جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

إطلاقا ؛ لأن ثبوت كل حد اكبر للحد الاوسط وكل حد أوسط للحد الأصغر إن كان بديهياً امتنع وقوع الخطأ في الكبرى والصغرى معاً ، كما امتنع وقوع الخطأ في تطبيق الأكبر على الأصغر ، أي النتيجة ببداهة الشك الأول من القياس وضمان انتاجه ذاتاً ، وإما أن يكون ترتيب الحد على الحد الذي يليه مباشرة نظرياً مكتسباً فهو محال ، لأننا كما عرفنا ان اكتساب حد من حد إنما يكون بواسطة الحد المتوسط بينهما ، أي انه لا يكون إلا بقياس ، والقياس يحتاج الى حد متوسط ، وهو خلف ما فرضناه من كون الحد الثاني تالياً للحد الأول مباشرة.

فالبرهنة على ثبوت أي حد للحد الذي يليه واكتساب هذا الثبوت عن طريق القياس أمر غير معقول ، فلا بد ان نفترض لكي ندخل في القائمة امكان الخطأ ان تطبيق بعض الحدود على ما يليها قضية عقلية من نوع ثالث لا هو بالبديهي المضمون ذاتاً ، ولا هو بالنظري المكتسب المضمون بالعرض منطقياً ، وهذا النوع الثالث من الجزم أو من العقل هو المصدر الخطير للأخطاء الواقعة في المعرفة البشرية ويترتب على ما قلناه أمور :

الأول : ان العقل النظري لو فرض من النوع الثالث من العقل لما بقيت عندنا إلا تلك الحدود المتدرجة التي يكون ثبوت كل حد فيها لما يليه بديهياً غير مكتسب ، وحينئذٍ تكون جميع القضايا مضمونة ، إما بالبداهة مباشرة كتطبيق حد على ما يليه ، أو بواسطة الشك الأول من القياس البديهي الانتاج بواسطة تطبيق حد على ما هو متأخر عنه بمرتبتين في قوس النزول ، ولا يبقى مجال للخطإ في العقل إلا من ناحية الذهول الاستثنائي ، أو عدم تصور اطراف القضية ، فان الحكم البديهي لا يكون إلّا بعد تصور الاطراف ، فان عدم تصور اطراف قضية حدية يؤدي الى عدم ادراكها ، وبالتالي الى عدم ادراك الحد الاوسط لما يتلوها من الحدود ، وهذه المناشئ للخطإ نادرة جداً. وعلى هذا الاساس يمكن بتجاوز هذه الندرة ضمان حقانية العقل النظري بعد استثناء النوع الثالث منه ، ولهذا كانت الرياضيات يقينية لان الحدود فيها كلها بديهية تصديقاً بعد فرض التصور وثبوت كل حد لما يليه أي كل كبرى للصغرى التي تليها مباشرة بديهي أيضاً ، وتطبيق الكبرى على القضية الاكثر

٢٠١

صغروية المتأخرة عنها بمرتبتين يكون بديهياً ، أي نتيجة للشكل الأول من القياس البديهي الانتاج.

الأمر الثاني : في بيان امثلة للنوع الثالث من العقل ، وهنا نكاد إذا استثنينا الرياضيات والمنطق نجد هذا النوع الثالث في جميع العلوم الأخرى ، ففي العلوم الطبيعية مثلاً يستنتج العالم الطبيعي أن حركة الجزئيات علة للحرارة بهاتين المقدمتين. لو لم يكن ألف علة لباء لم يكن لباء علة اطلاقاً ، ولكنه له علة بمقتضى قانون العلية اذاً فألف علة باء ، والمقدمة الثانية من الدليل تعبر عن مبدأ من مبادئ العقل الأول ، أو العقل المكتسب منه اكتساباً منطقياً مباشراً ، وأما الصغرى فانما هي تثبت لدى المدعي باعتبار جزمه بانه فحص ولاحظ كل ما يحتمل كونه علة لباء فوجده لا يستتبع باء حال عدم وجود الف ، ولا يتأثر ولا يؤثر عدمه في استتباع الف لباء.

ومن الواضح ان جزمه بأنه لا يوجد بعد هذا شيء آخر لم يبحثه في تجاربه ، ولم يستطع عزله عن ألف ليرى مدى تأثيره على باء ليس بديهياً ؛ لأنه مما يقع فيه الخطأ كثيراً كما يشهد بذلك تاريخ العلوم الطبيعية ، كما انه ليس مكتسباً برهانياً وبطريقة القياس من البديهيات لعدم وجود الحد الاوسط ، وإلّا لنقلنا الكلام اليه ، فهو اذاً جزم عقلي من نوع ثالث لا هو مضمون ذاتاً ، ولا هو مضمون عرضاً بالمنطق ، وكذلك الحال ايضاً في مختلف الاستنتاجات في العلوم الطبيعية ، ويمكننا ان نمثل ايضاً في الجزم العقلي القائم على اساس حساب الاحتمالات الذي هو مرد الجزم في الحقيقة في باب المتواترات التي عدت في المنطق الارسطي من مواد البرهان اليقينية ، وهناك امثلة من الفلسفة ايضاً.

الأمر الثالث : ان هذا النوع الثالث من العقل غير المضمون هو من ناحية أوهن من العقلين السابقين لأنه غير مضمون لا ذاتاً ولا عرضاً ، ومن هنا كان المصدر الخطير لكثرة الخطأ ، ويمتاز من ناحية أخرى بانه يكسب معرفة جديدة لذلك المعنى الذي نفيناه عن العقل المكتسب ؛ أي انه ليس مجرد تفصيل مجمل ، بل هو تخطي ميدان الى ميدان ، والعبور من حقيقة الى حقيقة اخرى غير كامنة في الحقيقة الاولى

٢٠٢

كمون الجزئي في الكلي.

الأمر الرابع : بهذا البيان الذي حققناه يمكن معرفة وجه الحق في الخصومة القائمة بين المنطق الارسطي المعروف وبين مدارس المنطق الحديث ؛ فان ذلك المنطق بضمانه ، أو بدعوى ضمانه للعقل النظري إن أراد ضمانه بالمعنى الذي يشمل النوع الثالث لعدم التمييز بين النوعين فهو ضمان لا مبرر له ، وإن اراد ضمان خصوص ما هو مكتسب مما لا يمت الى العقل الثالث فهو ليس ضماناً للعقل النظري على الاطلاق ، ولا ضماناً في مقابل كثرة الاخطاء الملحوظة للجميع ، لأن كثرة الاخطاء مردها النوع الثالث من العقل.

