جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

المولى ، فقد يكون النهي حكما حقيقياً ، وقد يكون حكما طريقياً ، والحكم الحقيقي هو الذي يكون منجزا ومعذرا كما ان الحكم الطريقي ما لا يكون كذلك ، ويأتي بيانهما ان شاء الله ، فالحكم الحقيقي هو الاحكام الواقعية ، والحكم الطريقي هو الاحكام الظاهرية ، فان كان حكما حقيقياً يقع التضاد بينه وبين الحكم المقطوع به فهذا يكون مانعا عن النهي بهذا النحو.

وأما إن كان النهي حكما طريقيا ، فهو لغو محض ، وذلك لعدم ترتب المنجزية والمعذرية عليه على فرض كونه طريقيا ، فيكون بلا فائدة وتمثل له بأمثلة :

الأول : أن يقطع المكلف بالاباحة في موارد مع أن بعضها في الواقع محكوم بحكم الزامي من وجوب أو حرمة ، فيحكم عليه المولى تحفظا على ذلك المورد بحكم طريقي الزامي بمخالفة قطعه ؛ بأن يأتي بما قطع باباحته ، أو يترك ما قطع باباحته حتى لا يضيع ما يتفق في بعض الموارد من الوجوب أو الحرمة ، لكنك ترى أنه لا اثر لهذا الحكم الطريقي فانه ليس منجزا بنفسه حتى يتحرز العبد عن مخالفته ، والمفروض أن العبد لا يحتمل وجود واقع حتى يقطع بتنجزه بذلك على فرض وجوده فيتحرز عن مخالفته ؛ وانما يعقل جعل حكم طريقي في فرض الشك في الواقع لا في فرض القطع بعدمه.

هذا ومما ذكرنا ظهر ما هو المختار في اثبات معذرية القطع بمعنى أنه معه لا يمكن اسقاط العذر بخلافه مع الشك ، وهو أنه إن أريد اسقاط العذر بحكم نفسي وقع التضاد بين المبادئ ، وان اريد اسقاطه بحكم طريقي فلا أثر له ، فانه ليس منجزاً بنفسه ، ولا يراه القاطع بعدم حكم الزامي منجزاً لغيره.

الثاني : أن يقطع المكلف بحكم في موارد مع أن بعض تلك الموارد ليس فيه حكم الزامي ، وفرضنا أن في التزام المكلف في ذلك البعض على طبق ما توهمه من الحكم الالزامي مفسدة اهم من المصلحة الموجودة في موارد مصادفة قطعه كلزوم صيرورة الشريعة عليه شريعة صعبة مثلاً فيرخص له المولى في المخالفة أو يسقط عنه حق الموافقة تحذراً عن تلك المفسدة ، ولكنك ترى أنه لا أثر لذلك ، وذلك لأن ،

٤١

ترخيصه ترخيص اضطراري بملاك دوران الأمر بين المصلحة ومفسدة أهم ، والمفروض أن العبد يقطع بعدم دوران الأمر بينهما وتشخيصه لموارد المفسدة عن موارد المصلحة فيتمكن من تحصيل كلا الفرضين ، وفي هذا الفرض لا يكون ترخيص المولى عذرا له ، مثلا لو غرق صديق المولى وعدوه معا وهو يريد نجاة صديقه وهلاك عدوه ولكن هلاك عدوه أهم عنده من نجاة صديقه فنهى عبده عن إنجائهما تحفظا على هلاك العدو لتخيله أن العبد لا يميز بينهما ، لكن العبد يعرف الصديق من العدو فحينئذ لا اشكال في أن النهي الاضطراري للمولى ليس عذرا له بل يلزمه انجاء الصديق.

الثالث : أن يقطع المكلف بحكم الزامي في موارد مع اتصاف بعض تلك الموارد في الواقع بحكم الزامي ضده ، كما لو قطع بالوجوب في موارد مع ان الحكم في بعضها هو التحريم فحرم عليه المولى العمل بقطعه طريقا الى التحفظ على الحرمة الثابتة في بعض الموارد التي هي أهم في نظره من الوجوب في الموارد الأخرى ، وهذا الردع في الحقيقة له جنبتان ؛ جنبة تنجيز لجانب الحرمة ، وجنبة تعذير لجانب الوجوب ، والكلام في الجنبة الاولى هو الكلام في المورد الأول ، والكلام في الجنبة الثانية هو الكلام في المورد الثاني.

٤٢

التجري

٤٣
٤٤

الأمر الثاني : الكلام في التجري :

التجري هو مخالفة القطع بالحكم حال كونه مخالفا للواقع سواء كان القطع بالحكم قطعا وجدانياً ، أو كان العلم بالحكم حاصلا من امارة معتبرة أو حاصلا من أصل شرعي أو عقلي ، أو مخالفة دليل يدل على حجية دليل يدل على حكم شرعي (١) ، فيجري الكلام في جميع هذه الصور.

وهاهنا مقامات ثلاثة :

المقام الأول : في حرمته شرعا.

المقام الثاني : في قبحه عقلا.

المقام الثالث : في استحقاق العقاب عليه وبقية الجهات.

المقام الأول

أما المقام الأول : وهو البحث في حرمته شرعا فقد استدل على الحرمة فيه بوجوه :

الوجه الأول : هو شمول أدلة الأحكام الواقعية له فإذا قطع بخمرية ما يكون خلا في الواقع يشمله دليل «لا تشرب الخمر».

