جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

أو يعتبر فيه القابلية النوعية ونحوه؟ وذكر المحققون انه يعتبر في الاصطلاح القابلية النوعية ، ولذا مثلوا له.

ولكن السيد الاستاذ عدل عن هذا الكلام في الدورات الاخيرة ، فذهب الى ان التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل التضاد ، لا تقابل العدم والملكة ، فان التقييد عبارة عن لحاظ دخل الخصوصية والقيد ، والاطلاق عبارة عن لحاظ عدم دخل الخصوصية والقيد ، وهما أمران وجوديان ، والتقابل بينهما من تقابل التضاد ، لا العدم والملكة (١).

ولكن هذا الكلام أيضا غير تام ، لأن التقابل بين الاطلاق والتقييد هو تقابل السلب والايجاب ، والخصوصية التي تقتضي سريان المطلق الى جميع افراده عبارة عن عدم تقييد المطلق ، وتفصيل ذلك في بحث المطلق والمقيد ، والتعبدي والتوصلي ، وذكرنا في بحث المطلق والمقيد أن التقابل تقابل السلب والايجاب ، لا تقابل العدم والملكة ، وبرهنّا عليه هناك.

الايراد الثاني من السيد الاستاذ على الجعل الأول هو أن ما ذكره المحقق النائيني (قدس‌سره) من أن الجعل الأول مهمل غير تام ، وذلك لعدم معقولية الاهمال في الشوق ، فإما ان يشتاق المولى الى المطلق وإما أن يشتاق الى المقيد ، ولا يمكن تعلق الشوق بأمر مهمل ، فلا يمكن ان يكون الجعل الأول مهملا ، فأثبت أولا عدم امكان الاهمال في الشوق ، واستنتج من ذلك عدم امكان الاهمال في الحكم والجعل الأول ، هذا ما ذكره في حاشيته على بحث التعبدي والتوصلي من تقريراته ، ولكن ما أفاده غير تام ؛ لعدم الملازمة بين ما ذكره مقدمة من عدم امكان أن يكون الشوق مهملا ، وبين ما استنتجه منه من عدم امكان ان يكون الجعل الأول مهملا ، اذ لا ربط لعالم الأحكام بعالم الملاكات.

ولذا أشكل السيد الاستاذ في بحث الواجب المطلق والمشروط على الشيخ

__________________

(١) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٥ ، ص ٣٦٥.

١٦١

الانصاري الذي فسر الواجب المطلق والمشروط بأنه لو كان الشوق مقيداً بشيء فهو واجب مشروط ، وإن كان الشوق متعلقا بالمطلق لا بالمقيد بشيء فهو واجب مطلق (١) ، أشكل عليه بانه لا ربط بين عالم الاحكام وعالم الشوق والملاكات (٢).

وأما المقام الثاني : وهو البحث عن الجعل الثاني ، فيمكن الاشكال عليه بتقريبين :

الأول : إن الجعل الأول مع ملاحظة الجعل الثاني إما أن يكون العلم بالجعل الأول موضوعا للجعل الثاني ، وإما أن يكون العلم بالمجعول في الجعل الأول موضوعا للجعل الثاني ، فإن كان العلم بالجعل في الجعل الأول موضوعا للجعل الثاني يرد عليه انه مع المهرب الذي ذكرناه للتخلص من الاشكال من أنه يمكن أخذ العلم بالجهل موضوعا للمجعول في الجعل الأول ، لا حاجة الى الجعل الثاني ، فيكون جعله لغوا لامكان التخلص عن المحذور بذلك بلا حاجة الى الجعل الثاني اصلا.

وإن كان العلم بالمجعول في الجعل الأول مأخوذا في موضوع الجعل الثاني يتوقف الجعل الثاني على تحقق موضوعه ، وهو العلم بالمجعول في الجعل الأول ، والعلم بالمجعول في الجعل الأول يتوقف على فعلية الجعل الأول وتحقق المجعول فيه ، وتحقق المجعول لا يمكن إلا مع وجود الجعل الثاني.

توضيح ذلك : ان موضوع الجعل الأول إما أن يكون مطلقا من ناحية العلم به أو مقيدا أو مهملا ، فإن كان مطلقا من ناحية العلم به بان قال المولى : أيها المكلف ، يجب عليك الصلاة سواء كنت عالما بوجوبها أم لا ، فحينئذ لا حاجة الى الجعل الثاني ، فيثبت به نتيجة الاطلاق ، بل يكون الاطلاق ثابتا في الجعل الأول ، ولا يقول الميرزا النائيني (قده) بذلك ايضا.

__________________

(١) مطارح الأنظار بحث المطلق والمشروط ، ص ٤٤ ، س ١٤ ، ط حجرية.

(٢) محاضرات في أصول الفقه ، ج ٢ ، ص ٣٢٥.

١٦٢

وإن كان مقيداً بالعلم في الجعل الأول بأن يقال : ايها المكلف ، اذا علمت بوجوب الصلاة تجب عليك الصلاة ، فيرد عليه المحذور المتقدم ، الذي كنا بصدد بيان المهرب والمخلص عنه ، مضافا الى عدم الاحتياج الى الجعل الثاني ايضا في هذه الصورة ، ولا يقول به المحقق النائيني (قدس) كما هو واضح.

وإن كان الموضوع مهملا من ناحية التقييد بالعلم وعدمه ، بان قال المولى : ايها المكلف ، تجب عليك الصلاة ، واهمل تقييده بالعلم وعدمه من جهة عدم القدرة على الاطلاق أو التقييد ، كما هو مراد المحقق النائيني (قده) ايضا على ما صرّح به ، فلا يمكن فعلية المجعول وتحققه في الجعل الأول ، لعدم امكان انطباق الموضوع المهمل على العالم والجاهل ، لأن انطباق الموضوع على فرد من الأفراد يكون بأحد وجهين :

أولهما : أن تكون خصوصية ذلك الفرد دخيلة ومأخوذة في الموضوع ، وبعبارة اخرى ان تكون طبيعة الموضوع مقيدة بالخصوصية الموجودة في ذلك الفرد.

