جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

على فرض عدم التسليم والتسلم.

وحينئذٍ في المقام لو فرض ان المبيع كان هو كتاب الجواهر ، ولم يسلمه بحسب الخارج ، وامتنع عن تسليمه ، وتعذر على المشتري الزامه بتسليمه بالرجوع الى الحاكم الشرعي ، لانه رجع الى الحاكم الشرعي فحلّفه ، والبائع حلف بانه لم يبع كتاب الجواهر ، فحكم الحاكم الشرعي بانفصال الخصومة من هذه الناحية ، فهذا التسليم اصبح متعذراً بحسب الخارج على المشتري ، لان البائع امتنع عن التسليم ، وتعذر على المشتري الزامه به ، وقد تحقق موضوع الخيار بالنسبة الى المشتري في نظره ، فهو الآن بحسب دعواه صاحب الخيار.

ولو فرض ان المبيع كان كتاب الحدائق لا كتاب الجواهر كما يقول البائع ، فالآن البائع يكون صاحب الخيار ، لأن البائع يقول : بعتك كتاب الحدائق بعشرة دنانير ، وكتاب الحدائق بين يديه ، ويسلمه للمشتري ويريد ثمنه ، ولكن المشتري يأبى عن ذلك ، لأن المشتري يدعي ان الثمن كان في قبال كتاب الجواهر لا الحدائق ، فقد تخلف المشتري بحسب نظر البائع عن دفع الثمن ، وتعذر عليه الزامه لأخذ الثمن ، لأنه رجع الى الحاكم الشرعي ، حلّفه ، والمشتري حلف بانه لم يشترِ كتاب الحدائق.

إذا ففي نظر البائع هو صاحب الخيار لانه يشترط التسليم والتسلم من كلا الطرفين من ناحية الثمن ، ومن ناحية المثمن يكون المشتري صاحب خيار ، ونحن نعلم اجمالاً بأن احدهما صاحب خيار ، فلو فرض انهما فسخا معاً ؛ لأن كل منهما يدعي انه صاحب خيار ، فنعلم حينئذٍ تفصيلاً بانفساخ العقد ؛ لأن صاحب الخيار المعلوم اجمالاً المردد بينهما فسخ على أي حال ، سواء كان هو البائع ، أو كان هو المشتري ، وبعد فرض فسخه ينفسخ العقد.

وإذا ضممنا إلى المطلب الاستظهار العرفي ، وهو انهما لما تداعيا في هذه المعاملة ، وتحالفا ، أظهر كل منهما عدم الرضى بالمعاملة ، فالمشتري لا يرضى بها لأن البائع لا يسلمه كتاب الجواهر في قبال ماله ، والبائع لا يرضى

٢٨١

بالمعاملة على فرض انه لا يسلم له عشرة دنانير في قبال كتاب الحدائق ، بعد فرض هذا الاستظهار حينئذٍ يكون نفس هذا انشاء للفسخ منهما ايضاً ، كما يقول الفقهاء في عدة موارد : ان الفسخ يحصل بغير القصد التفصيلي لانشاء الفسخ.

فحينئذٍ بعد فرض انضمام هذا الاستظهار المقبول في كثير من الموارد الى تلك الصناعة يظهر الوجه الفني للانفساخ الواقعي في المقام ، وذلك ان احدهما صاحب الخيار جزما باعتبار تخلف الآخر عن الشرط الضمني الارتكازي ، اذاً فقد فسخ من له الخيار يقيناً ، وإذا فَسخ فُسخ العقد بذلك ، فلو فرض انه تم هذا الاستظهار ، كما هو تام ، يقع الانفساخ في نفسه ، ولو فرض انه غير تام فبعد فرض التحالف وسقوط الخصومة كل منهما بامكانه حل المطلب بالفسخ ؛ لأنه يرى نفسه صاحب خيار فالآن يفسخ ، فالتحقيق هو الانفساخ الواقعي. هذا هو تحقيق حال الجهة الثالثة.

الجهة الرابعة : وهي كيفية جواب الاخباري ، انقدح جوابها مما ذكرناه ، وذلك لانه بعد فرض الانفساخ الواقعي بالتقريب الذي ذكرناه في الجهة السابقة لا تحصل مخالفة لا للعلم الاجمالي ، ولا للعلم التفصيلي. هذا كله مع فرض العلم بوقوع اصل المعاملة.

وأما لو فرض عدم العلم بوقوع اصل المعاملة من قبل شخص ثالث ، فالشخص الثالث يمكنه اجراء استصحاب عدم وقوع البيع ، لا على هذا ، ولا على هذا يعني حتى على فرض عدم الانفساخ الواقعي ايضاً يمكنه في المقام اجراء الاستصحابين معاً من دون معارضة ، ولا يلزم من ذلك مخالفة لا لعلم اجمالي ، ولا لعلم تفصيلي. هذا تمام ما ينبغي ان يقال في تحقيق هذا الفرع.

الفرع الثالث

لو علم بجنابة نفسه أو جنابة شخص آخر ، وهذا الشخص الآخر تارة يفرض انه ليس لطهارته اثر شرعي بالنسبة الى هذا الشخص ، كما لو فرض انه كان ممن لا يجوز الاقتداء به ، ولم يكن هناك اثر شرعي مترتب على صلاة الآخر ، في مثل هذا

٢٨٢

لا يتشكل علم اجمالي بالتكليف بالنسبة اليه ، فمرجع علمه الى العلم بانه إما هو مكلف أو غير مكلف ، ومثل هذا العلم الاجمالي غير منجز ، فاستصحاب الطهارة في نفسه يجري بلا معارض.

