جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

والقبح بالذات فلا يختلف فيه الحسن والقبح باختلاف الحالات.

وهذا الجواب المشهوري غير صحيح ؛ لأن قضية حسن العدل وقبح الظلم لا يمكن جعلها هي الاساس والقضية الاولى في العقل العملي ، وجعل باقي قضايا الحسن والقبح تفريعات وتطبيقات لها ؛ لأن لفظ الظلم ليس له معنى إلا سلب الحق ، فظلم الشخص لغيره هو سلب حقه منه ، وحينئذٍ فانطباق عنوان الظلم على فعل كأخذ مال الغير مثلاً إما أن لا يفرض ثبوت حق في المرتبة السابقة عليه ثبوت حق للمظلوم ، وإما أن يفرض ثبوته ، فان لم يفرض ثبوت حق في المرتبة السابقة فلا يعقل ثبوت الظلم ، وبالتالي لا موضوع لقبح الظلم ، وإن فرض ثبوت الحق للمظلوم في المرتبة السابقة فهذا الحق المفروض في الرتبة السابقة إما أن يكون بنفسه مدركاً بالعقل العملي ، وإما أن لا يكون مدركاً له بما هو قوة دراكة ، وانما يرجع الى الجعل والتشريع والتقنين ، فعلى الثاني لا يدرك العقل العملي ثبوت الظلم ، وبالتالي لا يدرك قبح الظلم ، لانه متقوم بثبوت الحق في الرتبة السابقة ، والقوة التي لا تدرك المقوم لا تدرك المتقوم.

وان فرض الأول وكان الحق ثابتاً بادراك العقل العملي في الرتبة السابقة ، يكون اتصاف الفعل بالظلم وقبح الظلم في طول حكم العقل العملي بثبوت ذلك الحق.

وهكذا يتبرهن ان الظلم لا يعقل ان يكون هو الموضوع أولاً وبالذات لاحكام العقل العملي ، بل إما لا ظلم ولا قبح في أفق ادراك العقل العملي ، وإما أن هناك حكماً للعقل العملي في الرتبة السابقة على قبح الظلم موضوعاً ومحمولاً ، وبهذا تعرف ان قبح الظلم انما هو من قضايا العقل العملي وليس اساساً لها ، بمعنى اننا ننتزع من سائر موارد الحق المدرك بالعقل العملي عنوان الظلم ونحمل عليه القبح بنحو المعرفية لا الموضوعية.

فالصحيح في مقام الجواب هو انكار اختلاف الناس في اصل الحسن والقبح ، وانكار اختلاف الحسن والقبح باختلاف الحالات ، اما اختلاف العقلاء في

٢٤١

ادراك الحسن والقبح فهو دائماً يرجع الى اختلافهم في تشخيص مقتضيات التزاحم بين الجهة المحسنة والجهة المقبحة.

فتفصيله ان العقل العملي يرجع الى عقلين : الى عقل حسن الاشياء وقبحها في نفسها ، وإلى عقل ما هو الفعلي منها في موارد تزاحم الجهات المحسنة والمقبحة. وبالنسبة الى العقل الأول لا نسلم وقوع اخطاء من العقلاء في جميع الأمثلة التي تذكر لاختلاف الناس في ادراك الحسن والقبح ، فان ما هو حسن في نفسه يدرك الكل حسنه في نفسه ، كما ان ما هو قبيح في نفسه يدرك الكل قبحه في نفسه ، إلا الأبله الذي لا يدرك بديهيات العقل النظري ايضاً.

وأما ما هو المشاهد من الاختلاف فمرجعه الى العقل الثاني ، أي عقل باب التزاحم بين الحسن والقبح ، فكثرة الاخطاء انما هي في هذا العقل دون العقل الاول حتى في مثال تجويز قتل الرئيس والسلطان ، كما ينقل عن بعض المجتمعات التي تمنح السلطان للفرد الذي قدر على قتل السلطان السابق ، حتى في هذا المثال يرجع المطلب الى باب التزاحم بين قبح القتل وحسن الطموح ، فالقتل عندهم في نفسه قبيح ، ولهذا لا يجوزونه في غير ذلك المورد الخاص ، كما ان الطموح عندنا ايضاً حسن ولهذا نستحسنه في غير ذلك المورد الخاص ، وانما الخلاف بيننا وبينهم فيما هو مقتضى التزاحم بين الجهة المحسنة والجهة المقبحة.

وبهذا يظهر عدم اختلاف الحسن والقبح باختلاف الحالات ايضاً ، بل ان اختلاف الحالات يؤثر من ناحية وقوع المزاحمة احياناً بين الجهة المحسنة والمقبحة ، فالحسن الذاتي للصدق مطلق كما ان القبح الذاتي للكذب مطلق ، وحالة توقف انجاء النبي على الكذب ، او استلزام الصدق لاهلاكه دخيلة في ايقاع المزاحمة لا في اصل الحسن والقبح.

٢ ـ وأما التشكيك على اساس المنطق التجريبي فهو مبني على ما يدعيه هذا المنطق من كون التجربة هي الضمان الوحيد لحقانية كل قضية عقلية ، فكل قضية عقلية لا تضمن صدقها بالتجربة لا يمكن ضمان حقانيتها.

٢٤٢

واشكالنا على هذا التشكيك مبنائي لا بنائي وذلك بنقض المنطق التجريبي وتفنيد تلك الدعوى التي تجعل من التجربة ضماناً أعلى وأوحد لحقانية كل قضية عقلية ، ولتفصيل الكلام في نقض المبنى موضع آخر.

٣ ـ وأما التشكيك على اساس المنطق البرهاني فنعني به التشكيك الذي يقدم على الاساس القائل بحصر القضايا المضمونة الحقانية في مجال البرهان بأصوله وفروعه ، ومراد المشكك هنا الاستدلال على خروج قضايا العقل العملي عن حيز البرهان المضمون الحقانية ، وباخراجها تصبح غير مضمونة الحقانية ، وهو معنى التشكيك.