وثانيهما : ان لا تكون مقيدة بخصوصية الفرد المقابل لهذا الفرد ، فالمكلف ينطبق على العالم اذا كانت طبيعة الموضوع مقيدة بخصوصية العلم أو لم تكن مقيدة بخصوصية الجهل ، بل كانت عارية ومطلقة عن التقييد.

وحيث أن الموضوع مهمل على الفرض وغير مقيد بالعلم ولا بالجهل الذي هو مقابل العلم ، ولا يكون مطلقا ، فانطباقه على كل من العالم والجاهل غير ممكن ، فلا يمكن تحقق موضوع الجعل الأول ، فلا يمكن فعليته لأن فعليته متوقفة على تحقق موضوعه ، فلا يتحقق المجعول لأن تحققه بتحقق فعلية الجعل ، فلا يمكن العلم بالمجعول ، فان العلم به متوقف على تحققه في الخارج ، فلا يمكن تحقق الجعل الثاني وأخذ العلم بالمجعول في الجعل الأول في موضوع الجعل الثاني لعدم امكان العلم بالمجعول في الجعل الأول ، فلا يعقل الجعل الثاني لعدم معقولية موضوعه ، وهو العلم بالمجعول في الجعل الأول. ولا يخفى ان هذا

١٦٣

التقريب والاشكال انما يتم لو أريد من الجعل الثاني نتيجة التقييد ، وأما لو أريد منه نتيجة الاطلاق فهو غير وارد.

التقريب الثاني : ان العلم بالمجعول في الجعل الأول لو كان مأخوذا في موضوع الجعل الثاني ، بحيث ان الجعل الثاني ايضا لا يمكن ان يكون مطلقا من ناحية العلم ولا مقيدا لعين المحذور الذي لا يمكن لأجله أن يكون الجعل الأول مطلقا ولا مقيدا ، فلا بد أن يكون هناك جعل ثالث يبين تقييد الجعل الثاني بالعلم ، ويخرجه عن الإهمال ، وهكذا فيلزم التسلسل ، وهو محال. وهذا التقريب ايضا انما يتم فيما اذا كانت الجعول المتعددة كلها مقيدة ، وأما إذا كان واحد منها مطلقا وغير مقيّد ، فلا يلزم التسلسل ، كما هو واضح.

المقام الثاني

وأما المقام الثاني ، وهو البحث عن أخذ العلم بحكم مانعا عن شخص ذلك الحكم ، فقد قلنا ان المحققين لم يفرقوا بينه وبين ما اذا كان القطع بحكم شرطا في نفس ذلك الحكم ، بل حكموا باستحالتهما معا ، ولذا أشكل عليهم بامرين :

احدهما : رواية أبان حيث سأل أبا عبد الله (ع) عن دية اصابع المرأة ، فقال (ع) : دية اصبع واحد عشرة ، واصبعين عشرون ، وثلاثة اصابع ثلاثون ، وأربعة اصابع عشرون ، فتعجب أبان من ذلك ، وقال : كنا في العراق نسمع بذلك ونقول : ان الذي جاء به شيطان. فقال (ع) لأبان : ويحك يا أبان ان السنة اذا قيست محق الدين (١). فردع (ع) عن العمل بالقياس ، فجعل العلم الحاصل به مانعا عن الحكم الشرعي ، هذا هو الأمر الأول.

الثاني : ما ذكره الشيخ الأعظم الانصاري (قده) توجيها لكلام اخواننا العلماء الاخباريين ، فانهم منعوا عن العمل بالقطع الحاصل من الأدلة العقلية وعن حجيته ، وحيث انه لا يتلائم مع كون الحجية ذاتية للقطع ، ذكر الشيخ الأعظم

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٩ كتاب الديات باب ٤٤ ، ص ٢٦٨ ، ح ١.

١٦٤

الانصاري (قده) ان مرادهم ان الشارع اخذ القطع في الحكم الشرعي الحاصل من الأدلة العقلية مانعا عن الحكم ، ولا محذور في ذلك ، فيمكن للشارع أن يجعل العلم الحاصل من القياس مانعا عن الحكم الشرعي (١).

أما رواية أبان فقد أجيب عن الاشكال فيها أولا : بأن الرواية ضعيفة السند لا يمكن الاعتماد عليها ، وثانيا : بان الرواية ليست ظاهرة بان أبان علم بالحكم ، بل ظاهرة بانه اطمأن به.

وتخلص المحقق النائيني (قده) بالالتزام بالجعل الثاني وتتمة الجعل ، فذكر ان المحذور في اخذ القطع بحكم مانعا من شخص ذلك الحكم يندفع بالجعل الثاني ، على ما مرّ في الشرطية ، وأخذ القطع بالحكم شرطا في موضوع ذلك الحكم.

ولكن الصحيح في الجواب : ان الرواية غير مرتبطة بالمقام اصلا ، فان البحث في المقام انما هو في اخذ القطع بالحكم الواقعي في موضوع ذلك الحكم ، وفي مورد الرواية ليس هناك حكم اصلا ، بل تخيل أبان وجود الحكم ، فقال الامام (ع) : إن هذا التخيّل فاسد ، ولا يمكن استفادة الحكم من القياس. وبالجملة هذه الرواية لا ينطبق موردها على مسألة أخذ القطع مانعا عن متعلقه اصلا ، وانما ينطبق على الردع عن حجية القطع الطريقي ، أو سلب أبان قطعه تكوينا ، أو بيان أنه ما كان ينبغي لك حصول القطع بذلك ، لأن دين الله لا يصاب بالعقول ، وان السنّة اذا قيست محق الدين. هذا بالنسبة الى الرواية.

وأما كلام الشيخ الاعظم الانصاري (قده) فالتحقيق في المقام أن يقال : ان اخذ القطع بالحكم مانعا عن متعلقه يصوّر بوجهين :

الأول : أخذ القطع بالجعل مانعا عن المجعول ، كما اذا اخذ القطع الحاصل من غير طريق الاخبار مثلا مانعا عن الحكم ، فقد عرفت ان اخذ القطع بالجعل

__________________

(١) الرسائل ، ص ١٠.

١٦٥

موضوعاً بنحو الشرطية ممكن ، فضلا عن المأخوذ مانعا كما هو المفروض.

