جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

الصورة الثالثة : عكس الصورة الثانية ، بأن يفرض ثبوت ذات العلة بحكم العقل إلا أن العلية ثابتة من خارج حريم العقل ، وذلك كما في موارد قياس المساواة والأولوية ؛ فإن العقل يحكم بان ذات العلة الموجودة في (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) (١) التي اقتضت حرمة هذا الكلام ، تلك العلة على جميع محتملاتها وتقديراتها موجودة في سائر انحاء السب والشتم ، هذا مما يحكم به العقل ، أما كون هذا علة للحرمة فانما استفيدت من دليل (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) فعليّة العلة استفيدت من خارج حريم العقل ، لكن وجود ذات العلة في سائر الموارد استفيدت من حكم العقل بقياس المساواة والأولوية هذا كله في العقل النظري.

وأما العقل العملي ففي مقام استكشاف حكم شرعي منه يحتاج دائماً الى متمم من العقل النظري ؛ لأن العقل العملي إما أن يطبق على فعل العبد ، وإما أن يطبق على فعل المولى ، فان طبق على فعل العبد بأن يقال : الظلم قبيح ، فهو حرام ، يحرم صدور الظلم من العبد لأنه قبيح ، فاستكشاف حرمة الظلم بين القبح الفعلي والحرمة الشرعية ، وهذه الملازمة من مدركات العقل النظري ، فلا بد من ضم العقل النظري القاضي بالملازمة بين الأمرين ؛ بين القبح العقلي وبين الحرمة الشرعية ، وإلا لو فرض مجرد حكم العقل بقبح الظلم مع عدم الالتفات الى قانون الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في هذا الباب لما أمكن استكشاف الحكم الشرعي هناك ، فلا يكفي مجرد العقل العملي ، بل لا بد من ضم الدليل العقلي النظري اليه لأجل الاستكشاف ، كما ان العقل العلمي اذا طبق على فعل المولى ابتداء ، فقيل مثلا : ان الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي ترخيص في المعصية ، والترخيص في المعصية قبيح ، ومن هنا ينفى هذا الترخيص ، يحتاج أيضا إلى إقامة برهان على استحالة صدور القبيح من الحكيم.

إذا فهنا أيضا نحتاج في مقام استكشاف الحكم الشرعي الى ضم برهان نظري

__________________

(١) سورة الاسراء ، آية ٢٣.

١٨١

ببركته نستكشف الحكم الشرعي اثباتاً أو نفياً. هذا حاصل المقدمة الثانية في بيان طريقة استكشاف الحكم الشرعي من الدليل العقلي الذي وقع الكلام والبحث في انه هل يجوز اعمال مثل هذه الطريقة فيه أو لا يجوز؟ وبعد هذا ندخل في أصل المطلب.

فنقول : ان تنقيح البحث في المقام يقع في مراحل ثلاث :

المرحلة الأولى : في دعوى عدم جواز التعويل على الأدلة العقلية من ناحية القصور بحسب عالم الجعل ، والمراد بالقصور بحسب عالم الجعل ان الاحكام الشرعية المجعولة مقيدة بحسب جعلها وتشريعها من قبل المولى ، بأن لا تصل عن طريق العقل مثلا ، بأن لا تصل عن هذا الطريق المخصوص ، أو ان تصل عن طريق آخر ، فحينئذ يكون القصور هنا في نفس الجعل. هذه هي المرحلة الأولى.

المرحلة الثانية : هي أن يدعى عدم جواز التعويل على الأدلة العقلية من ناحية القصور في عالم الاستكشاف ، فيلتزم بأن عالم الجعل في نفسه تام ، ولكن الدليل العقلي لا يصلح ان يكون سببا للعلم بالحكم الشرعي ، فهناك قصور في قابلية الدليل العقلي للكشف عن الحكم الشرعي. هذه هي المرحلة الثانية من البحث.

المرحلة الثالثة : أن يسلم بأنه لا قصور في عالم الاستكشاف وان الدليل العقلي يكون سببا في احراز الحكم الشرعي ، إلا أن هذا القطع بالحكم الشرعي المعلول للدليل العقلي ليس بحجة ، فالقصور إنما هو بحسب عالم الحجية ، لا بحسب عالم الجعل ، ولا بحسب عالم الاستكشاف. هذه مراحل أو جهات البحث الثلاث التي لا بد من التعرض لكل منها.

أما المرحلة الأولى : وهي دعوى القصور بحسب عالم الجعل ، فقد قربها المحقق النائيني (قدس‌سره) ، على ما في تقريرات بحثه ، بهذا النحو :

ان الاخباريين مثلا لا ينكرون الاحكام العقلية ، ولا ينكرون الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ، وليس نظرهم الى الاشكال على جهة الاستكشاف ، أي استكشاف الحكم الشرعي من ناحية الحكم العقلي ، بل يطلق في

١٨٢

المقام التسالم على هذه الملازمة بين الحكمين ، إلا أن القصور هنا ليس قصورا في الكاشف من حيث انه كاشف وفي الدليل من حيث انه دليل ، وانما القصور بحسب عالم الجعل بحيث ان كل حكم شرعي في الشريعة قيّد بأن لا يصل عن غير طريق الحجج ، وأن لا يصل عن طريق العقل مثلا والأدلة العقلية ، فلو كان الدليل في المقام لفظيا ، وكان منتهيا الى الحجج ، عليهم‌السلام ، فيكون الجعل ثابتا ، وأما في فرض عدم انتهاء الدليل اليهم فلا يكون اطلاق الجعل شاملا لمثل هذا المكلف (١).

وذكر بعد تقريب هذه الدعوى ان هذه الدعوى مرجعها الى تقييد الجعل الأول بمتمم الجعل ؛ لأن تقييد الجعل الأول في نفس الجعل الأول محال عنده إذا كان بلا استعانة بالمتمم لا بالعلم ولا بعدم العلم ، لما مرّ سابقا من أن المشهور لا يفرقون بين اخذ العلم شرطاً ، أو اخذه مانعاً فإنهم يقولون باستحالة اخذه مانعاً كما يقولون باستحالة اخذه شرطاً في الجعل الأول ، إلا أنه معقول عنده في الجعل الثاني ، ومن هنا قال : ان هذه الدعوى أمر معقول وجيد ، إلا أنه يعوزه الدليل بحسب مقام الاثبات ، فان دل عليه دليل بحسب مقام الاثبات أخذنا به ، ورفعنا اليد به عن اطلاقات أدلة الاحكام الأولية ، تلك الأدلة الأولية الدالة باطلاقها على ثبوت الحكم لكل مكلف سواء وصل اليه الحكم عن هذا الطريق أو عن ذاك الطريق ، هذا الاطلاق يمكن رفع اليد عنه لو وجد المخصص والمقيد ، فتمام الكلام ينحصر في التفتيش عن هذا المخصص والمقيد. ثم بعد هذا بعبارة اجمالية وادعائية ذكر ان تمام الروايات التي استدل بها على اثبات هذا المطلب قاصرة عن اثبات المقصود.