وتقريب الاستدلال على ذلك جاء في كلمات المحقق الاصفهاني (قده) ، اذ ذكر على سبيل المقدمة ان مواد البرهان الاساسية وينابيعه تنحصر في القضايا الست المعروفة ، وذكر على سبيل الاستنتاج ان قضايا الحسن والقبح ليست من مواد البرهان ؛ لأنها لا تدخل في أي نوع من تلك الانواع الستة ، أما عدم دخولها في الحسيات ، والمتواترات ، والتجريبيات ، والحدسيات فواضح ، وأما عدم دخولها في القضايا التي قياساتها معها ، فلأنا لا نجد هذا القياس في ادراكنا كما نجده عند حكمنا بان الاثنين نصف الاربعة ، أو أن الاربعة زوج ، وأما عدم دخولها في النوع الأول وهو البديهيات والاوليات فلأن قضايا هذا النوع يكفي مجرد تصور اطرافها لصدور الحكم بها من قبل النفس ، وفي المقام لا يكفي ذلك في قضايا العقل العملي ، وإلا لما وقع الخلاف بين العقلاء ، فيستنتج من ذلك كله عدم برهانية قضايا العقل العملي ، وبالتالي عدم ضمان حقانيتها وهو معنى التشكيك على اساس المنطق البرهاني (١).

ولنا هنا كلامان ؛ احدهما يرتبط بالمقدمة ، والآخر بالاستنتاج ، أما المقدمة فقد سبق أن اشرنا الى ما هو التحقيق عندنا باسلوب يرتفع به الخلط بين العقل

__________________

(١) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٨.

٢٤٣

النظري البرهاني ، والعقل الثالث الذي اشرنا اليه وقلنا ان التجريبيات والحدسيات والمتواترات انما هي من قضايا هذا العقل الثالث ، الذي اكتشفناه وسرنا في مقام تحديد قواعده ، وليست من قضايا العقل النظري البرهاني الذي ينظمه المنطق الارسطي.

وأما الحسيات فهي من مواد العقل البرهاني بمقدار استكشاف اصل الواقع وراء الادراك الحسي ، لا بمقدار المطابقة التفصيلية بين المدرك الحسي والواقع الخارجي ، وبضم ذلك المقدار من الحسيات الى الاوليات والفطريات تتكون المادة الاساسية للعقل البرهاني ، وكل هذا يرتبط بالمقدمة من حيث هي ، ولا علاقة له بما هو المقصود في المقام ؛ لأن أحداً لا يدعي دخول قضايا العقل العملي في تلك الانواع التي نخالف في برهانيتها ، بل القابل للادعاء هو دخولها في النوع الأول الذي لا اشكال في برهانيته ، وانما كان المقصود الاشارة الى اختلاف المباني الجديدة مع مباني القوم.

وأما الاستنتاج ففيه خطأ من ناحية المنهج ، ومن ناحية الفكرة ، أما من ناحية منهج البحث فلأن الاولى فنياً هو بيان الملاك الجامع لقضايا البرهان المزبورة ، والاستدلال على عدم انطباق هذا الملاك الجامع على القضايا موضوعة البحث بدلاً من التعرض لكل نوع بالخصوص وبيان عدم انطباقه ، والسر في اولوية الطريقة الاولى على الثانية هو أن صفة البرهانية انما يثبتها اصحاب المنطق البرهاني للعنوان الجامع بين تلك الانواع ، فليس كل نوع يتصف بالبرهانية بعنوانه ، ثم ينتزع عنوان مشترك بين الجميع ليتعين الاتجاه الى الانواع ابتداءً في مقام بيان عدم انطباقها ، بل ان برهانية كل نوع انما هي باعتبار انطباق الملاك العام عليه ، وهو كونها قضية ضرورية لا تحتاج النفس في الحكم بها الى التفتيش عن وسط أو أي شيء آخر زائداً على ذاتها وقواها الدرّاكة : ، فهذا هو الملاك العام في العقل الأول للبرهان ، وكل ما يستنتج منه بالوسط فهو عقل ثانٍ للبرهان ، فكان ينبغي ان يتكلم في مقام معرفة ان قضايا العقل العملي هل هي برهانية أو لا في انطباق الملاك الجامع عليها هذا من حيث المنهج.

٢٤٤

وأما من حيث الاستنتاج فاستدلاله على عدم كون تلك القضايا من الأوليات بعدم كفاية تصور الاطراف في صدور الحكم وإلا لما وقع خلاف في ذلك بين العقلاء مخدوش.

أولاً : لما عرفت سابقاً من امكان انكار الخلاف بين العقلاء ، وذلك لأنه إن اريد به الخلاف بين المجتمعات العقلائية فقد مرّ أن ذلك يرجع الى الاختلاف في تشخيص ما هو الاقوى في باب التزاحم لا في اصل الحسن والقبح ، فليكن دليلاً مثلاً على عدم بديهية مقتضيات التزاحم لا على عدم بديهية اصل العقل العملي ، وان اريد بالخلاف الاشعري فهو خلاف في تحقيق هوية الحسن والقبح من باب الخلط بين الحمل الأولي والحمل الشائع ، لا في اصلهما ، بل قد يستظهر من استدلالهم بالجبر على مدعاهم ان نقاشهم في الصغرى ، لا في كبرى العقل العملي.

ثانياً ، وهو المهم : ان ميزان كون بديهية اولية هو كفاية النفس عند تصور الاطراف في صدور الحكم دون حاجة الى ما وراء ذاتها وقوامها الدراكة ، وفي هذا الملاك للبديهية لا بد من التنبه الى نقطتين ؛ احداهما : ان المراد بكفاية النفس ليس هو العلية التامة ، بل الاقتضاء ، بمعنى ان العقل لو خلي وطبعه لأصدرت النفس حكمها بالقضية ، ولا ينافي ذلك حصول مانع من ناحية تغلب جهة اخرى من جهات النفس على العقل كالهوى والغرض ، لوضوح أن النفس ليست متمحضة في الجهة العقلية ، ففي حال سيطرة جهة اخرى على العقل قد تتوقف النفس عن اصدار الحكم في أوضح القضايا.

والنكتة الأخرى ان القضية البديهية قد لا تدركها النفس إلا لدى وصولها الى مرتبة خاصة من التجوهر والتكامل في صراط الحركة الجوهرية ، وهذا لا ينافي كون القضية بديهية ، لأن المرتبة ليست شيئاً زائداً على النفس في حركتها الجوهرية ، فكما ان العقل بالهيولى يدرك البديهيات حين يصبح بالحركة الجوهرية عقلاً بالملكة ، كذلك قد يدرك مزيداً من البديهيات عند تكامله أكثر وأكثر في سلّم

٢٤٥

الحركة.

وعلى أساس هاتين النكتتين نقول في المقام : إن الخلاف الواقع أو المدعى لا يبرهن على عدم كون القضية بديهية ما دام من الممكن تفسيره إما بوجود المانع بلحاظ النكتة الأولى ، وإما بقصور المرتبة بلحاظ النكتة الثانية ، فلا بد للخصم من ان يبرهن على عدم نشوء الخلاف عن هذين الأمرين ، وهكذا يتضح عدم تمامية الدليل الذي افيد لاثبات عدم برهانية قضايا العقل العملي ، وبالتالي عدم ضمان حقانيتها ، أو ما اسميناه بالتشكيك على اساس المنطق البرهاني.