الثاني : أخذ القطع بالمجعول مانعا عن نفس المجعول ، كما اذا اخذ القطع بالمجعول الحاصل من غير طريق الاخبار مثلا مانعا عن الحكم ، والتحقيق انه لا استحالة في ذلك ، ولا يأتي هنا شيء من الاشكالات السابقة في اخذ القطع بالحكم شرطا في متعلقه وهي اربعة :

الأول : الدور ببيانه السطحي ، وهو دعوى ان العلم بالحكم متوقف على العكس ، فلو انعكس أيضا دار ، وانت ترى عدم تأتي هذا الوجه هنا ، اذ لو سلم توقف العلم بالحكم على نفس الحكم ، فمن الواضح ان عدم العلم بالحكم لا يكون متوقفا عليه.

الثاني : لزوم التهافت بين طبيعة العلم وطبيعة المعلوم ، اذ العلم انما يكشف عن امر سابق بقطع النظر عنه. ومن الواضح ان هذا الوجه ايضا لا يأتي هنا ، فانه اذا علم بحكم مقيد بعدم العلم فهذا الحكم ثابت بقطع النظر عن العلم ، ولا تكون طبيعة متنافية مع طبيعة العلم.

الثالث : ثبوت المحرك المولوي بقطع النظر عن ثبوت الحكم ، اذ موضوعه هو العلم بالحكم ، ولا يتكفل الحكم محركية زائدة ، اذ هو نفس الحكم الذي اخذ انكشافه مفروغا عنه في مرحلة موضوعه لا حكم آخر. وهذا الوجه ايضا لا اشكال في عدم تأتيه في ما نحن فيه ، لان موضوع الحكم هو عدم العلم لا العلم كي تتم المحركية المولوية في مرحلة الموضوع.

الرابع : لزوم الدور في مرحلة الوصول ، لأن العلم بالحكم متوقف على العلم بموضوعه ، الذي هو العلم بالحكم على الفرض ، فالعلم بالحكم يتوقف على العلم بالعلم بالحكم ، وهو نفس العلم بالحكم ، فلزم توقف الشيء على نفسه ، وهذا نتيجة الدور. وهذا ايضا لا اشكال في عدم ارتباطه بما نحن فيه لان موضوع الحكم هنا هو عدم العلم به عن طريق العقل مثلا ، فالعلم بالحكم متوقف على عدم العلم به عن طريق العقل ، وهو غير العلم ، فلم يلزم توقف الشيء على نفسه.

١٦٦

وهنا وجهان لتوهم الاستحالة يختصان بما نحن فيه من أخذ العلم بالحكم مانعا عن الحكم ، ولا يجريان فيما مضى من أخذه شرطا له :

الأول : ان الحكم انما يجعل ليكون محركا للوصول ، وفيما نحن فيه خنق وصوله ومحركيته في مهده لكون المفروض ان موضوعه هو عدم العلم به. وهذا الاشكال انما يتوهم فيما لو فرض مطلق العلم بالحكم مانعا عنه دون علم خاص به كخصوص العلم الحاصل من طريق العقل مثلا.

والجواب : انه يكفي في محركية الحكم وصوله بغير طريق العلم كأن يصل بحجة تعبدية من خبر او غيره. نعم لو أخذ مطلق وصوله ، ولو بغير العلم من سائر الحجج مانعا عنه جاء هذا الاشكال ، وأما اخذ خصوص العلم به على الاطلاق مانعا فبمكان من الامكان وان لم يقع في الخارج.

الثاني : انه لو اخذ عدم العلم عن طريق العقل مثلا موضوعا لحكم لزم عدم امكان وصول هذا الحكم الى هذا الشخص ، وهو من علم بهذا الحكم عن طريق العقل ، فيكون هذا الحكم محالا نظير استحالة جعل الحكم في حق المتجري بما هو متجر لاستحالة وصوله اليه.

والجواب أولا : ان الحكم انما يشترط فيه قابلية الوصول الى من جعل في حقه ويكون موضوعا له ، لا الى غيره ، ومن علم بالحكم عن طريق العقل ليس موضوعا له على الفرض ، فانما جعل الحكم في حق غير هذا الشخص ، وهو قابل للوصول الى من جعل في حقه ، وهذا بخلاف الحكم المجعول على المتجري بعنوان التجري ، فان موضوعه هو نفس المتجري المفروض عدم امكان وصوله اليه.

وثانيا : انه مع أخذ العلم بشخص الحكم مانعا عن ذلك الحكم يستحيل تحقق المانع في الخارج كي يقال : ان هذا الحكم لا يقبل الوصول الى من تحقق هذا المانع في حقه ، ويستشكل فيه بما عرفت ، وذلك لأن شخص هذا الحكم متقوم بعدم العلم به ، فلا يعقل ان يجعل لأحد العلم بفعلية حكم في حقه متقوم بعدم

١٦٧

علمه به ، لأن عدم علمه به لا يجتمع مع علمه به.

ان قلت : اذا كان حصول هذا المانع مستحيلا في الخارج فاي فائدة في اخذه مانعا؟

قلت : استحالته بنفسه ناشئة من اخذه مانعا ، ونتيجة لذلك أفاد (قده) انه إن فرض اخذ القطع بجامع الحكم المقيد بعدم العلم وغير المقيد بذلك مانعا عن شخص هذا الحكم فهو في الحقيقة خارج عمّا نحن فيه من اخذ العلم بالحكم مانعا عن متعلقه ، وهذا الفرض ايضا معقول ، ولا يرد عليه لزوم عدم وصول الحكم الى من تحقق في حقه هذا المانع ، فان هذا الشخص تارة يكون بحيث يرى انه لو قيد الشارع شخص هذا الحكم الذي هو وجوب الحج مثلا بعدم العلم فهو من مذاقه اختصاص وجوب الحج بغير العالم ، ولا يجعل مرة ثانية ذلك الوجوب على الأعم من العالم أو الجاهل ، بأن يصير لذلك حكمان ؛ حكم مختص بغير العالم وحكم مطلق ، وأخرى لا يستكشف ذلك الشخص من تقييد الشارع شخص هذا الحكم هذا المذاق للشارع.