كما ان انصار الاتجاه الحديث قد أخطئوا في دعوى ارجاع تمام مدركات العقل الى التجربة وإلى الاستقراء الذي ينتج عنه انتسابها جميعاً الى النوع الثالث من العقل ، فان استنتاج النتائج في مجال التجربة دائماً يتوقف على ضم كبريات مأخوذة من العقل البديهي أو المكتسب ، كما أوضحنا ذلك في محله ، وأخيراً تبين مما ذكرناه بيان آخر في رد شبهة الاخباري وتمسكه بكثرة الخطأ بما عرفنا من عدم كثرة الخطأ في خصوص العقل النظري المكتسب ، فيمكن تكوين الدليل العقلي منه لاستنباط الحكم الشرعي. هذا تمام ما أردنا الاشارة اليه في العقل النظري.

وخلاصة ما ذكرناه فيما يتصل بالعقل النظري هو التصنيف الثلاثي للعقل النظري.

العقل الأول المشتمل على المبادئ الأولى في العقل البشري ، وهو مضمون الصحة ضماناً ذاتياً لبداهة مبادئه وقضاياه التي يشتمل عليها ، وليس للمنطق الصوري أي دور ايجابي بالنسبة الى هذا الضمان.

والعقل الثاني هو العقل النظري المكتسب من العقل الأول ، وهذا العقل مضمون بالعرض ، والضامن له هو العقل الأول ، ولكن هذا الضمان بالعرض الذي يكفل حقانية العقل المكتسب انما يكون بشرطين : أحدهما عدم الذهول ، ونعني بالذهول تلك الحالة الاستثنائية التي قد تطرأ على الانسان وتؤدي الى غفلته عن

٢٠٣

بديهياته وما هو قريب من البديهي ، والشرط الآخر هو تصور الحدود في قائمة العقل النظري تصوراً يستوعب تمام موضوعات تلك الحدود ومحولاتها ، ففي حالة عدم الذهول والتصور المستوعب يكون العقل المكتسب حقانياً مضموناً بالعرض وبسبب العقل الأول ، فصناعة المنطق بوصفها صناعة لا دخل لها في هذا الضمان عند توفر كلا الشرطين وإنما هي بوصفها الصناعي تقوم بوقاية الشخص إلى حد ما عن الذهول أو اختلاط الحدود عليه تصوراً ، وهذه الوقاية ليست الى درجة الضمان والعصمة فانما هي ضمانة الى حد ما يختلف باختلاف مدى تمكن الفرد من الصناعة المنطقية والصناعة التي يمارسها ويطبق المنطق عليها ، فمضمون المنطق بوصفه قضايا يشترك في عملية الضمان بالعرض لما يستنبط منه عند توفر الشرطين ، وأما بوصفه صناعة فهو يقي من اختلال هذين الشرطين وقاية ناقصة.

وهناك عقل ثالث ليس مضموناً بالذات ، ولا بالعرض ، ولا مكفول الحقانية بالمنطق الصوري الأرسطي ، لا باعتباره قواعد وقضايا ، ولا باعتباره صناعة ، ان هذا العقل كما عرفنا يفقد كل تلك الضمانات الذاتية والعرضية والوقاية المستمدة من صناعة المنطق. وهذا العقل الثالث هو مسار الخطأ على الغالب ، وفيه يدخل العقل القائم على اساس التجربة ، والعقل القائم على أساس النقل ، والعقل القائم على أساس حساب الاحتمالات على تفصيل في ارجاع بعض هذه المصادر الى بعض.

وهذا العقل الثالث قد استعمل في علم الاصول ايضاً كما في بحث التواتر ، وبحث الاجماع ، وبحث الشبهة الغير المحصورة التي برهن فيها على جواز اقتحام بعض الاطراف بتقريب يرجع بالتحليل الى حساب الاحتمالات والمبرهن هو المحقق العراقي (قده). ان تفكير الاصولي في هذه المجالات يقوم على اساس العقل الثالث. ولأجل هذا ، ولأجل ان هذا العقل الثالث لم يكن ملحوظاً في المنطق الارسطي بشكل مباشر ، ولا في علم الاصول منذ ولد حتى الآن ، نجد من الضروري ان نبحث قواعد هذا العقل وطريقة الاستدلال فيه ، وان نرجعه الى اصوله ، وان نرى مدى ما يمكن من التحرز عن الخطأ فيه ، وبتعبير آخر ان وضع منطق لهذا العقل الثالث يقي من الخطأ فيه حينما نريد ان نستدل به كأصوليين وقاية المنطق

٢٠٤

الصوري من الخطأ في العقل المكتسب ان وضع ذلك في حدود وظيفتنا الاصولية أمر لازم ، ويمكن لهذا الاصولي اذا وفقه الله ان ينهض بذلك في يوم ما.

وأما العقل العملي فالكلام في قصوره من حيث عالم الاستكشاف عن اثبات حكم شرعي به يقع في مقامين :

الأول : في بحث العقل العملي نفسه.

الثاني : في بحث ذلك القانون الذي يجب اضافته من العقل النظري الى العقل العملي في عملية استنباط الحكم الشرعي ، كقانون الملازمة كما عرفنا في المقدمة الثانية.

المقام الأول

إن العقل العملي موضوع اهتمام كبير عند المنطقي بوصفه نوعاً من الادراك ، ومادة من مواد القياس ، وعند الفيلسوف الذي يطلق عليه اسم الخير والشر الذي يشمل موارد الحسن والقبح ؛ فانه يدرس وجود الخير والشر من ناحية فلسفية ، وكذلك هو مهم عند المتكلم الذي يطلق عليهما أي على الخير والشر اسم الحسن والقبح العقليين ، باعتبار ارتباط ذلك بمسألة العدل الإلهي وتفسير المعاد ، وعند الاخلاقي الذي يطلق عليهما اسم الفضيلة والرذيلة ويجعل منهما القاعدة.

وخلاصة ما يستفاد من كلام الاخباريين بالنسبة الى العقل العملي هو انهم يشككون في العقل وفي قيمته لا في المعقول ، بمعنى التشكيك في قيمة الادراك العقلي للحسن والقبح على حد التشكيك في قيمة ادراك العقل النظري للامكان والاستحالة مثلاً ، لا انكار اصل الحسن والقبح ، كما لا ينكر أصل الامكان والاستحالة ، ومن هنا يختلف الاخباري عن الاشعري ، ويختلف النزاع بين الاخباري وخصمه عن النزاع بين الاشعري وأهل العدل ، فالنزاع الاول في قيمة العقل بعد الاعتراف باتصاف الافعال في انفسها بالحسن والقبح ، والنزاع الثاني في اصل اتصاف تلك الافعال بالحسن والقبح بحيث ينكر الاشعري ثبوت خصائص من هذا القبيل للافعال في انفسها.

