جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

الموضوعية مع أن البيان من ناحية المولى تام ، وان كان مراده من البيان هو علم المكلف فمن الواضح أن المكلف لا يعلم بالتكليف حتى على تقدير وجود الحكم في الواقع ، والخطاب الظاهري الواصل انما يتكلف البيان على تقدير الواقع بالمعنى الاول ، لا البيان بالمعنى الثاني.

وثانياً : انه لو سلمنا محالا ثبوت العلم للمكلف على تقدير ثبوت الحكم في الواقع مع انه ليس عالماً على جميع التقادير ، فالبراءة العقلية ثابتة في حقه لانه لا يدري بتحقق التقدير الذي بناء عليه يكون عالما بالحكم ، ومرجع ذلك الى انه عالم به ، وهذا العلم لا يكفي في مقام وصول الحكم ؛ إذ هو بنفسه غير واصل ، والحاصل انه يكفي في جريان البراءة العقلية مطلق عدم العلم ولو كان على بعض التقادير ، ولا يشترط في جريانها خصوص عدم العلم على تقدير وجود الحكم في الواقع.

وما استنتجه المحقق العراقي (قدس‌سره) من المقدمتين ، من ان موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان انما هو عدم البيان على تقدير وجود الحكم في الواقع في غير محله ؛ فانه لو فرض في المقدمة الاولى ان ذات وجود المانع متوقف على وجود المقتضي صح استنتاج ذلك إذ لازم ذلك انه لا يعقل عدم البيان إلا على تقدير وجود الحكم في الواقع ، ولو فرض ثبوت البيان على ذلك التقدير لم يبق موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

لكن المفروض في المقدمة الاولى انما هو توقف مانعية المانع على وجود المقتضي دون ذات المانع ، وهذا غير مستلزم لكون موضوع تلك القاعدة عدم البيان على تقدير الواقع ، بل بعد فرض وجود الواقع يبقى احتمالان احدهما : كون قبح العقاب لأجل عدم البيان على تقدير الواقع ، والآخر كونه لأجل مطلق عدم البيان.

ثم ان ما ذكرناه بالنسبة الى المقدمتين ليس موجوداً في كلام المحقق العراقي (قدس‌سره) وانما ذكرناه توضيحاً لمرامه (قدس‌سره) ، وتحقيق المقدمة الاولى في محله ، وأما المقدمة الثانية فنقول فيها : ليس عدم البيان مانعاً عن العقاب ، بل البيان

١٠١

داخل في مقتضى العقاب سواء قلنا بمبنى الاصحاب من اسناد الحجية الى القطع ام قلنا باسناده الى مولوية المولى وخصصنا حق المولوية بفرض البيان ، فلا تصح المقدمة الثانية.

وقد تحقق من جميع ما ذكرناه ان الوجه المتين في مقام دفع ما يرد من الشبهة على مباني القوم ما مضى من قيام الدليل على اهتمام المولى بالحكم بحيث لا يرضى بتفويته حتى في فرض الشك ، بالتقريب الذي بيّناه ، لا بالتقريب الذي أفاده المحقق العراقي (قدس‌سره) والحاصل : ان الانشاء على قسمين ، أحدهما : الانشاء الواقعي ، وثانيهما : الانشاء الظاهري ، وهو من حيث الدلالة التصورية يكون كالانشاء الواقعي ، لكنهما يفترقان من حيث الدلالة التصديقية ، فالدلالة التصديقية للأول هو ثبوت الارادة الجدية وروح الحكم في عالم الثبوت ، والدلالة التصديقية للثاني ليست هي ثبوت الارادة الجدية وروح الحكم في عالم الثبوت ، وإنّما هي أهمية الحكم الواقعي على تقدير ثبوته ، وهذا هو السر في تنجّز الحكم الواقعي بالحكم الظاهري ، سواء قلنا في الحكم الظاهري بجعل الحكم المماثل ، أم بجعل الطريقية ، أم بجعل المنجزية ، أم بشيء آخر ، فلو فرض كون جعل الحكم الظاهري بداعي اعطاء الدينار للمولى على ذلك مثلاً ، لا بداعي اهمية الواقع لم يكن له اثر في تنجز الواقع بأي لسان كان من الألسنة ، وإن فرض كونه بداعي اهمية الواقع كان موجبا لتنجز الواقع بأي لسان كان من تلك الالسنة الواقع فيها الخلاف ، فان كلّ واحد منها مناسب عرفا لأهمية الواقع ودال عليها بالدلالة التصديقية ، ولا فرق بينها بحسب عالم الثبوت اصلا فما صدر منهم. من اتعاب انفسهم الزكية في مقام تشخيص ما هو المجعول في باب الامارات والاصول من الطريقية والمنجزية وغير ذلك بداعي البحث الثبوتي في غير محله ، نعم تنتج تلك الالسنة بحسب عالم الاثبات في مقام تقديم الامارات والاصول بعضها على بعض من باب اختلاف السنتها.

بقي هنا شيء ، وهو ان ما ذكرناه من اختصاص قاعدة قبح العقاب بلا بيان بفرض عدم العلم بأهمية الحكم على تقدير وجوده بحيث لا يرضى المولى بتفويته

١٠٢

حتى في حال الشك ، وعدم جريانها في فرض العلم بذلك هو أمر وجداني لنا ، وأما اذا انكر ذلك شخص وكان له وجدان غير وجداننا يحكم بعدم الفرق بين الصورتين وجريان القاعدة في كلا الفرضين ، فنقول له : ان مقتضى الجمع بين هذا الوجدان المزعوم والوجدان الحاكم بتنجز الواقع بمثل امر المولى بالاحتياط والتحفظ عليه ، بعد فرض ثبوت هذا الوجدان لذلك الشخص ، فيرى انه لو غرق ابن المولى ولا يرضى المولى بغرقه ووقع الشك في كونه ابناً له أو عدوه ، وأمر المولى عبده بانجائه احتياطاً فلم ينجه الى ان هلك ابن المولى كان مستحقاً للعقاب ، ـ كما يحكم وجداننا بذلك ـ هو ان نلتزم بكون التنجيز من العناوين القصدية.

توضيح المقصود : ان بعض العناوين ليست قصدية ، وهو ما يتحقق ولو بدون قصد ، وذلك كعنوان الايذاء المترتب على مشي زيد مثلاً المزاحم لعمرو فانه يترتب هذا العنوان عليه وان لم يكن الماشي ملتفتا الى ذلك اصلا ، وبعض العناوين قصدية ، أعني أن قوامها بالقصد كعنوان التعظيم ، فمن قام مثلا لا بقصد التعظيم للوارد بل لعمل آخر دعاه الى القيام لم يكن ذلك تعظيما له.