فعلى الثاني لا يبقى تهافت بين علمه بفعلية جامع وجوب الحج في حقه وعلمه بتقييد وجوب الحج بعدم العلم ، إذ من الممكن تحقق الجامع في ضمن الفرد الآخر ، فيكون وصول ذلك الحكم المقيد بعدم العلم اليه بمكان من الامكان ، فلا يكون هناك موضوع لذلك الاشكال اصلا.

وأما على الأول فينحصر الجواب في الوجه الأول ، وهو ما ذكرناه من ان اللازم في الحكم انما هو قابليته في الوصول الى من جعل في حقه لا الى غيره ، فتلك القابلية ثابتة هنا. هذا تمام الكلام في معقولية أخذ القطع بالحكم مانعا عنه ، وأما ان مقالة الاخباريين هل ينبغي حملها على هذا الوجه ، أو على وجه آخر ، أو لا يمكن جعل محمل لها؟ فيأتي ان شاء الله تعالى في تنبيه مستقل.

تذييل

في البحث عن ان الاقسام التي مرت في القطع أي منها يتصور في الظن وأي

١٦٨

منها لا يتصور فيه ، فنقول : ان التقسيمات الماضية للقطع كانت باعتبارات ثلاثة :

الاعتبار الأول : انقسامه الى طريقي وموضوعي على وجه الصفتية وعلى وجه الكاشفية والطريقية ، وهذه الأقسام كانت متصورة في باب القطع ، وأما في باب الظن فلا اشكال في القسم الأول أي أخذه طريق صرفا ، ولا في القسم الثاني أي اخذه موضوعا بنحو الصفتية ، وأما أخذه موضوعا بنحو الكاشفية فايضا لا اشكال فيه بناء على تقسيم القطع الموضوعي الى الصفتي والطريقي باعتبار اشتمال القطع على عنوان له وعنوان فيه ، فان الظن ايضا مشتمل على هذين العنوانين ، ويأتي فيه عين التقريب الماضي بالنسبة الى القطع ، وأما بناء على التفسير الآخر ، وهو كون القطع الموضوعي الصفتي ما لوحظ فيه بعض لوازمه ، والموضوعي الطريقي ما لم يلحظ فيه ذلك ، فجريان هذا التقسيم في الظن ممكن ايضا بالنسبة الى الظن الذي يكون حجة شرعا ، وأما الظن الذي لا يكون حجة شرعا فلا يمكن اجراء هذا التقسيم فيه إلا بتأويل.

توضيح ذلك : إن أخذ الظن الذي ليس حجة بما هو كاشف موضوعا لحكم إن أريد منه اخذه بما له من الكشف الشرعي فهو خلف عدم حجيته ، وان اريد منه أخذه بما له من الكشف التكويني الناقص فنقول :

هل المراد أخذ كشفه الناقص موضوعا بما له من الحد العدمي؟ أي بشرط عدم المرتبة العليا من الكشف.

أو المراد أخذ هذا المقدار من الشك الناقص بدون دخالة الحد العدمي؟ بأن يكفي وجود هذا المقدار العدمي من الكشف كافيا ، ولو في ضمن الكشف التام.

فان اريد الأول رجع هذا إلى الظن الصفتي لأخذ بعض الصفات المقارنة في الموضوع ولم يكن الموضوع متمحضا في ذات الكشف.

وإن أريد الثاني لم يكن ذلك اخذا للظن موضوعا ، بل كان اخذا للجامع بين الظن والقطع موضوعا ، إلا أن يراد من اخذ الظن موضوعا لما هو كاشف هذا المعنى وهو ما ذكرناه من التأويل ، وأما اذا كان ذلك الظن حجة شرعا فأخذه موضوعا لما

١٦٩

هو كاشف بدون ان يرجع الى اخذ الجامع بين القطع والظن موضوعا بمكان من الامكان ، وذلك بأن يكون الموضوع هو الحجة تعبدا ، ومن المعلوم ان القطع ليس حجة بالتعبد.

الاعتبار الثاني : انقسامه الى كونه تمام الموضوع أو جزء الموضوع ، وكلاهما متصوران في باب القطع ، وأما في باب الظن فلا اشكال في اخذه تمام الموضوع ، وأما أخذه جزء الموضوع فان كان بمعنى الجزء الآخر شيئاً غير متعلقه وجوداً أو عدماً فهناك فرق بين كون الظن الذي يكون حجة شرعاً والظن الذي لا يكون حجة.

ففي الأول نقول : ان من الممكن كون الموضوع مركبا من الظن الذي يكون حجة ومن متعلقه وجوداً ، فالجزء الأول من الموضوع ثابت بالوجدان ، والجزء الثاني بالتعبد ، ولكن لا يمكن تركب الموضوع من الظن الذي يكون حجة ومن متعلقه عدما ، لأن هذا الموضوع يستحيل وصوله الى المكلف ، فانه ان كان الظن حجة فكيف يثبت بثبوت عدم متعلقه عند المكلف ، فان فرض بقيام حجة شرعية عند المكلف غير هذا الظن على عدم متعلقه وقع التعارض بينهما وبين هذا الظن وخرج هذا الظن عن كونه حجة.

وفي الثاني نقول : انه يمكن كون متعلق الظن الذي ليس حجة جزء الموضوع وجودا ، ويمكن كونه جزء الموضوع عدما ، وذلك لامكان وصول الموضوع بكلا جزئيه الى المكلف ، اما الجزء الأول وهو الظن فبالوجدان ، وأما الجزء الثاني فان كان عبارة عن متعلق الظن وجودا فوصوله بأحد الامرين :

الأول : قيام حجة شرعية على طبق ذلك الظن.

الثاني : ثبوت حكم شرعي على ذلك الظن للواقع ، انه يتشكل حينئذ علم اجمالي بفعلية ذلك الحكم أو الحكم المترتب على الظن.

وإن كان عبارة عن متعلق الظن عدما فدائما يتشكل علم اجمالي بصحة متعلق الظن ، أو الحكم المترتب على الظن ، فان قامت حجة شرعية على خلاف ذلك

١٧٠

الظن ثبت ظاهرا الحكم المترتب على الظن ، وإلا كفى في وصوله نفس ذلك العلم الاجمالي.

