جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

فهذا العلم الاجمالي يكون ملاكاً لحكم العقل بوجوب علاج هذه الغفلة لسد باب المخالفة ، وباب التفويت من هذه الناحية ، فان التفويت من هذه الناحية اختياري له ، فيحكم العقل بعدم جواز التفويت من هذه الناحية ، ولزوم سد بابه ، إلا أن هذا فرض جديد ما وجد له نظير في الأصول.

وذلك لأنه لا اشكال ولا ريب في ان مخالفة التكليف اذا صارت من المكلف حال كون التكليف واصلاً ومقدور الامتثال فيعاقب على مخالفته تكون مخالفته قبيحة بحكم العقل ، وإذا فرضت ان المخالفة صدرت منه حال عدم كون التكليف واصلاً ، أو حال عدم كونه مقدوراً ، فلا يعاقب على ذلك هذا نقيض الشق الاول ، وهنا حالة متوسطة بين الحالتين وهي ان تصدر منه المخالفة في حال لا يكون التكليف في تلك الحالة واجداً لهذين الشرطين ، وهما الوصول والقدرة ، ولكن كان واجداً لذلك وزال وجدان التكليف لذلك باختيار المكلف ، هذه حالة متوسطة بين الحالتين ، وهذه الحالة المتوسطة لها فرعان :

الفرع الأول : ان لا يكون الامتثال مقدوراً حال المخالفة ، لكن كان مقدوراً قبل ذلك ، والمكلف بسوء اختياره ازال القدرة ، هذا الفرع موجود في الاصول ، وهو ما نسميه «الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار» ، قالوا في الاصول : انه اذا ازال القدرة بعد فعلية الحكم الالزامي ، كما اذا حل عليه الوقت ولم يكن عنده إلا ماء واحد ، فسكب هذا الماء وإلقاه على الارض ، وجعل نفسه عاجزاً ، ثم جاء بالصلاة بلا وضوء من ناحية عجزٍ ناشئ عن اعدام القدرة فيكون عمله مصداقاً من مصاديق قاعدة الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار ، فيعاقب لا محالة. واذا فرض انه اعدم قبل دخول الوقت ، كما اذا كان عنده ماء قبل دخول الوقت ، ولو شربه ، أو ألقاه على الأرض سوف لن يحصل على ماء بعد ذلك مثلاً ، فهل يجب عليه إبقاء القدرة؟ ولو أعدم هذه القدرة قبل الوقت يعاقب بعد هذا أو لا يعاقب؟ هذا يدخل في بحث المقدمات المفوتة على القول بوجوب المقدمات المفوتة ، أو عدم وجوبها ، أو التفصيل فيها بين بعض الموارد والبعض الآخر. هذا قرأناه في الاصول.

٢٦١

الفرع الثاني : ان نفرض ان مخالفة التكليف ليست من ناحية عدم كونه مقدوراً حال المخالفة ، كما في الفرع الأول ، بل من ناحية عدم كونه واصلاً حال المخالفة ، إلّا أن عدم وصوله كان باختيار المكلف بمعنى ان التكليف كان واصلاً اليه ، وكان يعلم به إلا أنه عمل بنفسه عملاً بحيث سلب عن نفسه هذا القطع ، وجعله غير واصل ، فحينئذٍ أجرى قاعدة قبح العقاب بلا بيان وسائر الاصول المؤمنة وارتكب هذا الفعل بحسب الخارج.

كما اذا فرضنا انساناً يعلم بأن هذا خمر ، ويدري بانه اذا شرب هذا المائع ، ونفرضه السكنجبين ، يزول عنه هذا العلم والقطع ، ويتبدل تكويناً الى العلم بعدم خمريته ، او إلى الشك في خمريته ، ويصدر عنه شرب الخمر بعد ذلك لكن يصدر عنه حال عدم وصول التكليف ، فيقع البحث في أن اخراج المكلف التكليف عن الوصول الى اللاوصول هل هو على حد اخراجه من القدرة الى اللاقدرة؟ هذا هو الفرض الجديد.

فان قيل : بأن من حق المولى في المقام عدم تفويت غرضه ، ولو من ناحية ابقاء التكليف تحت دائرة حق المولوية ، يعني ان التكليف اذا كان داخلاً في دائرة حق المولوية يحرم على المكلف عقلاً تفويته ، ولو بهذا المقدار من التفويت ، وهو اخراجه عن هذه الدائرة ، لو قيل بهذا فحينئذٍ في المقام يجب على هذا الشخص معالجة غفلته ، لان هذا الشخص قبل أن يمارس عملياته القطعية وقبل ان يمارس غفلته يوجد عنده تكاليف معلومة بالاجمال داخلة في دائرة حق المولوية ، ويدري انه لو ابقى الغفلة على حالها فسوف يخرج هذه التكاليف عن دائرة حق المولوية ، فاذا قلنا بان المكلف يحرم عليه حتى هذه الحصة من التفويت الناشئة عن اخراج التكليف عن دائرة حق المولوية ، اذا قلنا بحرمة ذلك عليه ، فحينئذٍ يقال في المقام بوجوب العلاج ، وإلا فلا. هذا تمام الكلام في قطع القطاع.

٢٦٢

التنبيه الثاني

في مخالفة العلم التفصيلي

وهو البحث عن الفروع التي استدل الاخباريون بها على ان في الشريعة احكاماً ظاهرية أو واقعية تنافي العلم التفصيلي ، وقد ذكروا فروعاً.

الفرع الأول

فيما لو اودع شخص عند شخص آخر درهمين ، وأودع شخص آخر درهماً فصارت ثلاثة ، ثم فقد منها واحد ، وبقي اثنان.

قال الاخباري هنا : ان الحكم هنا على ما ورد في رواية السكوني ، هو اعطاء احد الدرهمين لصاحب الدرهمين ، وتقسيم الدرهم الثاني بين الرجلين ، فحينئذٍ لو انتقل النصفان معاً الى شخص ثالث بالبيع والشراء ونحو ذلك ، وفرضنا ان هذا الشخص الثالث اشترى بذلك جارية ، فيعلم تفصيلاً عدم تملكه لهذه الجارية وعدم ترتيب آثار الملكية عليه ، ومع هذا العلم التفصيلي جوّز الشارع عليه ترتيب الآثار.

يقع الكلام تارة في الناحية الفقهية ، وأخرى في الناحية التي أرادها الاخباريون أما من الناحية الفقهية فهنا صورتان لهذا الفرع :

الصورة الاولى : الصورة الاولى : ان يفرض ان هذا الدراهم الثلاثة التي ضاع منها واحد اختلطت ، وامتزجت وضاعت بعد الامتزاج.