اذا عرفت ذلك فنقول : إن مقتضى الجمع بين الوجدانين هو الالتزام بأن عنوان التنجيز من العناوين القصدية ، فانشاء المولى للحكم الظاهري بداعي التنجيز يكون منجزاً للواقع ، وهذا هو الذي يعبر عنه المحقق الخراساني (قدس‌سره) بالحكم الطريقي.

ثم انه لا داعي لنا الى الالتزام بما عرفت ، بعد ما بيّناه من التفصيل الذي عرفت بالنسبة الى قاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا ، واعلم ان الذي ذكرناه اخيراً مرجعه ايضا الى الالتزام بتفصيل في الرتبة السابقة.

والحاصل ان المقصود من الوجه الأخير دعوى ان العقل يحكم بتنفيذ الحكم المقطوع به من قبل المولى والحكم المحتمل الذي انشأ المولى الحكم الظاهري بداعي ان يصير الحكم الواقعي منجزاً ، هذا تمام الكلام في قيام الامارات والاصول مقام القطع الطريقي. واعلم ان تمام ما مضى من البحث كان بالنسبة الى الامارات

١٠٣

والاصول الشرعية دون مطلق الأصول فان هذا البحث عقدناه للجواب عما عرفت من الشبهة ، وهي غير جارية في الأصول العقلية.

المقام الثاني

قيام الامارات والأصول مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية

لم يقع الاختلاف في هذا المقام ثبوتا كما في المقام الاول ، ولا اشكال فيه ايضا ؛ وذلك لان الشارع اذا اخذ شيئا في موضوع حكمه ، حيث ان امره بيده فله التوسعة في حكمه بأن يأخذ شيئاً آخر مكان الموضوع.

وهذا بخلاف المقام الأول ؛ فان الكلام فيه كان في قيام الامارات والاصول مقام القطع الطريقي المحض في المنجزية عن الواقع ، ومنجزية القطع عن الواقع حكم عقلي لا شرعي فيمكن ان يقع الكلام في أنه كيف يمكن قيام الامارة أو الأصل مقام القطع في ذلك الحكم العقلي؟ مع انه ليس بيد المولى وضعاً ورفعاً ، فلا اختلاف ولا اشكال في المقام ثبوتا.

وانما وقع الكلام والاشكال فيه بحسب مقام الاثبات بعد الفراغ عن المقام الاول ، وان الامارة أو الأصل يقومان مقام القطع الطريقي المحض في المنجزية.

ولنتكلم أولاً في الامارة ثم بعد ذلك نبحث عن الاصل ، فنقول : ذكر الشيخ الاعظم (قده) ان القطع لو كان مأخوذاً في الموضوع على وجه الطريقية تقوم مقامه الامارات والاصول ، وذلك لأنّ القطع له آثار شرعية وعقلية من المنجزيّة والمعذريّة والحكم المترتب عليه شرعاً ، فإذا نزل الظن منزلته يترتب على الظن جميع الآثار من المنجزية والمعذرية ، وهذان في القطع الطريقي الصرف ، ومن ترتب الحكم عليه ، وهذا في القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية. ولا يخفى انه لو كان هناك دليلان في باب الامارات والاصول يدلان على حجيتها ايضا فلا خلاف ولا اشكال في انها تقوم مقام القطع الموضوعي على وجه الكاشفية.

١٠٤

وانما الكلام والاشكال وقع فيها بعد فرض انه لا يوجد هناك الا دليل واحد يدل على حجية الامارة أو الاصل (١) ، ففي هذا الصدد ذكر الشيخ الاعظم (قدس‌سره) كلامه الذي نقلناه ، ولكن المحقق ، الخراساني (قدس‌سره) استشكل في ذلك.

وتوضيح ما أفاده ببيان منا : ان قيام الامارات والاصول مقام القطع الطريقي المحض في المقام الاول في نظر الآخوند انما هو من جهة ان الدليل الدال على قيام الظن مقام العلم لا يمكن ان يكون المراد بالظن والعلم فيه نفس الظن والعلم ، بل لا بد ان يكون المراد بهما المظنون والمقطوع ؛ وذلك لأنه لا يمكن ان ينزل الشارع الظن بما هو ظن مقام العلم بما هو علم في آثاره ولوازمه ، وذلك لأن آثار العلم إما تكوينية ، أو عقلية ، فكاشفيته تكوينية ، ومنجزيته عقلية ، فلا يمكن ان ينزل الشارع الظن مقامه في هذه الآثار لانها ليست بيده ، فلو فرضنا أن الشارع قال : الظن كالعلم ، لا بد ان يكون لحاظ الظن آلة الى الواقع والمظنون ، وكذا العلم فانيا في المعلوم ، ويكون المراد ان المظنون كالمعلوم.

فيرى صاحب الكفاية ان العلم والظن في المقام الاول لا بد ان يكونا آليين وفانيين في المقطوع والمظنون ، واما في المقام الثاني فحيث ان القطع مأخوذ في الموضوع فهو ملحوظ استقلالاً ، ويكون الظن المنزّل منزلته ايضاً ملحوظا استقلالاً ؛ لأن نفس القطع موضوع للحكم الشرعي ، ففي هذا المقام لا بد ان يكون

__________________

(١) ثم ان هذا الدليل الواحد ، قد يفرض أن لسانه تنزيل مؤدى الامارة والأصل مقام الواقع ، كما ورد في الحدي (ما أدّيا عني فعني يؤديان) وقد يفرض أن لسانه تنزيل الظن منزلة القطع ، فان كان لسانه الأوّل فلا يعقل تكلّفه لقيام الإمارة والأصل مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية ، وذلك لأنّ الحاصل من الامارة هو الظن بالواقع والقطع بمؤدّاها ، فالّذي يقوم مقام القطع الموضوعي هو هذا الظن بالواقع أو القطع بمؤدّى الامارة ، والدليل لم يتكفل لقيام أيّ منهما مقامه ، أما الظن بالواقع فلأنه ليس مصب التنزيل وانما مصب التنزيل هو المؤدى وهو المظنون ، وأمّا القطع بالمؤدّى فقيامه مقام القطع بالواقع أيضاً خارج عن التنزيل ، ويحتاج إلى تنزيل ، ويحتاج إلى تنزيل آخر ، وهو منتف.

١٠٥

نفس الظن منزلا منزلة القطع ، لا بما هو آلة ومرآة الى الواقع والمظنون.

