرى من النفس كأنها تحكم ابتداءً على افعال الانسان بالحسن والقبح لا يدلل على ان المدرك للعقل العملي هو الانطباق ابتداءً ، بل انما ترى النفس هكذا لأنها تأخذ الكبرى من العقل العملي بلا تمعن ، وتأخذ الصغرى من العقل النظري بلا تمعن ، فتبدو النتيجة وكأنها مطبقة ابتداءً ، وإذا رجع البحث الى الصغرى فهو موكول الى مسألة الجبر والاختيار.

٢ ـ وأما البرهان الفلسفي فهو وإن لم يكن مذكوراً في كلمات الفلاسفة حسب ما نعلم ، ولكن من الممكن صياغته على ضوء فلسفي وعلى اساس ذوقهم ، فيقال : ان الحسن مثلاً إذا كان أمراً واقعياً انتزاعياً على

٢٣٦

حد المعقول الثاني بحسب اصطلاح الفيلسوف ، أي ما كان ظرف العروض فيه هو الذهن وظرف الاتصاف هو الخارج كالامكان ونحوه ، وإما أن يكون امراً واقعياً وجودياً ، أي معقولاً أولياً بحيث يكون ظرف العروض والاتصاف معاً هو الخارج كالبياض للجسم ، والحرارة للماء.

والأول باطل ؛ لأن مفهوم الضرورة لا يعقل ان ينتزع من الأمور المتباينة بما هي متباينة بلا جهة جامعة ، فالأمور الموصوفة بالحسن مختلفة في ماهياتها ومقولاتها ، بل قد يوصف بالحسن الوجود تارة ، والعدم أخرى ، أي الفعل والترك ، فكيف ينتزع المفهوم الواحد من المتباينات من هذا القبيل.

والثاني باطل ايضاً ؛ لأن الضرورة الخلقية صفة لنسبة الفعل الى السلطنة ، فهي إن كانت موجودة في ظرف وجود النسبة أدى ذلك الى عدم اتصاف الفعل الحسن بالحسن إلا بعد وجوده ، وهو خلف العقل العملي ، وان ادعي وجودها قبل ذلك فهو محال ؛ لأن الصفة لا تكون خارجية قبل خارجية موصوفها ، فان ثبوت الشيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.

ويرد عليه مضافاً الى ما حققناه في بحوث سابقة من أوسعية لوح الواقع من لوح الوجود الخارجي ، والانتزاع من الوجود الخارجي ، انا نختار الشق الاول ولا يلزم المحذور ؛ لأن ما به الاشتراك بين مناشئ انتزاع الحسن والضرورة الخلقية محفوظ ، وهو نفس السلطنة ، وتحصصات هذه الضرورة بكونها ضرورة الصدق أو الوفاء أو ترك الانتقام تابعة لتحصصات نفس السلطنة ، واضافاتها الى متعلقاتها باعتبارها صفة ذات اضافة ، فاندفع المحذور.

وهنا بيان ثالث يذكر في المطولات الكلامية لابطال المدعى ايضاً ، ولهذا البيان اصل موضوعي ، وهو ان الحسن مثلاً لو كان أمراً واقعياً فهو ذاتي لا مكتسب ومعطى من علة خارجية ، لأن كل ما بالعرض ينتهي الى ما بالذات.

وبعد فرض هذا الاصل يقال : انه لو كان ذاتياً لكان لا يختلف باختلاف الحالات ، وحينئذٍ فاختلاف الصدق واتصافه بالحسن تارة وبالقبح اخرى يكشف

٢٣٧

عن عدم ذاتية الحسن ، وبالتالي عن عدم واقعيته.

وقد أجيب عن هذا الاشكال بأن اتصاف غير عنواني العدل والظلم بالحسن والقبح انما هو باعتبار هذين العنوانين بهما ذاتي ؛ لأن كل ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات ، وبالنسبة إلى هذين العنوانين لا تخلف ولا اختلاف ، إلا أن هذا الجواب غير صحيح كما سيأتي تحقيقه.

فالأولى أن يقال أولا : إننا ننكر اختلاف نفس العناوين التفصيلية لقضايا الحسن والقبح ، على ما يأتي توضيحه ان شاء الله من دون ارجاعهما إلى عنواني العدل والظلم ، وتلك العناوين بانفسها وبخصوصياتها التفصيلية دائمية الاتصاف بوصفها ، فلا يبقى مجال للاستدلال بالاختلاف على عدم الذاتية والواقعية.

ويقال ثانياً : انه لو سلم الاختلاف فهو لا يساوق فرض كون الحسن مكتسبا ومعطى بعلة خارجية ليكون منافيا مع الذاتية التي فرضت اصلا موضوعيا ، بل أن دخل الحالة الخاصة في اتصاف الصدق بالحسن يكون على حد دخل الحيثية التقييدية لا الحيثية التعليلية ، وبتعبير آخر ان ما فرض في الأصل الموضوعي من كون الحسن ذاتيا على فرض واقعيته ان أريد به الذاتية في قبال كونه معلولا لعلة خارجية معطية للحسن فهذه الذاتية محفوظة في المقام حتى مع اختلاف الحالات ؛ لأن دخل الحالة إنما هو بنحو التخصيص لمعروض الحسن وتقييده ، لا بمعنى وجود علة خارجية لعروض الحسن على معروضه ، وأن أريد به الذاتية بمعنى كفاية نفس الصدق بذاته لانتزاع الحسن منه فهذا مما لا موجب لتوهم ضرورة الالتزام به في المقام.