٢٠٥

وبقطع النظر عن اثبات هذه الخصائص في خطابات الاحكام الشرعية وان التقى الاخباري والاشعري في النهاية في عدم الاعتماد على العقل العملي فإن النزاع مع الاخباري ليس تكراراً للنزاع مع الاشعري.

نعم يمكن ان نعتبر النزاع الذي قام عند المسيحيين بعد ذلك بين اللاهوتيين الذي وقفوا موقف الاشعري من الحسن والقبح تماماً ، وبين الفلاسفة العقليين الاوروبيين الذين شابه موقفهم بشكل عام موقف العدليين من الامامية وغيرهم ، يمكن ان نعتبر هذا النزاع صورة ثانية وتكراراً للنزاع الذي وقع بين الاشاعرة وأهل العدل ، وسوف نتناول في بحوثنا المسألة من كلا جانبيها الاشعري والاخباري.

والكلام في ذلك يقع في جهتين ؛ الأولى : في الموقف النقضي ، والثانية : في الموقف الحلي.

الموقف النقضي

أما الجهة الأولى فالمعروف عادة النقض على الاشعري بالعقل العملي المعمول به في المرتبة المتأخرة عن الكتاب والسنة ؛ أي حكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية ، والنقض أيضاً بالعقل العملي المعمول به في الرتبة السابقة على الكتاب والسنة ، والواقع في طريق اثبات أحد مبادئها وهو النبوة ؛ لأن اثباتها بالمعجزة يتوقف على حكم العقل بقبح اظهار الله المعجز على يد الكاذب ، وهذا الحكم العقلي عقل عملي ، والنقضان معاً قد يوردان على الاخباري أيضاً باختلاف في التعبير.

أما النقض الأول فلا يتجه لا على الاخباري ولا على الاشعري ، بمعنى ان كلا منهما يمكنه التخلص منه مع التحفظ على مبناه في المسألة.

أما الاخباري فهو كما عرفنا يسلم بالحسن والقبح في الأفعال ولا يشكك في المعقول ، وانما يشكك في العقل ، وفي الاعتماد على الادراك العقلي لذلك ، فيمكنه اذاً مع الحفاظ على اساسه ان يظن بوجوب الطاعة وقبح المعصية ، ومجرد

٢٠٦

القضية الظنية والاحتمالية بالعقل العملي تكفي الاخباري هنا بدون حاجة الى التسليم بتمامية عالم الاستكشاف ؛ لأن القضية الاحتمالية المذكورة تؤدي الى احتمال العقاب ، واحتمال العقاب محرك ذاتي بلا توسط أي عقل عملي أو تحسين وتقبيح.

وأما الأشعري فهو وإن كان لا يمكنه دعوى القبح ولو على مستوى قضية احتمالية لأنه ينكر اصل الحسن والقبح ، ولكنه يمكنه ايضاً تتميم المحرك الذاتي بلا حاجة الى توسيط عقل عملي ، وذلك لأنه بعد ان اثبت بالعقل النظري حسب زعمه امكان صدور العقاب من المولى لأي شخص وفي كل حال فإن تأكيد هذا المولى على وجود العقاب واعلانه عن جعل هذا العقاب على المعصية يورث في حالة العقل السوي المتعارف احتمال العقاب بدون الاستعانة بحكم العَقْلُ بقبح الكذب مثلاً ، وهذا الاحتمال قضية احتمالية للعقل النظري لا للعقل العملي الذي ينكره الاشعري بتاتاً ، واحتمال العقاب محرك ذاتي كما عرفنا سابقاً ، هكذا نعرف ان القضية الاحتمالية في العقل النظري للأشعري والقضية الاحتمالية في العقل العملي للاخباري تعوضان عن الموقف الجزمي من العقل العملي ، وتغنيان عن الاعتراف بحكم العقل العملي البتي بوجوب الطاعة وقبح المعصية.

ويمكن الجواب عن النقض الأول ايضاً بتقريب آخر ، فلا يكتفى باحتمال العقاب على نحو القضية الاحتمالية في العقل النظري ، بل يقال ان بإمكان الاخباري والاشعري رفع مستوى هذه القضية الى قضية جزمية في العقل النظري دون الوقوع في تناقض مع مبانيهم واصولهم ، أما الاخباري فهو كما عرفنا لا ينكر المعقول وانما ينكر العقل أي انه يسلم باتصاف الأفعال في الواقع بالحسن والقبح ، وانما لا يثق بادراك الانسان غير المعصوم لذلك ، كما لا يثق بادراك الامكان والاستحالة مثلاً ، ويحصر مصدر الوثوق بالدليل اللفظي الوارد عن مصدر العصمة ، وعلى هذا الاساس يمكنه ان يقول : إن قبح المعصية وحسن الطاعة لا اثبته بعقل عملي مستقل ، بل بالأدلة اللفظية الدالة على قبح المعصية وحسن الطاعة ، ولا يرد على هذا ما كان يورد في النقض على الشق القائل بكون وجوب الطاعة شرعياً ، وان

٢٠٧

شرعية وجوب الطاعة بمعنى كونه مجعولاً للشارع امر غير معقول ، لأن نفس هذا الوجوب المجعول يحتاج بدوره ايضاً الى ايجاب طاعته ، وهكذا حتى يتسلسل.

واما شرعية الوجوب لا بهذا المعنى ، بل بمعنى استكشاف الوجوب العقلي والقبح الواقعي للمعصية عن طريق قضية اخبارية في الدليل اللفظي الصادر عن المعصوم بحسب مباني الاخباري ، فهذا لا يؤدي الى تسلسل ، أو أي محذور آخر.

نعم ان اصل الاحتفاظ بالدليل اللفظي مع اسقاط العقل كلية أمر غير ممكن ، ولكن هذا يرجع الى النقوض التي تقدمت على اسقاط الاخباريين للعقل النظري ، والآن انما نتكلم في النقض من ناحية العقل العملي بقطع النظر عن سائر الجهات الاخرى ، وقطع النظر كذلك يسمح للاخباري بدعوى قطعية الدليل اللفظي ، وعدم الحاجة الى الادراك المستقل لاثبات قبح المعصية واقعاً لأن قبح المعصية مما يثبت بالدليل اللفظي المعتبر اخبارياً ، فالنقض نشأ من عدم التمييز بين وجوب الطاعة شرعاً ، بمعنى جعل الشارع لهذا الوجوب ، وبين وجوب الطاعة عقلاً المستكشف عن طريق قضية اخبارية في الدليل اللفظي الشرعي ، فالمحال هو الأول دون الثاني.