والتحقيق في المقام : بعد أن عرفت عدم تمامية شيء مما افيد في تقريب النفي أو الاثبات أو التشكيك المنطقي ان الاستدلال على قضايا العقل العملي غير ممكن ، سواء اريد الاستدلال على اصل المدعى ، أو على بديهية المدعى.

أما على الأول فلأن الاستدلال عليه اما بعقل التجربة أو عقل البرهان ، وكلاهما غير ممكن ، أما الأول فلخروج تلك القضايا عن مجال التجربة ، وأما الثاني فلأن مرجع البرهان في نهاية التحليل ، كما عرفنا سابقاً ، الى اثبات الحد الاكبر للحد الأصغر ببركة ثبوت الاكبر للاوسط الثابت للاصغر ، وفرض الحد الاوسط في المقام خلف ، لأنه يستدعي فرض قضية للعقل العملي في المرتبة السابقة ، فنطالب بالبرهان عليها حتى نصل الى العقل العملي الذي لا برهان عليه لمنع التسلسل.

وأما الاستدلال على بديهية المدعى ، بمعنى كون القضية نابعة من النفس وليست معلولة لتلقين المؤدبين فهو ايضاً غير ممكن لأن كون القضية معلولة لكذب المؤدبين إما ان يوجد لدى الانسان احتمال ذلك في بدو الأمر ، وإما ان لا يوجد ، فان لم يوجد كان معنى هذا انه قاطع بنشوء الحكم عن حاق النفس ، وكونه بديهياً حقيقة أو اعتقاداً ، ومعه لا يطلب الدليل ، وان وجد احتمال معلولية العقل العملي لكذب المؤدبين ، الأمر الذي يؤدي في الانسان السوي الى زوال حكمه بقضايا العقل العملي وقطعه بها ، فلا يمكن رفع هذا الاحتمال بالدليل ، لأن رفع احتمال عليّة شيء لشيء إما أن يكون بالتجربة ، وذلك بعزل احدهما عن الآخر خارجاً ، وإما

٢٤٦

أن يكون بالبرهان إذا فرض ان العلية كانت تتنافى مع القوانين البرهانية للعليّة العامة ، كما إذا ادعى معلولية المجرد للمادي.

وفي المقام لا يتيسر كلا الامرين ، أما الأول فلعدم تهيؤ تجربة نعزل فيها انساناً عن كذب المؤدبين لنرى حاله ، واما الثاني فلأن العلية المدعاة لا تتنافى مع القوانين البرهانية العامة لتبطل بالبرهان ، وواقع الأمر من هذين الشقين إن جزمنا بقضايا العقل العملي لا يتزعزع في مقابل ابداع الآخرين ، لاحتمال نشوئها عن كذب المؤدبين ، ومعنى هذا انا جازمون بعدم نشوئها عن كذب المؤدبين ، وانها قضايا بديهية مضمونة الحقانية ، وان لم يكن الحال كذلك في العقل العملي الثاني المعمول لتشخيص مقتضيات التزاحم. هذا تمام الكلام في اصل العقل العملي ، وبهذا انتهى المقام الأول ، وسوف ننتقل الى المقام الثاني.

المقام الثاني

في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع وانه اذا حكم بحسن شيء أو قبحه فهل يحكم الشرع ايضاً وفقاً لذلك وتبعاً له؟ قلنا في صدر البحث ان استنتاج الحكم الشرعي من العقل العملي يحتاج الى ضم مقدمة من العقل النظري ، وهي الملازمة بين العقل العملي وبين الحكم الشرعي ، وهذا المقام الثاني في بحث هذه المقدمة التي نحتاج الى ضمها الى العقل العملي في استنباط الحكم الشرعي حينئذٍ.

إن هذا البحث بناءً على المبنى الاشعري لا موقع له اذ بناء على المبنى الاشعري الحسن والقبح هما وليدا الشارع ونتيجة جعل الشارع ، فلا معنى للبحث عن استتباعه للجعل الشرعي ، وأما بناء على المذهب الفلسفي بالنحو الذي شرحه المحقق الاصفهاني (قدس‌سره) ، أي بناء على ان الحسن والقبح من القضايا المشهورة التي تطابق عليها العقلاء ، وانه لا واقع لهذه القضايا الا نفس تطابق العقلاء على المدح والذم على الافعال حفظاً لنظام النوع ، وللمصالح النوعية التي بها ينحفظ المجتمع ، بناءً على هذا المذهب الفلسفي في تفسير الحسن والقبح قيل : ان الملازمة تامة بين حكم العقل وحكم الشرع باعتبار ان الشارع هو ايضاً احد

٢٤٧

العقلاء ، بل بالحقيقة التعبير بالملازمة مسامحة ، بل هو تضمن لا ملازمة ، فان هذه القضايا المفروض فيها انها مما تطابق عليها العقلاء بما هو عقلاء ، وبحيثية كونهم عقلاء ، فإذا فرض ان تطابقهم على المدح والذم الذي هو عبارة اخرى عن قضايا الحسن والقبح كان بما هم عقلاء وتطابقوا على ذلك فلا محالة يكون كل عاقل جزءاً من هذه التطابق ، وإلا لم يكونوا بما هو عقلاء متطابقين على هذا ؛ إذا فيكون الشارع ايضاً متطابقاً على المدح والذم ، لكن بوصف كونه عاقلاً لا بوصف كونه مولىً وشارعاً.