فبعد تمامية هاتين المقدمتين وكون العلم والظن ملحوظين آليين في نظر الآخوند وكون التنزيل في المؤدى في باب الامارات في المقام الاول ، وكونهما ملحوظين استقلاليين في المقام الثاني ، استنتج صاحب الكفاية انه مع كون الدليل واحداً في مقام الاثبات لا يمكن جعل كلا الامرين أي كون الامارة قائمة مقام القطع الطريقي المحض وكونها قائمة مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية ؛ لانه مستلزم للجمع بين اللحاظين في كلام واحد ، وهو غير ممكن ، فعلى مبنى الآخوند في المقام الاول ، وهو كون المجعول في باب الامارات جعل المؤدى وتنزيل المظنون منزلة المقطوع بنى هذا الاشكال.

والرد عليه بأن المجعول في باب الامارات هو الطريقية والكاشفية لا جعل المؤدى ، كما عن المحقق النائيني (قدس‌سره) ، غير صحيح ؛ وذلك لانه اشكال في المبنى لا في البناء ، ومحط كلام الآخوند في الاشكال انما هو كلام الشيخ الاعظم (قدس‌سره) في الرسائل ، الذي استفاد الآخوند من مجموع كلماته ان مبناه في باب الامارة هو جعل المؤدى وتنزيل المظنون منزلة المقطوع ، فلا ينبغي الاشكال المبنائي عليه.

ولكن هذا الاشكال من المحقق الخراساني (قدس‌سره) لو ابقي على ظاهره ولم يؤوّل فإنه غير تام ؛ وذلك (١) لان لحاظ الظن أو القطع يكون له واقع ومصداق وله مفهوم ، فمصداق اللحاظ قائم بالمكلف والظان أو القاطع فانه هو الذي يلاحظ الظن أو القطع آليا أو استقلاليا ، ومفهوم اللحاظ مربوط بالمولى والشارع فانه يتصور مفهوم لحاظ الظان أو القاطع الظن أو القطع آلياً أو استقلالياً ، والذي يتصور فيه اللحاظ آليا تارة واستقلاليا أخرى هو مصداق اللحاظ المرتبط بالمكلف.

وأما مفهوم اللحاظ المربوط بالشارع الذي هو جاعل الحكم فلا يتصور فيه

__________________

(١) نهاية الدراية ج ٢ ، ص ١٦.

١٠٦

الآلية والاستقلالية ، بل هو كسائر المفاهيم يكون آلة ومرآة الى مصاديقه ، فاللحاظ الآلي والاستقلالي انما هو مختص بالظان والقاطع ، فتارة يلاحظ قطعه استقلالاً ، واخرى يلاحظه آلة ومرآة ، وأما غير القاطع والظان فليس عنده الا مفهوم قطع القاطع وظن الظان ، والمفهوم منهما غير قابل لكلا اللحاظين. فلا يمكن للشارع لحاظ قطع غيره أو ظنه تارة آليا وأخرى استقلالياً ؛ كي يقال بأنه لا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد.

فلا بد من تصحيح كلام الآخوند بنحو لا يرد عليه هذا الاشكال.

فنقول : الكلام الذي يلقيه المتكلم الى السامع تارة يريد ان يتصور السامع مدلوله ، واخرى يريد تصديقه بمدلوله ايضا بعد تصوره ، وبعبارة اخرى تارة يريد القاء المراد الاستعمالي للكلام وافهامه له ، واخرى يريد القاء المراد الجدي ، وهو التصديق بمدلول الكلام ، والمراد الجدي تارة يتعلق بالمدلول المطابقي للكلام ، واخرى يتعلق بملزوماته ، فتارة يقول : زيد كثير الرماد ، ويريد تصديق المخاطب والسامع بالمفهوم التصوري من الكلام ، وهو زيد والكثرة والرماد والنسبة بين زيد وكثرة الرماد ، وهو المعنى المطابقي للكلام ، وأخرى يقوله ويريد به افهام المخاطب ملزوم ذلك المعنى التصوري والمعنى المطابقي ، وهو كرم زيد ، والاول يسمى بالصراحة ، والثاني يسمى بالكناية.

اتضح هذا فنقول : يمكن تأويل كلام صاحب الكفاية (١) بأن المولى تارة يقول : الظن كالعلم ، ويريد به المعنى الصراحتي ، وأخرى يقول ذلك ، ويريد به المعنى الكنائي ، ففي المقام الأول ، وهو قيام الظن والامارة مقام القطع الطريقي المحض يكون المراد من ان الظن كالعلم هو المعنى الكنائي ، وذلك لانه ليس لنفس العلم آثار شرعية ينزل الشارع الظن مقامه بلحاظها كما مرّ ، فلا بد ان يكون المراد بالعلم المعلوم وبالظن المظنون لينزل المظنون منزلة المقطوع في آثاره الشرعية.

__________________

(١) المصدر السابق ، ص ١٧.

١٠٧

وأما في المقام الثاني فحيث ان القطع مأخوذ في الموضوع بما هو ، فيكون المراد من ان الظن كالقطع هو المعنى الصراحتي من ذلك ، وكأنه قال : موضوع حكمي يكون الظن ايضا كما كان القطع ، ولا محذور في ذلك ؛ لان موضوع حكم الشارع بيده. واذا كان دليل التنزيل واحداً كما هو المفروض فلا يمكن لحاظ كلا المعنيين ، المعنى الكنائي والمعنى الصراحتي بان يراد كلاهما بلفظ واحد ، وليس في كلام الآخوند من أوله الى آخره تعبير بالصراحة والكناية ، إلا في مورد واحد عبّر فيه بالكناية ، واما سائر كلامه فقد كان التعبير فيه باللحاظ الآلي والاستقلالي.

ولكن لتصحيح كلامه لا بد من التأويل الذي ذكرناه ، من ان الشارع قد يريد من قوله : «الظن كالعلم» المعنى الصراحتي ، ويكون المراد الجدي له مطابقا للمدلول المطابقي من الكلام ، وقد يكون المراد المعنى الكنائي منه ، فيكون المراد الجدي مطابقا للمدلول الالتزامي من ذاك الكلام ، وهو كون المظنون كالمقطوع ولا يمكن ان يكون المراد كلا المعنيين في فرض وحدة الدليل ، المعنى الكنائي والصراحتي معاً ؛ اذ لا يعقل تكفل الدليل الواحد لكلا التنزيلين لاستلزامه الجمع بين أن يكون الظن والقطع مقصودين تبعيا كما في الكناية ، واستقلاليا كما في الصراحة ، والجمع بين القصدين ممتنع ؛ إذ لا يمكن الجمع بين الكناية والصراحة.