وأخرى : يفرض انها بلا اختلاط ولا امتزاج ضاع واحد وتردد الامر ، كما لو فرض انه اودع كل درهم في خزانة ، وضاع احد الدراهم الثلاثة ، ولا يعرف ان هذا الدرهم لصاحب الدرهمين ، أو لصاحب الدرهم الواحد ، فهنا في الحقيقة فرعان :

الفرع الأول : فيما اذا حصل الامتزاج والاختلاط ثم ضاع درهم واحد ، وله وجوده ثلاثة :

الوجه الأول : هو ان يقال باعطاء صاحب الدرهم درهماً ، وتقسيم الدرهم الثاني بينهما على ما قال الاخباريون ، وذلك إما استناداً الى رواية السكوني ، أو الى قاعدة العدل والانصاف ، التي سوف نتكلم عنها ان شاء الله تعالى.

٢٦٣

الوجه الثاني : ان يقال في المقام باعطاء صاحب الدرهمين درهما وثلثاً ، واعطاء صاحب الدرهم الواحد ثلثين ، وذلك من باب الشركة لحصول الشركة بالاختلاط والامتزاج ، فهذه الدراهم الثلاثة بعد الاختلاط صارت مشتركة بينهم على نسبة واحد من ثلاثة ، فاذا ضاع ثلثها فلا بد من التنزيل من كل من الشريكين على النسبة أيضاً ، فينقص من صاحب الدرهمين ثلثي درهم ، ومن ذاك ثلث درهم فيعطى لصاحب الدرهمين درهم وثلث ، ولصاحب الدرهم الواحد ثلثا درهم.

الوجه الثالث : ان يعطى درهم واحد لصاحب الدرهمين والدرهم الآخر ، لا انه ينصف ، ولا أنه يثلث ، بل يقرع بينهما وأي واحد من الشخصين اصابته القرعة يعطى له بملاك القرعة ، هذه وجوه ثلاثة لا بد من التكلم فيها :

أما الوجه الأول وهو اعطاء صاحب الدرهمين احد الدرهمين وتنصيف الدرهم الآخر بين الرجلين فباعتبار ان كلا منهما يحتمل ان يكون هو المالك ، فينصف بينهما ، فهذا التنصيف ، إما ان يستند فيه الى خبر السكوني الوارد في خصوص هذه المسألة ، وإما أن يستند فيه الى قاعدة العدل والانصاف ، كما استدل بها السيد الاستاذ ، وبنى على حجيتها مستدلاً بالسيرة العقلائية ، أما رواية السكوني فلا يمكن الاعتماد عليها في المقام ، وذلك لضعف سندها ، فيبقى الكلام في قاعدة العدل والانصاف التي استدل عليها السيد الاستاذ في كلماته بالسيرة العقلائية.

وتفصيل الكلام في ذلك : ان حجية قاعدة العدل والانصاف المدعاة في كلماته إما أن يقصد بها حجية هذه القاعدة في مورد المخاصمة ، بحيث تكون من الأمور التي يفصل بها الحاكم الخصومة على حد البينة واليمين ونحو ذلك ، وإما أن يكون المقصود هو حجية القاعدة في نفسها ، وفي مقام ترتيب الآثار ، فانه من المعلوم ان الحجية بأحد المعنيين لا يستلزم الحجية بالمعنى الآخر ، فقد يكون شيء حجة بملاك فصل الخصومة ولا يكون حجة في نفسه في مقام ترتيب الآثار كاليمين مثلاً ، فانه حجة في مقام فصل الخصومة ؛ ولكنه ليس بحجة في نفسه ، فلو ان انساناً اقسم لنا على مطلب ما لا يكون يمينه حجة بالنسبة الينا في مقام ترتيب

٢٦٤

الآثار إلا أنه في مورد المرافعة يكون اليمين من المنكر حجة وملاكاً في مقام فصل الخصومة ، والعكس واضح ، فان سائر الاصول العملية والامارات تكون حججاً في مقام ترتيب آثار الواقع إلا أنها لا يصح فصل الخصومة بها ، فلا يصح فصل الخصومة بالاستصحاب مثلاً ، إذاً فهذان معنيان للحجية احدهما لا يطابق الآخر.

فإما ان يدعي الحجية في موارد المخاصمة كما يناسبه تعبيره بان الحاكم يحكم بالتنصيف وتمثيله في المقام بسائر موارد عمل الحاكم ، وإما أن يكون مقصوده الحجية في نفسها ، فان اريد بها الحجية في موارد المخاصمة بمعنى ان السيرة العقلائية انعقدت في موارد المخاصمة بين شخصين يدعي كل منهما المال ، ولا دليل لأحدهما على اثبات دعواه على اعطائهما المال معاً بالتنصيف ، وهذه السيرة العقلائية محصلها هو قاعدة العدل والانصاف. ان اريد هذا فيرد عليه حينئذٍ ان السيرة العقلائية لا يمكن ان تثبت حجية هنا ، ولا تكون ملاكاً لفصل الخصومة بعد ورود العموم الرادع عن غير البينة والأيمان ، وهو قوله عليه اسلام : «إنما اقضي بينكم بالبينات والأيمان» فان هذا العموم الحاصر للقضاء بخصوص البينات والأيمان وارد في مقام استنكار غير هذين الميزانين ، وحصر ما ينبغي ان يقضى به في خصوص هذين الامرين ، اذاً فمثل هذا العموم ينفي ميزانية أي شيء آخر غير البينة واليمين في مقام فصل الخصومة ، ويكون رادعاً عن السيرة العقلائية الدالة على ميزانية غيرهما.

نعم فيما اذا ورد تخصيص في مورد لهذا العموم يلتزم بالتخصيص ، كما ورد في بعض الموارد أن الاقرار ، باعتراف الفقهاء ايضاً ، يكون فاصلاً للخصومة ، والقرعة في بعض الموارد تكون فاصلة للخصومة ، ففي موارد التخصيص يلتزم بالتخصيص بمقتضى القاعدة ، وفي غيرها يرجع الى هذا العموم ، فلا يمكن اثبات الحجية لقاعدة العدل والانصاف ، بمعنى كونه فاصلاً للخصومة بالسيرة العقلائية.

نعم يمكن في المقام توجيه قاعدة العدل والانصاف ، وبيان حجيتها في مورد المخاصمة ، لكن لا بالبيان الذي بيّنه السيد الاستاذ ، وهو التمسك بالسيرة العقلائية ، بل بالتمسك بالدليل اللفظي ، وهو الروايات الواردة في موارد فرض

٢٦٥

مدعيين أقام كل منها البينة ، وتعارضت البينتان ، ولم يكن هناك مرجح لاحدى البينتين على الأخرى ، فالامام (ع) يحكم بالتنصيف بينهما ، وظاهر الحكم انه حكم بالتنصيف بعنوان انشاء فصل الخصومة ، فيكون هذا جعلاً للحجية لهذه القاعدة بعنوان فصل الخصومة.