واخرى يفرض ان صحة صلاة الآخر كانت موضوعاً لحكم ترخيصي بالنسبة الى الشخص ، كما لو كان ممن يجوز الاقتداء به ، فعلى فرض صحة صلاته يكون الاقتداء به جائزاً ، في مثل هذا يتشكل علم اجمالي لا محالة ، إما بعدم جواز الاقتداء بهذا ، وإما بعدم جواز الصلاة بلا غسل ، إما وجوب الغسل ، وإما حرمة الاقتداء بهذا حتى على فرض الغسل ، فمثل هذا العلم الاجمالي يكون منجزا ، ويكون موجباً لتساقط الاصول.

ومن هنا يظهر اننا لا نقول بجواز اقتداء هذا الشخص بذلك الشخص الآخر ، بأن يقال : ان مثل هذا الجواز مخالفة للعلم التفصيلي ، فهذا مصادرة على المطلوب ، ولا منشأ لهذا الجواز إلا توهم جريان الاستصحابين معاً ، مع ان الاستصحابين لا يجريان مع علم اجمالي منجز في قباله.

نعم لو فرض انه لا علم اجمالي في قباله يجري استصحاب الطهارة في نفس العالم ولا يعارضه استصحاب الطهارة في الآخر ، فيما لو فرض ان الآخر لا يصلح للاقتداء به ، ولا يكون موضوعاً للحكم الشرعي بالنسبة الى هذا الشخص. هذا تمام الكلام في الفرع الثالث.

الفرع الرابع

لو اختلف الشخصان في الهبة والبيع ، فقال صاحب اليد : ان هذا الكتاب عندي هدية منك ولا تستحق شيئاً في قباله ، وقال الآخر : ان هذا الكتاب بعته لك بعشرة دراهم ، وأستحق عشرة دراهم في مقابله ، فهنا يحكم بالتحالف ، فكل منهما يحلف على نفي ما يدعيه الآخر ، صاحب الكتاب الفعلي يحلف على نفي البيع ، وصاحب الكتاب السابق يحلف على نفي الهبة ، وبعد التحالف من الطرفين يحكم برجوع الكتاب الى صاحبه الأول ، وبعدم مطالبة صاحب الكتاب الثاني لشيء من

٢٨٣

قبل صاحب الكتاب الأول ، وهذا خلاف العلم التفصيلي ، فان الكتاب يعلم تفصيلاً انه ملك للصاحب الثاني ، إما ملكاً معاوضياً وإما ملكاً مجانياً ، فالحكم برجوعه الى الصاحب الاول مع فرض العلم التفصيلي بهذا احد موارد النقض على مدعى الاصوليين في نظر الاخباري.

وذكر السيد الاستاذ في مقام التعليق على هذا الفرع بعد فرض اخراج ما اذا كانت الهبة لازمة ، كي لا يقال هناك بان نفس انكار الهبة يكون رجوعاً فيها على حد انكار الطلاق والوكالة ونحو ذلك ، بل يفرض كون الهبة لازمة بحيث لو كان الكتاب موهوباً فلا رد ولا فسخ ، ففي هذا الفرض ذكر انه بعد التحالف يحكم بانفساخ العقد بسبب التحالف ، فحينئذٍ يرجع الكتاب الى صاحبه الاول واقعاً على كل تقدير ، سواء كان بيعاً أو هبة ، ومعه فلا يكون هذا خلافاً للعلم التفصيلي.

والكلام يقع في جهتين : الجهة الأولى في ايقاع التحالف في المقام ، والجهة الثانية في انه بناءً على التحالف ينفسخ العقد ، ويرجع الكتاب الى صاحبه الأول ، وكل من الامرين غير تام.

اما تحقيق الكلام في الجهة الأولى ، وهو وقوع التحالف فتوضيحه أن يقال : ان وقوع التحالف في المقام مبني على دعوى ان الخصومة تنحل الى خصومتين ، كما انحلت في الفرع السابق الى خصومة حول البيع وخصومة تنحل الى خصومتين ، كما انحلت في الفرع السابق الى خصومة حول البيع وخصومة اخرى حول الهبة ، وفي كل من الخصومتين مدعٍ ومنكر ، وحيث انه ليس لكل من المدعيين بينة فلا بد لكل من المنكرين ان يحلف ، فيكون المورد من موارد التحالف.

وتحقيق الحال في ذلك انه في تحديد المدعي والمنكر تارة نقول : لا بد وان يلحظ الادعاء والانكار بلحاظ جهة الالزام ، واخرى يقال : ان الادعاء والانكار يلحظان بلحاظ مصب الدعوى لا بلحاظ جهة الالزام ، فهناك بحث في الفقه معنون في ان الادعاء والانكار من المدعي والمنكر هل ميزانه ملاحظة مصب الدعوى؟ فلو فرض ان مصب الدعوى كان ثبوتياً من كل منهما ، فكل منهما مدع ، وان فرض بلحاظ جهة الالزام فلا بد حينئذٍ من النظر الى الجهة التي يترتب عليها الزام احد

٢٨٤

الطرفين من قبل الطرف الآخر.