وهذا الذي افاده (قده) مما لا يمكن المساعدة عليه ؛ وذلك لأننا وإن قلنا فيما سبق بامكان اخذ العلم مانعا وتقييد الجعل الأول بعدم العلم من ناحية سبب خاص في الجعل الأول فضلا عن الجعل الثاني إلا اننا قلنا بان اخذ العلم مانعا ، بل حتى اخذه شرطا ايضاً مع التفرقة بين الجعل والمجعول ، لا يحتاج الى متمم الجعل ، بل حتى اخذه شرطا ايضا مع التفرقة بين الجعل والمجعول ، لا يحتاج الى متمم الجعل ، بل يمكن تصوره في الجعل الأول على ما مر تحقيقه سابقاً ، مع هذا لا يعقل في المقام

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ٤٠.

١٨٣

توضيح كلام الاخباريين على هذا الاساس ، أي انه لا يعقل في المقام الالتزام بالتقييد وان امكن في بقية الموارد ، أو في بعض الموارد إلا أنه في امثال المقام يستحيل مثل هذا التقييد بعد فرض تصديق الاخباريين بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وعدم استشكالهم بحسب عالم الاستكشاف كما هو مقصود الميرزا (قده).

توضيح ذلك : انه اذا فرض بان الاشكال لم ينشأ من ناحية عالم الاستكشاف ، وفرضنا ان الاحكام العقلية تامة بحسب الخارج ، يعني ان الخصم يقبل امكان تحقق حكم عقلي جزمي ووقوع ذلك بحسب الخارج ، وكون هذا الحكم العقلي الجزمي ايضا سببا في استكشاف حكم شرعي ، بعد فرض تمامية الحكم العقلي في نفسه وصدق الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي يستحيل بعد هذا الفرق وبعد ايماننا بذلك ، يستحيل قبول هذا التقييد ، ومثل هذا التقييد خلف ومناقضة بعد هذا الفرض ، فمثلا في باب العقل العملي اذا فرض ان الاخباريين لم يكن عندهم استشكال في اصل العقل العملي ، وكان العقل العملي اعني الحسن والقبح العقليين مقبولا عندهم ، وفرضنا انه لم يكن عندهم استشكال ايضاً بالملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل كانت هذه الملازمة ايضاً بحسب العقل النظري تامة في نظرهم ، كما هو المفروض في كلام الميرزا (قده).

إذاً ففي المقام العقل العملي يحكم بقبح الظلم والعقل النظري يدرك الملازمة الحتمية بين قبح الظلم وبين حرمته شرعاً ، ومع فرض الجمع بين هذا العقل النظري وهذا العقل العملي يستحيل تقييد الحكم الشرعي حينئذ بعدم وصوله من ناحية دليل العقل ، أو في موارد العقل النظري مثلا ، بقطع النظر عن العقل العملي. لو فرض ان العقل النظري حكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، وأدرك ذلك ادراكا مقرونا بالجزم والتصديق ، فهو يدرك ان وجوب الصلاة علة لوجوب الوضوء ، والمفروض ان الصلاة واجبة ايضا بحسب الخارج ، يستحيل بعد هذا تقييد وجوب الوضوء بأن لا يصل من ناحية العقل لأن ذلك يؤدي الى التفكيك بين العلة والمعلول ، والتفكيك بين العلة والمعلول أمر غير معقول في نظر

١٨٤

العقل.

إذاً فان كان المدعى في التقييد في المقام التقييد بعد فرض الاعتراف بالملازمة وتتميم عالم الاستكشاف ، بمعنى ان الخصم يقبل ان هناك أحكاما عقلية جزمية ، ويقبل ان هذه الاحكام العقلية الجزمية تؤدي الى الجزم بالحكم الشرعي ، ومع هذا يدعي التقييد ، فهذا خلف ومناقضة فيكون محالا في المقام ، سواء كان في العقل العملي أو في العقل النظري ، فإذا قبلنا الحسن والقبح أي حسن العدل وقبح الظلم ، وقلنا بالملازمة بين حكم العقل بالحسن والقبح وبين حكم الشرع ، إذا قلنا بكلا هذين الأمرين يستحيل في المقام تقييد حرمة الظلم بعدم وصولها عن طريق العقل ؛ لأن التصديق بذلك معناه التصديق بانفكاك المعلول عن العلة ، لأننا قلنا بان حكم العقل وحكم الشرع في المقام علة ومعلول متلازمان ، فالتصديق بهذا التقييد مساوق للتصديق بانفكاك العلة والمعلول.

وكذلك الحال في موارد العقل النظري لو فرض بان العقل حكم حكما بتاً بكون وجوب ذي المقدمة علة لوجوب المقدمة ، فحينئذٍ تصديق العقل بعد ذلك أن وجوب الوضوء غير ثابت مع فرض وجوب الصلاة يكون مساوقا للتصديق بعدم ثبوت المعلول مع فرض ثبوت العلة ، وهو محال ، اذا فهذا التقريب الذي وقع في كلام الميرزا (قده) ، وهو دعوى كون الجعل مقيداً بعد فرض تسليم عالم الاستكشاف ، وبعد فرض تسليم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع أمر غير معقول.

نعم لو فرض ان الاخباريين يضمون الى دعوى انكار الملازمة والتشكيك في عالم الاستكشاف دعوى قصور عالم الجعل لكان هذا امراً معقولاً ، بمعنى ان الاخباريين ينكرون الملازمة بين الحسن والقبح وبين الحكم الشرعي ، أو ينكرون أصل العقل العملي في المقام ، وحينئذٍ فمن المعقول لهم ان يقيدوه ، وان يقولوا : ان الجعل الأول يكون مقيدا بأن يصل عن طريق الحجج ، عليهم‌السلام ، بأن يكون سبب المعرفة به هو الحجج ، وان يكون وصوله منتهيا اليهم ، عليهم‌السلام ، هذا أمر معقول بعد فرض عدم قبول العقل في نفسه ، أو عدم قبول استكشاف الحكم

١٨٥

الشرعي من ناحيته.

وأما ما هو المفروض في كلام الميرزا (قده) من تتميم حكم العقل في نفسه وتتميم الملازمة بين حكم العقل العملي والأحكام الشرعية فمثل هذا التقييد في عالم الجعل أمر غير معقول.