والاستدلال بهذا الدليل يتوقف على نكتة ، وهي ان نرى ان هذه الحجية المجعولة لهذه القاعدة هل تختص بخصوص مورد تعارض البينتين؟ أو انها تعم سائر الموارد التي لا تكون هناك حجة فاصلة للخصومة في مرتبة اسبق؟ مقتضى الجمود على اللفظ هو الاقتصار على خصوص مورده ، وهو مورد تعارض البينتين ، فكأن وجود بينتين متعارضتين له دخل في مقام جعل الحجية لقاعدة العدل والانصاف ، هذا مقتضى الجمود على اللفظ.

وأما مقتضى الفهم العرفي فهو أن فرض تعارض البينتين استطرق الى جعل الحجية لقاعدة العدل والانصاف ، ولا يفهم العرف ان التعارض بما هو تعارض له دخل في جعل قاعدة العدل والانصاف ، وانما يفهم ان التعارض دخيل في قاعدة العدل والانصاف بما انه بحكم عدم البينة ، فكأن المقصود بيان ان قاعدة العدل والانصاف فاصلة للخصومة في طول البينة في فرض عدم امكان فصل الخصومة بالبينة ، فتفصل حينئذ الخصومة بين المدعين بقاعدة العدل والانصاف ، فمع استظهار ذلك تلغى خصوصية التعارض ، ويستفاد من مثل هذا النص كون قاعدة العدل والانصاف حجة في مورد الخصومة على وجه الاطلاق ولا بأس بذلك ، هذا اذا اريد من الحجية في موارد المرافعة والمخاصمة.

وأما اذا أريد الحجية في نفسها وفي مقام ترتيب آثار الواقع فهنا صورتان :

الصورة الأولى : ان نفرض ان هناك شخصاً ثالثاً غير اللذين دار المال بينهما ، ذلك الشخص الآخر المسكين مكلف بايصال هذا المال الى مالكه ، ومالكه مردد بين هذين الشخصين ، فيتكلم في ان هذا الشخص الثالث ما هو تكليفه؟ هل يجري في حقه قاعدة العدل والانصاف ، فيكون تكليفه تنصيف المال نصفين باعطاء احد

٢٦٦

النصفين لزيد والنصف الآخر لعمرو؟ او ان له تكليفاً آخر؟

الصورة الثانية : ان لا يكون هناك شخص ثالث مبتلي بوجوب اعطاء المال الى مالكه ، بل مال موضوع في الطريق ، هذا يدعيه ، وذلك يدعيه ، ونحن نعلم ان المال ملك لاحدهما ، وعدم وجوب مالك ثالث لعدم وجود شخص ثالث يحتمل كونه مالكاً ، بل المالك احد هذين الشخصين ، فهنا يتكلم فيما هو تكليفهما نفسهما في مقام حل هذه المشكلة

أما الصورة الأولى فيستدل فيها على تشخيص تكليف هذا الشخص بقاعدة العدل والانصاف ، والمقصود من الاستدلال بهذه القاعدة اثبات امرين : اثبات حكم تكليفي ، وإثبات حكم وضعي.

اما الحكم التكليفي فهو كون وظيفته في مقام الخروج عن عهدة هذا التكليف الالزامي بتنصيف المال واعطاء كل منهما نصفاً.

وأما الحكم الوضعي فهو الحكم ظاهراً بعد اعطاء كل منهما نصفاً بملكيته لهذا النصف ، بحيث يجوز لشخص رابع ان يأتي ويشتري من كل منهما نصف الدرهم باعتبار كونه مالكاً له ، أما الجنبة التكليفية فيدور أمر هذا الشخص بين شقين في مقام الخروج عن عهدة التكليف ، ورد الأمانة الى اهلها ، فإما أن يوافق قطعياً في نصف الدرهم مع المخالفة قطعاً في النصف الآخر ، وذلك بالتنصيف ، وإما ان يوافق في تمام الدرهم احتمالاً مع احتمال المخالفة في تمام الدرهم ايضاً لإعطاء تمام الدرهم لأحد الشخصين ، وقد يذكر في مقام تعيين الشق الثاني عليه ، وهو الموافقة الاحتمالية ، في قبال الشق الأول ، وهو الموافقة القطعية التوأم مع المخالفة القطعية وجهان :

الوجه الأول : هو تطبيق المبنى المقرر في باب العلم الاجمالي هنا ، وذلك بان يقال : إن المقام بحسب الحقيقة يكون من موارد وجود علمين اجماليين : علم اجمالي بوجوب اعطاء نصف الدرهم لهذا ، أو حرمة اعطائه نصف الدرهم الآخر ، فإن كان مالكاً يجب اعطاؤه نصف الدرهم ، وإن لم يكن مالكاً يحرم اعطاؤه نصف

٢٦٧

الدرهم الآخر ، وكذلك بالنسبة الى الشخص الآخر ، فهنا علمان اجماليان ، هذا الشخص إما أن يوافق كلا العلمين الاجماليين موافقة احتمالية ، وإما ان يخالف احدهما قطعاً مع موافقة الآخر قطعاً.

وقد بيّنا في بحث العلم الاجمالي انه في مثل هذه الموارد يتعين الموافقة الاحتمالية لكل من العلمين ، فحينئذٍ في مثل هذا المقام يقال بتقديم الشق الثاني على الشق الأول.

وهذا التقريب غير صحيح في المقام ، وذلك لأننا وإن كنا نبني في امثال هذه الموارد في باب العلم الاجمالي الساذج على تقديم الشق الثاني على الشق الأول إلا أن نكتة بنائنا على ذلك هو اننا نبني على ان العلم الاجمالي لا ينجز إلا مقدار الجامع ، ومقدار الجامع يتحقق بالموافقة الاحتمالية في كل منهما ، إذاً فلا يجوز ارتكاب المخالفة القطعية وترك الجامع رأساً في احد العلمين إلا أن هذا انما يكون في غير امثال المقام ، فإن لنا تفصيلاً في باب العلم الاجمالي بين العلم الاجمالي الذي نسميه بالعلم الاجمالي الساذج ، وبين العلم الاجمالي الآخر الغير الساذج.