وهذا الوجه في تقريب امتناع تكفل الدليل الواحد لكلا التنزيلين انما يتم لو لم نلتزم في الكناية بوجود الملازمة بين المدلول الاستعمالي والمدلول الجدي ، واما لو التزمنا بذلك فهذا الوجه غير تام ؛ لعدم وجود الملازمة بين المدلول الاستعمالي والمدلول الجدي ، فالمحقق الاصفهاني حيث انه التزم بذلك لا يتم عنده هذا الوجه مع انه تمسك به في المقام.

وتوضيح ذلك تفصيلا ان الكناية على قسمين :

الاول : ان يحكي بالكلام عن ثبوت نسبة استعمالا بداعي الحكاية عن ثبوت ملازمها جداً ، كما في قولنا : «زيد كثير الرماد» ، فانه يحكي بهذا الكلام عن ثبوت كثرة رماد زيد استعمالاً بداعي الحكاية عن ثبوت الكرم لزيد جداً.

١٠٨

الثاني : ان يحكم على موضوع بحكم استعمالا بداعي الحكم على ملازمه جداً ، كما في قولنا : «اكرم كثير الرماد» ، فانه يحكم بوجوب اكرام كثير الرماد استعمالاً بداعي الحكم بوجوب اكرام الكريم جدا ، والكناية في المقام لو كانت فانما تكون على الوجه الثاني ، أي ان الكناية في قوله : «الظن منزل منزلة العلم» ، لا بد ان تكون بمعنى انه يحكم بتنزيل الظن منزلة العلم استعمالاً بداعي الحكم بتنزيل ملازمه وهو المظنون منزلة ملازم القطع وهو المقطوع به ، مع انه لا ملازمة بين القطع والمقطوع به والظن والمظنون.

فانه إما أن يدعي الملازمة بين الظن والمظنون بالذات ، أو ان يدعي الملازمة بين الظن والمظنون بالعرض ، فان ادعي الملازمة بين الظن والمظنون بالذات فهي تامة إلا أن المظنون بالذات لا يكون منزلا منزلة المقطوع به بل مصب التنزيل هو المظنون بالعرض ، وهو الحكم الخارج عن عالم ذهن الظان ، وان ادعى الملازمة بين الظن والمظنون بالعرض فهي ممنوعة ، كما لا يخفى.

والمحقق الاصفهاني (قدس‌سره) اختار في بيان هذا الوجه لتقريب مدعاه الشق الاول ، وذكر ان المظنون بالذات وان لم يكن باعتباره هو مصبا لجعل التنزيل ، إلا أنه باعتباره فانيا في المظنون بالعرض يكون مصبا للجعل ، فلا محذور ، إلا أنه غير تام ؛ حيث ان المظنون بالذات بلحاظ فنائه في المظنون بالعرض وإن كان مصباً للجعل كما ذكرناه إلا أن الملازمة غير متحققة حينئذٍ ، بل الملازمة بين الظن والمظنون بالذات باعتباره هو.

ويمكن ، بعد تسليم مبنى المحقق الخراساني في قيام الامارات والاصول مقام القطع الطريقي الصرف والقطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية ، تقريب امكان تكفل دليل واحد لكلا التنزيل بوجوه ثلاثة :

الوجه الأول : ان تنزيل المؤدى منزلة الواقع الذي هو عملية قيام الامارة مقام القطع عند المحقق الخراساني ، نتيجته انه إذا تحقق صغراه بان اخبر زرارة عن وجوب صلاة الجمعة مثلاً ، فالمكلف يحصل له الظن بمؤدى خبر زرارة ، وحينئذٍ

١٠٩

يكون هذا الظن بمؤدى الخبر منجزاً للواقع ، لا محالة ، كما كان القطع منجزاً للواقع ، فالتنزيل الكبروي ينتج تنزيل الظن منزلة القطع في تنجيزه للواقع ، فتنزيل الظن منزلة القطع في المنجزية وان لم يكن مجعولا ابتدائياً للشارع الا انه يترتب على المجعول الشرعي ، فيصح ان يقال : ان تنزيل الظن منزلة القطع في المنجزية مجعول للشارع بالتبع ، وهذا بخلاف تنزيل الظن منزلة القطع في الحكم الشرعي المترتب على القطع ، وهو عملية قيام الامارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقية ؛ فان هذا التنزيل مجعول للشارع ابتداء كما لا يخفى.

واذا صح ان يقال : ان تنزيل الظن منزلة القطع في المنجزية مجعول للشارع بالتبع ، فكما يمكن للشارع ان يخبر عن التنزيل المجعول له ابتداء ، وهو تنزيل الظن منزلة القطع في الحكم الشرعي المترتب على القطع ، كذلك يمكن للشارع ان يخبر عن التنزيل المجعول له بالتبع ، وهو تنزيل الظن منزلة القطع في المنجزية ، كما انه يمكن ان يخبر الشارع ايضا عن التنزيلين بكلام واحد ، فيقول : ان الظن منزل منزلة القطع ، فيترتب عليه جميع آثار القطع الشرعية والعقلية ، غاية الأمر ان التنزيل في موارد القطع الطريقي الصرف مجعول له بالتبع ، وفي موارد القطع الموضوعي الطريقي يكون مجعولا ابتدائياً.

وهذا المقدار لا يضر بتكفل دليل واحد لكلا التنزيلين ، كما ان الامر في غير المقام متحقق فانه قد نرى في بحث الاجرة على الواجبات ان قوله : (الناس مسلطون على اموالهم) يتكفل لاثبات سلطنتين ؛ وهما سلطنة تكليفية ، وهي جواز التصرف في المال واباحته ، وسلطنة وضعية وهي صحة معاملاته التي يوقعها على المال ، والسلطنة التكليفية مجعولة للشارع ابتداء ، كما لا يخفى ، واما السلطنة الوضعية فهي ليست مجعولا ابتدائيا للشارع ، بل المجعول للشارع هو انفاذ معاملاته ، فالسلطنة الوضعية مجعولة للشارع بالتبع ومع ذلك يكون قوله : (الناس مسلطون على اموالهم) متكفلا لكلا الجعلين الابتدائي والتبعي ، وقد مر تفصيل ذلك في محله ، وما نحن فيه من هذا القبيل فان قوله : (الظن كالقطع) متكفل لكلا التنزيلين الابتدائي والتبعي.