وهذا لا يغير من حيث النتيجة شيئاً فانه بما هو عاقل متفق مع العقلاء على المدح والذم ومدح كل شخص بحسب امكانياته ، فمدح من لا حول ولا طول له أو ذمه انما هو باللسان ، ولكن من له كل الحول وكل الطول فمدحه بالجنان وذمه بالنيران ، فحينئذٍ تكون النتيجة ايضاً هي النتيجة ، وهذا الكلام كلام شعري لا معنى له اصلاً ، وذلك لأن تطابق العقلاء على المدح والذم في المقام لم يكن لمجرد حيثية كونهم عقلاء ، بل كان لحيثية كونهم عقلاء ذوي مصلحة. العقلاء بحيثية كونهم عقلاء فقط شأنهم الادراك فقط لا شأنهم التطابق على المدح والذم. التطابق على المدح والذم ، أي التطابق والبناء على عمل معين ، وهو ان يمدحوا من يصدق ، ويذموا من يكذب ، هذا ليس شأن العقلاء بحيثية كونهم عقلاء ؛ إذ العقلاء بحيثية كونهم عقلاء صرفاً بلا زيادة شيء على هذه الحيثية شأنهم محضاً هو الادراك ؛ لأن هذه الحيثية وظيفتها الادراك فقط ، فاذا لوحظ العقلاء بمقدار هذه الحيثية لا اكثر لا يكون لهم إلا الادراك ، والمفروض ان المدح والذم ليس امراً واقعياً على هذا المبنى يدركه العقلاء ، وانما هو امر بنائي تطابق العقلاء عليه في مقام العمل ، إذاً فهذا التطابق على المدح والذم لا يعقل ان يكون من العقلاء كونهم عقلاء ، بل هو يحتاج الى ضم ضميمة الى هذه الحيثية ، بحيثية كونهم عقلاء ادركوا المصالح والمفاسد ، ادركوا ان الصدق فيه مصلحة للمجتمع ، وان الكذب فيه فساد للمجتمع ، كونهم يريدون ان يعيشوا في مجتمع مستقر هادئ وتقضى حوائجهم في هذا المجتمع ، فبما انهم هم اصحاب تلك المصلحة النوعية ، وأصحاب تلك

٢٤٨

المفسدة النوعية التي أدركوها بهذه الحيثية تطابقوا على المدح والذم حفظاً لتلك المصالح ، ودرءاً لتلك المفاسد ، اذاً فالتطابق على المدح والذم هنا لم يكن بحيثية كونهم عقلاء محضاً ، بل لتلك الحيثية زائداً عليها حيثية كونهم ذوي مصلحة ، وهذه الحيثية الثانية غير موجودة في الشارع.

فان الشارع ، سبحانه وتعالى ، لم يفرض فيه انه سوف يتعايش مع افراد هذا المجتمع كي يضره الكذب ويصلحه الصدق ، بل هو ليس له مصلحة في هذا المطلب بوجه من الوجوه ، فكم هو غريب عن التفكير العلمي ما صدر عن المحقق الاصفهاني (قدس‌سره) من تقريب الملازمة على المبنى الفلسفي بهذا المعنى ، مع ان الحيثية المناسبة مع التطابق على المدح والذم هي حيثية كونهم ذوي مصلحة ، لا حيثية كونهم عقلاء.

نعم هنا شيء ، وهو في المرتبة السابقة على تطابق العقلاء على المدح والذم ، وهو أن العقلاء ادركوا المصالح والمفاسد بقانون تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ، فيستكشف حينئذٍ الحكم الشرعي ، وهذا استكشاف من العقل النظري محضاً لا من العقل العملي ، وفي المقام ليس كلامنا في استكشاف الحكم الشرعي من المصالح والمفاسد النوعية التي ادركها العقلاء ، لأن هذا الاستكشاف استكشاف من العقل النظري محضاً لا ربط له بالعقل العملي ، حتى لو انكرنا العقل العملي رأساً كما أنكره الاشعري ؛ لا بهذا المعنى الملفق المزيف ، ولا بمعنى آخر ، لو انكرناه رأساً وصراحة وبكل شجاعة ايضاً ، مع هذا نقول بالملازمة ما بين الحكم الشرعي مثلاً وبين ادراك تلك المصالح والمفاسد ، فاستكشاف الحكم الشرعي ببركة ادراك المفاسد والمصالح النوعية استكشاف على اساس العقل النظري ، وهو البرهان اللمّي الذي أشرنا اليه حين قلنا فيما سبق ان استنتاج الحكم الشرعي من العقل النظري تارة يكون بالبرهان الإني ، أخرى باللمّي ، هذا هو اللمّي أي يصير استكشاف المعلول من ناحية العلة ، وهو امر صحيح.

كلامنا الآن في استكشاف الحكم الشرعي بتوسط العقل العملي ، والعقل العملي ليس هو مجرد ادراك المصلحة والمفسدة ، بل العقل العملي هو التطابق على

٢٤٩

المدح والذم من العقلاء بما هم عقلاء ، وهذا التطابق في نفسه لا يكشف عن حكم شرعي ؛ لأن هذا التطابق ليس بحيثية كونهم عقلاء ، بل بحيثية كونهم ذوي مصلحة يعني بحيثية غير ثابتة بالنسبة الى المولى جزماً ، وحينئذٍ فهذه الملازمة في المقام مما لا معنى لها.

وبما ذكرناه انقدح ايضاً انه على المبنى الفلسفي في باب العقل العملي لا يتم العدل الإلهي ، يعني لا معنى لتطبيق قانون الحسن والقبح حينئذٍ في خارج نطاق ذوي المصلحة ، يعني على افعال الباري ، تبارك وتعالى تطابق العقلاء على مدح الله ، تبارك وتعالى ، أو على ذمه ، هذا لا يكون مؤمناً من ناحية صدور الممدوح ومن ناحية عدم صدور المذموم منه ، فليتطابقوا على أن الله غني عن العباد وليس بحاجة الى مدحهم ، ولا يخاف من ذمهم.

نعم لو فرض ان الله كان متطابقاً معهم على المطلب لكان هذا وجيهاً ، إلَّا أن الله ليس متطابقاً معهم على المطلب ؛ لأن تطابقهم على قبح الظلم وحسن العدل انما هو باعتبار كونهم ذوي مصلحة ، والله ليس ذا مصلحة في المقام ؛ إذ لا يتصور في حقه ظلم من قبل شخص آخر حتى يكون له مصلحة في المقام ؛ إذ لا يتصور في حقه ظلم من قبل شخص آخر حتى يكون له مصلحة في هذا ، مقصودي من الظلم الانقاص يعني لا يتصور ان هناك من قبل شخص آخر انقاصاً بالنسبة اليه حتى يكون له مصلحة في ذلك ، أو تكميل من قبل شخص آخر له ، فهذا المبنى الفلسفي كما انه لا معنى للملازمة بناءً عليه ايضاً لا معنى للعدل الإلهي بناءً عليه ، يعني يمكن بناء على المبنى الفلسفي تطبيق قوانين الحسن والقبح إلا في دائرة ذوي المصلحة ، حيث ان هؤلاء قرروا ان يتعاشوا تعايشاً مريحاً ، وحينئذٍ كانت هناك حقوق متبادلة فيما بينهم ، هذا تعهّد بأن لا يكذب على الآخر ، وان يقوم بالمدح والذم للصادقين والكاذبين ، والآخر ايضاً تعهد مثل هذا التعهد ، وهذا في غاية الوضوح. هذا بناءً على المبنى الفلسفي.