ففي العلم الاجمالي الساذج الكلام هو هذا ، ولكن في العلم الاجمالي الغير الساذج نقول بتنجز الواقع ، وإن العلم الاجمالي ينجز الواقع لا انه ينجز مقدار الجامع ، فحينئذٍ لا يأتي مثل هذا الكلام ، ومقامنا من هذا القبيل ، وتوضيح مبنى هذا الجواب لا يكون هنا ، وانما يكون في بحث العلم الاجمالي ان شاء الله تعالى ، حينما يأتي مثل هذا الكلام ، ومقامنا من هذا القبيل ، وتوضيح مبنى هذا الجواب لا يكون هنا ، وانما يكون في بحث العلم الاجمالي ان شاء الله تعالى ، حينما يأتي بحث العلم الاجمالي نوضح الفرق بين العلم الاجمالي الساذج والعلم الاجمالي المعقد ، ففي العلم الاجمالي الساذج نقول : انه لا ينجز إلا بمقدار الجامع ، ولو دار الأمر بين مخالفة علم اجمالي مخالفة قطعية مع موافقة علم اجمالي آخر موافقة قطعية وبين موافقتهما معاً احتمالاً يتعين الشق الثاني على الشق الاول ، واما في العلم الاجمالي المعقد فهناك العلم الاجمالي ينجز الواقع ، فالواقع حينئذٍ منجز في كل منهما ، فكما تحرم المخالفة القطعية لكل من العلمين ، كذلك تحرم المخالفة الاحتمالية لكل من العلمين فلا يأتي ذلك المبنى هنا هذا هو الوجه الأول مع جوابه.

٢٦٨

الوجه الثاني : ان يقال بان الشق الاول مساوق للترخيص الواقعي ، يعني لو قيل بالترخيص وبجواز اعطاء غير المالك مال المالك فهو جواز واقعي لا جواز ظاهري ، لأنه جواز مع العلم وجداناً بخلافه ، فهو جواز واقعي ، وإذا صار جوازاً واقعياً فلا بد من الالتزام بتقييد اطلاق الحرمة الواقعية (لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه) بخلافه على الشق الثاني ؛ فانه على الشق الثاني يكون الجواز جوازاً ظاهرياً ، جواز اعطاء تمام الدرهم لمن يحتمل كونه مالكاً ، ولمن يشك في كونه مالكاً هذا جواز ظاهري لأنه يحتمل مطابقته للواقع ، وحيث انه يحتمل مطابقته للواقع ، فيكون حكماً ظاهرياً ، فيبقى اطلاق ادلة الحرمة على حاله.

فاذا تبيّنت هذه النقطة واتضح ان الجواز في الشق الأول جواز واقعي ، بحيث يقيد اطلاق الواقع ، والجواز في الشق الثاني جواز ظاهري بحيث يبقى اطلاق الواقع على حاله ، يقال : ان اطلاق دليل الحكم الواقعي يعين الشق الثاني في قبال الشق الأول.

هذا الكلام صحيح في نفسه يعني الترخيص في الشق الأول ترخيص واقعي ، والترخيص في الشق الثاني ترخيص ظاهري فلو فرض ان الأمر كان دائراً بين الشقين يتعين بمقتضى اطلاق دليل الحكم الواقعي الشق الثاني في قبال الشق الأول ، إلا أننا لا بد أن نرى هل ان هناك سيرة عقلائية في قبال هذا الاطلاق بحيث تكون حجة على تعيين الشق الاول في قبال الشق الثاني ، أو لا تكون هناك سيرة عقلائية؟

والصحيح عدم وجود مثل هذه السيرة ولا أقل من الشك في مثل هذه السيرة ، فان القدر المتيقن والمعلوم من السيرة انما هو السيرة في المحاكم العقلائية ، أي السيرة في موارد المرافعة والمخاصمة ، لا السيرة في مقام ترتيب الآثار خارجاً ، يعني لو ان شخصين تداعيا في مال ، وذهبا الى محكمة عقلائية فقد يقال بانا نطمئن ان هذا الحاكم العقلائي المعاصر للأئمة ، عليهم‌السلام ، كان يحكم بالتنصيف في المقام.

هذا ، ولكن قد يدعى انه لا حاجة لنا باثباته نفياً وإثباتاً ، لاننا قلنا ان قاعدة

٢٦٩

العدل والانصاف في حجيتها في مقام فصل الخصومة لا تحتاج الى السيرة العقلائية ، بل نثبت حجيتها في مقام فصل الخصومة بالنص السابق ، فلا حاجة الى السيرة العقلائية ، فالسيرة العقلائية انما نسلمها في موارد فصل الخصومة أي في المحاكم العقلائية ، وأما في غير المحاكم العقلائية ، في سيرة كل عاقل في نفسه لو انه استودع مالاً وكان يجب عليه عقلائياً ايصال المال الى مالكه كان اميناً ودعياً ، فهل هنا ايضاً يحكم بمقتضى عقلائيته ، أو يحكم عليه من قبل العقلاء بأن ينصف المال ، ويعطي هذا نصفاً ويعطي الآخر نصفاً ، فمثل هذه السيرة ان لم تكن معلومة العدم في غير موارد المخاصمة والمرافعة فهي غير ثابتة يعني غير معلومة الثبوت ، بل اننا نقول اكثر من هذا : ان السيرة العقلائية والارتكاز العقلائي ليس على الزام هذا الشخص الثالث الودعي بايصال المال الى مالكه بذلك المعنى الذي صار منشأ للاشكال وترتب عليه دوران الأمر بين الشقين.

الارتكاز العقلائي لا يساعد على ان هذا الودعي الذي لا يدري ان هذا الدرهم ملك زيد أو ملك عمرو يجب عليه ان يوصله الى واقع المالك بل ان مقدار ما يجب عليه هو تمكين المالك الواقعي منه.

وأما الوجه الثاني فالوجه فيه انه باختلاط الدراهم الثلاثة حصلت الشركة الظاهرية ، بناءً على ما ذهب اليه صاحب الجواهر (قده) من ان الاختلاط سبب للشركة الظاهرية بين المالكين أو الملاك ، واصبحت هناك دراهم ثلاثة مشتركة على نسبة واحد من ثلاثة ، بمعنى ان لصاحب الدرهمين ثلثين من كل واحد من الدراهم الثلاثة ، ولصاحب الدرهم ثلث في كل واحد من الثلاثة ، فاذا فقد واحد من هذه الدراهم الثلاثة فحينئذٍ فقد من صاحب الدرهم ثلث درهم ومن صاحب الدرهمين ثلث درهم ، فيعطى لصاحب الدرهمين درهم وثلث ، ولصاحب الدرهم ثلثا درهم (١).

والتحقيق في المقام : إن الشركة الظاهرية بمجرد الاختلاط أمر غير معقول ،

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٦ ، ص ٢٩١.