إذا فهذه الدعوى انما تكون معقولة لو تمت الدعوى في الجهة الثانية ، لو تم في الجهة الثانية مرام الاخباريين وامكن للخصم انكار اصل القضية العقلية الجزمية ، أو ينكر في باب العقل العملي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فحينئذٍ يمكن في المقام تقييد الجعل.

وأما مع فرض تمامية العقل في نفسه ، وتمامية برهان الملازمة بين العقل العملي وبين الحكم الشرعي ، فلا مجال لتقييد الاحكام الشرعية بعدم وصولها من هذا الطريق ؛ لأنه مساوق لدعوى عدم وجود المعلول مع تمامية علته ، وحيث أن الاشكال في الاستكشاف ، وتتميمه في المرحلة الثانية ثابت في نفسه ، فالجواب في المرحلة الثانية يكون جوابا برهانيا. نعم لو فرض انه لم يتم الجواب البرهاني في المقام ، وكان الاشكال في المرحلة الثانية تاما في نفسه لكان هذا بحثا اثباتيا في نفسه ، فيقع الكلام بعد ذلك في المقيدات والمخصصات.

وأما المرحلة الثانية : من الكلام وهي : دعوى عدم جواز الاعتماد على الدليل العقلي من ناحية قصور عالم الاستكشاف ، وأساس شبهة الاخباريين في ذلك هو كثرة وقوع الخطأ في الاحكام العقلية ، فان كل عاقل يرى ما يصدر منه أو ما يتورط فيه من اخطاء وكذلك يرى اخطاء غيره ناشئة من استنتاجاتهم العقلية وبراهينهم النظرية ، ومع الالتفات الى ذلك لا يمكن ان يتأتّى للانسان الجزم ببرهان عقلي ؛ لاحتمال كونه على حد تلك البراهين العقلية التي ظهر له خطؤها.

وينبغي في هذا المقام ان نميّز بدقة بين موقف الاخباريين من العقل النظري ، وموقف مدارس الفلسفة المادية ؛ فان الموقفين وإن تشابها صورة من حيث شجبهما للعقل النظري إلا أنهما يختلفان جوهراً ، ويختلفان في المدعى بحسب التحليل ؛

١٨٦

فان المدعى في مدارس الفلسفة المادية هو التفصيل بين العقل النظري المجرد والعقل النظري التجريبي ، بدعوى ان اساس المعرفة البشرية هو الحس والتجربة ، فكل معرفة عقلية منفصلة عن الحس والتجربة لا قيمة لها ، وانما هي انشاء صرف من قبل النفس ، وإنما القيمة المنطقية هي للعقل النظري القائم على أساس الحس والتجربة ، وبهذا كان هؤلاء يؤمنون بمبادئ العقل النظري البديهية والاولية وبما يستنبط منها من مبادئ في الحدود التي يزعمون استخراجها من الحس والتجربة.

وأما الاخباريون فهم يرفضون العقل النظري بصورة مطلقة ، من دون تمييز بين المجرد منه والتجريبي ، لأنهم لا يجوزون التعويل على غير الأدلة اللفظية الموروثة عن الحجج ، عليهم‌السلام ، فلا يفرقون مثلا بين العقل النظري المجرد الذي يحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ببرهان الخلف ، وبين العقل النظري التجريبي القائم على اساس التجربة والملاحظة والاختبار.

فهناك فرق اساسي بين المدعيين ، لأن احدهما يرجع الى التفصيل في العقل النظري ، والآخر وهو مدعى الاخباريين يرجع الى انكار العقل النظري مطلقا ؛ ولهذا كان مدعى الاخباريين أشبه بمذاهب الشك في الفلسفة ، أو باتجاهات السفسطة التي تنكر العقل النظري ، وتسلب قيمته المنطقية بشكل مطلق.

والكلام حول شبهة الاخباريين تقع تارة بلحاظ العقل النظري ، واخرى بلحاظ العقل العملي.

أما باللحاظ الأول : فيرد عليهم اولاً : النقض بالقضايا العقلية التي تبرهن على مبادئ الكتاب والسنة ، فانها تنتسب الى نفس النوع الذي تنتسب اليه القضايا العقلية التي هي موضوع البحث ، فاذا سلب من العقل النظري حجيته المنطقية سقطت قيمة تلك القضايا ، وبذلك انسد باب اثبات مبادئ الكتاب والسنة التي ينحصر اثباتها عن طريق العقل ؛ لامتناع الاستدلال عليها بنفسها.

ويرد عليهم النقض ثانيا : بأن لازم ما قالوه عدم امكان اثبات نفس وجود الدليل اللفظي الذي حصر به الاستنباط ؛ لأن الدليل اللفظي بالنسبة الينا إما متواتر ،

١٨٧

وإما خبر آحاد ، والثاني عالة على الأول.

والمتواتر انما يثبت بضم حكم من العقل النظري ، فان التواتر معناه نقل حادثة معينة عن حس نقلا يقترن بخصوصيات كمية وكيفية تبلغ الى درجة بحيث يحكم العقل بالملازمة بين هذا النقل وبين صحة المنقول ، وبامتناع انفكاك احدهما عن الآخر ، فبدون ضم حكم العقل بالملازمة في المقام لا يمكن استنتاج ثبوت الدليل اللفظي من ناحية التواتر فاثبات الدليل اللفظي بالتواتر مثلا يحتاج اذاً الى نفس ما يحتاج اليه الحكم بوجوب الوضوء من ناحية الملازمة ، فلا فرق بين حكم العقل بالملازمة بين الوجوبين وحكم العقل بالملازمة بين الحادثة والنقل الخاص المتواتر ، فان سقطت قيمة العقل سقطت في كلا المقامين ، وتعذر حينئذٍ على الاخباري ان يثبت الدليل اللفظي لكي يعتمد عليه في مقام الاستنباط.

ويرد عليهم ثالثاً ، على سبيل النقض ايضا : انه لو فرض وصول الدليل اللفظي الى الاخباري لما أمكنه ان يستنبط منه حكما شرعياً ؛ لأن استنباط الحكم الشرعي من الدليل اللفظي كثيراً ما يتوقف على تأملات عقلية ، تكون في معرض الخطأ والصواب على حد سائر أحكام العقل ، فعلى سبيل المثال ملاحظة النسبة بين الدليلين من حيث كونهما متساويين ، أو عامين من وجه ، أو غير ذلك كثيراً ما يحتاج الى تأمل عقلي خاصة اذا وقعت المعارضة بين اطراف ثلاثة أو أكثر ، فان استنتاج النسبة حينئذ يكون عملا عقليا في مستوى سائر القضايا العقلية التي يكثر فيه الخطأ.