المختار في كتاب القضاء انما هو ملاحظة جهة الالزام في مقام تشخيص المدعي والمنكر ، لا ملاحظة مصب الدعوى ، ونتكلم على كل من الوجهين :

اذا فرض ان المناط في الادعاء والانكار في المدعي والمنكر هو ملاحظة جهة الالزام نرى ان مدعي البيع ما هي جهة الزامه للأول؟ في المقام جهتان بالنسبة إلى مدعي الهبة ؛ احدى الجهتين هي دفع العوض ، يقول بان هذا الكتاب لم ادفعه لك مجاناً ، وانما دفعته لك معوضاً ، وعليه فاريد عوضه ، هذه جهة الزام ينفيها الثاني ، ويقول : لم اشتر منك هذا الكتاب ، وانما اخذته هدية منك ، فلا تستحق مني العوض. وثاني الجهتين من الالزام من قبل البائع على المشتري هي استحقاق نفس العين ، على فرض عدم دفع الثمن وفسخ البائع بناءً على الشرط الضمني الارتكازي الذي ذكرناه ، فهذان جهتان من الالزام.

والثاني وهو مدعي الهبة ينكر كلا الجهتين ؛ ينكر استحقاق البائع الثمن ، وينكر استحقاق البائع الفسخ واسترجاع نفس العين خارجاً حيث انه يرى ان هذا المال انتقل اليه بالهبة ، وهو بنفسه ليس له جهة الزام بالنسبة الى البائع بشيء الا ببقاء العين عنده ، حتى على فرض فسخه يلزمه بان هذه العين خرجت من ملكك خروجاً مطلقاً وغير مقيد بالفسخ ، واما دعوى الثاني اصل الملكية فهذا ليس الزاماً للأول ، لان الاول يعترف بأصل الملكية ؛ إما بالبيع أو بالهبة ، ففي اصل الملكية لا معنى لأن يقال بان الثاني يلزم الاول ، انما الزام الثاني للأول في مورد الخصومة هو الزامه باطلاق هذه الملكية وثبوتها ، بحيث لا يرتفع بالفسخ بمعنى انكار الخيار.

فاذا كان الملحوظ جهات الالزام نرى ان الاصول موافقة لأي واحد من هذه الجهات من الالزام ، لأجل ان نشخص المدعي والمنكر.

اما الجهة الأولى من الزام البائع ، وهي الزامه المشتري بالثمن ، فهذه الجهة من الالزام تكون منفية باستصحاب عدم وقوع البيع على هذا الكتاب ، فان

٢٨٥

استصحاب عدم البيع في المقام بنفي جهة الالزام من قبل البائع ، ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب عدم وقوع الهبة على هذا الكتاب ، على ما سوف يظهر في تضاعيف الكلام ، والالزام الاول يكون البائع فيه مدعياً لأنه على خلافه الأصل ، والمشتري يكون فيه منكراً.

وأما الجهة الثانية من الزام البائع ، وهي ارجاع نفس العين بعد الفسخ ، فهذا مرجعه الى دعوى البائع كون العقد مشتملاً على جعل الخيار ، كما ذكرنا ، وحينئذٍ بناء على ما هو المشهور في حقيقة الخيار ، وهو ان جعل الخيار ليس بتقييد وتصرف في نفس مضمون البيع ، وانما هو بانشاء زائد ينضم الى الانشاء البيعي ، لا أن الخيار مرجعه الى تحديد الملكية المجعولة في باب البيع.

بناءً على هذا ايضاً يكون الاصل في قبال البائع ، لأن الاصل عدم جعل الخيار في هذه المعاملة التي وقعت بين شخصين ؛ إذ هي إما بيع وإما هبة ، فإن كانت بيعاً فقد جعلت الخيار ، وإن كانت هبة فلم يجعل فيها الخيار ، فيشك في اصل جعل الخيار ، فالاصل عدم جعله ، فالبائع بكلا إلزاميه منفي بالأصل ؛ الأول باستصحاب عدم وقوع البيع ، والثاني باستصحاب عدم جعل الخيار ، هذا بالنسبة الى جهتي الزام البائع.

وأما جهة الزام المشتري ، وهو ادعاء ان العين خرجت عن ملك البائع خروجاً مطلقاً لا يرجع بالفسخ ، فهذا مترتب على عدم جعل الخيار ، فاذا فرض انه نفي جعل الخيار بناء على المبنى المشهوري باستصحاب عدم جعل الخيار ، فيثبت كون العين له مطلقاً ، اذاً فالزام المدعى الثاني على الاول الزام على طبق الاصل ، والزام المدعي الاول على الثاني بكلا وجهيه على خلاف الاصل ، اذاً فالأول مدع صرف ، والثاني منكر صرف.

يبقى في المقام اشكال واحد مع جوابه ، وهو انه قد يقال بان استصحاب عدم وقوع البيع على المعاملة الذي جعلناه نافياً لمدعى الأول معارض باستصحاب عدم وقوع الهبة ، وجوابه ان استصحاب عدم وقوع الهبة لا اثر له في المقام في مورد

٢٨٦

المخاصمة ؛ لان الآثار التي يريد البائع الزام المشتري بها لا تثبت الا باثبات البيع ، واستصحاب عدم وقوع الهبة لا يثبت البيع الا بالملازمة العقلية فيكون مثبتاً ، فمجرد نفي الهبة لا يكفي في مقام اثبات استحقاق البائع الثمن من المشتري أو استحقاقه الفسخ ، كما ان انكار المشتري على البائع يكفي فيه نفي وقوع البيع ، ولا يحتاج فيه الى اثبات الهبة ، فلا البائع ينفعه نفي الهبة في مقام اثبات مرامه ، ولا المشتري يضره نفي الهبة في مقام تسجيل انكاره ، اذاً فاستصحاب عدم وقوع الهبة في المقام ليس له اثر شرعي في مورد الخصومة.