٢٧٠

ولا معنى لها ، إذ لا مجال لجعل الحكم الظاهري بالملكية الاشتراكية ، وعلى نحو الاشاعة ، مع فرض عدم الشك ، فان جعل الحكم الظاهري انما يعقل مع فرض الشك ، وهنا كل من المالكين يعلم وجداناً بانه ليس مالكاً للنصف المشاع ، أو للثلث المشاع ، وأنه لا يترتب عليه آثار الاشاعة ايضاً ، ومع العلم الوجداني بعدم الاشاعة في الواقع ، وعدم ترتب آثار الاشاعة في الواقع لا معنى لجعل الاشاعة بحسب الحكم الظاهري المتقوم بالشك ، فالاشاعة هنا وإن تردد في كلمات جملة من الاكبار كصاحب الجواهر (قده) ان الاختلاط يوجب الشركة الظاهرية ، والاشاعة الظاهرية ، إلا انها غير معقولة ؛ لعدم امكان جعل الحكم الظاهري في امثال المقام ، بل لو دل دليل على الشركة في امثال المقام فهي شركة واقعية لا ظاهرية.

والذي دعا صاحب الجواهر ومن وافقه من الاكابر والمحققين الى الالتزام بان الاختلاط يكون سبباً للشركة الظاهرية ، مع انه امر غير معقول في نفسه ، الذي دعاهم الى ذلك هو دفع اشكال وقعوا فيه من حيث انهم في باب الشركة ميزوا بين شركتين :

بين شركة تحصل بالاختلاط والامتزاج كان يخلط حنطة شخص بحنطة آخر ، أو دراهم شخص بدراهم آخر ، فتحصل الشركة ، هذا احد اسباب الشركة في الفقه.

وبين شركة تحصل بالعقد ويسمى بالشركة العقدية ، كما اذا فرض ان شخصين عقدا عقد الشركة ، وقالا : تشاركنا في هذا المقدار من المال ، وهذا سبب آخر للشركة والملكية الاشاعية بحسب الخارج.

فهنا سببان للشركة والاشاعة ، احدهما : الاختلاط والامتزاج ، والآخر : العقد ، وحيث ان الفقهاء في باب عقد الشركة قالوا بان عقد الشركة لا يؤثر في حصول الشركة خارجاً إلا بشرط المزج والاختلاط ، فعقد الشركة جزء السبب للشركة ، والجزء الآخر هو المزج والاختلاط.

والجمع بين هذين الامرين أدّى الى اشكال وهو انه اذا فرض ان المزج والخلط كان شرطاً في تأثير عقد الشركة ، إذاً فأي أثر لعقد الشركة في نفسه ، مع ان

٢٧١

المزج والخلط في نفسه سبب للشركة ، فمعنى هذا ان عقد الشركة اصبح وجوده كعدمه ، فلا معنى لجعل صحة عقد الشركة أو امضائه بعد فرض لغويته في نفسه.

إذا فرضنا ان هناك سببين للشركة ؛ احدهما عقد الشركة والآخر الاختلاط والامتزاج ، وفرضنا ان عقد الشركة لا ينفذ ولا تتحقق الشركة بموجبه إلا إذا ترتب عليه الامتزاج والاختلاط ، إذاً في الحقيقة السبب الأول منسلخ عن السببية ، لأنه يحتاج الى السبب الثاني ، والسبب الثاني لا يحتاج اليه ، فالسبب الثاني تام في السببية ، والسبب الأول يكون لغواً.

فحينئذٍ صاحب الجواهر الذي التفت الى هذا الاشكال دفعه بحمل الشركة في الاول على انها شركة واقعية ، والشركة في الثاني على انها شركة ظاهرية ، بمعنى انه لو حصل الاختلاط والامتزاج بلا عقد فالشركة شركة ظاهرية وفي الواقع يبقى كل واحد منهما على ماله الواقعي.

وأما لو انضم الامتزاج والاختلاط الى عقد الشركة فهنا تحصل الشركة الواقعية ، وتنتقل الملكية الواقعية من ملكية غير اشاعية الى ملكية اشاعية ، فبهذا الوجه ارادوا ان يصوروا سببية كل من السببين في قبال الآخر فحينئذٍ يندفع الاشكال لأن عقد الشركة يكون له اثر وهو قلب الملكية الواقعية من اللاإشاعة الى الاشاعة ، وكون الامتزاج والاختلاط شرطاً في تأثير عقد الشركة في القلب الواقعي لا يوجب لغويته ، لأن الامتزاج والاختلاط حينما يكون وحده بلا عقد الشركة لا يؤثر في الانقلاب الواقعي ، وانما يؤثر في الشركة الظاهرية ، فيبقى للعقد اثره وفائدته وسببيته.

هذا هو الذي دعا المحقق صاحب الجواهر وغيره من المحققين الى الالتزام بالشركة الظاهرية في موارد الاختلاط والامتزاج ، ومنها موردنا هذا ، إلا أننا قلنا بان الالتزام بالشركة الظاهرية غير معقول في المقام اذ لا موضوع لجعل الحكم الظاهري في امثال المقام ، فلو التزم بالشركة فلا بد من الالتزام بالشركة الواقعية.

وأما الجواب عن هذا الاشكال الذي كان صاحب الجواهر بصدد الجواب

٢٧٢

عنه ، وانه كيف نميز حينئذٍ بين هذين السببين ، ونحفظ لكل من السببين سببيته ، فالجواب على هذا إما بعدم قبول اصل المبنى القائل بأنه يعتبر في عقد الشركة وقوع الاختلاط والامتزاج بحسب الخارج ، لأن هذا المطلب لا دليل عليه إلا دعوى الاجماع ودعوى الاجماع عهدتها على مدعيها ، وحينئذٍ يمكن عدم قبول هذا الشرط رأساً ، ويقال بان عقد الشركة عقد يحصل بموجبه بمجرد انشائه ، وبمجرد ان يقول التاجران : اشتركنا في هذين الالفين من الدنانير ، الشركة ، ولا حاجة أن يأتي شخص ويخلط هذه الدنانير ، ويجعل عاليها سافلها لأجل ان يحقق بذلك الشركة ، فاذا انكرنا اصل المبنى يندفع الاشكال.

ولو فرض انه سلم المبنى ، وقيل : ان الاجماع اجماع تعبدي في المقام ، لا بد من الأخذ به ، فحينئذٍ الجواب لا يكون ما افاده صاحب الجواهر من التفرقة في سنخ الشركة بان الشركة في الأول واقعية ، وفي الثاني ظاهرية ، بل يكون الجواب ببيان الفرق بين سنخ المزجين لا بين سنخ الشركتين ، بان يقال : ان المزج الذي يكون معتبراً في باب عقد الشركة ، ويكون شرطاً في تأثير عقد الشركة غير المزج الذي يكون سبباً مستقلاً في نفسه ، وذلك لأن المزج المعتبر في باب عقد الشركة حيث انه لا دليل عليه إلا دعوى الاجماع فالقدر المتيقن من الاجماع هو طبيعي المزج بلا اعتبار خصوصية زائدة في المزج ، فمجرد المزج ما بين الشيئين كمزج درهم بدرهم ونحو ذلك يكفي في مقام حصول الشركة.