وهكذا يتضح ان لازم شبهة الاخباريين هو انسلاخ العقل النظري بقول مطلق عن الحجية المنطقية ، فيترتب على ذلك حتما سقوط تمام البراهين على اثبات مبادئ الكتاب والسنة أولا ، وسقوط تمام البراهين على اثبات نفس الدليل اللفظي ثانياً ، وتعذر استفادة الحكم من الدليل اللفظي في كثير من الموارد ثالثاً.

الفرق بين اليقين الأصولي واليقين المنطقي

كان أساس شبهة الاخباريين في دعوى قصور عالم الاستكشاف للدليل العقلي يقوم على ملاحظة كثرة الاخطاء في الاحكام العقلية ، الأمر الذي يبرر في

١٨٨

نظر الاخباريين سقوط الدليل العقلي بحسب عالم الاستكشاف. وهذا الاساس النظري للشبهة لا يختلف الحال بالنسبة اليه بين ان نسلم بوقوع الخطأ في القوة الواحدة الدرّاكة من قوى النفس ، وبين أن نذهب في تفسير وقوع الخطأ مذهب القائلين بأن مرد الخطأ في التحليل النهائي الى التلفيق.

ذلك ان النفس هي مرتكز لعدة قوى درّاكة ، وكل قوة درّاكة اذا لوحظت احكامها الصادرة منها مباشرة وجد أنها سليمة من الخطأ ، ولكن حيث ان النفس هي نقطة التقاء تلك القوى ومركز تجمعها ، بحيث ان احكام تلك القوى تكون في الحقيقة احكاماً للنفس ، وقد تلفق النفس بين موضوع حكم قوة ومحمول حكم قوة أخرى ، وينتج الخطأ بسبب عملية التلفيق هذه ، بحيث لو لوحظ الموضوع في موضعه الأصلي ، وبوصفه موضوعاً لحكم قوة دراكة معينة ، ولوحظ المحمول في موضعه الأصلي ايضاً ، وبوصفه محمولاً في قضية مدركة لقوة اخرى من قوى النفس الدراكة لزال الخطأ والالتباس ، ولانتهينا الى حكمين صادقين كل منهما بتوسط قوة خاصة.

ان هذه الطريقة في تفسير وقوع الخطأ في المعارف البشرية وهذا التفسير النظري لا يؤثر على الموقف شيئا حتى ولو كان صحيحاً ، لأن الخطأ على أي حال واقع وكثير ، سواء كان مرده إلى القوى أو النفس بعملية التلفيق بين موضوعات تلك القوى ومحمولاتها ، وما دمنا نعترف بالخطإ وكثرته فالشبهة قائمة ، فكون الخطأ نابعاً من عملية التلفيق ينفع في تفسير هذه الظاهرة ، لا في كيفية الاحتراز عنها ، أو في اعطاء الدليل العقلي القيمة الكاملة في عالم الاستكشاف.

وحين نلاحظ الموقفين المختلفين للمحدثين ولاصحابنا الاصوليين نجد ان هذه الشبهة قد ردت على اساس الاعتماد على المنطق بوصفه القانون العاصم لحركة الفكر من المطالب الى المبادئ ، وعودها تارة اخرى من المبادئ الى المطالب ، والدليل العقلي يستمد اعتباره في عالم الاستكشاف من ذلك القانون الذي به يمكن التحرز عن الوقوع في الخطأ ، فالتفكير العقلي بصورة منفصلة عن قوانين حركة الفكر يمكن ان يتعرض للخطإ ، وأما حين يعتصم بهذه القوانين فيكون في منجاة من

١٨٩

الخطأ ، ويكتمل بذلك تتميمه في عالم الاستكشاف.

هذا هو الجواب الذي يقدم عادة على الشبهة التي ترتكز على اساس كثرة الخطأ ، وكأن الاخباريين انفسهم فطنوا الى ذلك ، فأجاب عن هذا بعضهم ، كما نقل الشيخ الاعظم الانصاري (قده) في الرسائل عن بعض علمائهم انه قال : ان علم المنطق انما يعصم من ناحية الخطأ في الصورة ، ولا يعصم من ناحية الخطأ في المادة ، فيبقى الدليل العقلي عرضة للخطإ من هذه الناحية ، دون ضامن للصواب (١).

وهذا القدر من البيان يجاب عليه منطقيا عادة بارجاع الخطأ في المادة الى الخطأ في الصورة دائما ؛ لأن المادة التي يفترض فيها وقوع الخطأ لا يمكن ان تكون هي المواد والقضايا الأولية او الضرورية بأقسامها الست ؛ لأن هذه القضايا يقينية ولا خطأ فيها ، كما يتبنى ذلك المنطق في كتاب البرهان ، وانما يفترض الخطأ في القضايا الثانوية التي تستخرج من تلك القضايا لتكون بدورها مواداً في اقيسة جديدة ، ومن الواضح حينئذ أن مرد الخطأ في تلك القضايا الثانوية الى الخطأ في طريقة استنتاجها ، أي في صورة القياس المنتج لها المؤلف من المواد الأولية ، فأرجعوا الخطأ في المادة وفقاً لهذا التحليل الى الخطأ في الصورة ايضاً ، والمفروض ان علم المنطق يعصم من ناحية الخطأ في الصورة ، وبذلك يكون عاصما بقول مطلق.

والتحقيق اننا لسنا بحاجة الى هذا اللون من الجواب ، ولا الى الدخول في النزاع على هذا الاسلوب الذي يجعلنا في نفس الالتباس والخلط الذي وقع فيه الاخباريون انفسهم ، ولكي نوضح موقفنا كاصوليين من هذه الشبهة يجب ان نميز بين أمرين وبحثين لم تميز بينهما هذه الشبهة ، فهناك بحث اليقين في كتاب البرهان ، وهناك بحث القطع في علم الأصول ، وكل من البحثين يستهدف معنى يختلف عن المعنى المقصود في البحث الآخر.

__________________

(١) الرسائل ، ص ٩.

١٩٠

فاليقين في كتاب البرهان يعني اصطلاحاً شيئاً أكثر مما يعنيه الجزم العقلي في عرف الاصولي ؛ لأن الجزم في عرف الاصولي لا يعني اكثر من القطع الذي لا تردد فيه.

وأما اليقين المنطقي فهو يعني حقانية ذلك القطع ، وضمان مطابقته للواقع ، فحين يقال في كتاب البرهان : ان البرهان ينتج نتيجة يقينية من مقدمات يقينية ، يراد بذلك ان نتيجة البرهان مضمونة الصحة تبعا لضمان صحة مقدماته.