وتقريب ذلك أن الموضوع للحرمة وإن كان بحسب الظاهر من الدليل الخمر الواقعي إلا أن هناك صارفا عن هذا الظهور وهو القرينة العقلية الموجودة في المقام ؛

__________________

(١) وبعبارة أخرى : مخالفة الحكم المنجز الغير المطابق للواقع يكون تجرّيا بأي شيء كان تنجزه ولو كان من جهة الشك البدوي والاحتمال قبل الفحص.

٤٥

وذلك لأنه إن كان المراد المصادف الخمر للواقع لا بد من تضمين الاصابة للواقع في المتعلق بأن يقال : «لا تشرب الخمر ان صادف الواقع» والاصابة وعدم الاصابة للواقع ليس اختياريا للمكلف وإلا لما أخطأ انسان في الدنيا ، فلا يمكن تعلق التكليف به. فهذه القرينة العقلية توجب صرف الكلام عن هذا الظهور ، وكون المراد من «لا تشرب الخمر» لا تشرب معلوم الخمرية ، فاذا كان المراد لا تشرب معلوم الخمرية يشمل المقام أيضاً.

هذا هو التقريب الصحيح لهذا الاستدلال ، وهذا التقريب أسد وأخصر مما أفاده المحقق النائيني على ما في أجود التقريرات من تقريرات بحثه ، فانه اطال الكلام في المقام بمقدار صفحتين (١) ، وما أفاده في هاتين الصفحتين يرجع الى مقدمات ثلاث كلها غير تامة ، وهي :

المقدمة الأولى : ان الموضوع في الحكم يكون مفروض الوجود ، فان الاحكام مجعولة على نحو القضايا الحقيقية والقضايا الحقيقية تكون أفراد الموضوع فيها مقدرة الوجود. وهذه المقدمة لا ربط لها بالاستدلال اصلاً.

المقدمة الثانية : ان الباعث والمحرك للمكلف نحو الفعل هو العلم به ووجوده العلمي لا الفعل بوجوده الواقعي ، كما أن الانسان يفر من الأسد الذي يعلم به لا من الأسد بوجوده الواقعي.

ثم اعترض على هذه المقدمة وقال : ان المحرك وان كان العلم بوجود الشيء إلا أن العلم مرآة للمعلوم وكاشف عنه ، ففي الحقيقة يكون متعلق التكليف هو المعلوم دون العلم ، فلو كان متعلق التكليف هو العلم لكان الدليل شاملا للمقام إلا أنه ليس كذلك.

والجواب عما أفاده : أن ما ذكره (قده) مناقض لما أراده المستدل ، وذلك لان المستدل أراد توسعة المعلوم وتعميمه لما يكون مخالفا للواقع ايضا وهو (قده) ذكر

__________________

(١) راجع أجود التقريرات ، ج ٢ ، ص ٢٣.

٤٦

أن التكليف إن كان متعلقا بالعلم يشمل المقام ، وان تعلق بالمعلوم لا يشمله ، فهذا نقض لمراد المستدل وان المراد «بلا تشرب الخمر» المعلوم الخمرية سواء كان مطابقا للواقع أم لا.

المقدمة الثالثة : ان ما هو تحت اختيار المكلف هو الارادة والاختيار دون المراد والمختار فان المقدور للمكلف هو ارادة شرب الخمر ، واما نفس شرب الخمر فهو خارج عنه لعدم كون الاصابة للواقع بيده ، فيكون متعلق التكليف هو الارادة والاختيار لاشتراط القدرة فيه.

ثم ذكر أن الارادة والاختيار مأخوذان بنحو المعنى الحرفي بالنسبة الى المراد والمختار لا بنحو المعنى الاسمي.

والجواب عن ذلك أن مراد المستدل كما مر هو توسعة المراد والمختار ، وأن المراد هو معلوم الخمرية سواء كان مطابقا للواقع أم لا ، واثبات ذلك كاف له وإن كان الارادة والاختيار مأخوذين بنحو المعنى الحرفي ، فهذه المقدمة لا دخل لها بمراد المستدل.

والتحقيق في الجواب أن يقال : ان الحكم قد تؤخذ أفراد موضوعه مقدرة الوجود بنحو لا يستدعي ايجاد الموضوع في الخارج من المكلف كما في اكثر الاحكام ، فاذا قال : «لا تشرب الخمر» ، يكون المراد أنه إذا وجد خمر فلا تشربه ، وقد يكون الحكم على نحو يستدعي ايجاد موضوعه ، كما اذا قال الطبيب : اشرب السكنجبين فانه يقتضي ايجاد السكنجبين ، في الخارج أولا ثم شربه.

فان كان الحكم من القسم الاول ففعليته تتوقف على أن يوجد موضوعه في الخارج ويتحقق بنفسه فاذا لم يوجد موضوعه لا يكون الحكم متحققا ، فلا يحتاج الى تضمين معنى الاصابة ليقال بأن الاصابة وعدمها خارجان عن اختيار المكلف.

وإن كان الحكم من القسم الثاني وهو الذي يستدعي ايجاد موضوعه في الخارج ، كما في «اشرب السكنجبين» ، فتحقق موضوعه وايجاده بنحو كان الناقصة وان لم يكن في قدرة المكلف وهو شرب هذا السكنجبين إلا أن تحققه بنحو كان

٤٧

التامة وهو شرب السكنجبين تحت قدرته واختياره ، فهناك خلط عند المستدل بين مفاد كان الناقصة ومفاد كان التامة.