١١٠

وهذا الوجه غير تام ، وقياس محل الكلام بالسلطنة التكليفية والوضعية قياس مع الفارق ؛ وذلك لان السلطنة الوضعية كما تقدم نتيجة للجعل الشرعي ، وهو انفاذ المعاملات الواقعة على المال من دون دخل لعلم المكلف بالجعل الشرعي ، فالسلطنة الوضعية تتبع نفس الجعل الشرعي وحينئذٍ تكون مجعولة بالتبع ، فيصح تكفل دليل واحد لبيان كلا الجعلين ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فان تنزيل المظنون منزلة الواقع لا ينتج تنجيز الظن للواقع ما دام لم يصل الى المكلف التنزيل الشرعي ، وهو تنزيل المظنون منزلة الواقع ؛ فان التنجيز انما يكون بعد وصول التنزيل الشرعي الى المكلف كما لا يخفى ، وحينئذٍ لا يكون نفس التنزيل الشرعي منتجا لتنزيل الظن منزلة القطع في المنجزية ، بل العلم بالتنزيل الشرعي هو المنتج لهذا التنزيل ، فتنزيل الظن منزلة القطع في المنجزية لا هو مجعول شرعي ابتدائي ولا هو مجعول شرعي تبعي.

الوجه الثاني : ان قوله : (الظن بمنزلة القطع) انما يفيد تنزيل نفس الظن منزلة نفس القطع ، فيفيد قيام الامارة مقام القطع الموضوعي إلا انه بنكتة يفيد بنفس هذا البيان قيام الامارة مقام الطريقي الصرف ايضاً.

والنكتة هي : ان القطع كما يؤخذ في موضوع الحكم الواقعي كذلك يؤخذ في موضوع الاصول المنجزة والمعذرة ، وان شئت فقل : يؤخذ عدمه شرطاً ، فاذا نزل الظن منزلة القطع الموضوعي فلا فرق بين القطع الموضوعي للاحكام الواقعية والقطع الموضوعي للاصول المنجزة والمعذرة ، فكما ان الظن يقوم مقام القطع الموضوعي للاحكام الواقعية فيترتب على الظن ما يترتب على القطع من الاحكام الشرعية كذلك يقوم الظن مقام القطع الموضوعي للاصول المنجزة والمعذرة ، فيكون الظن غاية للاصول كما كان القطع غاية لها ، وهذا يدل بالالتزام على حجية الظن ومنجزيته للحكم الواقعي كما كان القطع الطريقي الصرف منجزاً للاحكام الواقعية ، فبالنتيجة يكون الظن قائما مقام القطع الطريقي الصرف.

فان قلت : لا ملازمة عقلا بين كون الظن بالنجاسة ببركة التنزيل غاية للحكم

١١١

الظاهري بالطهارة وبين كونه منجزاً للنجاسة الواقعية ، إذ من المعقول جعل الأول بدون الثاني ، كما لا يخفى.

قلت : الأمر كذلك الا اننا نعلم من الخارج ان ما جعل رافعاً لمنجزية الاصول ومعذريتها يكون بنفسه منجزا للواقع ، ولا يحتمل ان يكون شيء مجعولا رافعاً لمنجزية غيره من الاصول ومعذريتها وغير منجز هو للواقع ، فهذا الوجه يفي بتكفل دليل واحد لبيان كلا التنزيلين.

الوجه الثالث : أن يقال : ان التقريب الذي ذكره المحقق الخراساني (قدس‌سره) لعدم تكفل دليل واحد لبيان كلا التنزيلين انما يتم لو قلنا بان قوله : الظن بمنزلة العلم ، تنزيل للظن منزلة القطع ، مع انه لا ينحصر جعل الحكم للظن بذلك.

وتوضيح ذلك : ان جعل حكم لشيء قد يكون ابتدائياً ، بان يقول : الخمر حرام ، فيجعل الحرمة للخمر ابتداء وبدون أي عملية ، وقد يكون بتنزيل شيء منزلة شيء آخر ذي حكم يفيد هذا التنزيل اسراء حكم المنزّل عليه الى المنزل ، كأن يقول : الفقاع خمر ، فان تنزيل الفقاع منزلة الخمر يفيد اسراء حكم الخمر وهو الحرمة الى الفقاع ، وفي هذه العملية لجعل الحكم لا بد ان يكون للمنزل عليه حكم مجعول في المرتبة السابقة على هذا التنزيل من قبل المنزِّل (بالكسر) ليصح افادة هذا التنزيل اسراء حكم المنزل عليه الى المنزل ، فلو لم يكن للمنزل عليه حكم مجعول من قبل المنزِّل (بالكسر) كان تنزيله لغواً ، وغير مفيد لجعل الحكم على المنزَّل (بالفتح).

وثالثة يكون بتشبيه شيء بشيء آخر ذي حكم ليفيد هذا التشبيه جعل حكم للمشبه مشابه ومماثل لحكم المشبه به ، كأن يقول زيد لعبده : ان رزقت ولداً فاعمل ما يعمله عبد عمرو عند ما يرزق ولدا ، فان هذا التشبيه يفيد جعل وجوب الصوم على عبد زيد المماثل لوجوب الصوم على عبد عمرو ، وفي هذه العملية لجعل الحكم لا يجب ان يكون حكم المشبه به مجعولاً للمشبِّه (بالكسر) ، كما في المثال ، فان المشبِّه هو زيد والمشبه به وهو وجوب الصوم على عبد عمرو مجعول لعمرو ، ولا

١١٢

يكون مجعولا للمشبه وهو زيد ، وذلك لان الغرض من التشبيه ليس إلا جعل حكم للمشبه مماثل للحكم الثابت للمشبه به ، وهذا لا يقتضي ان يكون حكم المشبه به مجعولا لنفسه المشبِّه (بالكسر) بوجه من الوجوه ، كما لا يخفى.

إذا عرفت هذا فنقول : ان عملية جعل الحكم لمؤدى الامارة لو كانت بنحو التنزيل لكان للتقريب الذي ذكره المحقق الخراساني (قدس‌سره) مجال ، وأما لو كانت بنحو التشبيه فنقول : ان جميع أحكام القطع مجعولة للظن نفسه حتى المنجزيّة ، ولا يرد حينئذٍ أن منجزية القطع ليست مجعولة للشارع ، وذلك لأن جعل الحكم للظن حيث كان بنحو التشبيه ، فلا يقتضي ان يكون مماثله المجعول للقطع مجعولا من قبل الشارع على ما تقدم ، بل لا بد ان يكون ذلك بنحو التشبيه ، ولا يمكن ان يكون بنحو التنزيل ، فانه غير معقول ، حيث ان المراد من تنزيل المظنون منزلة المقطوع جعل نفس المظنون ، كما ان نفس المقطوع مجعول ، وهذا لا يعقل لأن المظنون لا بد ان يكون متقدماً على الجعل ، فينصب الجعل عليه مع انه متأخر عنه ، كما لا يخفى.