وأما الجزم كحالة يقينية وبمعناها الاصولي فهو لا يختص بكتاب البرهان كما هو واضح ، واذا عرفنا اختلاف الاصطلاحين اقتربنا الى معرفة اختلاف الهدفين ، فان هدف الاصولي بالنسبة الى الادلة العقلية يتحقق بمجرد حصول الجزم من ناحية الدليل العقلي ، وثبوت الحجية الأصولية لهذا الجزم بمعنى المنجزية والمعذرية ، ولا يهمه كاصولي ان يكون هذا الجزم حقانيا ؛ لأن الحجية بمعناها الأصولي المشتمل على المنجزية والمعذرية لا تختص بخصوص هدف الاصولي ، وكاف في ترتب الحجية الاصولية عليه ، وأما المنطقي والفيلسوف فحيث إنه بصدد استكشاف الواقع الموضوعي ، واختبار مدى التطابق بين العقل والواقع ، فهو لا يبحث عنه انه هل يوجد جزم أم لا يوجد ، وانما يبحث عن حقانية الجزم ومدى ضمان مطابقته للواقع ، ولا يعني بالبحث عن الحقانية حقانية كل يقين في كل مورد بالنسبة الى المتيقن فان المتيقن لا يحتاج في مورد يقينه شخصا الى ضمان لحقانية يقينه ؛ لأنه لا يحتمل الخطأ ليفتش عن الضمان لعدمه.

وإنما يراد بالبحث عن حقانية القطع أو العلم أو الجزم التوصل الى طريقة عامة في التفكير العقلي تكون مضمونة المطابقة للواقع ، بحيث تبين على اسلوب القاعدة الكلية ، فيقال مثلاً : ان القضايا التجريبية القائمة على اساس الحس والتجربة مضمونة الصحة ، فغرض المنطقي هو التفتيش عن حقانية عامة كهذه في المعرفة والتفكير البشري ، وقد تبنّى علم المنطق على ايدي فلاسفتنا المسلمين ومن قبلهم

١٩١

حقانية البرهان التام من الناحية الصورية ، والمتألف من الناحية المادية من القضايا الست ، فمعنى هذا ان كلّ ما قام عليه البرهان فهو مضمون الصحة.

اذا عرفنا كل ذلك وميّزنا بين حدود غرض الأصولي ، وحدود غرض المنطقي نقول تفريعا على هذا : إن الإخباري الذي يتمسك بشبهة كثرة الخطأ في القضايا العقلية ، ويستدل بذلك على قصور الدليل العقلي بحسب عالم الاستكشاف ، إذا أراد بذلك الرد على اليقين بمعناه المنطقي ، والقول بان كثرة الاخطاء لا تسمح لنا بضمان حقانية طريقة معينة في التفكير البشري النظري فهو سواء صح أم لم تصح لا علاقة له بالبحث الاصولي اطلاقا ؛ لأن الحجية الاصولية بمعنى المنجزية والمعذرية لا تتوقف كما عرفنا على وضع قاعدة عامة لضمان حقانية الجزم ، بل يكفي في ترتبها كما سبق مجرد حصول الجزم ولو لم تكن مضمونة الحقانية بقاعدة عامة ، فسقوط يقينية كتاب البرهان مثلا لا يتصل بغرض الاصولي من قريب أو بعيد ، ولا يتعارض مع وجود اليقين كحالة نفسانية ، وانما يتعارض مع اعطاء ضمان منطقي عام لحقانية نوع من الاستدلالات والاستنتاجات. هذا كله ان اراد الاخباري بشبهته ان يطعن في ضمان صحة الجزم. وأما اذا اراد بذلك ان يبرهن على عدم وجود الجزم حتى بمعناه الاصولي وكحالة نفسية ، بمعنى ان الانسان بعد التفاته الى كثرة وقوع الخطأ من العقل البشري لا يتاح له ان يقطع بقضية نظرية مهما توفرت المبررات النظرية والاستدلالية لذلك ، لانه يحتمل وقوعه في الخطأ ايضا ، بناء على هذا التفسير لموقف الاخباري وشبهته يكون مرجع مدعاه بالتحليل الى ان الالتفات الى كثرة الخطأ مانع تكويني عن حصول الجزم.

توضيحه : ان الجزم اذا لوحظ كحالة نفسية طارئة فهو يخضع لا محالة لقوانين العلية ، واذا تمت اجزاء علته يحصل الجزم بالمعلول حتماً ، سواء كان مطابقاً للواقع أم لا ، فعدم حصول ذات الجزم في مورده كعدم حصول حرارة الماء في مورد مثلا لا بد ان ينشأ من عدم تمامية العلة التامة ، فحين يفرض مثلا ان الجزم لا يحصل للانسان مع التفاته الى كثرة الخطأ كما يقول الاخباري ، لا بد ان يعني ذلك ان عدم الالتفات الى كثرة الخطأ يكون جزء في علة حصول الجزم بما هو

١٩٢

ظاهرة نفسية ، وإلا لكان عدم حصول الجزم تفكيكا بين المعلول والعلة ، وهو محال.

هكذا نعرف انه بعد هذا التشقيق والتعريف لا يبقى محصل لكلام الاخباري ، إلا دعوى دخالة عدم الالتفات الى كثرة الخطأ في علة الجزم تكويناً ، وهذه الدخالة لا يمكن للاخباري ان يتبناها ويدعيها ؛ لأن ذلك يحتوي على تناقض ، لأنه إن قطع بهذه الدخالة التي هي حكم عقلي نظري ، فقد ناقض الدخالة نفسها وقد كذبها بحصول القطع له بقضية عقلية مع التفاته الى كثرة الخطأ ، فنفس دعوى الاخباري لهذه القضية يبرهن على كذبها ، فلا بد للاخباري اذاً ان يشك حتى في صدق هذه القضية ، قضية الدخالة ، بنحو الموجبة الكلية ، ومع الشك لا يجوز له دعوى ذلك.

وأما حين ندس هذه القضية قضية الدخالة لا بصورة الجدل مع الأخباري ، بل بصورة موضوعية مستقلة ، فان موقفنا منها يكون كموقفنا من دعوى دخالة وجود النار تحت السقف في احتراق الورقة بها مثلا ، فلو ادعى شخص ان كون النار تحت السقف دخيل في احتراق الورقة بها كان الجواب هو تجربة القاء الورقة في نار لا يظلها سقف ، فان هذه العلمية تكون حلا ونقضاً في وقت واحد ، وهكذا في المقام يكون الجواب على دعوى الدخالة هو الوجدان القاضي بحصول الجزم مع الالتفات الى كثرة الخطأ في العقل النظري.