وأما الأشعري فهو لا يمكنه ان يستعمل هذه الطريقة الى ان يثبت القبح الواقعي للمعصية عن طريق اخبار الشارع بدلاً عن اثبات حرمتها عن طريق جعل الشارع ؛ لأنه ينكر اصل الحسن والقبح ، فلا حسن ولا قبح في الواقع عند الاشعري ليمكن للشارع ان يخبر عنه ويدركه ، او للانسان ان يحكم به.

ولكن الأشاعرة حين ينكرون الحسن والقبح العقليين يقولون : ان المقصود نفي جهات استحقاق المدح والذم في الافعال ، لا نفي صفة الكمال والنقص عن الافعال والصفات ، أو صفة الملاءمة للنفس وعدم الملاءمة ، أو بتعبير أعم المصلحة أو المفسدة ، فان العقل النظري يدرك باعتراف الاشعري كون العلم كمالاً مثلاً ، وكون الجهل نقصاً ، كما يدرك كثيراً من المصالح والمفاسد ، فالمنفي عند الاشعري هو ان يتعقب ذلك العقل النظري عقل عملي يدرك زائداً على الكمال وذات المصلحة والمفسدة كيفية استحقاق الذم أو المدح.

٢٠٨

فعلى هذا يمكن للأشعري التخلص من النقض ، بأن يقول : اني أجزم بصدق القضية الاخبارية الشرعية التي تدل على وجوب العقاب والنار بعد الموت ، وجزمي لهذا لا يتوقف على الاعتراف بالعقل العملي الحاكم بقبح الكذب على الله تعالى ، بل يمكن البرهنة عليه عن طريق العقل النظري ، بقياس صغراه : ان الكذب نقص ، وكبراه : ان النقص مستحيل نظرياً على الواجب تعالى ، فالاثبات العقلي النظري بكلتا المقدمتين تستنتج الجزم بصدق القضية القائلة بوجود العقاب والمخبرة عنه.

وهكذا يحصل الاشعري على قضية جزمية في العقل النظري دالة على العقاب دون توسط العقل العملي ، وهذه القضية الجزمية كافية للمحركية الذاتية في عالم الامتثال. هذا هو الكلام في النقض الاول.

وأما النقض الثاني بتلك المقدمة العقلية المأخوذة من العقل العملي التي بها يكمن برهان النبوة في رأي المتكلمين ، وبدونها لا تكفي المعجزة لاثبات النبوة ، فيتلخص هذا النقض كما عرّفناه في ان العقل العملي لو لم يحكم بقبح اظهار المعجزة على يد الكاذب باعتبار كونه تضليلاً والتضليل قبيح لما انتفى احتمال كذب المدعي حتى بعد اقامة المعجزة ، فيتعذر حينئذٍ على الأشعري المنكر للعقل العملي ان يثبت النبوة.

فالجواب على ذلك اما اولاً : إن نفس هذا الاستدلال الكلامي المعروف المتقوّم بهذه المقدمة العقلية من العقل العملي ، وان كان هو الاستدلال الرسمي لعلم الكلام منذ وجد وحتى الآن ، ولكنه يستبطن بنفسه فرض دليلية المعجزة على النبوة في المرتبة السابقة على المقدمة العقلية التي بها قوام الاستدلال.

بيان ذلك : انه في المرتبة السابقة على ضم المقدمة العقلية القائلة بقبح اظهار المعجزة على يد الكاذب ، وبقطع النظر عن هذه المقدمة ، إما أن تكون المعجزة التي وقعت على يد مدعي النبوة دالة في نفسها على نبوته ، وإما أن لا تكون؟.

فإن فرض ان المعجزة في المرتبة السابقة على ضم المقدمة العقلية دالة على النبوة ، فقد ثبت وجود الدليل على النبوة قبل ضمن المقدمة العقلية وبلا حاجة اليها ،

٢٠٩

فيمكن للخصم المنكر للمقدمة العقلية العملية ان يدعي التمسك بتلك الدلالة التامة في المرتبة السابقة ، وصحة الاعتماد عليها ، ويكون ضم المقدمة العقلية حينئذٍ بحسب التحليل ضم شيء الى الدليل ، لا ضم شيء الى شيء ليكتمل الدليل.

وإن فرض ان المعجزة في المرتبة السابقة على ضم المقدمة العقلية غير دالة على النبوة وصدق الدعوى فلا يمكن تتميم الدليل بضم المقدمة العقلية ، اذ بعد فرض ان المعجزة في حد نفسها لا تدل على النبوة فلا يكون السماح بظهورها من قبل الله تعالى على يد الكاذب تضليلاً ، وبالتالي لا يكون قبيحاً ، لأن المفروض عدم دليلية المعجزة بذاتها ، فضم المقدمة العقلية على ضوء ما حققناه ، إما ضم لها الى ما يعترف بكونه في نفسه دليلاً على النبوة ، وإما هو ضم باطل لا مبرر له.

فان قيل : ان المعجزة في المرتبة السابقة دليل لدى العامة لبساطتهم بلا حاجة الى ضم مقدمة عقلية ، وليست دليلاً للخاصة ، وحينئذٍ فالخاصة يحتاجون في تتميم الاستدلال بالمعجزة الى القول بان المدعي لو كان كاذباً لكان اظهار المعجزة على يده تضليلاً للعوام باعتبار انها دليل على مستوى من مستويات العقل البشري ، والتضليل قبيح غير محتمل من الله تعالى ، فالمدعي ليس بكاذب ، إذاً فضم المقدمة العقلية إنما هو متمم للدليل عند الخاصة بعد فرض تمامية الدليل في المرتبة السابقة بنفس المعجزة على مستوى أعم ، وأبسط من التفكير البشري.

قلنا : أولاً : يكفي لدفع النقض ان يعترف صاحب الدليل بوجود دليل في المرتبة السابقة ، إذ يمكن للاشعري حينئذٍ دعوى الاعتماد على تلك الدلالة ، ويقع البحث حينذاك بينه وبين اصحاب الدليل الكلامي في صحة الدلالة وعدمها ، والبحث في صحة الدليل وخطئه غير مسألة انسداد باب النبوة.

وثانياً : وهذا هو المهم ، ان الاستدلال بالرغم من التقريب الذي ذكر قبل قليل يبقى باطلاً من الناحية الفنية ، ومستبطناً لقيام الحجة على المدعى في الرتبة السابقة.

بيان ذلك : ان المعجزة في المرتبة السابقة على ضم المقدمة العقلية اما ان يفرض انها دليل على النبوة ، وسبب للتصديق بها عند كل احد دون فرق بين الخاصة

٢١٠

والعامة ، وإما أن يفرض كونها دليلا عند العامة فقط ، لهبوط افق فكرهم.

وعلى الأول يكون الدليل على النبوة مفروض التمامية في المرتبة السابقة على ضم المقدمة العقلية ، وهو معنى كون الاستدلال بالمقدمة خطأ.