نعم لو كان هناك انسان لم يقطع بتحقق الموضوع في واحد من الموارد لا يكون تحصيل الموضوع بقدرته واختياره إلا أنه غير مكلف بالحكم من باب عدم قدرته على الامتثال.

هذا تمام الكلام في الوجه الاول ، ولا يخفى أنه مختص لو تم بالقطع في باب الموضوعات.

الوجه الثاني : أن يقال : ان الفعل المتجرّى به قبيح عقلا بأحد انحاء القبح التي يأتي الكلام فيها ، وبقانون الملازمة بين ما حكم به العقل وما حكم به الشرع تتثبت حرمته شرعا ، فهذا الدليل يتوقف على هاتين المقدمتين :

الصغرى : ان التجري قبيح عقلا. وسيأتي الكلام في ذلك في المقام الثالث ، ولا بد من فرضها مفروغا عنها في المقام.

والكبرى : ان ما حكم بقبحه العقل يحكم بحرمته الشرع ، ولا بد من الفراغ عن هذه الكبرى ايضا في المقام وفرضها مفروغا عنها فلا بد في المقام في فرض هاتين المقدمتين مفروغا عنهما.

وانما يجب البحث في المقام عن نكتة وهي أن تطبيق هذه الصغرى والكبرى ممكن في المقام أم لا؟ وقد ذكروا لعدم امكان شمول هذه الصغرى والكبرى للمقام وجوها :

الأول : ما ذكره المحقق النائيني (قده) وهو أن اثبات الحرمة شرعا من جهة القبح عقلا إما أن يكون بالخطاب الأول الذي يدل على حرمة الخمر الواقعي وإما أن يكون بخطاب آخر غير ذلك الخطاب ، وفي الشق الثاني إما أن يكون الخطاب الآخر مختصا بالمتجري وإما أن يكون شاملا له وللعاصي ، فهذه ثلاثة شقوق وكلها غير ممكنة ، فاثبات الحرمة شرعا في المقام بقانون الملازمة غير ممكن.

٤٨

أما عدم امكان الشق الاول وهو أن يكون التجري حراما بالخطاب الأول الذي صار موجبا لحرمة الخمر الواقعي مثلا فلان التجري يكون في طول الحرمة للخمر الواقعي لانه موضوعه ، اذ لو لم يكن الخمر الواقعي حراما لا يتحقق التجري بالنسبة الى معلوم الخمرية كما هو واضح ، وعلى هذا يكون حكم التجري وحرمته ايضا في طول الحرمة بالنسبة الى الخمر الواقعي ومتأخرا عنه فلا يمكن ان تكون حرمته بنفس الخطاب الذي دل على حرمة الخمر الواقعي وفي عرض تلك الحرمة ، اذ يلزم منه أخذ المتأخر في المتقدم.

وأما عدم امكان الشق الثاني وهو أن يكون التجري حراما بخطاب مخصوص بالمتجري لا يشمل العاصي غير الخطاب الأول فلأن هذا الخطاب والحكم لا يمكن وصوله ، فحينئذ لا يعقل جعله ، أما عدم امكان وصوله فلأن هذا الخطاب لو وصل الى المتجري بأن يقال : «أيها المتجري يحرم عليك شرب الخمر» يخرج عن كونه متجريا لو التفت الى خطأه ، فالخطاب بهذا النحو لا يمكن وصوله ، وأما انه لا يعقل جعله فلأنه لغو وبلا أثر بعد فرض عدم وصوله.

وأما عدم امكان الشق الثالث وهو أن يكون التجري حراما بخطاب عام شامل للمتجري والعاصي غير الخطاب الذي يدل على حرمة الخمر الواقعي فلأن النسبة بين الخطاب الأول الدال على حرمة الخمر الواقعي وبين هذا الخطاب عموم مطلق بنظر المتجري وان كانت النسبة بينهما عموما من وجه في الواقع ، وذلك لأن المتجري يرى مطابقة علمه للواقع دائما ، فيكون الخطاب الأول الدال على حرمة الخمر الواقعي مع هذا الخطاب الثاني الدال على حرمة معلوم الخمرية مجتمعين في مادة الاجتماع ، فان بقي الخطابان على تعددهما لزم اجتماع المثلين وهو محال ، وان لم يبقيا بل كان الثاني مؤكدا للأول يلزم لغوية الثاني فلا يمكن أن يكون الثاني مؤكداً للأول ، وهذا بخلاف ما اذا كان بينهما عموم من وجه فان فيه يكون كل من الحكمين باعثا ومحركا في مورد الافتراق فلا يلزم من التأكد في مورد الاجتماع لغوية الحكم وعدم كونه باعثا ومحركا بعد ما كان المكلف متحركا بالتحريك الناشئ من الحكم الأول ، وكونه محركا وباعثا في مورد الافتراق كاف في الفائدة التي يجعل

٤٩

لأجله الحكم. هذا ما افاده من الاشكال في الشقوق الثلاث (١).

ولكن لا يتم شيء مما ذكره.

أما الاشكال في الشق الأول وهو أنه لا يمكن جعل الحرمة للفعل المتجرّى به بعين الخطاب الدال على الحرمة للخمر الواقعي ، لكون حرمة التجري في طول حرمة الخمر واقعا ، فلا يمكن ان يكون مجعولا في عرضه كما أن قصد امتثال الأمر حيث انه في طول الأمر لا يمكن ان يقع في حيز الطلب والأمر.