نعم لو فرض ان اصل الملكية كانت مورد الشك ، كما اذا انكر المالك الاول اصل الانتقال ، وادعاه الثاني ، فهناك اشكال في جريان استصحاب عدم وقوع الهبة ، ولكن حيث ان اصل الملكية معلومة تفصيلاً في المقام ، وانما الشك في ان البائع هل يستحقق من المشتري الثمن ، وعلى تقدير عدم اعطائه فسخ البيع ام لا؟ وهذا لا يترتب على استصحاب عدم الهبة إلا بناءً على الأصل المثبت.

فان قيل : إن استصحاب عدم الهبة ينقح موضوع الضمان في المقام ، وذلك لأن هذا المال مال يعلم انه للأول وهو البائع ، وقد وقعت يد المشتري عليه ، ويشك في ان هذه اليد التي وقعت على هذا المال هل هي التسليط المجاني ، أو بلا تسليط مجاني؟.

يحتمل كونهما مع التسليط المجاني ، ويحتمل ان تكون بلا تسليط مجاني ، فاستصحاب عدم الهبة ينقح ان هذا مال وقعت عليه يد الغير بلا تسليط مجاني ، وهذا موضوع للحكم بالضمان ، لأن موضوعه كل مال وقعت عليه يد الغير من دون تسليط مجاني من قبل المالك ، اذاً فاستصحاب عدم وقوع الهبة يكون موجباً لالزام البائع المشتري ، فيكون له اثر شرعي في المقام ، ولا مانع من اجرائه. هذا غاية ما يمكن ان يقال في تقريب جريان الاستصحاب في الهبة في المقام.

إلا أن هذا التقريب غير صحيح ، وذلك لانه ليس عندنا مثل هذا الحكم الشرعي ، وانما هذا امر انتزاعي.

٢٨٧

توضيح ذلك : ان موارد عدم التسليط المجاني على قسمين : تارة يكون في مورد المعاوضة البيعية ، وهذا هو الذي يسمى بضمان المعاوضة ، ويكون مضموناً حينئذٍ بالمسمى ، يعني بالثمن المذكور في تلك المعاملة ، ودليل هذا الضمان دليل امضاء تلك المعاملة وصحته.

واخرى يكون عدم التسليط المجاني في مورد لا يكون هناك ضمان معاوضي لعدم المعاوضة ، فيكون مضموناً حينئذٍ بضمان الغرامة ، يعني بضمان اليد ، فيكون مضموناً بالمثل اذا كان مثلياً أو بالقيمة اذا كان قيمياً ، فهناك ضمانا ؛ ضمان المعاوضة ، وضمان اليد.

ويمكننا ان ننتزع عنواناً جامعاً بين هذين الضمانين ، ونقول : انه في جميع موارد عدم التسليط المجاني يكون المال مضموناً اذا وقع تحت يد شخص ، وهذا ليس حكماً شرعياً مجعولاً بدليل شرعي على موضوع ، حتى يقال : اننا باستصحاب عدم التسليط المجاني ننقح موضوع هذا الحكم شرعاً.

بل هنا حكمان ضمانيان ؛ ضمان المعاوضة ، وضمان الغرامة ، وضمان المعاوضة مترتب على وقوع المعاملة بحسب الخارج ، ومجرد عدم التسليط المجاني لا يكفي في ثبوت هذا الضمان الا بالملازمة العقلية.

وضمان الغرامة غير محتملة في المقام ، فان الامر دائر بين التسليط المجاني وبين ضمان المعاوضة ، اذاً فتقريب استصحاب عدم وقوع الهبة بدعوى ان هذا الاستصحاب ينقح موضوع الضمان تقريب صوري ؛ لأن الضمان هنا عنوان انتزاعي من ضمانين مجعولين على موضوعين ، احد الموضوعين معلوم العدم في المقام ، وهو ضمان الغرامة ، والموضوع الآخر وهو ضمان المعاوضة لا يمكن اثباته باستصحاب عدم وقوع الهبة إلا بالملازمة العقلية ، اذاً فاستصحاب عدم الهبة هنا ليس له اثر شرعي حتى يعارض به استصحاب عدم وقوع البيع.

فلهذا اتضح ان تمام جهات الزام الاول للثاني منفية بالأصل ، وجهة الزام الثاني للأول على طبق الاصل بناءً على المشهور في باب جعل الخيار ، فحينئذٍ

٢٨٨

يكون الاول متمحضاً في كونه مدعياً ، والثاني متمحضاً في كونه منكراً ، فاذا فرض ان الثاني وهو مدعي الهبة حلف على نفي البيع سقط استحقاق الاول ، وبقيت العين عند الثاني ، فلا يبقى مجال للكلام في ان هذه العين كيف يحكم بانها للأول مع العلم التفصيلي بالبطلان. هذه صناعة المطلب بناءً على ما هو المختار من ان الملحوظ هو جهة الالزام.

واما بناء على ان الملحوظ مصب الدعوى فقد يقال حينئذٍ : ان مصب الدعوى هو عقد الهبة ، وكل منهما عقد ثبوتي في نفسه مسبوق بالعدم ، فينحل المقام الى خصومتين ، في كل من الخصومتين مدع ومنكر ، فلا بد من التحالف ، إلا أن هذا ايضاً غير تام ، وقد انقدح مما حققناه انه غير صناعي ، وذلك لأن الخصومة الثانية لا معنى لها ، نعم الخصومة في وقوع البيع وعدم وقوعه موجودة لا بد ان يطبق عليها قوانين باب الخصومة المدعي يقيم البينة ، وان لم يكن له البينة يحلف المنكر وتسقط الدعوى بالحلف.