وعلى الثاني فان الخاصة ينكرون بضم المقدمة العقلية ان يثبتوا كون المدعي رسولا الى غيرهم ، أي الى العامة المتفقين في انخفاض درجة الفكر ؛ إذ لو لم يكن المدعي رسولاً اليهم لكان تمكينه من المعجزة تضليلاً للعوام الذين يتجاوبون معها ، ويؤمنون بالنبوة على اساسها.

ولكن هؤلاء الخاصة لا يمكنهم ان يثبتوا بالمقدمة عموم نبوته ورسالته ، أي عموم رسالة المدعي وشمولها لهم ، وكونه مرسلاً اليهم ايضاً ، فان المدعي عموم الرسالة والنبوة من المحتمل ان يكون مشتبهاً في تخيل عموم رسالته للخاصة المتأخرين عن زمانه ، ولا يوجد بحسب الفرض شيء ينفي هذا الاحتمال ، أي احتمال اشتباه المدعي في دعوى عموم رسالته ، فان المعجزة التي اقامها دليلاً على صدقه في تمام مدعاه المفروض انها لا تكفي دليلاً عند الخاصة.

وأما المقدمة العقلية فلا تنفع شيئاً ؛ إذ لا يلزم من تمكينه من المعجزة مع فرض عدم عموم رسالته للخاصة ، لا يلزم من ذلك التضليل ، لا للخاصة ولا للعامة ، أما العامة فلأنه نبي اليهم حقاً ، وأما الخاصة فلأن المعجزة ليست دليلاً عندهم ليلزم التضليل.

وهكذا نعرف على اساس هذه النكتة الدقيقة ان الخاصة لكي يبرهنوا بالمقدمة العقلية على شمول الرسالة لهم لا بد لهم من الاعتراف في الرتبة السابقة بتمامية دليلية المعجزة على صدق المدعي في تمام مدعاه ، وهذا هو معنى ما قلنا من ان الدليل يستبطن فرض تمامية الدليل في الرتبة السابقة ، على النتيجة ، كيف يمكن ان ينقض على الاشعري بعجزه عن ضم هذه المقدمة العقلية التي برهنا على عدم دخلها في الدليل.

والصحيح من الفروض التي افترضناها في مقام مناقشة المقدمة العقلية هو :

٢١١

ان المعجزة بحد ذاتها ، وفي المرتبة السابقة على المقدمة العقلية تكون دليلاً على صدق المدعي في تمام مدعاه الذي اقترن باقامة المعجزة ، وهذه الدليلية دليلية عامة يستوي فيها الافراد جميعاً بعد فرض اثبات الصغرى ، دون فرق بين الخاصة والعامة ، وإنما الفرق بين الخاصة والعامة في مقام تشخيص الصغرى ، حيث ان العامة أسرع الى تصديق الصغرى لبساطتهم ، وهذا التصديق العام على اساس المعجزة من شئون العقل النظري.

وتحليل هذا التصديق من قبل العقل النظري يحتاج الى تفصيل لا يسعه المقام ، فانه يستبطن مقدمتين :

احداهما : ان العادة الجارية على عدم احداث الحصى للصوت ، ولنأخذ هنا مسألة تسبيح الحصى ، ان العادة المستمرة والتجربة الطويلة للانسان التي تكشف عن سلبية الحصى من هذه الناحية ليس مجرد صدفة ، ونقصد بالصدفة هنا الصدفة بمفهومها العلمي لا الفلسفي ؛ إذ لو احتمل ان ذلك مجرد صدفة ، أي ان سلبية الحصى في كل مورد انما هي باعتبار سبب مجهول ، وحيث انه اتفق دائماً اقتران الحصى بسبب ما من الاسباب المجهولة التي تؤدي الى هذه سلبية ، كانت النتيجة سلبية في التجربة والملاحظة دائماً.

أقول لو احتمل كون هذه السلبية صدفة بهذا المعنى ، واحتمل كون نسبتها اليه كنسبة سلبية الكلام الى انسان ما ، في لحظة ما ، لو احتمل هذا لما حصل التصديق ، وفي الحقيقة لما كانت المعجزة معجزة ، ونفي هذا الاحتمال يكون على اساس حساب الاحتمالات ومنطق التجربة للعقل النظري الثالث ، وبعد ان يفرغ في هذه المقدمة عن ذلك ويعرف من ناحيتها ان رفع سلبية الحصى على يدي النبي انما هو نتيجة تدخل من وراء عالم قوانين الطبيعة التي حددتها التجربة وحساب الاحتمالات ينتقل الى المقدمة الثانية. وهي دلالة هذا التدخل من وراء عالم الطبيعة على تعلق ارادة الله سبحانه بتصديق مدعي النبوة ، وهذه المقدمة يمكن القول بأنها قضية بديهية تصديقاً بعد استيعاب تمام اطرافها تصوراً ، فتكون مضمونة الحقانية على تفصيل لا

٢١٢

مجال له الآن.

ونرجع الآن الى النقض على الاشعري لنضيف الى ما قلناه ان بالامكان اثبات نبوة النبي (ص) عن طريق قوانين العلية بالقدر الذي يكشفه العقل النظري المكتسب والعقل النظري الثالث ، أي بقدر ما يبرهن عليه في المكتسب ، وبقدر ما يثبت بالتجربة بالنوع الثالث ، وذلك اذا قسنا على اساس التجربة نسبة التفوق للفرد في مجتمعه ، واستقصاء العقل الثالث ان يضع على اساس التجربة نسبة التفوق للفرد في مجتمعه ، واستقصاء العقل الثالث ان يضع على اساس التجربة نسبة التفوق للفرد في مجتمعه ، واستقصاء العقل الثالث ان يضع على اساس التجربة قاعدة عامة لهذه النسبة ، ثم وجدنا ان التفوق في رسالة مدعي النبوة اكبر من تلك النسبة التي ثبتت في القاعدة السابقة ، فاننا نستنتج حينئذٍ وعلى ضوء قوانين العلية العامة كون الرسالة رسالة من الله وننفي كون الفرد كاذباً جاعلاً ملفقاً. هذا تمام الكلام في تحقيق حال النقضين.

الموقف الحلي

وأما البحث الحلي فيمكن تقسيمه الى جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في ان الانسان هل يدرك حسناً وقبحاً وراء الحسن والقبح الشرعي؟ بحيث يكون البحث متمحضاً في اثبات ادراك من هذا القبيل ، بقطع النظر عما اذا كان هذا الادراك حقانياً مطابقاً للواقع أم لا.