وأما ما يكون سبباً للشركة الواقعية فليس هو طبيعي الاختلاط والامتزاج ، وذلك لأنا إنما نقول بكون الامتزاج والاختلاط سبباً للشركة الواقعية في نفسه ، لا بدليل لفظي حتى نتمسك باطلاق ذلك الدليل اللفظي ، بل دليلنا على سببية الاختلاط بالشركة هو الارتكاز العقلائي ، يعني ان المالين اذا اختلطا وامتزجا بحيث توحد المالان توحدا من حيث اعتبار الملكية بحسب الارتكاز العقلائي ، لا يساعد العرف والعقلاء على اعتبار هذا المال المختلط موضوعين في مقام جعل الملكية ، وإن كانا قد يكونان موضوعين باعتبار آخر.

فلو ان انساناً كان عنده كأس من الماء وآخر كان عنده كأس آخر ، والقي

٢٧٣

الكأسان في حب من الماء ، فالعرف بحسب ارتكازاته في باب الملكية يعتبر هذا المجموع من الماء ماء واحداً من حيث جعل الملكية ، يعني لا يرى صلاحية ان يتعدد ويتبعض من حيث جعل الملكية ، فيجعل نصف المعين منه لزيد ونصف معين منه لعمرو ، وهذا هو نكتة الشركة في باب الاختلاط والامتزاج ، ومن المعلوم انه لو اختلط درهم مع درهم لا يتوحّد المال بحيث يأبى العرف بارتكازه عن جعل الملكية للنصف المعين لزيد وللنصف الآخر منه لعمرو ، وانما يحصل هذا في بعض موارد الاختلاط والامتزاج.

وبناءً على هذا المشرب لا يأتي الاشكال ، لأننا نقول : ان ما هو سبب مستقل في نفسه للشركة الواقعية هو مرتبة خاصة من الاختلاط والامتزاج ، لا الاختلاط على اطلاقه ، وما هو دخيل في مقام انفاذ عقد الشركة هو الاختلاط والامتزاج ولو بأدنى مرتبة ، إذاً فلا يلزم من هذا لغوية العقد ، وعدم كونه مؤثراً ، بل يكون مؤثراً فيما لو فرض انه حصل الاختلاط بأدنى مراتبه ، فانه هنا لا تحصل الشركة إلا بالعقد. وبنفس هذا البيان الذي اندفع به الاشكال يظهر عدم صحة الشركة في المقام ، لأنه في هذا الفرع الذي نتكلم فيه لم يحصل اختلاط بتلك المرتبة التي توحد المال في مقام جعل الملكية بحسب الارتكاز العرفي ، فلا موجب للشركة لا واقعاً ولا ظاهراً.

أما الشركة الظاهرية فلانها غير معقولة في المقام ، واما الشركة الواقعية فلا دليل عليها إلا ارتكاز التوحد في نظر العرف ، وارتكاز التوحد في نظر العرف لا يثبت في تمام موارد الاختلاط والامتزاج ، وانما يثبت في موارد الاختلاط في مرتبة خاصة ، وهذه المرتبة الخاصة غير موجودة في المقام. هذا تمام الكلام في تحقيق الوجه الثاني.

وأما الوجه الثالث ، وهو ان يعطي احد الدرهمين لصاحب الدرهمين ، والدرهم الآخر نقرع بينهما لأجله. فأي من الشخصين خرج اسمه في القرعة حكم بمالكيته له ، أي للدرهم الثاني ، فيعطى حينئذٍ بتمامه لهذا ، أو بتمامه للآخر ، لا ينصف ، ولا يثلث ، فهذا الوجه ظهر حاله مما بيناه في الوجه الأول.

٢٧٤

وذلك لأنه إن اريد بالقرعة اجراؤها في موارد المخاصمة والمرافعة فقد عرفنا ان فاصل الخصومة هناك هو قاعدة العدل والانصاف ، والقرعة لا دليل على حجيتها بعنوان فصل الخصومة.

وإن أريد اجراؤها كحجة في نفسها في مقام ترتيب الآثار لا بعنوان فصل الخصومة فحينئذٍ ان اريد اجراؤها بعنوان شخص ثالث وهو الودعي المكلف بايصال المال الى صاحبه فقد قلنا فيما سبق ان الشخص الثالث ليس له تكليف شرعاً بايصال المال الى صاحبه خارجاً ، ليقع في الاشكال من حيث انه لا يعرف صاحبه أهو هذا ام ذاك ، حتى يدفع اشكاله بالقرعة ، ويتوهم حينئذٍ عموم أدلة القرعة له ، بل ان هذا الشخص الثالث الودعي ليس له تكليف إلا بالتخلية بين المال وصاحبه ، وهذا يحصل بدون القرعة.

وإن اريد اجراء القرعة بالنسبة الى الشخصين نفسيهما فيما لو فرض ان نفس الشخصين اللذين يدور امر ملكية المال بينهما ليسا مدعيين ، بل كل منهما شاك ايضاً بينه وبين ربه في ملكيته لهذا المال ، فهنا لا بأس في اجراء القرعة لاطلاق دليلهما كما اشرنا اليه في الوجه الأول. هذا تمام الكلام في صورة الاختلاط في هذا الفرع.

وأما الصورة الثانية منه وهي صورة عدم الاختلاط فليس فيها مزية زائدة إلّا عدم جريان الوجه الثاني ، وهو توهم الشركة لأن توهم الشركة انما يختص بخصوص فرض الاختلاط ، واما فرض عدم الاختلاط فلا يتوهم فيه الشركة ، لان مجرد الاشتباه وعدم التمييز لا يحتمل فقهياً ولا فقهائياً انه موجب للاشتراك والاشاعة ، هذا هو تحقيق المائز فقهياً في هذا الفرض.

وأما ربطه بمدعى الاخباري فقد انقدح مما قلناه انه إن بنى على الوجه الثالث وهو القرعة في المقام ، واعطى الدرهم لأحد الشخصين فليس هناك مخالفة قطعية ، كما انه إن بنى على الوجه الثاني وهو الشركة ، وقلنا بان الشركة شركة واقعية ، حيث ان الشركة الظاهرية غير معقولة في المقام ، فيكون الانقلاب واقعياً في المقام ، فايضاً لا ينتهي الى المخالفة القطعية ، لا لعلم اجمالي ، ولا لعلم تفصيلي.