وأما الخصومة المدعاة ثانية وهي الخصومة في وقوع الهبة هذه ليست خصومة ، نعم هناك تكاذب في انه هل هناك هبة أو لا؟ لكن ليس كل تكاذب في الدنيا يطبق عليها قانون باب الخصومة ، قانون باب الخصومة انما يطبق على خصومة تكون منشأ للالزام من احد الطرفين بالنسبة الى الآخر ، ووقوع الهبة في المقام وعدم وقوعه لا يكون منشأ للالزام بعد فرض تطابقهما على اصل الملكية.

الفرع الخامس

لو اقر بعين لزيد ، ثم اقر بنفس تلك العين لعمرو ، فانها تدفع للأول ، ويضمن المقر للثاني القيمة ان كان قيمياً ، أو المثل ان كان مثلياً ، مع انه يعلم اجمالاً بعدم استحقاق احدهما لذلك ، فلو انتقلا معاً الى شخص ثالث على علم اجمالاً بالبطلان في احدهما ، ولو اشترى بهما معاً شيئاً ثالثاً علم تفصيلاً بعدم استحقاقه له.

وقد ذكر السيد الاستاذ ان ما افاده الفقهاء في المقام على القاعدة ، لان دليل حجية الاقرار يشمل الاقرارين معاً ، وبما ان العين تكون تالفة على المقر له ثانياً من

٢٨٩

قبل المقر بسبب اقراره الاول يضمن بدله لا محالة ، ويلتزم بتمام آثار حجية الاقرارين عدا ما يعلم تفصيلاً (١).

وما افاده السيد الاستاذ صحيح لا غبار عليه ، إلا أنه لا بد من تمحيص لما افاده وتخريج له على قاعدة حجية الاقرارين ، فانه ربما يقال بان الاقرار الثاني لا يكون حجة ومشمولاً لدليل نفوذ الاقرار ؛ إذا العين بالاقرار الاول قد خرجت الى ملك المقر له أولاً ، فيكون الاقرار الثاني اقراراً في حق مال الغير وهو لا يكون نافذاً.

ولكن الصحيح ان تطبيق حجية الاقرار على الاقرار الثاني ، انما يكون بلحاظ المدلول الالتزامي لكلام المقر ، لا المدلول المطابقي لان لازم اقراره انه قد اتلف العين على عمرو ، فيكون ضامناً لبدلها ، وهذا اقرار على نفسه فيكون نافذاً لا محالة ، ولا يشترط في حجية الاقرار ان يكون مدلولاً مطابقياً لكلام المقر ، وهذا واضح كما ان عدم ترتب الاثر على المدلول المطابقي لكلام المقر ، من جهة عدم كونه اقراراً لا يضر بشمول دليل نفوذ الاقرار للمدلول الالتزامي.

__________________

(١) مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٦٥.

٢٩٠

العلم الاجمالي

٢٩١
٢٩٢

والكلام فيه يقع تارة في تنجيز التكليف به وعدم جريان الأصول في أطرافه ، وأخرى في الاكتفاء به في مقام الامتثال ، وبعبارة اخرى تارة يتكلم في العلم الاجمالي في مرحلة التكليف ، واخرى يتكلم في العلم الاجمالي في مرحلة الامتثال.

أما العلم الاجمالي في مرحلة التكليف فقد تعارف الاصوليون على بحثه مرتين ؛ مرة في المقام ، وأخرى في باب البراءة والاشتغال والمناسب فناً كما قال به المحقق الخراساني (قدس‌سره) هو التبعيض بان يتكلم في المقام عن مقدار تنجيز العلم الاجمالي ، وانه بنحو العلية او الاقتضاء ، وبمستوى حرمة المخالفة القطعية او وجوب الموافقة القطعية ، فهذا بحث عن احكام العلم. وبعد الفراغ عن عدم عليته للتنجز بمستوى وجوب المخالفة القطعية تصل النوبة الى البحث في باب البراءة والاشتغال عن جريان الاصول وعدمه في اطراف العلم الاجمالي.

ولكنه بما ان الجهتين من البحث مترابطتان ، ويحتاج لدى بيان الجهة الثانية الى تكرار الكلام في الجهة الاولى لبيان مقدار تأثيره في توضيح الامر في الجهة الثانية فالأولى ذكر الجهتين في مقام واحد فراراً من التكرار ، وحيث إن بعض المباحث والمباني في العلم الاجمالي في مرحلة التكليف يتوقف تنقيحه على تنقيح المباني في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فالأولى تأخير بحث العلم الاجمالي في مرحلة التكليف عن بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

فمن تلك المباني ما افاده المحقق الخراساني (قدس‌سره) من انه ما دامت رتبة الحكم الظاهري محفوظة مع العلم الاجمالي اذاً لا مانع من قبل العلم الاجمالي من جريان الاصول ، فلا يصل تأثير العلم الاجمالي في التنجيز الى مستوى العلية ،

٢٩٣

فان تنقيح ذلك يبتني على معرفة نكتة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي كي يرى مقدار انحفاظ تلك النكتة مع العلم الاجمالي ، وبناءً عليه فنحن نؤجل البحث الاستدلالي حول العلم الاجمالي في مرحلة التكليف الى باب البراءة والاشتغال.