فالجواب عنه أن الحكم له وجودان ؛ وجود في مرحلة الجعل والتشريع ، ووجود في ناحية المجعول أي مرحلة الفعلية ، فان الاحكام مجعولة بنحو القضايا الحقيقية فقبل تحقق الموضوع فيها يكون الحكم موجودا بالوجود الانشائي والفرضي ، وبعد تحقق الموضوع يكون موجودا بالوجود الفعلي ، فالحكم بحرمة الفعل المتجرّى به وإن كان متأخرا عن الحكم بحرمة الخمر واقعا في مرحلة الفعلية وتحقق الموضوع لأن موضوعه متأخر عن الحكم الأول وفي طوله إلا أنه لا مانع من أن يكون مجعولا مع الحكم الأول بجعل واحد ، ويكون في عرضه ، إذ في مقام الجعل والانشاء لا نحتاج الى وجود الموضوع وتحققه في الخارج ، بل يكفي فيه فرض وجوده كما هو واضح لا يخفى (٢).

وأما ما ذكره في الشق الثاني من أن المتجري لو خوطب بخطاب خاص بهذا العنوان يخرج عن كونه متجريا فلا يمكن وصول هذا الخطاب اليه مع فرض كونه متجريا ، فلا يمكن جعله لكونه لغوا وبلا أثر ، ففيه : أنه لا يجب وصول الخطاب الى المكلف تفصيلا ، بل يكفي في عدم اللغوية وصوله ولو اجمالا ، وفي المقام وان لم يمكن ان يعلم المكلف تفصيلا بالخطاب المذكور لانه يخرج عن كونه متجريا إلا أنه لا مانع من أن يعلم به اجمالا ، فهو يعلم بالعلم الاجمالي ان علمه قد يكون مخالفاً

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ٣ ، ص ٤٥.

(٢) وقياس المقام بقصد امتثال الأمر غير صحيح ، وذلك لأن الحكم هناك واحد وفي المقام متعدد ، فلا يقاس أحدهما بالآخر.

٥٠

للواقع فيكون متجريا فيشمله الخطاب ، ولا محذور فيه.

وأما ما ذكره في الشق الثالث من أنه لو كان حرمة التجري بخطاب آخر يشمله والعاصي يلزم اجتماع المثلين في نظر المكلف إن كان كل من الحكمين مستقلا في التأثير والمحركية ، ويكون الثاني منهما لغوا ان كان مؤكدا للأول ولم يكن مستقلا في التاثير مع أنه يلزم الخلف من ذلك لأنا فرضنا وجود حكمين مستقلين ، فلو كان الثاني مؤكدا للأول يلزم منه عدم تعدد الحكمين وهذا خلف.

فقد أورد عليه السيد الاستاذ :

أولاً : بأنه يمكن فرض عدم وصول الحكم الأول الى المكلف القاطع ، بل ما وصل هو الحكم الثاني فقط ، فلا يكون حينئذ اجتماعا للمثلين حتى في نظره.

وثانيا : بأنه لو فرضنا بان المقام من قبيل العموم والخصوص المطلق فلا محذور في اجتماع الحكمين فيه ، بل يلتزم بالتأكد في مورد الاجتماع كما اذا نذر أن يأتي بالصلاة فان النسبة بين أدلة الوفاء بالنذر وأدلة وجوب الصلاة عموم مطلق ، فان النذر المتعلق بالصلاة واجب الوفاء مثلا ، ولكن الصلاة واجبة سواء نذر أم لا (١).

ولكن ما ذكره السيد الاستاذ غير تام ؛ أما ما ذكره أولا فمن ناحية أن المقام من قبيل العامين من وجه ولو في نظر القاطع ، فان القاطع وان لم يحتمل مخالفة قطعه للواقع الا انه يدري أن قطع غيره من القطاع قد يكون موفقا للواقع وقد يكون مخالفا له فيكون متعلق التكليفين عموما من وجه في نظره ولو بالنسبة الى قطع غيره لا قطع نفسه ، وهذا كاف في عدم اجتماع المثلين لوجود مورد الافتراق ، والالتزام بالتأكد في مورد الاجتماع من دون لزوم محذور اللغوية.

وأما ما ذكره ثانياً فمن جهة أن النسبة بين وجوب الوفاء بالنذر ووجوب الصلاة عموم من وجه لا عموم مطلق ، ان دليل وجوب الوفاء بنذر الصلاة الواجبية لا يكون دليلا خاصا به ، بل هو من الأدلة العامة لوجوب الوفاء بالنذر ، فدليل وجوب

__________________

(١) مصباح الأوصل ، ج ٢ ، ص ٤٥.

٥١

الوفاء بالنذر يشمل نذر الصلاة وغيره ، كما أن دليل وجوب الصلاة يشمل الصلاة المنذورة وغيرها فيجتمعان في الصلاة المنذورة كما هو واضح.

ومن هنا يظهر الجواب عما ذكره المحقق النائيني من الايراد في الشق الثالث وذلك لأنه ظهر مما ذكرنا أن المقام من قبيل العموم والخصوص من وجه حتى بنظر القاطع ، غاية الأمر بالنسبة الى قطع غيره لا قطعه ، وهو لا يضر ، لا من قبيل العموم والخصوص المطلق حتى يقال بأنه ان التزم بتعدد الحكمين لزم اجتماع المثلين بنظر القاطع ، ولا يمكن الالتزام بالتأكد كما في العامين من وجه للزوم اللغوية من جعل الحكم لعدم وجود مادة الافتراق ، وان التزم بعدم تعدد الحكمين فهو خلف فرض تعدد الحكمين.