الجهة الثانية : بعد الفراغ عن ثبوت ادراك انساني للحسن والقبح وراء ادراك نفس الحسن والقبح الشرعيين يبحث عن نوع الصلة بين هذا الادراك الذي ثبت وجوده في الجهة الأولى ، وان لم تثبت حتى الآن حقانيته ومطابقته للواقع ، يبحث عن الصلة بين هذا الادراك وبين باب المصالح والمفاسد ، فهل ملاك هذا الادراك على اجماله من حيث المطابقة للواقع وعدمها؟ هل الملاك فيه تشخيص المصلحة والمفسدة ، بحيث يدور ادراكنا مدار هذا التشخيص؟ أو ان مجرد تشخيص المصلحة والمفسدة لا يكفي ملاكاً للادراك المذكور؟

والجهة الثالثة : هي ان نبحث عن مطابقة هذا الادراك للواقع ومدى حقانيته.

٢١٣

الجهة الأولى

وتحقيق الكلام فيها يتوقف على تمهيد مقدمة نشير فيها الى نقطة وهي : إن الحسن والقبح الشرعيين اللذين يؤمن بهما الاشعري ، ولا يؤمن بسواهما ، يختلفان سنخاً عن الحسن والقبح بالمعنى الآخر المفروض وراء الشرع ، وبقطع النظر عنه ، فان الأول هو الحسن والقبح بالحمل الأولي ، لأن مرجع كون شيء حسناً أو قبيحاً في الشرع الى جعل الوجوب أو الحرمة مثلاً له ، فمن المعلوم ان الجعل التشريعي انما يتعلق بالعناوين ، فالمجعول فيه مثلاً هو عنوان كون الصلاة مما ينبغي ، ومما يستحسن ، وعنوان كون الكذب مما لا ينبغي ، ومما يستهجن ، فحال جعل الشارع للحسن والقبح تشريعاً حال جعل السلطنة لشخص بحسب عالم التشريع ، فكما انه لا يعقل كون السلطنة المجعولة تشريعاً هي واقع السلطنة وما هي بالحمل الشائع سلطنة ، وانما هي السلطنة عنواناً واعتباراً كذلك الاستحسان والاستقباح في المقام.

وأما الحسن والقبح بالمعنى الذي يدعيه العدلي من اهل الحق ، وهو الحسن والقبح بالحمل الشائع ، أي ادراك واقع الاستحسان وواقع الاستهجان لا صرف عنوانهما ، فالفرق بينهما ، أي بين الحسن والقبح الشرعيين والحسن والقبح في نظر العدلية هو الفرق بين السلطنة مجعولاً في عالم الاعتبار والسلطنة الحقيقية بحسب عالم الخارج. وبعد توضيح هذه المقدمة نقول :

ان الأشعري إما ان يعترف باننا ندرك المعنى الثاني للحسن والقبح ، أي اننا ندرك حسناً وقبحاً غير شرعيين ، ونجد في انفسنا واقع الاستهجان والاستحسان لا صرف المفهوم ، وإما أن ينكر الاشعري ادراكنا لحسن وقبح وراء الحسن والقبح الشرعيين ، فعلى الأول ينحصر اعترافه بدعوى ان هذا الادراك مضيق غير حقاني ، ولا مطابق له في الواقع ، وهذا بحث يرجع الى الجهة الثالثة التي سيأتي الكلام عنها ، وأما إذا انكر الاشعري علينا ادراكنا لحسن وقبح وراء الحسن والقبح الشرعيين فهذا هو البحث الذي يتصل بالجهة الاولى على تفصيل سيظهر خلال الكلام. وهذا الانكار من الاشعري لأصل ادراكنا لشيء من الحسن والقبح خارج

٢١٤

حدود الشرع يمكن ان يفسر ويقرب بعدة تقريبات :

فقد يقال اولاً في تقريب هذا الانكار : ان الاشعري يوافقنا ويشاركنا في ادراك الحسن والقبح على وجه الاجمال ، ويرى معنا صحة هذا الادراك ، وانما يختلف معنا في تفسير المدرك ونسبته الى الشريعة ، فهو يثبت هذه النسبة ، ونحن ننفيها ، فانكار الاشعري لادراك وراء الشرع للحسن والقبح يرجع بناء على هذا الى خلاف في تفسير الحسن والقبح المدركين عند الجميع باعترافهم جميعاً ، فيكون النزاع نظري شخصين يتفقان على أن زيداً قتيل ويختلفان في ان قتله هل هو من ناحية المولى وبجعل منه ، أو من ناحية اخرى لا ترتبط بالمولى ، فالخلاف هنا ليس في اصل الحسن والقبح ، ولا في أصل القتل ، بل في نسبة ذلك الى المولى.

وهذا التقريب يناسب تحرير عنوان المسألة في كلمات الاشعريين ، لانهم يبينون في هذا البحث عادة الحسن والقبح واقسامهما ، و : انهم بهذا يبينون مورد الالتقاء والوفاق ، ثم يبينون ان هذا الحسن والقبح ليس الا شرعياً ، خلافاً للعدلية ، فكأنهم يريدون ان يقولوا بذلك ان الحسن والقبح الذي يدركه العدلي ندركه نحن ايضاً ، وهو مصيب في ادراكه غير انه مخطئ في نفي نسبته الى الشرع ، أي في نفي نسبة الحسن والقبح الذي ادركه كما ادركناه الى الشرع ، ولأجل هذا يذكر اصحابنا في الرد عليهم بهذا الصدد ان الحسن والقبح يدركهما من لا يدرك شرعاً ولا شريعية ، فانهم بهذا النقض يريدون ان يبرهنوا على نفي نسبة المدرك لنا الى الشرع ، باعتبار مشاركة غير المشرع لنا في ادراكه ، فان كل هذه الكلمات تشير الى ان خلاف الاشعري انما هو في نسبة المدرك الى الشرع بعد الاتفاق على ادراك الحسن والقبح على حد ادراك العدلية.

والنزاع حينما يقرب بهذا البيان يكفي فيه حينئذٍ لحل مغالطة الاشعري الرجوع الى المقدمة التي ذكرناها في الفرق بين الحسن والقبح الشرعيين وبين ما يدركه الانسان منا من واقع الاستهجان والاستحسان.