وإن كان المراد من ذلك اسراء حكم المقطوع به الى المظنون فالمقطوع به وهو الحكم الواقعي ليس له حكم سوى وجوب الامتثال ، وهو حكم عقلي لا شرعي ، وقد قلنا : ان التنزيل يقتضي اسراء حكم المنزل عليه الشرعي الى المنزل ، فاذا انتفى الحكم الشرعي في المنزل عليه فالتنزيل لغو ، فلا بد ان يكون جعل الحكم للظن بنحو التشبيه.

ثم ان المحقق الخراساني (قدس‌سره) ذكر هذا التقريب في الكفاية وفي حاشيته على الرسائل وأورد في حاشيته على الرسائل على التقريب بأمرين :

الأول : ان جملة «الظن بمنزلة القطع» لو كانت انشائية يأتي التقريب المذكور ، حيث انه في مقام الجعل والانشاء لا بد من ملاحظة الظن ، وحينئذٍ يستدعي الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي ، الى آخر ما تقدم ، وأما لو كان جعل كل من التنزيلين تاما قبل ذلك وكانت الجملة اخباراً عن الجعل ، فيتمسك

١١٣

باطلاق الظن للآلي والاستقلالي ولا محذور فيه ، ثم استدرك في نفس الحاشية على كلامه هذا بأن مقدمات الحكمة لاثبات الاطلاق انما تتم لو لم يوجد في البين قدر متيقن ، والمفروض في المقام ان الآلية قدر متيقن ، فلا اطلاق في المقام (١). وفي كل من كلامه واستدراكه نظر.

أما استدراكه فالاشكال مبنائي فيه لانه قد تقدم في المطلق والمقيّد ان وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب غير مضر بالاطلاق فضلا عن القدر المتيقن من الخارج.

وأما كلامه فوجه النظر فيه هو ان ما يثبته الاطلاق غير مفيد ، وما يفيدنا في المقام خارج عن قدرة الاطلاق في اثباته ، وذلك لان التعميم قد يكون بالغاء الخصوصيات ، كالتعميم في (أحل الله البيع) فانه انما هو بالغاء خصوصية المعاطاتية والعقدية وغير ذلك ، وقد يكون بالجمع بين الخصوصيات ، كما في المقام ، فان تعميم الظن انما هو بالجمع بين خصوصية الآلية والاستقلالية ، والتعميم المستفاد من الاطلاق انما هو بمعنى الغاء الخصوصيات ، فان نتيجة مقدمات الحكمة هي أن تمام ما ذكر في عالم الاثبات هو تمام ما هو ثابت في مقام الثبوت ، وتمام ما ذكر في عالم الاثبات انما هو نفس البيع مثلا بلا دخل خصوصية فيه ، فما هو ثابت في عالم الثبوت ايضا هو نفس البيع بلا دخل خصوصية فيه ، وهذا التعميم الذي هو نتيجة مقدمات الحكمة لا يفيدنا في المقام ، فانا لو أجرينا مقدمات الحكمة ، واثبتنا تعميم الظن بالغاء خصوصية الآلية والاستقلالية فهذا الظن الثابت على هذا النحو غير قابل لقيامه مقام القطع الطريقي والموضوعي ؛ لأنه انما يقوم مقام القطع الطريقي لو لوحظ فيه خصوصية الآلية ، كما أنه انما يقوم مقام القطع الموضوعي لو لوحظ فيه خصوصية الاستقلالية ، فلا بد في تعميم الظن من الجمع بين الخصوصيتين ، وهو خارج عن طاقة الاطلاق.

الثاني : ان مرجع التنزيل أي تنزيل المؤدّى منزلة الواقع الى ان المؤدى واقع

__________________

(١) حاشية المحقق الخراساني على الرسائل ص ٨.

١١٤

جعلي ، وهذا التنزيل يستلزم تنزيلا آخر ، وهو تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، وعبارة المحقق الخراساني (قدس‌سره) في المقام في بيان وجه الملازمة بين التنزيلين مشوشة يحتمل منها احد امرين :

الأول : ان الملازمة عرفية فان تنزيل المؤدى منزلة الواقع يستدعي عرفا أن يكون القطع بالمؤدى الذي هو الواقع الجعلي منزلا منزلة الواقع الحقيقي ، فاذا استلزم التنزيل الاول التنزيل الثاني قامت الامارة مقام القطع الموضوعي ايضا ، وهذا ظاهر.

الثاني : ان الملازمة عقلية بدلالة الاقتضاء ، بتوضيح : ان الواقع المنزل عليه في مورد ما لو كان له حكم يصح تنزيل المؤدى منزلته ، كما في الخمر فانه بنفسه له حكم وهو حرمة شربه ، وهذا واضح ، وفي مورد ما لو لم يكن له بنفسه حكم كالعدالة فيما لو فرضنا ان موضوع جواز الائتمام هو القطع بالعدالة فانها بنفسها ليس لها حكم ، فحينئذ تنزيل المؤدى منزلة الواقع في هذا الفرض يكون بمفرده لغواً ؛ اذ التنزيل انما هو بداعي اسراء حكم المنزل عليه الى المنزل ، والمفروض ان المنزل عليه ليس له حكم ، فيكون التنزيل لغواً ، وحينئذٍ بدلالة الاقتضاء نستكشف ان هناك تنزيلا آخر متمما لهذا التنزيل ، وحيث ان الانسب بكون التنزيل الآخر هو تنزيل القطع بالمؤدى ، وهو الواقع المجعول منزلة القطع بالواقع المحقق ، يتعين هو لا محالة.

واستدرك المحقق الخراساني (قدس‌سره) على كلامه هذا في الكفاية ، وتوضيح استدراكه ببيان امور :

الأول : ان الحكم قد يكون انحلاليا بالنسبة الى اجزاء طرفه ، وقد لا يكون انحلالياً ، فالاول : كما في المتعلق فان وجوب الصلاة ينحل بالنسبة الى اجزاء متعلقه وهو الصلاة ، فالسورة لها وجوب ضمني ، والفاتحة لها وجوب ضمني آخر ، وهكذا ، والثاني : كما في الموضوع فان وجوب اكرام العالم العادل ، لا ينحل الى اجزاء الموضوع ، وهو العالم العادل فالعالم ليس له وجوب ضمني ، وهكذا العادل ،

١١٥

بل ان الحكم حكم واحد غير قابل للانحلال بالنسبة الى اجزاء الموضوع.