فتحصل عدم تمامية الايرادات الواردة على هذا الوجه بتمامها وان كنا لا نقول به من جهة أنا لا نقبل أصل الملازمة على ما يأتي بيانه مفصلا في محله.

الوجه الثاني من الوجوه التي ذكروها لعدم قابلية المورد لجعل حكم مولوي ما ذكره في الدراسات وهو أن الحرمة المستكشفة من القبح ان فرض اختصاصها بفرض التجري كان ذلك بلا موجب ، اذ فرض التجري ليس بأسوإ حالاً من فرض المصادفة ، وان فرض شمولها لمورد المصادفة لزم التسلسل ، اذ بكل خطاب عصيان وباعتبار ذلك العصيان يتحقق خطاب آخر وله ايضا عصيان وهكذا.

ويرد عليه : ان التسلسل المحال هو التسلسل الحقيقي وهو التسلسل في الوجودات الواقعية بأن تكون كل حلقة مربوطة بحلقة أخرى ، كما لو فرض انكار واجب الوجود ، وقلنا ان كل ممكن معلول لممكن آخر الى ما لا نهاية له.

وأما التسلسل المصطلح عليه بعنوان (لا يقف) وهو التسلسل في الاعتباريات الذي لا يقف ما لم يقف اعتبار المعتبر فلا استحالة فيه ، فان العقل يعتبر الى مدة وفي الأخير يكل عن المشي فينقطع بوقوفه التسلسل ، كما يقال : ان الانسان ممكن ، وامكانه واجب ، ووجوب امكانه واجب ، ووجوب هذا الوجوب واجب ، وهكذا يتصور العقل ذلك الى ان يكل ، وما نحن فيه يكون من قبيل القسم الثاني ، فانه اذا

٥٢

التفت العقل الى ان هذا شرب معلوم الخمرية وهو حرام تحقق قبح آخر وتجددت حرمة ثالثة وهكذا الى ان يكل العقل وينقطع التسلسل. هذا مضافا الى انه لو سلم اشكال التسلسل التزمنا بالشق الأول وهو اختصاص الحكم بفرض التجري بدعوى ان مقتضى الحكم وان كان ثابتا في فرض المصادفة ايضا لكن هناك مانع عن شمول الحكم له ، وذلك هو لزوم التسلسل.

الوجه الثالث : ما ذكر في الدراسات مشوشا وذكره السيد الاستاذ (قده) في البحث مرتبا وهو ان الحكم الثاني يكون ناشئا عن القبح الثابت بوصول حكم آخر في المرتبة السابقة في نظر المكلف فالمكلف دائما يرى هذا الحكم مسبوقا بمحرك مولوي آخر فان كفاه ما يراه من المحرك المولوي لم تكن فائدة في الحكم الثاني ، وان لم يكفه ذلك وكان بناؤه على العصيان لم يحركه الحكم الثاني أيضا ، فهذا الحكم على كلا التقديرين غير قابل للمحركية فيلغو (١).

والجواب انه تارة يفرض ان المكلف لا يعلم بالواقع وانما تنجز عليه الواقع بمنجز آخر ، واخرى يفرض انه تنجز عليه الواقع بالعلم.

أما في القسم الاول : فلو فرض حرمة الفعل المتجرى به كان الاتيان به مخالفة قطعية بخلاف فرض عدم حرمته والتمرد على المولى في فرض القطع بالحكم ، ولزوم المخالفة القطعية أشد من التمرد عليه في فرض الشك والاحتمال المنجز ، مثلا قتل ابن المولى مع العلم بأنه ابن المولى أشد في مقام التمرد والطغيان على المولى وظلمه من قتله في فرض الشك في ذلك ، فكون تحريم الفعل المتجرى به في هذا الفرض غير قابل للتأثير في المحركية ممنوع.

وأما في القسم الثاني : فأيضا عدم قابلية تحريم الفعل المتجرى به لتحريك العبد ممنوع ؛ وذلك لأن الحكم الأول كان ناشئاً من غرض والحكم الثاني الذي نقول بعدم اختصاصه بفرض الخطأ وعدم الاصابة يكون ناشئا من غرض آخر ،

__________________

(١) الدراسات ج ٣ ، ص ٢٩.

٥٣

فيحصل التأكد لا محالة في مقام المحركية ، لأن التمرد على المولى والطغيان عليه يختلف شدة وضعفا باختلاف درجات الاغراض ، فالتمرد والظلم الثابت في قتل ابن المولى مثلا بالنسبة الى المولى اشد من التمرد والظلم الثابت في قتل عبده.

والمعنى الصحيح عندنا للتأكد عند اجتماع حكمين هو ما ذكرناه من التأكد في مقام المحركية ، لا أنهما يتحدان حقيقة بل هما باقيان على ما هما عليه من التعدد جعلا وملاكا. ولا نقول باستحالة اجتماع المثلين ، بل يمكن جعل تحريمات عديدة مثلا على شيء واحد لتعدد الملاكات والاغراض.

هذا تمام الكلام في الدليل الثاني ، وقد تحصل أنه لا مانع من الاستدلال بقاعدة الملازمة فيما نحن فيه على الحرمة لو صحت القاعدة في نفسها ، نعم لنا كلام في أصل صحة القاعدة برأسها أو اطلاقها ، فيكون هذا الدليل باطلا من هذه الناحية.