الاعتبار الثالث : انقسام القطع الموضوعي الى كونه موضوعا لخلاف متعلقه أو ضده أو مثله أو نفسه ، فقد عرفت بالنسبة الى القطع ما أمكن منها وما لم يمكن ، وأما بالنسبة الى الظن فتارة يقع الكلام في الظن الذي يكون حجة ، وأخرى يقع الكلام في الظن الذي لا يكون حجة.

أما الظن الذي يكون حجة فلا اشكال في جعله موضوعا لخلاف متعلقه كالقطع ، ويستحيل جعله موضوعا لضد متعلقه كالقطع ، لوقوع التهافت بين حجيته والحكم المترتب عليه. وأما جعله موضوعا لمثل متعلقه فبمكان من الامكان كما قلنا بامكانه في باب القطع ، بل الامكان هنا أوضح لعدم تأتي برهان المحقق النائيني (قده) على الاستحالة هنا ، وهو كون النسبة هنا بين الحكمين عموما مطلقا في نظر القاطع ، فان النسبة هنا بينهما عموم من وجه حتى في نظر الظان ، فان الظان يحتمل خطأ نفسه. وأما جعله لنفس متعلقه شرطا فمحال كالقطع ، لنفس ما كان مختارا في باب القطع من الوجهين :

الأول : لزوم التهافت بين الطبيعتين ، فان طبيعة الظن هي الكشف الناقص عن شيء ثابت بقطع النظر عن نفسه.

الثاني : ان العلم بالحكم متوقف على العلم بموضوعه الذي هو الظن بالحكم على الفرض ، والعلم بالظن بالحكم هو نفس الظن بالحكم ، لأن الظن من المعلومات الحضورية للنفس ، ولا أقل من كونه متوقفا على الظن بالحكم ، كتوقف العلم بالمحسوسات على الاحساس ، بل لزم كون العلم بالحكم معلولا للظن بالحكم بلا واسطة ، أو بواسطة العلم بالظن. وان شئت فقل : لزم العلم باجتماع الضدين اللذين هما الظن والعلم ، وايضا الظن بالحكم متوقف على الظن بموضوعه الذي هو الظن بالحكم ، فالظن بالحكم متوقف على الظن بالظن ، والظن بالظن محال ، أما أولا : فللزوم الدور ، أو التسلسل ، أو خلل في الدماغ الذي هو خارج

١٧١

عن محل الفرض.

وأما ثانيا : فلأن الظن من المعلومات الحضورية للنفس ، فلا يمكن الشك فيه ، وانما الانسان إما ظان أو ليس بظان. هذا ، ويتأتى تصوير التسلسل في جانب العلم بالظن ايضاً ، وإن شئت فقل : ان جامع التصديق بالحكم أو في ضمن الظن بالحكم ، والثاني : إما أن يفرض في ضمن القطع بالموضوع أو في ضمن الظن بالموضوع ، فهناك صور أربع ، وكلها محال لمختلف الاشكالات ، كلزوم توقف الشيء على نفسه وغير ذلك الواردة على مختلف الصور كما يظهر بالتأمل.

هذا ولعل الاشكال هنا اشنع من بعض الجهات من الاشكال في اخذ العلم شرطا لمتعلقه. وأما جعله مانعا عن متعلقه فغير ممكن بخلاف القطع ، والفرق بينهما أنه في باب القطع ربما كان يتعلق غرض المولى بثبوت الحكم على غير القاطع بشخص الحكم المجعول ، إما لعدم المقتضي بالنسبة الى القاطع بشخص الحكم أو لوجود المانع عن الجعل في حقه ، فكان يقيد الحكم بعدم القطع بشخصه حتى يفيد استحالة تحقق القطع المانع.

وأما بالنسبة الى الظن الذي جعله حجة فكان يمكن التوصل الى غرضه بعدم جعله حجة ، فجعله أولا حجة ثم أخذ الظن الذي يكون حجة مانعا ليس إلا تعقيداً وتبعيداً للمسافة.

وأما الظن الذي لا يكون حجة فلا اشكال في جعله موضوعا لخلاف متعلّقه ، وأما جعله موضوعا لضد متعلّقه فذهب المحقق الخراساني (قده) الى امكانه بخلاف باب القطع لانحفاظ مرحلة الحكم الظاهري وهو الشك ، فيجمع بين الحكم المظنون والحكم المترتب على الظن بلا اشكال.

وأورد عليه المحقق النائيني (قده) ، والسيد الأستاذ (قده) : بانه انما يجمع بين الحكمين لا بمجرد انحفاظ مرحلة الحكم الظاهري ، بل اذا كان احدهما ظاهريا والآخر واقعيا ، وأما فيما هو المفروض من اخذ الظن موضوعا لحكم واقعي فلا

١٧٢

يمكن الجمع (١) وهذا الاشكال منهم متين على مبناهم في باب الجعل بين الحكم الواقعي والظاهري.

نعم يبقى هنا استدراك ، وهو انه يمكن جعل الظن موضوعا لضد متعلقه بنحو الشرطية بشرط ان لا يكون تمام الموضوع ، بان يكون جزؤه الآخر عدم متعلقه ، فمع فرض كون الموضوع خصوص الظن المخالف لا يتأتى اشكال اجتماع الضدين لا في الواقع ولا في ظن المكلف ، هذا ويصل ذلك الحكم الذي هو ضد متعلق الظن الى المكلف بطريق شرعي يكون حجة مع الظن بالخلاف ، أو بنفس العلم الاجمالي الذي يتشكل من جعل ذلك الحكم على خصوص الظن المخالف ، مثلا لو جعل الظن بوجوب الصلاة بقيد المخالفة موضوعا لاستحبابها فبالنتيجة يعلم بأصل مطلوبيتها ، وأما جعله موضوعا لمثل متعلّقه فبمكان من الامكان ، بل الامكان هنا أظهر من الامكان في باب القطع وفي باب الظن الذي يكون حجة ؛ لأنه لا برهان المحقق النائيني (قده) على الاستحالة ، وهو كون النسبة عند القاطع عموما مطلقا يجري هنا كما عرفت ، ولا برهان السيد الاستاذ (قده) عليها ، وهو لزوم اللغوية لتمامية المحرك المولوي في الرتبة السابقة ، لأن المفروض عدم حجية الظن فلم تتم المحركية ، نعم يأتي هنا ما مضى من البرهان الثالث ، وأما البرهان الرابع فيتأتى هنا من ناحية أن الحكم الأول لا يمكن تخصيصه بغير فرض القطع به على مبناهم من استحالة اخذ الظن بالحكم مانعا عن متعلقه ، وأما تخصيص الحكم الثاني بغير فرض المصادفة فلا مانع منه هنا ؛ إذ ربما يصل لقيام حجة شرعية على عدم المصادفة.