المقام الثالث

وأما المقام الثالث فنتعرض اولا : لموقف المثبتين ، وثانيا : لموقف المشككين. أما المثبتون للحسن والقبح فقد استدلوا اضافة إلى النقوض السابقة التي تقدمت مع جوابها بوجهين آخرين ، احدهما : اتفاق العقلاء على القضية ، ومن المعلوم انه لا ينبغي ان يكون المقصود من هذا الوجه الاستدلال على القضية

٢٣٨

المدعاة ابتداء ، بل لا بد وأن يكون المقصود الاستدلال بذلك على بداهة الادعاء والادراك ؛ لأن اتفاق العقلاء بما هو اجماع من قبلهم لا يكون دليلاً على حقانية المطلب ابتداءً ، وانما يستدل به مثلاً على كون الادراك بديهياً أي نابعاً من فطرة العقل البشري بتقريب انه موجود في تمام العقلاء مع شدة ما بينهم من اختلافات في الخصوصيات ، فيستكشف من ذلك ان الادراك نشأ من القدر المشترك بين هؤلاء العقلاء ، وهو العقل الأول أو فطرة العقل.

ولكن هذا الاستدلال غير تام ؛ لأن العقلاء جميعاً وفي حدود ما هو المحسوس والمشاهد يتفقون في ظرف عرضي زائداً على الفطرة والعقل الاول ، وهو التلقين والتأديب ، وحينئذٍ فمن يحتمل استناد العقل العملي الى التلقين والتأديب بدلاً عن الفطرة لا يمكن اثبات المطلب له باتفاق العقلاء ، ومن لا يحتمل ذلك فلا حاجة له بهذا التقريب.

والوجه الآخر : ان نفترض شخصاً منفرداً يعيش وحده منذ خلق ، وندفع له ديناراً لقاء ان يخبر خبراً اعم من أن يكون صادقاً أو كاذباً ، فانه سوف يختار الصدق حيث لا توجد له ادنى فائدة من الكذب ، فليس ذلك إلا لإدراكه المدعى في باب العقل العملي ، وهذا الوجه ايضاً اريد الاستدلال به على بديهية الادراك لا على اثبات المدعى ابتداءً ، وكأنه يتمم نقص الوجه الأول باعتبار ان موضوع التجربة فيه انسان لم يلقن ولم يؤدب لفرض عزلته.

إلَّا أنه مشكل اولاً : لأن هذه التجربة مجرد افتراض يعوزها التطبيق لأجل ان نتأكد من صدق الفرض ، وإلَّا فهو فرض يقابله فرض الشيخ الرئيس ابن سينا حيث ذكر بصدد الاستشهاد على عدم واقعية العقل العملي اننا لو فرضنا شخصاً وجد وعاش منفرداً سوف لا يكون مدركاً بعقله ولا بوهمه ولا بحسه الحسن والقبح ، والواقع ان كلا الفرضين لا يفيدنا بحسب الفن شيئاً.

وثانياً : لأنه لو سلم الجزم بصحة هذا الفرض بمجرد افتراضه ، فان تفسير اختيار ذلك الشخص المفروض للصدق لا ينحصر وجهه في ادراك المدعى في

٢٣٩

المقام ، بل لعله من باب الميل والغريزة ، أو من باب المصلحة التي تدرك بلا تمعن ، وقد تقدم سابقاً توضيح الفرق بين باب العقل العملي ، وباب الميل والغريزة ، وباب المصالح والمفاسد.

وثالثاً : لأن حصول الجزم بمجرد الافتراض لو قطع النظر عن الاشكال الثاني ، انما يحصل لمن لا يشك في نشوء الحسن والقبح عن سبب التلقين والتأديب ، ويتيقن بكونه فطرياً ، وأما من يشك فلا يحصل له مثل هذا الجزم ، ومن المعلوم ان ذاك الذي لا يشك لا يحتاج الى هذا الاستدلال ، فيكون مجرد تنبيه لا استدلال ، ولا يقال : انه من باب البرهان الإني واكتشاف العلة من المعلول ، فان هذا انما يعقل فيما لو فرض علة ومعلول واقعيان ، وعلم بالعلة من ناحية العلم بالمعلول لا فيما اذا كانت العلية والمعللية بين علمين قائمين بالنفس ، فان العلم المعلول حينئذٍ يستحيل ان يكون كاشفاً عن العلم العلة ، فتدبر جيداً.

وأما الكلام في المقام الثالث من حيث موقف المشككين فالتشكيك تارة يكون على اساس الشبهة الاخبارية ، واخرى على اساس المنطق التجريبي ، وثالثة على اساس المنطق البرهاني.

١ ـ أما على اساس الشبهة الاخبارية فيقال هنا كما قيل بالنسبة الى العقل النظري : ان الاخطاء كثيرة ، ومع كثرة الاخطاء لا يمكن التعويل على العقل. وقد اجيب عن ذلك مشهورياً بسنخ ما اجيب به مشهورياً عن البيان الثالث لابطال المدعى في المقام السابق ، وحاصله ارجاع العقل العملي الى قضية كلية اساسية ، وهي حكم العقل بقبح الظلم وحسن العدل ، ودعوى ان كل عنوان غير الظلم انما يتصف بالقبح بالعرض انطباق عنوان الظلم عليه ، كما ان كل عنوان حسن غير العدل انما يتصف بالحسن كذلك ايضاً ، فالخلاف هنا في التطبيق والصغريات بين العقلاء ، ولا خلاف بينهم في الكبرى المدركة بالعقل العملي ، كما ان اختلاف حسن الاشياء باختلاف الحالات انما هو في الحسن بالعرض ، واما الحسن بالذات

٢٤٠