الثاني : انه في مقام التنزيل لو كان المنزل عليه مركبا فان كان متعلقاً فيمكن تنزيل شيئين منزلة جزئيه في عرض واحد ، ويمكن تنزيل شيء منزلة احد جزئيه وتنزيل شيء منزلة جزئه الآخر في طول التنزيل الاول.

والوجه في ذلك ما ذكرناه في الأمر الأول من أن الحكم انحلالي بالنسبة الى اجزاء المتعلق في كل من التنزيلين يقوم بلحاظ الحكم الضمني الموجود في كل من جزئي المنزل عليه ، فلا محذور في كون احد التنزيلين في طول الآخر ، وان كان المنزل عليه موضوعاً ، فلا بد من تنزيل شيئين منزلة جزئيه في عرض واحد ، ولا يمكن تنزيل شيء منزلة أحد جزئيه وتنزيل شيء منزلة جزئه الآخر في طول التنزيل الاول ، وذلك لما مر من أن الحكم غير قابل للانحلال بالنسبة الى اجزاء الموضوع فليس كل واحد من جزئي الموضوع واجداً للحكم الضمني ، فيمتنع ان يكون تنزيل احد جزئيه في طول تنزيل جزئه الآخر ، حيث ان التنزيل لا بد ان يكو بلحاظ حكم والمفروض ان كل واحد من جزئيه غير واجد للحكم الضمني ، فلا يصح تنزيل احد جزئيه بدون تنزيل الجزء الآخر في عرضه ، بل لا بد من تنزيل كلا الجزءين في عرض واحد.

الثالث : ان تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي في طول تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، لان القطع بالواقع الجعلي متأخر عن الواقع الجعلي ، والواقع الجعلي نتيجة المؤدى منزلة الواقع ، اذا تبينت هذه الأمور اتضح وجه الاستدراك وهو ان التنزيل الثاني وهو تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي في طول التنزيل الأول ؛ إذا لا يصح التنزيلان لأنه لا بد ان يكونا في عرض واحد. هذا بيانه واستدراكه ، ولنا في كل من بيانه واستدراكه نظر.

أما استدراكه ففيه نظر لا لما ذكره المحقق العراقي (قدس‌سره) من ان كلا من التنزيلين بلحاظ حكم مستقل عن حكم التنزيل الآخر ، فان التنزيل الأول وهو تنزيل المؤدى منزلة الواقع ليس هو بلحاظ جزء الحكم لأن الحكم غير قابل للانحلال كما

١١٦

تقدم ، بل هو حكم واحد وليس هو بلحاظ هذا الحكم منجزاً ايضا ؛ لان هذا الحكم موضوعه الواقع والقطع به وتنزيل المؤدى منزلة الواقع يحقق جزءاً من موضوعه ، ولا يحقق تمام موضوعه ، فلا يصح التنزيل بلحاظه ، وانما هذا التنزيل الاول بلحاظ الحكم التعليقي الثابت للمنزل عليه ، فان المنزل عليه وهو الواقع جزء موضوع الحكم المنجز ، وتمام موضوع الحكم التعليقي ، والحكم التعليقي هو الحكم على تقدير القطع بالواقع ، فان الواقع تمام الموضوع لهذا الحكم التعليقي كما لا يخفى والتنزيل الاول بلحاظ هذا الحكم التعليقي ، وهذا الحكم التعليقي يثبت بهذا التنزيل الاول لمؤدى الامارة ، والتنزيل الثاني وهو تنزيل القطع بالواقع الجعلي منزلة القطع بالواقع الحقيقي بلحاظ فعلية هذا الحكم التعليقي ، فحينئذ لا يرد على بيان المحقق المذكور في الحاشية استدراكه في الكفاية (١).

وذلك لان هذا لا يراد على الاستدراك غير مستقيم ، والوجه فيه : انا نسأل عن التنزيل الاول انه هل هو بلحاظ الحكم المعلق على القطع بالواقع الحقيقي ، أو هو بلحاظ الحكم المعلق على القطع بالواقع الجعلي؟ فان كان بلحاظ الحكم المعلق على القطع بالواقع الحقيقي يلزم لغوية هذا التنزيل ، لان هذا التنزيل انما يثمر في ظرف فعلية الحكم ، وفعليته بتحقق القطع بالواقع الحقيقي كما هو المفروض مع انه عند القطع بالواقع الحقيقي لا حاجة الى هذا التنزيل ، بل نفس القطع بالواقع الحقيقي يكون موضوعاً للحكم مع قطع النظر عن هذا التنزيل ، وهذا غير خفي.

وان كان هذا التنزيل الأول بلحاظ الحكم المعلق على القطع بالواقع الجعلي فيرد عليه :

أولاً : انه مع هذا التنزيل يستغنى عن التنزيل الثاني ، اذ لو ثبت بهذا التنزيل الأول للواقع الجعلي الحكم على تقدير القطع به فبمجرد القطع به يتحقق موضوع الحكم ويصير فعليا بلا احتياج الى التنزيل الثاني.

__________________

(١) نهاية الأفكار ، ج ٣ ، ص ٢٦ بتصرف.

١١٧

وثانياً : ان مقتضى التنزيل هو اسراء حكم المنزل عليه الى المنزل لا جعل حكم مستقل للمنزل ، والمقام من قبيل الثاني ، فان حكم المنزل عليه انما هو الحكم على تقدير القطع بالواقع الحقيقي ، وحكم المنزل انما هو الحكم على تقدير القطع بالواقع الجعلي.

وثالثا : ان الحكم لو كان معلقا بالقطع بالواقع ، فحيث ان الواقع الجعلي هو اثر تنزيل المؤدى منزلة الواقع يلزم على هذا تعليق الحرمة على القطع بتلك الحرمة ، وسيأتي ان المحقق العراقي (قده) لا يجوّز ذلك. وجه اللزوم ان المفروض ان الحرمة علقت على القطع بالواقع الجعلي ، وليس جعل الواقع إلا عبارة عن التنزيل ، وليس التنزيل إلا عبارة عن اسراء الحكم وهو الحرمة الى المنزل عليه ، وهذا عبارة عن جعل الحرمة ، فتحصل ان الحرمة معلقة على القطع بالحرمة.

وان كان مراد المحقق العراقي انما هو المعلق عليه هو الجامع بين القطع بالواقع الحقيقي والقطع بالواقع الجعلي يرد عليه :

أولاً : انه هل يدعي كون هذا بعد تنزيل الجزء الآخر أو قبله؟ فان ادعى الأول كان خلاف المفروض ، وان ادعى الثاني قلنا ان الحكم الواقعي حينئذ انما هو معلق على القطع بالواقع الحقيقي ، فلم يكن حكم المنزل مطابقا لحكم المنزل عليه إلا على وجه المحال ، وهو ان يكون للتنزيل نظر الى ما هو متأخر عنه من الحكم الواقعي.