ولكن هناك فرقا بين المثالين ، ففي مثال الاحتراق والنار لا يحتمل دخل تظليل السقف في نار دون نار ، وبالنسبة الى ورقة دون ورقة ، ولهذا فنحن حين تجري تجربة احراق الورقة بالنار تحت السقف نستنتج من ذلك نفي الدخالة بقول مطلق ، واما في المقام فان الجزم تختلف نوعية علته باختلاف افراد الانسان ، ويكون في كل انسان لخواصه الروحية ، والفكرية ، واستعداداته المختلفة ، ومرانته ، وممارسته للعمل العقلي تأثير في حصول الجزم لديه ، فملكة النظر وإن كانت مشتركة بين الافراد ولكن طريقة استعمالها والاستفادة منها واعمالها في تحصيل الجزم كل ذلك يختلف باختلاف تلك الشروط والمؤثرات ، فمن اجل هذا كان من المحتمل ان يكون الشيء الواحد مانعا عن حصول الجزم عند شخص ولا يكون

١٩٣

مانعاً عن حصوله عند شخص آخر ، كالالتفات الى كثرة الخطأ الذي نتكلم عنه في المقام ، ونفس اختلاف الشخصين في هذه المانعية يرجع الى اختلاف خصوصياتهما الفكرية والروحية وغير ذلك ، ولهذا لا نستطيع ان ننفي الدخالة بنحو السالبة الكلية عن طريق التجارب الخاصة ، ولكنا نستطيع بذلك ابطال الدخالة بنحو الموجبة الكلية.

أما توجيه الاعتراض الى من حصل له الجزم بلسان انه كيف حصل الجزم مع التفاتك الى كثرة الخطأ؟ فجوابه أحد أمرين :

الأول : ان حصول الجزم في بعض الاحيان يكون اضطرارياً بمقتضى طبيعة ملكة النظر وطبيعة حركتها ذهابا من المطالب الى المبادئ ، وايابا من المبادئ الى المطالب ، تبعاً لما تقرره مجموع الخصوصيات التي يتكون منها ذلك الانسان ، فالجزم حالة اضطرارية لا معنى لمطالبة الجازم بوجه قيامه به.

الثاني : هذا الاضطرار نفسه قد يكون احيانا وليد نكتة موجودة في نفس الجازم ، كما لو فرض ان الجازم كان يدعي مهارته وتوفر الشرائط باصالة الواقع لديه من ناحية نفس استعداده ، ومن ناحية اطلاعه على مجموع افكار غيره بنحو لم يتوفر لغيره ، وبتعبير آخر انه يدعي كون النظر العقلي له في المرتبة التي لا يصدر منه خطأ ، بحيث لو جمعت تمام الانظار العقلية التي تتوفر فيها تمام تلك الخصوصيات لكان الخطأ فيها قليلاً.

وهكذا تلخص من تمام ما ذكرناه ان الاخباري إن اراد بشبهته انكار ضمان حقانية الجزم بوجه كلي فهو اجنبي عن محل الكلام في علم الاصول ، وان اراد دعوى دخل الالتفات الى كثرة الخطأ في المنع عن حصول الجزم تكوينا فهو مضافاً الى عدم امكان صدور مثل هذه الدعوى منه يكفي في ابطالها نقضا وحلا رجوع كل شخص الى وجدانه. هذا تمام الكلام في الجانب الأصولي من البحث.

واما الجانب المنطقي منه فلا يتسع المقام لتفصيله ، ولهذا سوف نكتفي بالاشارة الى الحدود المناسبة لطبيعة موضوعنا ، وقد عرفنا ان شبهة كثرة وقوع

١٩٤

الخطأ من وجهتها المنطقية ، تتلخص في القول بشكل عام بعدم امكان ضمان حقانية العقل النظري والقضايا العقلية باعتبار كثرة وقوع الخطأ فيها.

وموقف الفلاسفة اليقينيين المؤمنين بالمنطق الصوري الارسطي من هذه الشبهة تتلخص في القول بأن العقل عقلان : عقل أولي غير مكتسب ، وإليه تنتسب القضايا الست المعروفة في كتاب البرهان ، وهذا العقل هو الذي يشكل القاعدة والأساس والمنطلق للفكر نحو العقل النظري المكتسب ، والعقل النظري المكتسب هو العقل الثاني ، وإليه تنتسب جميع القضايا التي يكسبها العقل عن طريق البرهنة عليها بقضايا العقل الأول ، والعقل الأول مصون عن الخطأ ومضمون الحقانية باعتبار بداهته ، وأما العقل الثاني فهو يضمن ويكون يقينياً عن طريق مراعاة قواعد المنطق التي تضع لحركة الفكر قوانينها ، وعلى هذا الاساس لا يبقى موضوع للخطإ المفترض في الشبهة ، ولا خطر من ناحيته يعسر التحري عنه ؛ لأنه ان افترض ان الخطأ كان في العقل الأول كانت بداهة العقل هي التي تضمن بطلان الافتراض وحقانية الادراك ، وان افترض في العقل الثاني أي في قضايا يبرهن عليها بالمبادئ الأولى فالخطأ لا محالة يقع في الصورة ، أعني ان كل خطأ في هذا المجال يرجع بالتحليل الى الصورة أي الى طريقة الاستنتاج وشكل القياس ؛ لأن الخطأ في المادة الثانوية ان افترض فهو بدوره نابع من الخطأ في طريقة استنتاج تلك المادة الثانوية من المبادئ ، وإذا انحصر الخطأ ومجاله في نطاق الصورة امكن التحرز عنه عن طريق قواعد المنطق الصوري. وبهذا يخرج هؤلاء بنتيجة هي يقينية العقل الأول ويقينية العقل الثاني المراعي لعلم المنطق.

وهنا قد يرجع صاحب الشبهة ويقول : ان مراعاة المنطق اذا كانت هي الضامن لحقانية العقل النظري فما الذي يضمن لنا اننا لم نخطأ في تطبيق المنطق نفسه؟.

ولكي ينحل الموقف وتتضح الحكومة بين هذين الاتجاهين يجب ان نجيب عن السؤال التالي : هل ان القضية العقلية أولية معتصمة بالبداهة أو نظرية مستنبطة منها ومكتسبة على أساسها لكي يدعي ضمان عدم الخطأ في الأولى بالبداهة وضمان ذلك في الثانية بالمنطق؟

١٩٥

وتوضيح الحال بغية الجواب على هذا السؤال يكون بتحقيق امرين : احدهما في تحقيق العقل الأولي ومداه ، والآخر : في تحقيق عملية الاكتساب البرهاني التي يقوم على اساسها العقل النظري الاكتسابي.