وأما بناء على مبنى أهل الحق من ان قضايا الحسن والقبح امور واقعية يدركها العقل العملي على حد ادراك الامكان والوجوب والاستحالة للعقل النظري ، بناء على هذا هنا اسئلة :

٢٥٠

السؤال الأول : هل إن حكم الشارع ملازم حتماً مع هذا الأمر الواقعي الذي هو عبارة عن الحسن والقبح ، أو ليس هناك ملازمة بينهما؟ وبتعبير آخر هل إن الحسن والقبح الواقعي يكون ملاكاً تام الملاكية للحكم الشرعي ، أو لا؟

السؤال الثاني : إنه لو فرض انه لا يلازم حكم العقل حكم الشرع ، فهل ينافيه او لا؟ هذا السؤال عكس السؤال الأول.

أما السؤال الأول فجوابه : لا يلازم حكم العقل حكم الشرع وذلك لأن هذا الامر الواقعي المدرك وهو الحسن والقبح له محركية بمقدار ما يستتبعه من استحقاق المدح والذم ، أو استحقاق الثواب والعقاب بالتعبير الاصطلاحي ، بهذا المقدار يكون له محركية سواء جعل الشارع حكماً على طبقه أو لم يجعل الشارع حكماً على طبقه ، وحينئذٍ فيرى مقدار اهتمام الشارع بحفظ هذا الواجب الاخلاقي ، فإن فرض ان اهتمام الشارع بحفظ هذا الواجب الأخلاقي كان بمقدار ينشأ عنه محركية مثل ما ينشأ من المحركية الذاتية للقضية الواقعية ، بحيث لا يريد أكثر من هذا المقدار فلا موجب له إلى جعل آخر.

وإن فرض ان اهتمامه اكثر من هذا المقدار بحيث ان القضية الواقعية بذاتها تحرك بمقدار خوف خمسين سوطاً ، واهتمام الشارع بمقدار بحيث إنه يستعد لمعاقبة هذا الانسان بمائة سوط وتهديده بمائة سوط لأجل تجنيب هذه المعصية الاخلاقية ، فحينئذٍ يجعل الحكم لا محالة في المقام ، اذ بجعله للحكم يتأكد الواجب الاخلاقي ، اذ يكون هذا مطبقاً لعنوانين لا محالة ؛ يكون مطبقاً للعنوان الأول ويكون مطبقاً لعنوان حق الطاعة فيكون جامعاً لحقين عقليين ولحسنين عقليين ، أو لقبحين عقليين ، وحينئذٍ كلما تأكد الحسن ، أو كلما تأكد القبح تأكد استحقاق المدح واستحقاق الذم لا محالة ، اذاً فحكم الشارع هنا وظيفته تأكيد الداعوية والمحركية ، فمتى ما تعلق غرض المولى بتأكيد الداعوية والمحركية لأجل شدة اهتمامه بالمطلب يجعل حكماً ، ومتى لم يتعلق غرضه بذلك ، وكان هذا المقدار الذاتي والتكويني من المحركية للقضية بوجودها الواقعي كافياً ومناسباً

٢٥١

لدرجة اهتمام المولى فلا يجعل الشارع حكماً على طبق حكم العقل ، فإن اهتمام الشارع له مراتب مختلفة ، وقد تكون مرتبة من العقاب كافية بالنسبة الى سنخ من الفرض ، ولا تكون تلك المرتبة كافية بالنسبة الى سنخ اعم من الفرض.

ولهذا قد يتصور بالنسبة الى الاغراض المهمة جداً انه ينزل العقاب في الدنيا قبل الآخرة لأن الانسان الدنيوي ينفعل بالعقاب الدنيوي اكثر من العقاب الأخروي ، فحينئذٍ لا ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

ومن هنا نعرف جواب السؤال الثاني ، وهو انه هل هناك منافاة أو لا يكون هناك منافاة؟ قد يتوهم المنافاة باعتبار ان حكم الشارع هنا لغو ، لان الشارع يريد ان يحكم لأجل ان تكون معصيته قبيحة لأجل ان يحكم العقل بوجوب الامتثال حتى يكون محركاً للعبد ، وهذا الداعي العقلي موجود قبل ذلك.

هذا التوهم ارتفع ببركة ما قلناه ، وذلك لأن الحكم الشرعي هنا يكون موجباً لتأكد ملاك الحكم العقلي ، لانه يجتمع حقان عقليان حينئذٍ ، وحسنان عقليان ، أو قبحان عقليان ، ولا محالة حينئذٍ بتأكد استحقاق المدح ، ويتأكد استحقاق القدح ، اذاً فلا يكون جعل الحكم الشرعي لغواً في المقام ، فميزان المطلب هو هذا أي انه في موارد العقل العملي يدور جعل الشارع وعدم جعله للحكم مدار مقدار اهتمامه بحفظ هذا الغرض ، فان كانت درجة اهتمامه بحفظ هذا الغرض بنحو بحيث يكفي فيه هذا المقدار من المحركية الذاتية التي بطبع القضية الواقعية فلا حاجة فيه الى جعل الحكم من جديد ، وإلا فيجعل الحكم لأجل ان ينطبق على الفعل عنوان حق الطاعة ، وحينئذٍ يتأكد الواجب الاخلاقي ، ويشتد حينئذٍ المدح والقدح ، وبالتالي تتأكد الداعوية والمحركية ، هذا هو ما ينبغي ان يقال على وجه لف النكات يعني على وجه التأكيد على النكات الاساسية في المطلب لبيان الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، فاتضح بما قلناه انه لا ملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

إلّا أن عدم الملازمة بالمعنى الذي قلناه ليس معناه أن الانسان اذا عصى الواجب الاخلاقي يكون في مأمن من ناحية العقاب لأجل عدم وجود الحكم.

٢٥٢

الشرعي ، ليس نفي الملازمة على مبنانا يساوي في النتيجة نفي الملازمة على المبنى الفلسفي بأن يكون الانسان مطلق العنان ، بأن يقال : افرضوا ان العقلاء تطابقوا على المدح والذم ، انا لست عبداً للعقلاء ، انا عبد الله ، لم احرز انه تطابق معهم على المدح والذم لان ملاك التطابق هو كونهم ذوي مصلحة ، وهذه الحيثية غير موجودة بالنسبة الى الله ، فنتيجة نفي الملازمة على المشرب الفلسفي هو جواز اقدام الانسان على ارتكاب القبائح العقلية ما لم يرد دليل من قبل الشارع على تحريمها ، هذا نتيجة النفي على المشرب الفلسفي.