وأما جعله شرطاً لمتعلقه فلا يمكن ، لما مضى من الوجهين ، وأما جعله مانعا عن متعلقه فبمكان من الامكان كالقطع للفرق بينه وبين الظن الذي يكون حجة شرعا ، لأن الظن الذي يكون حجة شرعا كان من الممكن نفيه خارجا بعدم جعل الحجية ، وأما ذات الظن فلا يمكن للمولى بما هو مولى نفيه خارجا إلا بجعله

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ٢٠ ، ومصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٤٩.

١٧٣

مانعاً.

هذا تمام الكلام في اقسام الظن وانما تعرضنا لهذا البحث مع انه لم يقع مثل هذه التقسيمات في الشريعة تأسياً بالشيخ الاعظم الانصاري (قده) شيخ هذه الصناعة ، حيث تعرض لذلك في ذيل مبحث اقسام القطع.

الموافقة الالتزامية

(هل يجب على المكلفين زائداً على العمل بالأحكام الالتزام بها وعقد القلب عليها والخضوع لها ، وهو ما نسميه بالموافقة الالتزامية). الداعي الى انعقاد هذا البحث الذي نسميه بالموافقة الالتزامية هو بيان جريان الاصول العملية وعدمه في موردين : احدهما موارد دوران الأمر بين المحذورين.

وثانيهما : في اطراف العلم الاجمالي ، فيما اذا كانت الاطراف سابقا محكومة بحكم الزامي ، وعلم اجمالا بتبدل الحكم الالزامي في بعض تلك الاطراف بالحكم الترخيصي ، كما لو علم تفصيلا بنجاسة الاناءين ، ثم علم اجمالا بطهارة احدهما.

والكلام في المقام يقع في جهتين :

الجهة الأولى : تارة يقرب وجوب الموافقة الالتزامية بأن العقل يحكم بوجوبها بملاك امتثال احكام المولى ، وانه كما يجب امتثالها في الخارج كذلك يجب امتثالها في النفس ايضا ، فيوسع في دائرة الامتثال ، وتكون الموافقة الالتزامية مقوما للامتثال ، كما أن قصد القربة مقوم للامتثال في العبادات ، إما من جهة كونه داخلا في الخطاب ، وإما من جهة كونه دخيلا في الغرض.

واخرى يقرب وجوب الموافقة الالتزامية بأن العقل يحكم بوجوبها بملاك مستقل لا يرجع الى حق المولوية والاطاعة ، كما في التقريب الأول ، بل يكون من قبيل حق التعظيم ، فتجب الموافقة الالتزامية وإن لم تجب الموافقة العملية.

والفرق بين هذا الوجه والوجه الأول يكون من جهتين :

الجهة الأولى : ان هذا التقريب يشمل الأحكام الترخيصية ايضا ، بخلاف

١٧٤

الوجوب على التقريب الأول فإنه مختص بالأحكام الالزامية ، فيكون الوجوب على التقريب الثاني أعم منه على التقريب الأول.

الجهة الثانية : أن الوجوب بالتقريب الأول يكون العلم به منجزاً وموجباً لوجوب امتثاله ، بخلاف احتماله فان احتماله لا يجب امتثاله ، بل يجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان على المذهب المشهور ، وأما الوجوب بالتقريب الثاني فيكون احتماله ايضا منجزاً وواجب الامتثال كالعلم به ، كما ان الابن اذا احتمل دخول ابيه في الغرفة احتمالا عقلائيا يجب عليه القيام له تعظيما له ، كما اذا علم ذلك.

وثالثة يقال بوجوب الموافقة الالتزامية شرعا ، وعلى هذا الوجه يكون الوجوب في سعته وضيقه تابعا للدليل الدال عليه. هذا ، ولكن وجوب الموافقة الالتزامية لا يمكن اثباته بشيء من هذه الأدلة.

أما الدليل الأول وهو ان العقل يحكم بأن الموافقة الالتزامية جزء الامتثال ومقوم له ، فلأن الموافقة الالتزامية إما أن تكون دخيلة في الامتثال خطابا ، وإما أن تكون دخيلة فيه ملاكا ، وكلاهما غير صحيح ، أما الأول فواضح ، وأما الثاني فلأنا نقطع بعدم دخالته في الملاك ، وعلى فرض الشك في دخالتها نرفعه باطلاق الخطاب الدال على وجوب الموافقة العملية من جهة عدم تعرضه لوجوب الموافقة الالتزامية مع أنه في مقام البيان ، فلو لم يكن هناك اطلاق لعدم كونه في مقام البيان نرفع دخالته بأصالة البراءة عن الزام المكف بهذا الامر الزائد ، وهذا الوجه من الرد مختص بالتقريب الأول.

وهناك وجه عام يشمل كلا التقريبين الأول والثاني ، ويردهما ، وله تقريب مشهوري وتقريب صحيح.

أما التقريب المشهوري فهو أنا نرى في الموالي العرفيين بحسب وجداننا ان العبد إذا جرى على طبق تكاليفهم ، ولم يصدر منه مخالفة عملية لا يعاقبونه ، ولم يصح منهم عقابه وإن لم يلتزم بأحكامهم ، مضافا الى التصديق بها ، فنحكم بأن المولى الحقيقي ايضا كذلك وجدانا ، فلو لم يصدر من عبده مخالفة عملية بالنسبة

١٧٥

الى تكاليفه لا يعاقبه ولا يصح منه عقابه وجداناً.