تذنيب :

قد اشتهرت بينهم قاعدة موروثة عن الميرزا الشيرازي الكبير (قده) وهي ان الحسن والقبح العقليين انما يستتبعان الحكم الشرعي اذا كانا في سلسلة علل الاحكام ، دون ما اذا كانا في سلسلة معلولاتها كقبح الغصب والتشريع ، وهذه القاعدة لا ينبغي ان يكون مدركها محذور الدور ؛ اذ من الواضح أن المدعى لمن يجري قاعدة الملازمة في سلسلة المعلولات ايضا هو صيرورة الحسن والقبح علة لحكم جديد غير الحكم الأول ، فالظاهر ان مدركها اما محذور التسلسل ، أو محذور عدم المحركية ، وقد عرفت الجواب عن كل منهما.

ثم لا يخفى انه لو سلمنا عدم الاختلاف في مراتب الظلم حتى يتم اشكال عدم المحركية ، فاللازم عدم كون ملاك الاشكال في قاعدة الملازمة مختصا بسلسلة المعلولات من حيث هي كذلك ، فلا فرق من هذه الناحية بين سلسلة العلل والمعلولات بناء على مبناهم في استحقاق العقاب من ان الظلم قبيح ، وارتكاب القبيح موجب لاستحقاق الذم ، وذم كل شخص بحسبه ، وذم المولى عقابه ، فان

٥٤

عين هذا الكلام يتأتى في سلسلة العلل فنقول في حق من ادرك ان التشريع ظلم للمولى : ان هذا الظلم قبيح ، وارتكاب القبيح موجب لاستحقاق الذم ، وذم كل شخص بحسبه ، وذم المولى عقابه ، فإن كان هذا كافيا في ارتداعه عن هذا العمل فهو ، وإلا فتحريم المولى له ايضا لا يؤثر في ارتداعه.

فالحاصل ان الملاك في قبح الاشياء القبيحة على ما هو المفروض هو امر واحد وهو الظلم ، ويتحصل ان هذا الملاك الواحد لا يقبل الشدة والضعف ، فيكون جعل الحكم على طبق ما احرز من القبح لغواً ، بلا فرق بين كون ذلك القبيح ظلما للمولى بلحاظ حكم سابق له ، أو ظلما له بهذا اللحاظ.

نعم يمكن ان يقال في ظلم غير المولى بامكان استفادة الخطاب الشرعي على طبقه من قاعدة الملازمة ، فيقال : ان من ادرك قبح الغصب كان له اثبات حرمة الغصب شرعا ، وذلك لان الظلم في الغصب لو لا الحرمة الشرعية ليس إلا في حق من غصب ماله ، ومع فرض الحرمة الشرعية يتحقق الظلم في حق المولى ايضا ، فيدعى ان الظلم انما لا يقبل الاشتداد في حق شخص واحد ، ولكنه يشتد بكون الظلم الثابت ظلمين في حق شخصين.

هذا مضافا الى انه إن ادعي عدم قابلية الظلم للشدة والضعف ، ولو بهذا اللحاظ يبقى هنا شيء آخر ، وهو انه ربما لا يكون عنوان الظلم رادعا ، لكن تكون عنوان المبعدية عن المولى رادعة وهي في طول تحريم المولى ، وهذا بخلاف ما يكون قبحه من أول الأمر بلحاظ المولى ، كما يقال به في التشريع ، فانه في هذا الفرض تكون المبعدية ثابتة قبل تحريم المولى.

هذا كله بناء على مبناهم من التعويل على مسألة قبح الظلم ، واما بناء على ان قولنا : «الظلم قبيح» ، يكون ثابتا برأسه بملاك خاص ، لا أن قبح الجميع يرجع الى ملاك واحد وهو كونه ظلما وكون الظلم قبيحا ، فيمكن أن يتوهم تمامية الفرق بين سلسلة العلل وسلسلة المعلولات ؛ وذلك لأن قبح كل شيء يكون بملاك خاص فيحصل التأكد واختلاف المراتب ، وأما القبح الثابت في سلسلة المعلولات فليس

٥٥

إلّا قبح واحد فيدعى عدم ثبوت مراتب له.

ولكن يرد على هذا انه إن بُني على دعوى الفرق بين فرض وحدة الملاك وتعدده ، وتخصيص انكار المراتب بالفرض الأول لم يكن ذلك ايضا مبرراً للتفصيل بين سلسلة العلل والمعلولات ، من حيث هما كذلك ؛ لأن قبح ما يرجع الى مخالفة حق المولى دائما يكون بملاك واحد بلا فرق بين ما يكون في سلسلة المعلولات كالمعصية ، وما يكون في سلسلة العلل كالسجود بعنوان الاستهزاء بالله.

وكما يقال في التشريع فان ذلك كله بملاك مخالفة احترام المولى وشأنه وجلاله ، فايضا لا يمكن التفصيل إلا بين ما يجرع ابتداء الى غير المولين كما يقال في الغصب ، وما لا يرجع الى غير المولى كالمعصية والتجري.

هذا كله بناء على تسليم القبح العقلي في سلسلة العلل ، واما إذا قلنا أن تمام ما يدرك الناس قبحه في سلسلة العلل ليس قبحه إلّا من الأمور العقلائية التي تختلف بحسب اختلاف المجتمعات ، وليس أمراً واقعيا يدركه العقل ، فلا يبقى موضوع لقاعدة الملازمة في سلسلة العلل.