وأما نتيجة النفي على المشرب الحق فهو انه مجرد القضية الواقعية تكفي في مقام المحركية ، وفي مقام تسجيل العقاب وتسجيل الثواب من قبل الله تعالى ، نعم لا بأس بجعل الحكم فيما اذا فرض ان المولى اراد تأكيد الداعوية ، واراد الاثابة بوجه آكد والمعاقبة بوجه آكد ، فنفي الملازمة يختلف اثره على المشرب الفلسفي وعلى المذهب المختار. هذا تمام الكلام في العقل العملي بكلا مقاميه.

المرحلة الثالثة : هي دعوى قصور الدليل العقلي بحسب عالم الحجية بمعناها الاصولي أي المنجزية والمعذرية ، وفي هذه المرحلة يفرض ان الاخباري قطع النظر عن عالمي الجعل والاستكشاف ، وسلم حصول القطع من الدليل العقلي ، إلا أنه يدعي عدم معذرية هذا القطع الناشئ من العقل.

وتقريب دعواه بأحد وجهين : إما بدعوى نهي الشارع اتباع القطع القائم على اساس الدليل العقلي بعد فرض حصوله ، أو بدعوى نهي الشارع قبل حصول القطع عن الخوض في المقدمات العقلية لاستنباط الاحكام الشرعية ، وهذا النهي يفرض كونه طريقا بداعي التحفظ على الاغراض المولوية التي يعلم المولى فواتها للخائضين في تلك المجالات ، وهو وإن كان يسقط بالعصيان عند الخوض في المقدمات العقلية واستنباط الاحكام الشرعية منها ولكنه يكون منجزاً للواقع ، فلو علم المكلف عن طريق العقل بحرمة ما هو واجب واقعاً فتركه عوقب على ترك الواجب ؛ لأنه وإن كان مضطراً بعد حصول القطع بالحرمة الى الترك عقلاً ، ولكنه اضطرار بسوء الاختيار المنهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار ، ومن

٢٥٣

المعلوم ان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار.

ويختلف هذان التقريبان من عدة وجوه : منها شمول التقريب الأول لما اذا حصل القطع بلا سبب عقلي كما في قطع «ابان» في دية اصابع المرأة بخلاف الثاني فانه لا مجال له في هذا الفرض. والتحقيق ان الاول غير معقول ثبوتاً ، والثاني وإن كال معقولاً ثبوتاً ، ولكنه لا دليل عليه اثباتاً.

فالكلام يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في استحالة المدعى في التقريب الأول ، ولهذه الاستحالة بيانان ، احدهما : مناقضة النهي والردع عن العمل بالقطع لحق المولوية ، وهذا الوجه مبني على تنجيزية حق المولوية فلا يتم إلزام الاخباري لو ادعى كون الحكم العقلي معلقاً على عدم مجيء الترخيص من قبل الشارع. ثانيهما : أن النهي إما حقيقي أو طريقي ، وكلاهما غير معقول في المقام.

أما الحقيقي فلأجل التضاد بين الاحكام الحقيقية باعتبار مبادئها بقطع النظر عن ثبوت حق المولوية وعدمه.

وأما الطريقي فهو حيث إنه ينشأ بملاك التحفظ على النكات التي يتسبب القطع العقلي بفواتها ، فمرده في الحقيقة الى ايجاد الاحتياط بلحاظ تلك النكات ، ومن الواضح ان ايجاب الاحتياط بلحاظ نكتة لا يعقل جعله في حق من يقطع بعدم كون المورد من موارد تلك النكتة ، فلا يترتب الأثر المرغوب من الحكم الطريقي على جعله في المقام ، ويكون لغواً وبالتالي محالاً.

فاتضح ان القطع مما لا يمكن الردع عنه وفاقاً لمشهور الاصوليين على اختلاف بيننا وبينهم في تفسير حجية القطع وتحقيق جوهر هذه المسألة ، وقد أشرنا الى هذا الاختلاف الجوهري بيننا وبينهم في اول بحث الأدلة العقلية. وهذا الاختلاف هو احد الاختلافات الاساسية بين الفكر الاصولي الجديد والفكر الاصولي المتعارف ، لأن الفكر الاصولي المتعارف في باب الأدلة العقلية أي في ابواب القطع والظن والشك يقوم على قاعدتين متقابلتين ثابتتين بملاك واحد ، وهما

٢٥٤

قاعدة حجية القطع ، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وأثر هاتين القاعدتين واضح في طريق التفكير الأصولي في تمام ابحاث الأدلة العقلية.

ففي القاعدة الأولى قرر المشهور ان الحجية من اللوازم الذاتية للقطع ؛ لأن كل ما بالعرض ينتهي الى ما بالذات ، وكل حجة بالعرض لا بد من انتهائه الى ما بالذات ، وهو القطع ، وترتب على هذه القاعدة انه ما دام القطع هو المنجز والحجة فحيث لا قطع ولا بيان لا تنجز ولا عقاب ، وهكذا وضعت القاعدة الثانية ، وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فالقاعدتان معاً يعبران عن ملاك واحد ، احدهما يعبر عن وجهه الايجابي والآخر عن وجه السلبي ، وعلى اساس هاتين القاعدتين بحثوا سائر مسائل مباحث القطع ، والظن ، والشك ، ومن هنا وقعوا في حيرة في مقام التوفيق بين هاتين القاعدتين وبين تنجز الاحكام الواقعية بالامارات الظنية ، وما اليها من منجزات في حال الشك مع انه لم يتم ما هو حجة بالذات ، ولم يتبدل اللابيان الى البيان ، وكان آخر ما تمخض عنه التفكير الاصولي المتعارف هو حل الاشكال بجعل الطريقية ، واعتبار غير البيان بياناً ، فيكون حاكماً على القاعدة الثانية باخراج المورد منه ، وعلى القاعدة الأولى بادخال المورد فيها.