٢٧٥

نعم إذا بنى على الوجه الأول يعني على قاعدة العدل والانصاف ، وقلنا بملكية كل منهما للنصف ظاهراً ، بناءً على هذا حينئذٍ يكون منشأ لتصور كلام الاخباري ، إلا أنه فيما لو بنى على التنصيف والحكم بملكية كل منهما لنصف ظاهراً ، يلتزم بهذين الحكمين الظاهريين في مورد لم يلزم منه المخالفة القطعة لعلم اجمالي أو علم تفصيلي ، وفي مورد يلزم مخالفة قطعية لعلم اجمالي ، أو علم تفصيلي يرفع اليد عنه لا محالة ، لأجل قانون تنجيز العلم الاجمالي والعلم التفصيلي ، خصوصاً بعد فرض ان قاعدة العدل والانصاف في غير مورد المخاصمة لا دليل عليها إلا السيرة العقلائية على ما قيل ، والسيرة العقلائية لا اطلاق لها بحيث تكون معارضة لمنجزية العلم الاجمالي والتفصيلي. هذا تمام الكلام في الفرع الأول.

الفرع الثاني

لو اختلف المشتري والبائع بعد فرض وقوع معاملة بينهما في ان المبيع في هذه المعاملة هل كان البضاعة الفلانية ، هل كان كتاب الجواهر ، أو كان كتاب الحدائق؟ فالبائع يقول : بعت كتاب الحدائق بعشرة دنانير ، والمشتري يقول اشتريت كتاب الجواهر بعشرة دنانير.

فالكلام في انه هل وقع البيع على كتاب الجواهر ، أو كتاب الحدائق؟ هنا الاخباري يقول بان الفقهاء تسالموا على وقوع التحالف بينهما ، وبعد التحالف يحكم بابقاء كلا الكتابين عند البائع ، وابقاء عشرة دنانير عند المشتري ، كل يبقى المال عنده ، بعد فرض التحالف من كلا الطرفين ، وعدم نكول احدهما عن الحلف واليمين ، ولو فرض ان شخصاً آخر اشترى هذين الكتابين من البائع يحصل له العلم الاجمالي بعدم جواز التصرف في احد هذين الكتابين ، لأن احد هذين الكتابين مبيع للمشتري وليس ملكاً للبائع ، وبعد ذلك لو فرض انه جعل مجموع هذين الكتابين ثمناً لكتاب آخر ، أو لجارية مثلاً ، فيعلم تفصيلاً بعدم تملكه لتمام المثمن ، وعدم جواز تصرفه فيه ، فهنا تحصل المخالفة مع العلم التفصيلي.

٢٧٦

وذكر السيد الأستاذ دام ظله في التعليق على هذا الفرع ان هذين المتداعيين يتحالفان في المقام ، وبعد التحالف يحكم بانفساخ العقد ، إما واقعاً ، وإما ظاهراً ، وعلى كل تقدير لا إشكال ، فانه إن فرض ان الانفساخ واقعي فالكتابان ملك واقعي للبائع ، والمشتري الثاني اشترى كلا الكتابين من البائع ، فيكون مالكاً لهما حقيقة ، ولا تحصل المخالفة للعلم الاجمالي ، ولا للعلم التفصيلي بعد ذلك ، وإن فرض ان الانفساخ ظاهري فحينئذٍ قد تحصل هناك المخالفة إلا أنه لا بد من الالتزام حفاظاً على قانون منجزية العلم بعدم ترتب الأثر إلا بمقدار لا يعلم بمخالفته للواقع ، هذا خلاصة ما افاده.

والكلام هنا يقع أولاً : في اصل التحالف.

وثانياً : في الانفساخ الظاهري.

وثالثاً : في الانفساخ الواقعي.

ورابعاً : في كيفية الرد على الاخباري.

الجهة الأولى : كون المقام من موارد التحالف مبني على اصل في باب القضاء لا بد من تنقيحه في كتابه ، وهو ان اليمين شأن المنكر ، والبينة شأن المدعي ، هذا من الاصول الموضوعية في كتاب القضاء الثابتة بالنصوص في مقام تشخيص المدعي والمنكر ، وايضاً حقق في كتاب القضاء ان المدعي من كان قوله مخالفاً للأصل ، والمنكر من كان قوله مطابقاً للأصل ، أو مطابقاً للحجة.

وهناك لا بد وان يبحث في ان المقصود من كون المنكر من طابق قوله للأصل هل المراد من المطابقة المطابقة للأصل الجاري فعلاً؟ أو الأصل الجاري بالقوة ، والذي فيه شأنية الجريان؟ ومحل الكلام يبتني على تحقيق ذلك ، لأنه ان قيل بان المنكر من كان قوله مطابقاً للحجة الفعلية ، ومقصودي من الحجة الفعلية ليس الحجة في مقام فصل الخصومة ، بل الحجة الفعلية في مقام ترتيب الآثار ، وإلا الحجة في مقام فصل الخصومة هو الحلف والشهود والبينة ، إذا قيل باشتراط ذلك في محل الكلام لا يبقى مجال لأن يقال بوجود منكر في البين ، لا هذا منكر ، ولا

٢٧٧

ذاك منكر ، وإن كان بحسب الصورة منكراً فان هذا يدعي وقوع البيع على كتاب الجواهر ، وذاك ينكر وقوع البيع عليه ، وذاك يدعي وقوع البيع على كتاب الحدائق ، وهذا ينكر وقوع البيع على كتاب الحدائق ، إلا أننا اذا قلنا بان المقياس في المنكر ان يكون قوله مطابقاً للأصل الفعلي ، فهنا لا يوجد اصل فعلي ؛ لأن الاصل المتوهم انما هو استصحاب عدم وقوع البيع على كتاب الحدائق ، واستصحاب عدم وقوع البيع على كتاب الجواهر ، وهذان الاستصحابان متعارضان في نفسيهما ومتساقطان بعد فرض العلم بوقوع اصل المعاملة ، فلا هذا في انكاره يكون مطابقاً لأصل فعلي ، ولا ذاك في انكاره يكون مطابقاً لأصل فعلي ، فيكون المقام من موارد التداعي لا من موارد خصومتين ودعويين وانكارين ، ويطبق عليه قوانين باب التداعي ، وفي باب التداعي لا تحالف.