أما الامر الأول فالمعروف عادة ، كما اشرنا سابقاً ، أن المبادئ الأولى في القضايا العقلية هي القضايا الست ، لانها قضايا غير مكتسبة بالبرهان السابق ، ولهذا استحقت صفة الالية ، بل هي إما قضايا يحكم العقل بها بمجرد تصور اطرافها ، كما هو الحال في الأوليات والقضايا التي قياساتها معها ، وأما قضايا يحكم العقل بها بعد الاستعانة بشيء ، كالحس في المحسوسات ، والتجربة في التجريبيات مثلا ، ولكن هذا الشيء الذي لا يحكم العقل بدونه ليس برهانا واستنتاجا نظريا لتكون القضية مكتسبة وثانوية وتدخل في العقل النظري المكتسب ، بل هي أمور من قبل الحس والتجربة ، وهذه القضايا تختلف في رأيهم بطبيعتها عن القضايا المكتسبة ، وتتقدم عليها رتبة.

ولكن التحقيق اننا اذا استثنينا الأوليات والقضايا التي قياساتها معها لم نجد في الباقي ما يكون مضمون الحقانية ويقينا بحسب اصطلاح كتاب البرهان ، بل انها ترجع في الغالب الى قضايا مكتسبة ، أو قضايا من نوع ثالث سوف نشير اليه فيما بعد ، وعلى أي من التقديرين لا يمكن اعتبارها مضمونة الحقانية على اساس البداهة على حد ضمان الأوليات والقضايا التي قياساتها معها.

وتفصيل ذلك : اما في المحسوسات فالقضية العقلية القائمة على اساس الحس التي يراد اعتبارها من اليقينيات الاولية ان اريد بها القضية التي يحكم العقل بها بلحاظ افق الحس نفسه فهي قضية يقينية بلا شك ، لأن الموجود في هذا الأفق وجداني للنفس ، ولكن ذلك خارج عن غرض المنطقي من كتاب البرهان ، لأن المقصود منطقياً ضمان الحقانية بلحاظ المطابقة للواقع الخارجي ، نعم قد يقع الموجود في أفق الحس صغرى لكبرى بديهية بحيث ينتج بشكل بديهي ثبوت شيء وراءه ، كما يدعى من تطبيق مبدأ العلية عليه لاستكشاف علة مثيرة للادراكات

١٩٦

الحسية المتعاقبة في وجدان النفس.

وأما القضية المحسوسة بمعنى حكم العقل بمطابقة الصورة المحسوسة للواقع فالمطابقة بمعنى وجود أصل واقع ما وراء عالم الحس هي قضية بديهية واضحة لدى العقل في مستوى سائر بديهياته ، وأما المطابقة التفصيلية بين المحسوس والواقع فهي وان كان قد يحصل الجزم بها كثيراً بمعناه الاصولي ، ولكنه ليس يقينياً بالمعنى المنطقي ، أي ليس مضمون الحقانية لا على أساس البداهة ولا على اساس الاكتساب المنطقي ؛ لأن الجزم بالمطابقة ليس بديهياً ، وإلا للزم وقوع الخطأ في البديهيات لكثرة وقوع الخطأ في امثال ذلك الجزم ، كما انه ليس مكتسباً اكتساباً منطقياً برهانياً من البديهي ، وهكذا نعرف ان المقدار المضمون الحقانية انما هو اصل الواقع الموضوعي لا القضايا المحسوسة بمعنى المطابقة للواقع.

وأما القضايا التجريبية والحدسية التي تتفق في الجوهر وان اختلفت التجريبية عن الحدسية في وجود العمل من المجرب دون الحادس فهي جميعاً ليست مضمونة الحقانية ، وبالتالي ليست يقينية بحسب عرف كتاب البرهان ، فالانسان حين يستنتج ان شراب «السقمونيا» علة للاسهال بالتجربة كما يقولون ، لا بد له ان ينفي علية أي شيء آخر اتفق وجوده في تلك الحالات ، وبعد ذلك وعلى اساس مبدأ العلية الاولى مثلا يستنتج ان الشراب الخاص هو العلة لاستحالة وجود المعلول بدون العلة ، ولكن من اين له الجزم بنفي علية ما عدا الشراب؟ ان طريقه الى ذلك هو محاولة ملاحظة اثر الشراب في حال عدم وجود أي شيء تحتمل عليته ، ومن المعلوم أن الجزم بذلك على هذا الاساس ، والقطع بانه لم يبقى شيء مما يحتمل عليته موجوداً حال الشراب ليس من البديهيات ، ولهذا قد يحصل الجزم ثم يظهر الخطأ بعد ذلك ، كما يتفق كثيراً في العلوم الطبيعية ، ولا هو نظري مكتسب بالبرهان من المبادئ الأولى اذ لا برهان من تلك المبادئ على ذلك.

وسوف نعرف فيما بعد ان هذا الجزم ينتسب الى نوع ثالث غير الأولي والمكتسب ، وهو على أي حال غير مضمون الحقانية لا على اساس البداهة لأنه ليس بديهياً ولا على اساس المنطق لأنه ليس مكتسباً بالبرهان.

١٩٧

ومما ذكرنا يظهر حال المتواترات التي قالوا فيها انها القضية التي يتوفر الاخبار عنها ويتعدد حتى يوجب اليقين ، ولك ان تقول : أي يقين هذا؟ فان كان هو الجزم بالمعنى الأصولي فوجوده مسلم في كثير من الأحايين ، ولكنه غير مضمون الحقانية ؛ اذ هو ليس بديهياً لوقوع التخلف فيه ، ولا مكتسباً من المبادئ البديهية صرفاً.

وإن اريد بهذا الجزم اليقين بالمعنى المنطقي المحتوي على ضمان الحقانية كان مرجع كلامهم الى ان القضية المضمونة الحقانية حقانية ، وكان لغواً من الكلام لانه من القضية الضرورية بشرط المحمول.

والحاصل ان حكم العقل بالملازمة بين اخبار جماعة وبين وقوع الحادثة ليس بطبيعته مضمون الحقانية ما دام ليس بديهياً ولا مكتسباً منطقياً ، وهكذا نعرف ان العقل الأولي أي العقل المضمون الحقانية بنفسه وبالبداهة وبلا حاجة الى مراعاة قانون المنطق انما هو خصوص البديهيات والقضايا التي قياساتها معها. والقدر الذي يستنتج من هذه البديهيات بطريقة بديهية الانتاج. هذا تمام الكلام في الأمر الاول.