ولكننا نذكر هنا ما هو المختار في ذلك بنحو الفتوى محولين اثباته الى مبحث البراءة والاشتغال فنقول : المختار في باب العلم الاجمالي في مرحلة التكليف بناءً على ما ذهبنا اليه من انكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو ان العلم الاجمالي ليس علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ولا لحرمة المخالفة القطعية ، بل هو مقتضٍ للتنجيز بكلا المستويين ، ومعنى الاقتضاء للتنجيز هو كون منجزيته معلقة على عدم مجيء الترخيص من قبل الشارع ، كما ان معنى العلية هو كون منجزيته غير معلقة على عدم مجيء الترخيص من قبله.

اما بناءً على المبنى المتعارف في الاصول من قاعدة قبح العقاب بلا بيان فالمختار هو التفصيل بين قسمين من العلم الاجمالي ؛ بيان ذلك : ان المعلوم بالعلم الاجمالي اذا لاحظناه في افق العلم فتارة يكون المقدار المعلوم من الواجب هو القدر القابل للانطباق على كل واحد من طرفي العلم الاجمالي ، كما لو علمنا اجمالاً بوجوب الظهر او الجمعة ، فالمقدار الداخل في افق العلم من الواجب الذي يشار اليه بعنوان احدهما مثلاً نسبته الى الظهر او الجمعة على حد سواء ، واخرى يكون المقدار المعلوم من الواجب مشتملاً على قيد لا ينطبق إلا على الواجب الواقعي ، وان ترددنا نحن في التطبيق ، كما لو علمنا بوجوب اكرام العالم بما هو عالم ، واشتبه عالم بجاهل ، فعلمنا اجمالاً بان احدهما واجب الاكرام بما هو عالم فالمقدار الثابت في افق العلم الاجمالي من الواجب مقيد بقيد لا ينطبق الا على الواجب الواقعي ، وهو قيد العالمية ولكننا شككنا في التطبيق ، ، وفي القسم الاول لو علم المكلف باحد طرفي العلم الاجمالي وكان في الواقع هو الواجب فقد حصل له العلم باتيان ذات الواجب ، ان لم يحصل له العلم باتيان الواجب بما هو واجب.

هذا بخلاف القسم الثاني ، اذ لو اكرم احدهما وكان هو العالم واقعاً لم يحصل له العلم باتيان ذات الواجب ، فان ذات الواجب عبارة عن اضافة الاكرام الى

٢٩٤

العالم ، وهو لا يعلم بالاتيان.

وما نختاره في القسم الاول هو ان العلم الاجمالي مقتضٍ للتنجيز على مستوى حرمة المخالفة القطعية ، وليس علة لذلك ، وليس علة ولا مقتضياً لوجوب الموافقة القطعية ، وفي القسم الثاني هو ان العلم الاجمالي مقتضٍ لحرمة المخالفة القطعية ولوجوب الموافقة القطعية ، وليس علة لشيء منهما.

وينبغي في المقام المنع عن توهمات :

الأول : قد يتوهم ان مقصودنا مما مرّ هو التفصيل بين الشبهة الحكمية والشبهة الموضوعية ، وان الشبهة في القسم الاول حكمية ، والعلم الاجمالي يقتضي فيها حرمة المخالفة القطعية ، وليس علة لذلك ولا مقتضياً لوجوب الموافقة القطعية ، وفي القسم الثاني موضوعية ، والعلم الاجمالي يقتضي فيها حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، ولا يكون علة لاحدهما.

ولكن الواقع ان الشبهة الحكمية وان كانت داخلة تحت القسم الاول دائماً إلا أن الشبهة الموضوعية قد تدخل تحت القسم الأول ، وقد تدخل تحت القسم الثاني.

بيان ذلك : ان الشبهة الموضوعية في الحكم تارة تنشأ من الشبهة في جهة تقييدية في متعلق الحكم مثل ما مضى من فرض العلم بوجوب اكرام العالم والشك في ان العلم الذي هو جهة تقييدية في المتعلق هل هو موجود في زيد او في عمرو ، وهذا هو الذي جعلناه قسماً ثانياً من قسمي العلم الاجمالي.

وأخرى تنشأ من الشبهة في جهة تعليلية في الحكم ، كما لو قال المولى : إن نزل المطر فأكرم زيداً ، وقال : إن جاء الحجيج فأكرم عمروا ، وعلمنا إجمالاً بنزول المطر أو مجيء الحجيج ، فنعلم إجمالاً بوجوب إكرام أحد الشخصين ، فهذه شبهة موضوعية ، ولكن العلم الاجمالي فيها من القسم الاول ، لأن الواجب انما هو اضافة الاكرام الى ذات احدهما لا الى عنوان لا ينطبق الا على الواجب الواقعي.

وثالثة تنشأ من التردد في القيد المأخوذ في جانب المكلف كما لو قال المولى : يجب على الناذر الحانث لنذره الصوم ، وقال : يجب على الحاج المرتكب

٢٩٥

لبعض محرمات الاحرام التصدق ، وعلم شخص اجمالاً بكونه مصداقاً لاحد هذين العنوانين ، فيعلم اجمالاً بوجوب التصدق او الصوم عليه ، وهذه ايضاً شبهة موضوعية داخلة في القسم الأول دون الثاني لعدم تعلق التكليف بعنوان خاص لا ينطبق إلا على الواجب الواقعي.

الثاني : قد يتوهم ان العلوم الاجمالية التي يتفق وجودها خارجاً كلها من القسم الثاني ، حتى مثل العلم بوجوب الظهر او الجمعة ، اذ يوجد دائماً عنوان معلوم لا ينطبق إلّا على الواجب الواقعي ، ففي هذا المثال نعلم مثلاً بوجوب ما كان يعلم رسول الله (ص) بوجوبه ، وهذا العنوان لا ينطبق إلا على الواجب الواقعي.