ولكن هذا التقريب غير تام وذلك لأن مولوية الموالي العرفيين مرجعها الى الجعل والاعتبار ، فلا يصح قياس مولوية المولى الحقيقي التي هي مولوية ذاتية بها ، ولا يمكن استكشاف حكم المولوية الحقيقية التي ذكرنا في اول بحث القطع ان مرجعها الى حق الطاعة ، وان حق الطاعة روح المولوية الحقيقية وجوهرها ، من المولوية العرفية التي مرجعها الى الجعل والاعتبار. فهذا التقريب غير تام ، بل لا بد من ملاحظة الوجدان بالنسبة إلى نفس المولوية الحقيقية رأسا وبلا واسطة المولوية الجعلية.

فنقول : ان الوجدان يحكم بأن العبد اذا جرى على طبق احكام المولى الحقيقي ، ولم يصدر منه مخالفة عملية لا يعاقبه ، بل لا يصح منه عقابه وان صدر منه مخالفة التزامية ولم يلتزم بأحكامه مضافا الى تصديقه بها.

وأما التقريب الثالث وهو وجوب الموافقة شرعا فلم يدل دليل عليه من الشرع ، نعم الدليل دل على وجوب التصديق بنبوة رسول الله (ص) والتصديق بما جاء به ، حيث ان انكاره موجب لانكار اصل نبوته ، وأما الزائد على ذلك وهو الالتزام بما جاء به فليس عليه دليل. فتحصل في الجهة الأولى ان الوجوب بانحائه الثلاثة لا دليل عليه.

وأما الجهة الثانية وهي أن الموافقة الالتزامية على تقدير وجوبها هل تكون مانعا عن جريان الأصول العملية فيما اذا لم يلزم من جريانها مخالفة عملية أم لا؟ فلا بد قبل التكلم عنها من بيان الوجه الذي ذكره المشهور لوجوب الموافقة الالتزامية مقدمة لذكر التقرير الذي ذكروه في مانعية الوجوب في الموافقة عن اجراء الأصول ، والجواب الذي ذكروه عنه ، فانهم بيّنوا مانعية ذلك الوجه ، وأجابوا عنه ، وحيث انه ليس أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة التي بيّناها فلا بد من ذكره.

وهو أن وجوب الموافقة الالتزامية من تبعات التكليف وكونه على عهدة المكلف ، وان تنجز التكليف يقتضي بان يطبق المكلف اللوحين لوح العمل

١٧٦

والخارج ولوح النفس والذهن ، فكما يجب موافقته عملا ، تجب موافقته التزاما ، فتنجز التكليف في هذا الوجه هو الملاك لوجوب الموافقة العملية والموافقة التزامية توأماً ، وهذا الوجه غير الوجوه الثلاثة المتقدمة.

في جواز اتباع حكم العقل في الاحكام الشرعية

الكلام في جواز الاعتماد على الأدلة العقلية في استنباط الاحكام الشرعية ، ولا بد قبل الدخول في المبحث من تمهيد مقدمتين :

المقدمة الأولى : في تحقيق ما هو محل النزاع في المقام ، فنقول : ان هنا نزاعين ، احدهما : وقع بين الخاصة والعامة ، والآخر وقع بين الخاصة انفسهم ، أما النزاع الذي وقع بين الخاصة والعامة في جواز الاعتماد على الدليل العقلي فموضوعه هو الدليل العقلي ؛ بمعنى القضايا العقلية الظنية كالقياس ، والاستحسان ، ونحو ذلك من المدارك الذي استهدفها فقهاء العامة ، وبنوا على حجيتها ، واستنبطوا الاحكام الشرعية منها ، ولذا عد أبو حنيفة فاتح باب العقل في الاسلام لقوله بحجية القياس ، ومن هنا كان الحق مع الخاصة الذين ذهبوا الى عدم حجية العقل بهذا المعنى ، وذلك لأنه بعد فرض ابطال ما توهم دليلا على حجية ذلك بالخصوص يكفي في عدم حجيته نفس العمومات والمطلقات الرادعة عن العمل بالظن ، مضافاً الى اصالة عدم الحجية في نفسها.

وأما النزاع الذي وقع بين الخاصة انفسهم ـ أي بين الاصوليين والاخباريين حول العقل ـ فموضوع القضية هنا يختلف عن موضوع النزاع هناك ، فموضوعه هنا ليس هو القضية العقلية الظنية وما كان من قبيل القياس والاستحسان وان ذكر بعض الاخباريين تشنيعا على الاصوليين انهم يعملون بالقياس مثلا ، ونحو ذلك من التشنيعات إلا أن كل ذلك خارج عن ما هو الموضوع الحقيقي للنزاع ، وعن مورد النفي والاثبات بين المجتهدين والمحدثين ، بل ما هو مورد النفي والاثبات هو القضايا العقلية القطعية ، أي المقرونة بالجزم من قبل النفس التي يمكن ان يستكشف منها حكم شرعي ، وبهذا يعني بقيد الجزم واقتران القضية العقلية بالجزم ، تخرج

١٧٧

سائر الاحكام العقلية الظنية التي ذهب العامة الى حجيتها.

كما انه بملاحظة هذه الخصوصيات التي ذكرناها في تعريف الدليل العقلي الذي هو محل الكلام يعرف ان الكلام هنا ليس في خصوص ما كان مدركا للقوة العاقلة بمعناها الفلسفي ، بل كل قضية اقترنت بالجزم والتصديق القطعي من قبل النفس ، وامكن ان يستكشف منها حكم شرعي فهي داخلة في محل النزاع سواء كانت من مدركات المرتبة المجردة العقلانية من النفس ، أو كانت من مدركات النفس ولو باعتبار مرتبة اخرى من مراتبها.

كما انه ظهر من هذه الخصوصيات ايضا ان ما هو موضوع البحث في المقام لا يشمل الاحكام العقلية التي هي اسبق رتبة من الكتاب والسنة ، أو التي هي في طول الكتاب والسنة ، لأن الكلام انما هو في القضية العقلية المقرونة بالجزم والتصديق التي يستكشف منها الحكم الشرعي على حد استكشافه من الكتاب والسنة ، فالاحكام العقلية التي تقع في مرتبة سابقة على الكتاب والسنة ، ويبرهن بها على اثبات مبادئ الكتاب والسنة خارجة عن محل الكلام.