وأما الأمر الثاني وهو في تحقيق عملية اكتساب العقل الثاني من العقل الأول لأجل أن نعرف مدى صحة الضمانات التي ادعاها الفلاسفة اليقينيون ، فقد عرفنا من دعواهم انهم يقولون في مقام ضمان حقانية العقل ان العقل عقلان ، فالعقل الأول الغير المكتسب الذي منه تبدأ سلسلة التفكير منعاً للدور والتسلسل ، ان هذا العقل مضمون الصحة ضماناً ذاتياً لبداهته ، وما سوى هذا العقل قضايا تنتسب الي العقل الثاني المكتسب ، فهي اذاً قضايا عقلية مكتسبة من العقل الأول ، فتكون مضمونة الصحة لا ضماناً ذاتياً ، بل باعتبار مراعاة قواعد المنطق في اكتسابها من المبادئ الأولى ، وهكذا انتهوا من ذلك الى ان الضمان الذاتي والضمان بالمنطق هما ضمانة العقل البشري من الخطأ.

ويترتب على ذلك ان وقوع العقل في الخطأ انما ينتج حتماً في العقل الثاني لا في العقل الأول ، وانما ينتج في الثاني اذا لم يراعى المنطق الضامن لصحة العقل

١٩٨

النظري عند مراعاته.

فما نحن بصدده الآن ان نعرف هل ان ما سوى العقل الأول المضمون ضماناً ذاتياً من القضايا العقلية النظرية هي كلها مكتسبة من العقل الأول ، اما باكتساب صحيح روعي فيه المنطق ، أو باكتساب خاطئٌ ، فانه اذا صح هذا كان معناه ان ما احرزنا فيه مراعاة المنطق فكل علومه حقة مضمونة المطابقة للواقع.

وأما إذا كانت بعض قضايا العقل غير المضمون ذاتياً ليست بمكتسبة ، وانما هي نوع ثالث من العقل لا هو بالمكتسب ، إذا كانت توجد قضايا من هذا القبيل فأمثال هذه القضايا لا يمكن أن تضمن بالاكتساب وفقاً لمراعاة المنطق ؛ لأنها بطبيعتها ليست مكتسبة ، فالمسألة كلها تتركز اخيراً في هذه النقطة أي في الجواب على هذا السؤال : هل ان القضايا العقلية غير المضمونة ذاتاً مكتسبة كلها ، أو فيها غير المتكسب؟ فعلى الأول يكون المنطق بمراعاته ضامناً لصحتها جميعاً على ما سوف نوضحه ، ان شاء الله تعالى ، وعلى الثاني يصبح جزء من العقل النظري ، أو إن شئت فقل : يوجد هناك عقل ثالث لا هو مضمون بالذات ، ولا هو مضمون بالعرض.

ولكي نوضح الحق في الجواب على هذا السؤال خصصنا هذا الامر الثاني بعد ان عرفنا في الأمر الاول حدود العقل المضمون ضماناً ذاتياً لبحث حدود الضمان بالعرض بالكشف عن حقيقة علمية الاكتساب التي تضمن نتائجها بمراعاة المنطق ، فأي عملية هذه التي يضمنها المنطق ويضمن نتائجها ، وما هو مدى شمولها؟ ان الاكتساب الذي يعترف المنطق به وضمن نتائجه هو خصوص الاكتساب القائم على اساس القياس لأن التمثيل والاستقراء غير مضمون منطقياً ما لم يرجع الى القياس ، والقياس مرده الى الشك الأول ؛ لأن الاشكال الأخرى انما يضمن نتاجها منطقياً ببرهان الشك الأول ، فالشكل الأول للقياس هو الطريقة الوحيدة التي يضمنها علم المنطق الصوري.

والانتاج في هذا الشك يتم على اساس جمع حدود ثلاثة : الحد الاصغر ،

١٩٩

والأوسط ، والأكبر ، ويكون للمكتسب معرفة قبلية بثبوت الاوسط للاصغر ، والأكبر للأوسط ، ويكتسب بالقياس حينئذٍ ثبوت الاكبر للاصغر على ضوء مبدأ أولي في العقل يقول : ان كل حد يستقرأ حداً فهو ثابت لكل ما ينطبق عليه ذلك الحد المستقرأ ، فحيث ان المتغير حادث بالاستقراء ، وحيث ان العالم مما يشمله الحد الأوسط المستقرأ مثلاً فهو حادث ، وبهذا نعرف ان طريقة الاكتساب القياسي دائماً هي طريقة النزول من العام الى الخاص ، والتدرج من الكلي الى الجزئي ، بتوسط جزئي نسبي بين المنطلق والمنتهى.

ولأجل هذا قد يقال ، بل قيل : ان القياس لا ينتج معرفة جديدة ، وهذا الكلام بالمعنى الذي اراد قائله وان لم يكن صحيحاً كما اوضحناه في محله ، إلا أنه بمعنى آخر صحيح أي ان المعرفة المستنتجة باعتبارها تطبيقاً لكلي كنا نعرفه فهي كشف عن أمر كان مستتراً في معلوماتنا السابقة ، ودور القياس تفصيل المجملات التي يحفل بها العقل الأول ، والنزول بها الى صغرياتها ومصاديقها ، فلا فرق بين الانسان الأول على وجه الأرض وآخر انسان إلا في تفصيل المجملات. إذا تصورنا الآن كيف تتم عملية الاكتساب في القياس. يمكننا أن نعبر عن العقل النظري المكتسب ، ونفصل قضاياه في قائمة تبدأ في المبادئ الأولى في العقل ، ثم تنزل الى الحدود التي قبلها في مقام التطبيق مباشرة ، ثم الى الحدود الأخص منها ، وهكذا. ويكون كل حد من الحدود المترتبة اوسط بالنسبة الى ما يليه مباشرة ؛ لأنه الواسطة في ثبوت الحد القبلي للحد الذي يليه ، ويكون أكبر بالنسبة الى الحد الذي يتلوه ، كما يكون اصغر بالنسبة الى الحد الذي يتلوه ، كما يكون اصغر بالنسبة الى الحد المتقدم عليه بدرجتين ، وهذه القائمة هي كل حصيلة المنطق الارسطي التي يمكن للمنطق ضمانها.

ولنر الآن ما اذا كان من الممكن ان نضع كل قضايا العقل النظري في هذه القائمة لأجل ان تكون كلها مكتسبة اكتساباً منطقياً قياسياً ، ان هذا غير ممكن بالتدقيق ؛ لأن ثبوت كل حد للحد الذي يليه مباشرة إما أن يكون بديهياً في رأي المنطقيين الارسطيين ، وإما أن يكون نظرياً مكتسباً ، ولا ثالث في زعمهم ، وكلاهما غير معقول أما ان يكون بديهياً فان لازم ذلك عدم وقوع الخطأ في العقل النظري

٢٠٠