ونريد من هذه التوضيحات كلها ان نبين تسلسل التفكير الاصولي المتعارف وكيفية ابتنائه على تلك القاعدتين ، الأمر الذي جرَّ عليه تلك المشاكل المشار اليها نتيجة لالتزامه بحرفية تلك القاعدتين ، ولأجل هذا كان انكارنا للجوهر المشترك لتلك القاعدتين ، وتبديل طريقة التفكير احد المظاهر الرئيسية للاختلاف بين الاصوليين ، وتفصيل ذلك سبق في اول مباحث القطع ، وقد اوضحنا هناك انه لا معنى للتكلم في حجية القطع ، ودعوى كونها لازماً ذاتياً له ، اذ في المرتبة السابقة على اثبات الحجية للقطع بتكاليف المولى اما ان يفرغ عن ثبوت المولوية للمولى المساوق لحق الطاعة وإما ان لا يفرغ عن ذلك بحيث يراد اثباته في نفس مسألة حجية القطع باثبات حجية القطع ، فان لم يفرغ عن مولوية المولى في الدرجة السابقة ، ولم يعترف له بحق الطاعة فلا اثر للقطع بتكاليفه ، وان فرغ عن ذلك في الرتبة السابقة فلا بد ان ينظر الى مقدار سعة دائرة حق الطاعة الذي فرغ عنه ، فهل

٢٥٥

يفرض في المرتبة السابقة حق الطاعة في خصوص المقطوعات من تكليفه ، أو ما يعم المظنونات او المشكوكات أو بأي نحو يتصور ، فمع فرض شمول الدائرة للمقطوعات يثبت حينئذٍ وجوب الجري على طبق التكليف المقطوع به بنفس سعة الدائرة وشمولها للمقطوعات في الرتبة السابقة بلا حاجة الى استئناف القول بعد ذلك والبحث في حجية القطع.

كما أنه بهذا البيان يعرف ايضاً ان مصير قاعدة قبح العقاب بلا بيان مرتبط بمقدار سعة تلك الدائرة لحق الطاعة في الرتبة السابقة ، فان فرض شمولها لغير المقطوعات من المظنونات مثلاً ، أو المظنونات والمحتملات كان حال غير القطع حال القطع ولم يبق مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ومنه يظهر ايضاً ان تلك المشكلة العويصة التي اشرنا اليها ليست إلا تخيل مشكلة ، لأن مرجع تنجيز الواقع بالامارات الظنية أو بالاحتمال في موارد جعل الاحكام الظاهرية الى سعة دائرة حق المولوية ، لا الى الحكومة بمجرد الجعل والاعتبار على القاعدتين المشهورتين ، ونحيل الكلام في تفصيل اصل المطلب الى ما سبق في اول الدورة ، ونحيل الكلام التفصيلي في هذه المشكلة العويصة التي وقعت في الفكر الاصولي المتعارف الى بحث الاحكام الواقعية والظاهرية ان شاء الله تعالى. هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

الجهة الثانية : ومرجعها الى البحث الاثباتي في مدعى الاخباري بتقريبه الثاني ، وهو دعوى النهي السابق عن الخوض في المقدمات العقلية لاستنباط الاحكام الشرعية ، وتفصيل الكلام في ذلك ان ما يتصور كونه دليلاً للاخباري على هذا النهي ولو بدواً طوائف من الاخبار.

منها : ما دل على عدم جواز الحكم بغير ما انزل الله.

ومنها : ما دل عدم جواز الحكم والقول بلا هدى ، أو بلا علم ، أو بدون حجة.

ومنها : ما دل على عدم جواز الاستقلال عن الأئمة (ع) في مقام استنباط الاحكام الشرعية ، بدعوى ان الاكتفاء بالاستقلال العقلي في مقام استنباط الحكم

٢٥٦

الشرعي استقلال عنهم.

ومنها : ما دل على عدم قبول اعمال تارك الولاية.

ومنها : ما دل على النهي أو عدم معذورية الشخص في الاستناد الى الرأي بدعوى التمسك باطلاق الرأي للأدلة العقلية القطعية.

والتحقيق انه لا يمكن الاستدلال بواحدة من هذه الطوائف ، أما الأولى والثانية فلأن الدليل العقلي القطعي يخرج مورده عن موضوعها ، ويكشف عن أنه مما انزله الله ، ويكون القول به قولاً بهدى. وأما الطائفة الثالثة فلا يثبت بها مقصودهم ؛ لأن الاستدلال بالدليل العقلي لا يكون استقلالاً عنهم (ع) بعد فرض الرجوع اليهم في معرفة جواز الخوض في المقدمات العقلية. وأما الطائفة الرابعة فهي اجنبية عن محل الكلام ومتعرضة لعدم اثابة من لا يدين بإمامة الأئمة (ع) ، والاستدلال بالدليل العقلي لا يلازم عدم التدين بولايتهم ، عليهم‌السلام.

وأما الطائفة الخامسة فيرد على الاستدلال بها ، مضافاً الى امكان دعوى الجزم بارادة الظن من كلمة الرأي بقرينة الاطلاع على الظروف التاريخية للمسألة ، وتداول كلمة الرأي في تلك الظروف بالمعنى الاصطلاحي الذي كان عليه اصحاب القياس والاستحسان ، كما تشير اليه جملة من الروايات الواردة في الباب خصوصاً مع ما يظهر من نفس روايات الرأي من التعبير تارة بالرأي ، واخرى بالقول بلا علم ، ما يؤيد كون المراد بالرأي ما يساوق بلا علم.

أقول : مضافاً الى ذلك لو سلم وقوع اطلاق في الكلمة فهو معارض بطائفتين من الاخبار : احداهما : الطائفة الدالة على حجية العقل ، والأخرى : الطائفة الدالة على معذرية العلم وجواز القول بعلم.

أما الطائفة الاولى فقد يجمع بينها وبين اخبار الرأي بأحد وجوه :

الأول : ان يقال بتعارضهما على نحو التساوي بجعل العقل والرأي بمعنى واحد للقطعي والظني ، ويلتزم بانقلاب النسبة بينهما بعد اخراج الظن من مطلقات حجية العقل بالأدلة الخاصة الواردة في خصوص الظنون القياسية ، والاستحسانية ،

٢٥٧

والتخمينية ، ويكون حينئذٍ ما دل على حجية العقل اخص مطلقاً بعد التخصيص مما دل على عدم جواز الرأي ، وهذا الوجه غير تام ، لعدم التساوي بين العنوانين ، كما ستعرف.

الثاني : هو ان نقول بأن عنوان العقل اخص مطلقاً ، وذلك اما لظهوره عرفاً ابتداءً في خصوص القطعي منه ؛ وإما باعتبار ان الاعتماد على العقل يساوق الاعتماد على خصوص القطعي منه لان العقل بنفسه يحكم بعدم جواز الاعتماد على الظن ، فتتقدم روايات العقل على روايات الرأي بالتخصيص ، فيفصل حينئذٍ بين الظني والقطعي ، وبهذا البيان ظهر بطلان الوجه الاول ، إلا أنه هو في نفسه غير صحيح ، بل الصحيح هو الوجه الثالث.