كما ان الأحكام العقلية المتأخرة رتبة عن استنباط الاحكام الشرعية من ادلتها ، وهي الاحكام الواقعية في عالم الامتثال والعصيان ، كوجوب الطاعة وحرمة المعصية ونحو ذلك من الاحكام العقلية ايضا خارجة عن محل الكلام ؛ لأنها ليست قضايا يستنبط منها حكم شرعي ، وانما تقع في مقام تشخيص وظيفة العبد تجاه الاحكام الشرعية المستنبطة من ادلتها ، فما هو محل الكلام هو المرتبة المتوسطة من الاحكام العقلية ، التي يمكن جعلها في عرض الكتاب والسنة. هذا تشخيص ما هو محل النزاع في المقام.

المقدمة الثانية : وقد عقدناها لبيان استنباط حكم شرعي من امثال هذا الدليل العقلي ، فنقول : ان العقل إما نظري ؛ بمعنى ادراك ما ينبغي ان يعلم ، وإما عملي بمعنى ادراك ما ينبغي أن يعمل ، اما العقل النظري فكيفية اقحامه والاستفادة منه في مجال استنباط الاحكام الشرعية ينظر فيها من طرفين ؛ طرف النفي ، وطرف

١٧٨

الاثبات.

أما طرف النفي فتطبيق قوانين باب الامكان والاستحالة على الاحكام الشرعية ، باعتبار ان الاحكام الشرعية ايضا تخضع لهذه القوانين ، كما انه تخضع لها سائر الوجودات الامكانية وغيرها ، فالعقل يمكنه ان يحكم باستحالة حكم شرعي خاص ، فاذا حكم باستحالة حصة خاصة من الحكم الشرعي امكن ببركة هذا الحكم العقلي الواحد بلا حاجة الى تجميع وتأليف عدة احكام النفي ، أي عدم ثبوت هذا الحكم الشرعي لاستحالة وجوده في عالم التشريع. ثم انه لو فرض قيام دليل على ثبوت حكم جامع بين ما هو المبرهن على استحالته وبين غيره أمكن بضم ذلك الدليل المجمل الى هذا الدليل العقلي اليقيني استنباط تعيين ذلك الجامع في حصة اخرى ، فيكون هذا الحكم العقلي هنا واقعا في طريق الاثبات ايضا.

وأما طرف الاثبات فالعقل يمكنه التصدي لاثبات الحكم الشرعي بتطبيق قوانين باب العلية والمعلولية على الحكم الشرعي باعتباره فعلا اختياريا صادراً من الفاعل العاقل المختار ، فبمقدار ما ينطبق من قوانين العلية على الفعل الاختياري الصادر من الفاعل الحكيم المختار يمكن الاستفادة منه في اثبات الحكم الشرعي في المقام ، وهذا يكون بأحد صور ثلاث ، وذلك لأن اثبات شيء عن طريق باب علته ومعلوله ، أي عن طريق علته المسمى بالبرهان اللمّي ، أو عن طريق معلوله المسمى بالبرهان الإنّيّ ، هذا الاثبات يتوقف على اثبات ذات العلة أو ذات المعلول ، واثبات علية العلة ومعلولية المعلول.

وحينئذٍ فتارة يفرض ان العقل يتصدى لاثبات كلا المطلبين لاثبات ذات العلة ولاثبات كونها علة ، أو لاثبات ذات المعلول واثبات كونه معلولاً ، فيتم بذلك البرهان اللمّي أو البرهان الإنّيّ بنفس الأحكام التي استقل بها العقل النظري.

ونمثل لذلك في طرف العلة بادراك العقل للملاك التام المحتوي على وجود المقتضي والشرائط وعدم المانع والمزاحم مع ادراكه علية هذا الملاك للحكم الشرعي بقانون تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وبذلك يتم وجود العلة بحكم

١٧٩

العقل وادراك علية العلة بحكم العقل بهذا القانون قانون تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلق.

وفي طرف المعلول نمثل له بالسيرة العقلائية ، فان الاستدلال بالسيرة العقلائية مع فرض عدم الردع في الحقيقة يرجع الى استكشاف الحكم عن طريق معلوله ؛ وذلك لأن الحكم الشرعي بحسب الواقع لو فرض انه كان على خلاف السيرة العقلائية ، وفرض ان المولى لم يردع عن هذه السيرة العقلائية للزم من ذلك نقض الغرض ، فبرهان استحالة نقض الغرض يثبت عدم الردع عن السيرة العقلائية المعاصرة لأيام النبي والأئمة (ع) ، وعدم الردع يكون كاشفا عن ثبوت الحكم الشرعي.

فها هنا ذات المعلول وهو السيرة العقلائية بحسب الخارج ، مع عدم الردع عنها ، وبقيد ان تكون غير مردوع عنها هذه السيرة بهذا القيد يمكن ان تثبت بالحكم العقلي يعني بالاستنباط من مجموع القرائن ، حيث اننا لم نكن في ذلك العصر ، فاستكشاف ان السيرة العقلائية في ايام الأئمة ، عليهم‌السلام ، كانت جارية على هذا الحكم مثلا يحتاج الى تجميع عدة قرائن ، ومن الممكن اثبات ذلك بتوسط الحكم العقلي ، كما ان اثبات كون هذا معلولاً للحكم الشرعي انما هو بتوسط برهان استحالة نقض الغرض ، فذات المعلول ومعلولية المعلول هناك كلاهما ثبت بحكم العقل النظري. هذه هي الصورة الأولى.

الصورة الثانية : بعد فرض ان العقل النظري يستقل بالعلية أو المعلولية ، يستقل بكون الشيء علة إلا أنه لا يستقل بوجود العلة خارجاً ، كما هو الحال في ابحاث الملازمات في علم الاصول ، فالملازمة بين وجوب الصلاة ووجوب الوضوء ، أي بين وجوب ذي المقدمة ووجوب المقدمة مرجعها الى استقلال العقل النظري بعلية وجوب ذي المقدمة لوجوب المقدمة ، أما وجوب العلة بحسب الخارج وان ذي المقدمة واجب أو غير واجب فهذا ليس من المستقلات العقلية ، بل لا بد في اثباته من اقامة دليل عن خارج حريم العقل النظري ، فها هنا العلية تثبت بالعقل النظري لكن ذات العلة تثبت من خارج العقل النظري ، هذه هي الصورة الثانية.

١٨٠