واذا فرض أننا بنينا على المبنى الثاني ، وهو ان المنكر من طابق قوله للأصل الجاري شأناً لو لا المعارضة لا الأصل الجاري بالفعل ، فالخصومة في المقام تنحل الى خصومتين ، في كل من الخصومتين مدع ومنكر ، خصومة انه هل وقع بيع على كتاب الجواهر ، أو ، لا؟ في هذه الخصومة المشتري مدع والبائع منكر ، وخصومة البائع مدع ، والمشتري منكر ، وكل من المنكرين قوله مطابق للأصل الجاري في نفسه ، وحينئذٍ يكون المقام من موارد التحالف اذاً ، فادخال المقام في باب التحالف مبني على تحقيق هذه النكتة في كتاب القضاء.

والمسألة على ما اظن غير منقحة في كتاب القضاء ، إلا أن الأظهر على ما هو المركوز في ذهني من السابق من دون مراجعة لاحقة هو الوجه الثاني ؛ أي أن المنكر من كان قوله مطابقاً للأصل الشأني ، فحينئذٍ يتم ادراجه في باب التحالف. هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

الجهة الثانية : انقدح مما حققناه في الفرع السابق في مقام ابطال الشركة الظاهرية ان الانفساخ الظاهري ايضاً غير معقول ، كدعوى الشركة الظاهرية هناك من قبل صاحب الجواهر في موارد الاختلاط ؛ إذ بعد فرض عدم الشك في الانفساخ

٢٧٨

الواقعي لا معنى لفرض الانفساخ الظاهري ، والمفروض انه لا شك في الانفساخ الواقعي ، فتوهم الانفساخ الظاهري توهم غير معقول ؛ لأن المورد لا يقبل جعل الحكم الظاهري ، كما كان الاختلاط لا يقبل جعل الشركة الظاهرية ، وانما الشيء الذي ينبغي التكلم فيه هو الجهة الثالثة ، وهو أنه هل يحصل هناك انفساخ واقعي أو لا يحصل انفساخ واقعي؟.

الجهة الثالثة : (وكان ينبغي تقديم الجهة الثالثة على الجهة الثانية كما واضح) يمكن ان يقرب الانفساخ الواقعي في المقام بعد فرض معلومية ان ثبوت الانفساخ في المقام ليس هو بنص خاص ، وانما هو بمقتضى القواعد بلحاظ دليل حجية اليمين بعد أن فرضنا التحالف من كلا الطرفين ، فبعد التحالف يمكن ان يقرب الانفساخ في المقام على مقتضى القواعد ، اما بدعوى ان نفس حجية اليمين المقتضية لانفصال الخصومة تقتضي في المقام فسخ العقد ، إذ لو فرض بقاء العقد على حاله لبقيت الخصومة على حالها ، وأما بتقريب ان حجية اليمين توجب في المقام كون المبيع تالفا على المشتري ، أليس هذا البائع حلف انه لم يبع كتاب الجواهر ، والمفروض عند المشتري ان المبيع هو كتاب الجواهر ، وحلف البائع اصبح فاصلاً للخصومة ، وحكم الحاكم على طبقه ، إذاً فهذا الحلف بحكم اتلاف كتاب الجواهر على المشتري ، لأن الحاكم حكم بأنه لا يجوز للمشتري ان يأخذ كتاب الجواهر ، والمشتري بعد اليمين لا يجوز له ان يترافع عند حاكم آخر كي يحصل كتاب الجواهر ، بل الفقهاء استشكلوا حتى فيما لو وجده خفية في ان يأخذه مثلاً ، فحينئذٍ في المقام يكون هذا اليمين اتلافاً من قبل البائع لكتاب الجواهر على المشتري ، من قبيل لو انه مزقه قبل القبض ، وكل مبيع تلف قبل قبضه فهو مضمون على البائع ، فهذا الضمان فسر هناك بمعنى انفساخ المعاملة ، بمعنى كونه يتلف من ماله ويكون الثمن للمشتري.

فتوجيه الانفساخ الواقعي بلحاظ دليل حجية اليمين إما بدعوى اقتضاء نفس فصل الخصومة لذلك ، وإما بدعوى ان المبيع بعد فرض انفصال الخصومة باليمين يكون بحكم التالف ، فيدخل في باب تلف المبيع قبل قبضه ، وقد حقق في محله ان

٢٧٩

كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه ، هذا ما نتصوره وجهاً بلحاظ دليل حجية اليمين ، إلا أن كلا الأمرين غير تام في المقام ولا يمكن المساعدة عليهما.

أما الأول فلوضوح ان فصل الخصومة لا يقتضي انفساخ العقد في الواقع ، فصل الخصومة معناه ان كلا من المدعيين ليس له الزام الآخر ، لا البائع له الزام المشتري بأن يعطيه عشرة دنانير بلا ان يعطيه كتاب الجواهر ، ولا المشتري له الزام البائع بان يعطيه كتاب الجواهر في قبال عشرة دنانير ، وهذا لا يستلزم انفساخ العقد في الواقع.

نعم بقاء العقد في الواقع يوجب تشويشاً على هذين الشخصين ، إلا أن مطلق التشويش شيء ومسألة رفع الخصومة شيء آخر ، وبعد التمييز بين الأمرين لا يكون هناك مجال لدعوى اقتضاء نفس فصل الخصومة لذلك.

وأما الثاني فهو لو فرض انه يتم فانما يتم في بعض الموارد ، ولا يمكن ان يكون وجهاً تاماً في سائر الموارد ، فانه لا يتم في غير البيع ، لأنها قاعدة تعبدية ثبتت بالنص في خصوص البيع ، ولا يتم في البيع ايضاً فيما لو فرض انه كان بعد القبض ، بحيث وقعت الدعوى والتحالف بعد فرض القبض ، فلا يتم الانفساخ في كثير من فروض المسألة ، فلا يمكن ان يكون وجهاً لما عليه الفقهاء من التحالف بقول مطلق في هذه المسألة.

فالتحقيق في مقام تفسير هذا الانفساخ انه بعد فرض التحالف من الطرفين هنا يتحقق خيار الفسخ لأحد هذين الشخصين على نحو الاجمال ؛ إذ ان المبيع إما كتاب الجواهر ، وإما كتاب الحدائق ، فاذا فرض ان المبيع في المقام كان هو كتاب الجواهر الذي ينكر البائع انه هو الذي وقعت المعاملة عليه ، فالبائع قد تخلف عن تسليم المثمن الى المشتري ، والبيع يتضمن الشرط الضمني للتسليم ، ولجعل الخيار على فرض التخلف عن التسليم كما حقق في كتاب البيع ان المعاملة البيعية وسائر المعاملات العقلائية مبنية على شرط ضمني ارتكازي ، وهو اشتراط التسليم والتسلم ، وروح هذا الشرط مرجعه الى الالزام بالتسليم والتسلم ، وجعل الخيار

٢٨٠