الوجه الثالث : من الوجوه التي استدل بها على حرمة التجري هو : التمسك بالاجماع في حرمته. والاجماع وإن لم يقم على حرمة هذا العنوان وهو التجري إلّا أنه يقال بأنه يستفاد الاجماع عليه من الاجماع المتحقق في فرعين في الفقه.

أحدهما : أنه اذا خاف المكلف من ضيق الوقت بحيث لا يتمكن من الاتيان بصلاة الظهر والعصر في الوقت يجب البدار عليه.

ثانيهما : أنه إذا ظن الضرر في السفر يجب عليه تركه ، ولو أقدم على السفر المظنون الضرر يكون سفره معصية ، ولو انكشف الخلاف وعدم وجود ضرر في البين ، فيجب عليه الاتمام في صلواته ، كما أنه في الفرع الأول لو لم يبادر يكون عاصياً وان انكشف ان الوقت باق لكلا الصلاتين ، وليس هذا إلا من جهة حرمة التجري شرعا.

وأجاب عن هذا الاستدلال شيخنا الأعظم (قده) في الرسائل بأن المسألة

٥٦

عقلية فلا يمكن الاستدلال عليها بالاجماع (١).

وأجيب عنه على ما في تقريرات المحقق النائيني بأن المسألة على ما حررناه شرعية لا عقلية ولكن الظاهر أن مراد الشيخ هو ان المسألة حيث إنه يستدل فيها على حرمة التجري بالدليل العقلي ، وهو حكم العقل بقبح التجري ، ويستكشف منه بقاعدة الملازمة حكم الشرع بحرمته تكون مسألة عقلية ، فيمكن أن يكون مستند المجمعين هذا الدليل العقلي ، فلا يكون الاجماع كاشفا عن دليل شرعي وقول المعصوم (ع) ، فلا يمكن الاستدلال به ، لا أن مراد الشيخ هو أن نفس المسألة عقلية.

ثم أجاب المحقق النائيني وكذا السيد الاستاذ وغيرهما عن الاستدلال بأن المعصية في ترك البدار أو في الاقدام على السفر في هذين الفرعين انما هي من جهة ان خوف الضيق في الوقت وخوف الضرر كل منهما عنوان موجب لجعل حكم مستقل على طبقه ، وهو وجوب البدار ووجوب ترك السفر المزبور ، فتكون المعصية من جهة مخالفة هذين الوجوبين لا من جهة التجري بالنسبة الى الحكم الواقعي.

توضيح ذلك : ان الحكم بكون المكلف عاصيا فيما اذا ترك البدار ، ولو في فرض انكشاف بقاء الوقت للصلاتين ، تارة يكون من جهة ان المكلف حيث خاف ضيق الوقت ولم يبادر تجرّى على المولى فيكون عاصيا ، وأخرى من جهة أن خوف الضيق له موضوعية في نظر الشارع فيجعل في مورده وجوب البدار مع قطع النظر عن وجوب أصل الصلاة ، فتكون المعصية من ناحية ترك البدار الواجب رأسا ، لا من ناحية التجري.

فذكروا أن المعصية من ناحية أن البدار واجب بنفسه لا من جهة التجري ، بل استدل السيد الاستاذ على وجوب البدار في نفسه بصحيحة الحلبي الواردة في الظهرين : «ان كان في وقت لا يخاف فوت احداهما فليصل الظهر ، ثم ليصلِ

__________________

(١) الرسائل ، ص ٥.

٥٧

العصر ، وان هو خاف أن تفوته بالعصر» بدعوى ان المستفاد من الصحيحة هو أن خوف الفوت هو الموضوع لوجوب البدار مستقلا ، فتكون المعصية من ناحية ترك هذا الوجوب.

وكذلك في الفرع الآخر ايضا يكون ظن الضرر موضوعا لحكم الشارع بحرمة السفر ولو انكشف عدم وجوب ضرر أصلا ، فتكون المعصية من ناحية مخالفة هذا الحكم ، لا من ناحية التجري في الحكم الواقعي.

يقع الكلام في المقام من ناحيتين :

الأولى : في الجواب عن الاجماع المدعى في المقام.

الثانية : في البحث عن الفرعين المذكورين.

أما الناحية الأولى : فمن تمسك بالاجماع في المقام ممن قال بعدم قابلية المورد لجعل الحكم مولويا بطبيعة الحال لا بد له من توسعة المتعلق للخطاب بأن يكون شاملا لصورة الموافقة والمخالفة للواقع ، ومع ذلك مضافا الى أنه اجماع منقول وليس بحجة ، بل نقل الشيخ الأعظم القول بالمخالفة في المقام ، يرد عليه ما ذكره الشيخ الأعظم ان المسألة عقلية فلا يمكن التمسك فيها بالاجماع. ولا يرد عليه ما أورده المحقق النائيني على ما تقدم ، فالتمسك بالاجماع غير تام في المقام.

أما الناحية الثانية وهي البحث عن الفرعين فنقول : أما الفرع الأول وهو الحكم بالعصيان فيما اذا خاف ضيق الوقت ولو انكشف الخلاف ، ففيه : أن الاجماع لو تم لا يستفاد منه أزيد من أن التارك للبدار يكون عاصيا حتى في صورة انكشاف الخلاف ، وهذا لا يدل على الحرمة الشرعية ، بل يمكن ان يكون من جهة ما سيأتي من حكم العقل بقبح التجري ، وكون المتجري عاصيا ، فالحكم بالعصيان لا يدل على الحرمة الشرعية ، فلا يستكشف من هذا الاجماع وجوب البدار شرعا.