فالحسن والقبح المنسوب الى الجعل الشرعي لا يتفق سنخاً مع ما هو حسن

٢١٥

وقبيح بالحمل الشائع ليمكن حصول الاتفاق على اصل ادراك الشيء مع الاختلاف في نسبته ، فلو فرض ان المتنازعين يصدق احدهما الآخر فيما يحدث عن ادراكه ووجدانه فلا بد لهما من الاعتراف بعدم وجود ادراك موحد فيهما لمدرك موحد ، ففرض النزاع في النسبة لا في الادراك والمدرك هو الخلط بين الحمل الأولي والحمل الشائع ، وبالتمييز بينهما تنقطع دعوى الاشعري بهذا التقريب دون حاجة الى التمسك في مقابله بادراك من لا يؤمن بشرع أو شريعة إلهية كما فعل اصحابنا ، بل يكفي لاصحابنا ان يقولوا اننا ندرك ما هو بالحمل الشائع حسن أو قبيح ، فلو كان مدركنا شرعياً لكان كذلك بالحمل الأولي وبالعنوان ، لا بالحمل الشائع وبالحقيقة ، دون حاجة الى الاستعانة بادراك البراهمة وأمثالهم ممن قيل عنهم انهم لا يدينون بدين سماوي.

وقد يقال ثانياً : انا نفترض الأشعري منتبهاً الى الفرق بين الحمل الأولي والحمل الشائع وإلى اختلاف السنخين ، ونتصور دعواه بتقريب انه يقول : ان الانسان يدرك ما هو بالحمل الأولي ، ولا يدرك ما هو بالحمل الشائع.

والتحقيق : ان هذا الكلام تارة يقصد به ان العدلي لا يدرك ما هو حسن وقبيح بالحمل الشائع ، واخرى يقصد الأشعري بهذا انني انا لا ادرك ذلك وان ادركه خصمي ، بل ان قصارى ادراكي هو ادراك الحسن والقبح الشرعيين ، أي ما هو حسن وقبيح بالعنوان لا بالحقيقة ، وبالجعل لا بالواقع ، فان أراد الأول رجع الى تكذيب الخصم فيما ينقله عن وجدانه ولم يكن نزاعاً علمياً ؛ لأن النزاع العلمي يقوم على أسس التخطئة لا التكذيب ، وان اراد الثاني قائلاً بأني اعترف بوجود هذا الادراك عند الخصم ، ولكنني لا اشاركه فيه ، فهذا في الحقيقة يرجع الى البحث في الجهة الثالثة ؛ لأن عدم مشاركة الاشعري لأهل العدل في قضايا العقل العملي مردها علمياً الى انه يرى ان هذا العقل غير مطابق للواقع ، إما بمعنى انه غير مضمون الحقانية فلا يجزم به ، أو بمعنى وجود برهان على كذبه ، وكل ذلك بحث في الجهة الثالثة التي يأتي الكلام عنها.

فمن أساليب التشكيك مثلاً أن يقال : ان هذا الادراك ليس نتيجة للفطرة

٢١٦

والبداهة ، وانما هو نتيجة تلقين مستمر ، وهذا القول لا يعني انه لا يوجد هناك ادراك بحسن وقبح غير العنوانين الشرعيين ، وانما يعني ان نفس الادراك هو نتيجة للتلقين الشرعي الذي ادى الى جزم الانسان خطأ بواقعية أمور لا واقع لها ، وكل ذلك يبحث في الجهة الثالثة التي سوف يأتي الكلام عنها.

وبقطع النظر عن الجهة الثالثة لا يبقى للأشعري هنا ان يدعي شيئاً الا عن طريق الخطأ بين الحمل الأولي والحمل الشائع ، أو عن طريق تبديل اسلوب البحث العلمي باسلوب التكذيب بدلاً عن التخطئة ، نعم يبقى للأشعري كلام واحد يمكن ان يقوله دون ان يرتكب احد هذين الأمرين ، وهو أن ادراك الحسن والقبح بالحمل الشائع وإن كان مغايراً سنخاً لإدراك الحسن والقبح الشرعيين ، وكان غيره ، الا انه يقول أن هذا الادراك للحسن والقبح بالحمل الشائع انما يختص بخصوص موارد الحسن والقبح الشرعيين ، بمعنى ان العقل انما يدرك واقع الاستهجان أو واقع الاستحسان فيما يكون معصية للشرع أو طاعة له ، فهو في طول الحسن والقبح الشرعيين ، وان كان يخالفه في مدركه سنخاً ، والأشعري ان قال هذا كان ذلك منه اعترافاً بالعقل العملي وبالحسن والقبح العقليين ، وتفصيلاً في المسألة بين الموارد.

الجهة الثانية

وأما الجهة الثانية فهي في درس العلاقة بين ادراكنا للحسن والقبح غير الشرعيين ، وبين باب المصاح والمفاسد ، بمعنى اننا بعد ان فرغنا في الجهة الاولى عن اصل ثبوت ادراك لنا للحسن والقبح وراء الحسن والقبح الشرعيين ، وقبل ان نتبين حقانية هذا الادراك وعدم حقانيته نريد ان نتناول بالدرس علاقته بباب المصالح والمفاسد لنرى هل ان ملاك هذا الادراك في وجداننا هو ادراك المصلحة والمفسدة؟ أو أنه مستقل عن هذا الباب؟ وفي مقام ربط هذا الادراك بهذا الباب توجد احتمالات ثلاثة :

الاحتمال الأول : ان يكون ادراك الحسن والقبح مرتبطاً بباب المصلحة الشخصية ، ونتيجة لتشخيص هذه المصلحة ، ويقصد بالمصلحة الشخصية هنا ما

٢١٧

يكون كمالاً للانسان بلحاظ احدى جهاته وقواه ، وهذا الاحتمال يمكننا تفنيده ، بتقريب : ان المصلحة الشخصية التي تعتبر ملاكاً للحسن والقبح إن اريد بها المصلحة التامة المحركة بالفعل لأدى ذلك الى فرض حتمية صدور الحسن وحتمية ترك القبيح ، والتالي باطل لأن الانسان المدرك للقبح قد يرتكب فعلاً يراه قبيحاً بالفعل ، فالقبيح لا يدور اذاً مدار المصلحة المحركة بالفعل أو المفسدة المحركة بالفعل ، وإن أريد بالمصلحة ما كان من شأنه التحريك وإن لم يحرك بالفعل فيرد عليه ان ملاك الحسن والقبح المدرك ليس متمحضاً في ذلك بدليل ان من يرتكب القبيح المدرك قبحه فيخون صديقه مثلاً يستشعر الحياء والخجل في نفسه نتيجة للخيانة القبيحة التي ارتكبها بعد ان ادرك قبحها ، مع أنه لا يستشعر ذلك حين يفوت على نفسه مصلحة شخصية يؤمن بمصلحيتها ، فحينما يدخن مثلاً يؤمن بانه يفوت بذلك على نفسه مصلحة ، أو يجلب لها مفسدة ، ويحس أحياناً بالأسف أو الندم ، وقد يقلع نتيجة لذلك عن العادة ، ولكنه لا يمنى بالحياء والخجل ، فالفرق البديهي بين حالتي الأسف والحياء يبرهن على ان ادراك الحسن والقبح لا يتمحض ملاكاً بالمصلحة الشخصية ، وإلا لكان مفعول الخيانة نفسياً متفقاً مع مفعول التدخين أو غيره من اساليب تفويت المصلحة الشخصية ، أو اساليب الوقوع في المفسدة الشخصية التي لا تدرك فيها جهة قبح أو حسن بما فيها الانتحار فضلاً عما دونه.