وثانياً : ان كان المراد الجامع بين القطع بالواقع الحقيقي ونفس عنوان القطع بالواقع الجعلي ، لم يكن احتياج الى التنزيل الثاني لكفاية القطع بالواقع الجعلي حينئذ في فعلية الحكم ، وان كان المراد الجامع بين القطع بالواقع الحقيقي وما كان منزلا منزلته بحيث اخذ في الفرض الثاني من الجامع عنوان التنزيل ، فحينئذ نحتاج الى تنزيل ثان ، لكن هذا ليس تنزيلا حتى مع التنزيل عن الاشكال الاول ، والقول بان المعلق عليه الحكم الواقعي ليس خصوص القطع بالواقع الجعلي ، بل الجامع بينه وبين ما نزل منزلته ، فانه بعد تسليم ذلك يكون المعلق عليه الحكم الواقعي الجامع

١١٨

بين القطع بالواقع وواقع ما نزل منزلته وهو القطع بالواقع الجعلي لا الجامع بين القطع بالواقع وعنوان ما نزل منزلته.

وثالثا : انه لا يعقل التعليق على الجامع بين القطع بالواقع الحقيقي والقطع بالواقع الجعلي لعدم معقولية التعليق على الفرد الثاني ولو في ضمن الجامع لاستلزامه اخذ القطع بالحرمة في موضوع تلك الحرمة. وكيف كان فقد تحصل ان اشكال المحقق العراقي (قده) لا يرد على استدراك المحقق الخراساني (قده) ، بل يرد على استدراك المحقق الخراساني (قده) وجه آخر ، وتوضيحه : انا ذكرنا ان عبارة المحقق الخراساني (قدس‌سره) في بيان وجه الملازمة بين التنزيلين مشوشة ، يحتمل منها احد الامرين المتقدمين وهما : دعوى الملازمة العرفية بين التنزيلين ، ودعوى ان الملازمة بدليل الاقتضاء ، فلا بد في المقام من التكلم على كل من الاحتمالين ، فنقول :

أما بناء على دعوى ان الملازمة عرفية فالاستدراك انما يتم بناء على ان مورد التنزيل الثاني هو ما جعله المحقق الخراساني (قدس‌سره) مورداً له في بيانه وفي استدراكه ، وهو ان يكون موضوع الحكم مركبا من الواقع والقطع به ، واما لو غيّرنا المورد وقلنا بان مورده هو ما يكون نفس القطع تمام الموضوع للحكم ، فيرتفع الاشكال المذكور في الاستدراك من اصله ، حيث ان كلا من التنزيلين بلحاظ حكم غير الحكم الملحوظ في التنزيل الآخر ، وأما لو كان الموضوع مركبا من الواقع والقطع به فيتم الاستدلال بالنسبة اليه بدعوى عدم القول بالفصل أو نحوه.

وأما بناء على دعوى ان الملازمة بدلالة الاقتضاء فنقول : ان غاية ما يثبت بدلالة الاقتضاء هو ان هناك شيئا على وجه الاجمال منزّل منزلة القطع بالواقع الحقيقي ولا تعين دلالة الاقتضاء ان ذلك الشيء هو القطع بالواقع الجعلي ، كما اعترف بذلك المحقق الخراساني (قدس‌سره) في بيانه ، ولذلك ذكر ان اقرب شيء يكون منزلا منزلة القطع بالواقع الحقيقي بحسب المناسبات هو القطع بالواقع الجعلي.

١١٩

والاشكال الذي ذكره في استدراكه انما نشأ من تعيين ما اقتضته دلالة الاقتضاء ، وهو القطع بالواقع الجعلي ، وإلا فلو لم نعينه بالقطع بالواقع الجعلي فلا يأتي الاشكال اصلا ، ولا وجه لتعيينه فيه ، بل يصح أن يكون الشيء المنزل منزلة الواقع الحقيقي مجملا ، وليتم موضوع الحكم بالتنزيل الثاني الذي يكون فيه المنزل مجملاً ، فان المنزل منزلة القطع في بدء النظر يتردد بين ان يكون ملازما للامارة وان يكون غير ملازم ، لكن اطلاق التنزيل الأول واطلاق دلالة الاقتضاء يقتضيان ان يكون ملازما للامارة ، لانه لو لم يكن ملازما ففي فرض انفكاكه عن الامارة يبقى التنزيل الأول بلا تنزيل ثان ، ويأتي محذور اللغوية ، فبمقتضى اطلاق التنزيل الاول واطلاق دلالة الاقتضاء يكون الشيء المنزّل منزلة القطع بالواقع الحقيقي ملازما للامارة ، فاذا ثبت انه دائما لا بد أن يكون ملازما للامارة ، فبمجرد تحقق الامارة وتحقق التنزيل الأول نعلم بأن شيئا غير معلوم لدينا منزّل منزلة القطع بالواقع الحقيقي ، وحينئذٍ لا يفرق بين ان يتعين ذلك الشيء عندنا او لا يتعين.

هذا وجه النظر في استدراك المحقق الخراساني (قده) في الكفاية على ما افاده في الحاشية على الرسائل ، وهو مع ذلك احسن من اصل بيانه ؛ إذ هو مطلب فني يعطي ضابطا كليا صحيحا لتنزيل المركب وإن لم يكن تطبيقه على ما نحن فيه تماماً ، وهذا بخلاف اصل بيانه فانه لا يستقيم اصلا ، ولا بد من التكلم فيه على كل من احتمالي وجه الملازمة بين التنزيلين.

فنقول أما بناء على دعوى الملازمة العرفية فوجه عدم استقامة البيان هو ان الملازمة العرفية لو كانت الى حد بحيث يكون اللفظ دالا على المدلول الالتزامي التزاما بالدلالة التصورية ، بحيث يخطر المدلول الالتزامي في الذهن من اللفظ على حد خطور المعنى الحقيقي منه ، وهذه الملازمة العرفية يكون المدلول الالتزامي فيها ثابتاً ، لكن لا بما هو بل بما ان اللفظ يكون دالاً عليه ، فيدخل تحت الظهورات ، وأما لو لم تكن الدلالة الالتزامية الى ذلك الحد ، بل كانت للغفلة والمسامحة من العرف ، فهي ليست حجة بلا اشكال ، وفيما نحن فيه لو سلمنا اصل الملازمة ، فنقطع انها ليست من قبيل الأول ، ولا اقل من ان لا نجزم بأنها من قبيل الأول ،

١٢٠