الثالث : وهو ان نقول بأن النسبة بين الطائفتين هو العموم من وجه ، ومادة الافتراق من جانب الرأي هو الرأي الظني لما عرفت من اختصاص روايات حجية العقل بخصوص القطعي ، ومادة الافتراق من جانب العقل هو العقل البديهي أو ما يقرب منه من حيث المأخذ فانه لا يصدق عليه الرأي الظاهر عرفاً في إعمال النظر والفكر ، ومادة الاجتماع هي العقل القطعي غير البديهي ، وبعد التساقط لا يبقى دليل على النهي الذي يدعيه الاخباري ، ولكن الشأن في صحة سند هذه الطائفة من الاخبار الدالة على حجية العقل ، فان ما وجدناه في باب العقل من اصول الكافي ، إما غير تام الدلالة ، أو غير تام السند.

ولهذا كان الاهم ايقاع المعارضة بين اخبار الرأي وبين الطائفة الثانية الدالة على جواز التدين والقول بعلم لأجل حجية سندها ، والمعارضة بينهما بنحو العموم من وجه لاجتماعهما في العقل القطعي ، وافتراق اخبار الرأي بالعقل الظني ، وافتراق اخبار العلم بالقطع الناشئ من الأدلة اللفظية ، وبعد التساقط لو سلم التساقط لا يبقى دليل على مدعى الخصم.

بقي هنا تنبيهان :

الأول : في قطع القطاع.

٢٥٨

والثاني : في الفروع التي استدل الاخباريون بها على ان في الشريعة الاسلامية احكاماً ظاهرية أو واقعية تنافي العلم التفصيلي ، وهو معنى سلخ القطع عن الحجية.

التنبيه الأول

في قطع القطاع

وقع في عناوين مسائلهم ان قطع القطاع هل يكون حجة أو لا يكون حجة ، بعد الفراغ عن انه لا اشكال من حيث قطعه الموضوعي ، يعني لو فرض ان هناك حكماً شرعياً كان مترتباً على عنوان القطع ، بحيث كان القطع موضوعاً للحكم الشرعي ، لا طريقاً اليه لا اشكال في امكان شمول الموضوع لقطع القطاع ، ولا بد في شموله وعدم شموله من ان يرجع الى جعل الجاعل ، وملاحظة جعله.

وانما وقع الكلام في حجية القطع الطريقي من القطاع المعروف بين المحققين بحجية قطع القطاع ، باعتبار ان حجية القطع ذاتية له ، فيستحيل ان يكون هناك تخصيص في قاعدة حجية القطع. كل قطع حجة ذاتاً ، وهذا ايضاً قطع طريقي ، فتكون الحجية ذاتية ولازمة له حتماً.

والتحقيق في المقام : أن قطع القطاع بعد فرض حصوله حجة ، ولا يمكن للشارع الردع عنه بعد ذلك بلا اشكال ، والكلام فيه هو الكلام في القطع الناشئ من الدليل العقلي ، ويأتي فيه ما قربناه هناك من عدم امكان الردع عن العمل بالقطع وحتمية حجيته ، لكن بالبيان الذي نحن بيّناه ، لا بالبيان المشهوري.

نعم هنا بحث ، وهو انه هل يمكن للشارع الردع والنهي عن الخوض في المقدمات التي توجب سرعة حصول القطع أم لا؟ وهذا معنى آخر لحجية القطع ، وهو ان الشارع لم ينه عن الخوض في المقدمات المنتهية الى القطع.

كما عرفنا في البحث مع الاخباريين ان سلب الحجية عن القطع له معنيان : تارة ، يكون معناه النهي عنه بعد حصوله.

واخرى : يكون معناه النهي عن الخوض في مقدمات تحصيله.

٢٥٩

هنا النهي بالمعنى الاول يعني النهي عن قطع القطاع بعد حصوله امر غير معقول ، حاله حال سائر القطوع الطريقية.

وأما النهي السابق بمعنى ان قطع القطاع حيث انه ينشأ غالباً من الغفلة واعتياد الغفلة ، وكثرة الاشتباه ، فقد يفرض في كثير من الموارد ان هذه الحالة التي هي مبدأ نشوء سرعة القطع عنده قابلة للتخفيف والمعالجة ، بحيث يكون تخفيفها تحت الاختيار ، حينئذٍ يقع هنا بحث ، وهو انه هل لا بد لهذا القطاع تخفيف هذه الحالة ومعالجتها في نفسه أو لا؟

هنا تارة نفرض ان القطاع غير ملتفت الى وجود هذه الحالة وأخرى نفرض التفاته لهذه الحالة ، كما يتفق كثيراً ، فان كثيراً من الناس يعرف اجمالاً انه هو كثير الغفلات ، وكثير الاشتباهات ، وانه لا يستوعب في كثير من الموارد تمام النكات ، هذا المطلب يعرفه القطاع إلا أنه في مقام اعمال النظر خارجاً يبتلي بالغفلة ، اذا فرض ان القطاع لا يعرف هذه الخصوصية في حاله ، اذاً لا اشكال في عدم امكان تكليفه لا عقلاً ولا شرعاً بمعالجة هذه الحالة في نفسه ؛ لانه غير ملتفت الى وجودها في نفسه ، حتى يتكلم في انه هل يجب عليه علاجها وتخفيفها؟ أو لا يجب؟

وأما لو فرض انه كان ملتفتاً الى وجود هذه الحالة عنده ، فحينئذٍ قد يقال بوجوب معالجة هذه الحالة عليه لكن لا شرعاً بل عقلاً.

وما يمكن ان يكون تقريباً لذلك هو دعوى حصول العلم الاجمالي في كثير من الموارد لهذا القطاع ، فان هذا القطاع قبل شروعه في قطوعه هذا كثيراً ما يعلم اجمالاً بانه سوف يتورط في مخالفة الواقع نتيجة لملكة الغفلة والاشتباه الموجودة عنده ، فيحصل له العلم الاجمالي بانه لو ابقى هذه الغفلة على حالها ولم يمرن نفسه على الالتفات ، ولم يعالج نفسه بالمقدار الاختياري له فانه سوف تفوته اغراض مولوية لزومية نتيجة لا بقاء هذه الغفلة ، ؛ إذ مع ابقاء هذه الغفلة يحصل له القطع بعدم وجوب كثير من الواجبات فيتركها بحسب الخارج ، فيفوته بذلك الغرض المولوي اللزومي.

٢٦٠