والجواب : إن هذا العنوان ليس داخلاً تحت الوجوب لكي يتنجز متعلق العلم به ، واضافة الوجوب اليه اضافة تبرعية.

الثالث : الخلط الواقع في كلمات الاعلام بين باب العلم الاجمالي بالتكليف وباب العلم التفصيلي به مع الشك في المحصل ، كما وقع في كلام السيد الاستاذ مع جعل العلم بوجوب الصلاة مع الشك في جهة القبلة من باب الشك في المحصل مع العلم التفصيلي في الحكم.

كأن منشأ الاشتباه ما رآه من إباء الوجدان والارتكاز من القول بعدم اقتضاء العلم في هذا المثال للامتثال القطعي ، بينما هو يرى عدم اقتضاء العلم الاجمالي للامتثال القطعي ، فادخل هذا المثال في باب الشك في المحصل مع العلم التفصيلي بأصل الحكم.

ولكن الواقع ان الشك تارة يكون في عنوان المكلف به كما في مثال العلم بوجوب الظهر او الجمعة ، واخرى في مصداق المكلف به كما في مثال تردد جهة القبلة او مثال وجوب اكرام العالم مع تردد العالم بين زيد وعمرو ، وثالثة في مقدمة حصول المكلف به كما لو علم بوجوب قتل الكافر وشك في حصول القتل من أول رصاصة.

فالثالث هو الشك في المحصل ، والأول والثاني كلاهما من العلم الاجمالي

٢٩٦

بالتكليف ، إلا أن الأول ضابط للعلم الاجمالي الذي لا يقتضي الامتثال القطعي ، والثاني ضابط للعلم الاجمالي الذي يقتضي الامتثال القطعي كما شرحناه. وبهذا يتحفّظ على إباء الوجدان والارتكاز عن عدم اقتضاء العلم في هذا المثال للامتثال القطعي.

العلم الاجمالي في مرحلة الامتثال :

وأما العلم الاجمالي في مرحلة الامتثال فالبحث عنه راجع الى المقام ، ولا ارتباط له ببحث البراءة والاشتغال ، فان البحث عن كفاية الامتثال بالعلم الاجمالي في الحكم بفراغ الذمة وعدمه بحث عن حكم العلم ، فيناسب ذكره المقام.

وقد وقع الخلاف بين الاعلام في كفاية الامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي في العبادات ، بعد الاتفاق على كفايته في التوصليات.

ودعوى لزوم الامتثال التفصيلي في العبادات يمكن تفسيرها باحد وجوه ثلاثة :

الأول : دعوى لزوم ذلك لا لوجوبه في نفسه بل لتحقق عنوان آخر يجب تحققه في العبادات كقصد الطاعة مثلاً.

الثاني : دعوى وجوبه بنفسه وجوباً شرعياً خطابياً بناءً على امكان اخذه في الخطاب او غرضياً بناءً على عدم امكان أخذه في الخطاب.

الثالث : دعوى وجوبه عقلاً اما باقتضاء التكليف ذلك وداعويته له كما يقتضي العمل على طبقه ، فهو داخل في حق الامتثال ، او بان يقال بكونه حقاً مستقلاً للمولى في قبال حق الامتثال.

وهذا نظير ما مضى في مسألة الموافقة الالتزامية من ان دعوى الوجوب العقلي لها تارة يكون بمعنى دعوى اقتضاء التكليف لها ، واخرى بمعنى دعوى حق مستقل في قبال حق الامتثال.

والبحث على الوجه الاول ليس بحثاً في حكم من الاحكام او متعلقه ،

٢٩٧

فالحكم والمتعلق معلومان وقصد الطاعة مثلاً قد فرض الفراغ عن وجوبه ، وانما الكلام فيما يمكن ان يتحقق معه متعلق الحكم وما لا يمكن ، وعلى الوجه الثاني بحث فقهي صرف ، فحال البحث عن وجوب كون الامتثال تفصيلياً شرعاً وعدمه كحال البحث عن وجوب قصد القربة وعدمه.

وأما على الوجه الثالث فهو بحث عن الاحكام الفعلية للقطع ومربوط بما نحن فيه ، وعلى أي حال فالتقريبات التي ذكروها في المقام لأجل اثبات الامتثال التفصيلي يرجع بعضها إلى الوجه الأول وبعضها الى الوجه الثاني وبعضها الى الوجه الثالث ، ومقتضى استيفاء البحث لتمام التقريبات والخصوصيات في المقام هو الكلام في تمام الوجوه الثلاث.

فنقول اما الوجه الأول وهو دعوى الفراغ عن وجوب شيء آخر غير تفصيلية المقام في العبادات يتوقف على تفصيلية الامتثال ، فهذا ما يستفاد من صدر عبارة المحقق النائيني (قدس‌سره) الواردة في التقريرات ، حيث يفهم منها ان العقل يحكم بالاستقلال بان قصد الطاعة الذي اعتبر في العبادات انما يحسن لدى التمكن من الامتثال التفصيلي اذا كان قد انبعث بامر المولى بالتفصيل ، اما الانبعاث من مجرد احتماله فلا حسن فيه ما دام متمكناً من الامتثال التفصيلي ، فيشترط في العبادة ان يكون الانبعاث وقصد الطاعة بنحو حسن عقلاً.