الاحتمال الثاني ربط ادراك الحسن والقبح بخصوص نوع معين من المصلحة الخاصة ، وهو ما يرجع الى كمال النفس ونقصها ، فملاك الحسن هو الكمال ، وملاك القبح هو النقص في هذه المرتبة.

ويرد عليه : ان فعل الحسن وان كان كمالاً للنفس ، كما ان فعل القبيح منقصة للنفس ، ولكن ليس حسنه وقبحه في طول كونه كمالاً أو منقصة ، بل كونه كمالاً أو منقصة في طول حسنه وقبحه ، فالأمانة كمال لأنها اطاعة للعقل العملي وللقانون الخلقي ، وليست اطاعة للقانون الخلقي والعقل العملي لأنها كمال.

والدليل على هذا انه لو كان الحسن والقبح في طول الكمال والنقص كما هو مقتضى هذا الاحتمال الثاني للزم ارتفاع قبح القبيح فعلاً لقانون المزاحمة فيما اذا

٢١٨

توقف عليه تحصيل كمال للنفس هو أشد وأهم من المنقصة التي تمنى بها عن طريق الفعل القبيح ، فالشخص الذي يتمتع بملكة كتمان السر يقبح منه كشف سر أحد من اصدقائه لشخص آخر مثلاً ، وتفسير هذا القبح على أساس هذا الاحتمال الثاني هو ان كشف هذا السر مقدمة اعدادية لتنقص وتضعف ملكة كتمان السر في النفس ، فيكون قبيحاً باعتبار ما يؤدي اليه من درجة تضعف تلك الملكة.

فاذا افترضنا ان شخصاً أراد نه ان يكتشف له سر اخيه ، فيخون ذلك الأخ ويمنحه في مقابل ذلك فيضاً روحياً أو فكرياً ، بحيث يكتسب به ملكة علمية راقية ، كان من لازم هذا الاحتمال الثاني ان يقع التزاحم بين جهة النقص وجهة الكمال ، وحيث ان ما يحصل عليه الشخص من الكمال نتيجة لكشفه السر أهم مما يخسره ومما يمنى به من نقصان فلا بد ان يقال بارتفاع قبح القبيح وحسن كشف السر في هذه الصورة مع ان التالي باطل ، وهو يبرهن على ان الملاك ليس هو محض الكمال بالمعنى المزعوم.

الاحتمال الثالث : ربط ادراك الحسن والقبح في وجداننا بباب المصالح العامة ، فملاك الحسن هو دخله في حفظ النظام العام ، والتعايش العام وملاك القبح هو منافاته لذلك واضراره به ، وهذا الاحتمال يمكن البرهنة على ابطاله عن طريق نفس الفرضية السابقة التي استخدمناها لابطال الاحتمال الثاني ، فان لازم هذا الاحتمال الثالث في تلك الفرضية ان يلحظ في مقام التزاحم بين قبح كشف السر وبين الفائدة المترتبة على ذلك مقدار المصلحة العامة بحيث لو فرض ان الفائدة التي تحصل لمن يكشف السر هي أفيد للعموم وأكثر تاثيراً في ابقاء النوع وحفظ النظام العام لجاز كشف السر وخيانة الأخ ، ولما كان قبيحاً بالفعل ، مع أن الذي ندركه بقطع النظر عن حقانيته وعدم حقانيته لا يزول بمثل ذلك ، فالشخص المفروض غير معذور في كشف السر خلقياً ، وبحسب قانون العقل العملي بمجرد ان المصلحة العامة التي تترتب على ذلك اقوى من المفسدة العامة التي تنشأ من كشف السر.

نعم يعذر في كشف السر خلقياً اذا توقف على ذلك حفظ حياة صاحب السر ،

٢١٩

ونحو ذلك من الحيثيات الاكثر اهمية منه في وجود صاحب السر ، فهذا كله يدل على ان الحسن والقبح الذي ندركه وان العقل العملي الذي نجده لا يتمحض ملاكا بباب المصالح والمفاسد لكل واحد من المعاني السابقة.

نعم هنا وجه رابع لربط الحسن والقبح بباب المصلحة والمفسدة ذكره المحقق الخراساني (قده) في فوائده ، ولا ادري ما اذا كان اختياره لهذا الوجه دون بعض الوجوه السابقة ناتجاً عن التفاته إلى خلل في تلك الوجوه ، أو لتفتيشه عن اساس اعمق.

وخلاصة هذا الوجه ربط الحسن والقبح بخيرية الافعال وشريتها بالمعنى الفلسفي الذي مرده الى سعة الوجود وضيق الوجود.

وهذا الوجه يتوقف على بيان مقدمة وهي : ان مرجع الخير الى الوجود ، ومرجع الشر الى العدم ونقص الوجود ، وان سعة الوجود وضيق الوجود كما يتصور في الاشياء الخارجية كالانسان والحيوان والجماد والنبات كذلك يتصور في الافعال ، فانها بدورها ايضاً تختلف في سعة الوجود وضيقه ، وتختلف بسبب ذلك في مدى خيريتها وشريتها وبركتها وشؤمها ، فكل ما كان الشيء عيناً أو فعلاً أوسع وجوداً كان اكثر بركة وخيراً ، والعكس بالعكس. اذا تمهدت هذه المقدمة يقال :

ان القوة العاقلة حينما تدرك الاشياء يناسبها ما كان منها اوسع وجوداً باعتبار سعة وجودها ، ولا يناسبها الضيق في وجودها باعتبار عدم السنخية ، وعليه فلا غرو أن يكون ادراكها للأفعال الواسعة وجودياً من باب ادراك الملائم لأجل تلك المناسبة والسنخية ، ويكون ادراكها للافعال الضيقة وجودياً ادراكاً للمنافر بملاك عدم المناسبة والسنخية ، فيحصل لها عند ادراك الملائم الانبساط والالتذاذ ، ويحصل لها عند ادراك المنافر الانقباض والانكماش والاشمئزاز ، حالها في ذلك حال سائر القوى الدراكة في الانسان ، فكما ان قوة الحس البصري أو الشمّي أو الذوقي يكون ادراك المنظر القبيح ، أو الرائحة الكريهة ، أو الطعم المرّ ادراكاً للمنافر بالنسبة اليها كقوى ، أو الى النفس في مرتبتها بتعبير آخر ، ويكون ادراكها للحديقة الجميلة ،

٢٢٠