مضافا الى أن وجوب المبادرة الى الصلاة في هذا الفرض انما هو من جهة الأمر بأصل الصلاة ببركة قاعدة الاشتغال ، فان مقتضى اشتغال الذمة بالصلاة يقيناً وجوب البدار اليها في صورة ظن الضيق ، بل في صورة احتماله بحكم العقل.

٥٨

فمقتضى ما ذكره السيد الاستاذ في الوجه الثاني من الوجوه الدالة على حرمة التجري من أن الأمر الواقعي لو كان باعثا ومحركا للمكلف نحو العمل يكون الأمر والخطاب الثاني لغوا محضا وإن لم يكن باعثا ومحركا ولم يتحرك المكلف بتحريكه لا يتحرك بالتحريك الثاني ايضا ، فهذا الاشكال الذي ذكره هناك مع الغض عما أوردنا عليه يرد في المقام أيضا ؛ فان الأمر بأصل الصلاة يكون موجبا لوجوب البدار وتحريك العبد نحو الصلاة ببركة قاعدة الاشتغال ، فلو كان العبد متحركا من ناحية هذا الامر يكون الخطاب الثاني بوجوب البدار لغوا محضا ، ولو لم يتحرك من ناحية الامر الاول من جهة خبثه لا يكون متحركا من ناحية الأمر الثاني ايضا ، فلا يمكن جعل وجوب البدار مستقلا ، هذا ثبوتا.

وأما بحسب مقام الاثبات فما استدل به السيد الاستاذ لاثبات وجوب البدار في المقام من صحيحة الحلبي فهو غير ناظر الى الاتيان بأصل الصلاة سؤالا وجوبا ، بل هو ناظر الى كيفية الصلاة من التقديم والتأخير ، حيث يسأل السائل عن رجل التفت الى الصلاة عند الغروب ما ذا يصنع؟ قال (ع) : «ان كان في وقت لا يخاف فوت احداهما فليصل الظهر ثم يصل العصر ، وان هو خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر ولا يؤخرها فتفوته ، فيكون قد فاتتاه جميعاً» (١) فالظاهر من الرواية ان السائل فرغ عن أصل وجوب الاتيان بالصلاة ، وانما هو يسأل عن كيفيته خصوصاً بقرينة التعليق في ذيل الرواية ، فما ذكره السيد الاستاذ وغيره من وجوب البدار مستقلا غير تام ثبوتا وإثباتا ، هذا هو الفرع الأول.

وأما الفرع الثاني : وهو ما اذا خاف الضرر من السفر يكون سفره معصية ، ويجب عليه اتمام الصلاة ، فالشقوق فيه ثلاثة :

تارة يكون الضرر من الأمور اليسيرة كذهاب شيء قليل من المال ، ففيه لا يكون القطع بالضرر موجبا لحرمة السفر ، فضلا عن الظن به ، وذلك لعدم الدليل

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ٣ ، ص ٩٤ ، ح ١٨.

٥٩

على حرمة كل اضرار.

وأخرى يكون الضرر من الأمور المهمة التي يكون القطع فيها موجبا لحرمة السفر ، ففي هذه الصورة يكون الظن بالضرر موجبا للتنجز في نظر جملة من الفقهاء ، بل احتماله منجز في نظر بعضهم ، ويكون مخالفته حراما ، والوجه فيه ان الظن في موارد الضرر امارة عليه من جهة السيرة العقلائية القائمة على ذلك.

وثالثة يكون الضرر المحتمل من الاضرار التي يجب حفظ النفس منها شرعا كما في الفروج والاعراض ، وفي هذه الصورة يكون احتمال الضرر كذلك موجبا لحرمة الاقدام على السفر من جهة انه مناف للحفظ الواجب في الشريعة.

الوجه الرابع : من الوجوه التي استدل بها على حرمة التجري شرعا هو : الأخبار الدالة على أن الانسان يعاقب بنية السوء وإن لم يفعله ، وهذه الأخبار ذكرها الشيخ الاعظم (ره) في رسائله ، وهناك اخبار اخرى تدل على ان الانسان لا يعاقب بنية السوء اذا لم يعمل عمل السوء كما ذكرها ايضا الشيخ الاعظم (ره).

ولا يخفى ان من قال بعدم قابلية المورد لجعل الحكم المولوي لا بد له في الاستدلال بهذه الأخبار من تعميم التجري لما اذا قصد الحرام ، وطبّق العمل على نيته ، ثم تبين الخلاف في تطبيقه ، كما اذا قصد شرب الخمر وشرب الخل الذي تخيل انه خمر ثم تبين له الخلاف ، وما اذا قصد السوء والحرام وأتى ببعض مقدماته ثم انصرف عن ذلك ، كما اذا مشى الى حانوت الخمر لكي يشرب الخمر ثم انصرف عن ذلك.

لا بد لهذا القائل من تعميم التجري هكذا كما اشرنا اليه في الاجماع ايضا ، وأشار الى هذا التعميم المحقق النائيني (قده) في التقريرات لئلا ترد الاشكالات الواردة في الوجه الثالث المتقدم على هذا الدليل ، وهذا التعميم يمنع من ورود بعض الاشكالات لا عن جميعها ؛ ذلك لان اشكال اجتماع المثلين الذي ذكره الميرزا في الشق الثالث من الوجه الثاني يندفع من ناحية ان النسبة بين حرمة شرب الخمر الواقعي وبين ارادة الشرب من إظهاره في الجملة عموم من وجه ، لا عموم

٦٠