وجاء في اجود التقريرات دليل على اختصاص الحسن لدى التمكن من الانبعاث التفصيلي بالانبعاث التفصيلي ، ولم يذكر هذا الدليل في تقرير المحقق الكاظمي (قدس‌سره) ، وهو ان احتمال الامر متأخر رتبة عن نفس الأمر ، فيكون التحرك والانبعاث عن احتمال الامر متأخراً رتبة عن نفس الأمر ، فيكون التحرك والانبعاث عن احتمال الامر متأخراً رتبة عن الانبعاث عن نفس الامر ، وبما ان التحرك والانبعاث في الامتثال التفصيلي يكون عن نفس الامر فهو الامر الحسن عند التمكن منه ، ولا تصل النوبة الى الانبعاث من احتمال الامر إلا لدى العجز عن الانبعاث عن أصل الأمر (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ٤٤.

٢٩٨

أقول : إن تأثير تأخر احتمال الامر عن نفس الامر رتبة في اختصاص الحسن بالانبعاث عن نفس الامر مع الامكان دعوى لا برهان عليها. نعم قد يدعي المحقق النائيني (قدس‌سره) وجدانيتها ، وهي ليست الا كدعوى حكم العقل والوجدان بعدم حسن الامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، وليس في ضم هذه الدعوى الى عدم حسن الامتثال الاجمالي مع التمكن من التفصيلي اثر في المقام.

ثم اننا لم نعرف لما ذا يفترض ان الانبعاث في الامتثال التفصيلي انبعاث عن نفس الامر الذي هو مقدم رتبة على احتماله ، بينما الامر بوجوده الواقعي لا يكون محركاً ، انما المحرك هو ما في نفس المكلف من العلم بالامر او احتماله ، والعلم بالامر حاله حال احتمال الامر ، ولا يتوهم أي تقدم رتبي له على الاحتمال.

وعلى اي حال فما مضى من التقريب كان مستفاداً من صدر كلام المحقق النائيني (قده) ، ولكنه جاء في ذيل كلامه ما يناقض هذا المعنى ، حيث ذكر انه لو تنزلنا عن القطع بعدم حسن الامتثال الاجمالي عند التمكن من الامتثال التفصيلي ، وشككنا في ذلك ، دخل المورد في مسألة دوران الامر بين التعيين والتخيير ، والاصل في تلك المسألة يقتضي التعيين ، وهذا الذيل كما ترى يناسب افتراض كون الامتثال التفصيلي على تقدير وجوبه واجباً في نفسه لا محققاً لعنوان آخر واجب ، وهو قصد الطاعة بشكل حسن ، أو حسن الانبعاث ، وإلا فلا علاقة لذلك ببحث البراءة والاشتغال في دوران الامر بن التعيين والتخيير ، بل يدخل في مسألة القطع بشغل الذمة والشك في الفراغ ، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وعلى أي حال فلو سلمنا دخول المسألة في باب البراءة والاشتغال فبغض النظر عن النقاش في مبنى اصالة التعيين ، وان الصحيح عند الدوران بين التعيين والتخيير هو اصالة التخيير ، ننكر رجوع الامر في المقام الى باب التعيين والتخيير ، بل الامر دائر بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، فإننا نعلم بوجوب الاتيان بمتعلق الامر بقصد القربة بالمعنى الذي سيأتي ان شاء الله ، ونشك في وجوب امر زائد وهو التحرك عن نفس الامر او العلم به وعدمه ، والاصل عند دوران الامر بن الاقل

٢٩٩

والاكثر الارتباطيين هو البراءة.

أما اصل ما جاء في صدر التقرير لكلام المحقق النائيني (قده) من افتراض اشتراط العبادة بقصد امر حسن عقلاً فيرد عليه :

أولاً : ان الذي ثبت في الفقه في العبادات انما هو لزوم قصد التقرب الى الله مع كون الفعل قابلاً للتقرب به ، وكلا الامرين ثابتان فيما نحن فيه ولو كان الامتثال اجمالياً مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، ودليل العبادية منحصر في الغالب بالاجماع ، والقدر المتيقن منه ما ذكرناه ، ولا دليل على اشتراط كون العبادة بقصد أمر حسن عقلاً.

ثانياً : لو سلمنا ذلك فلا نسلم ما دل عليه وجدان المحقق النائيني من عدم حسن الامتثال الاجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي ، بل وجداننا يشهد بحسن ذلك.

ثم ان اجمالية الامتثال والانبعاث عن احتمال الامر تارة يكون على اساس كون الامر احتمالياً وغير معلوم اصلاً ، واخرى يكون على اساس العلم الاجمالي والدوران بين المتباينين ، وثالثة يكون على اساس الدوران بين الاقل والاكثر الارتباطيين.

وما افاده المحقق النائيني (قده) من كون التحرك عن نفس الامر او عن العلم به مقدماً على التحرك عن احتمال الامر يتأتى على الفرض الأول بلا اشكال.

فلو لم يبحث لمعرفة ما اذا كان هناك امر حقيقة أو لا ، واكتفى بالاتيان بالفعل احتياطاً ، فقد تحرك عن احتمال الامر ، لا عن نفس الامر ، او العلم به.

وأما في الفرض الثاني فقد قال السيد الاستاذ معترضاً على استاذه المحقق النائيني (قده) : إن هذا الوجه لا ينطبق في المقام ، لان التحرك في الحقيقة تحرك عن امر معلوم لا عن احتمال الأمر ، فانه انما اتى بعملين لعلمه الاجمالي بثبوت الامر

٣٠٠