دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٢

ونتيجة الملاك الثاني تختص بالعبادة إذ لا يعتبر قصد القربة في غيرها وبالعالم بالحرمة ، لان من يجهل كونها مبغوضة يمكنه التقرّب.

ونتيجة الملاك الثالث تختص بالعبادة وبفرض تنجّز الحرمة ، وايضا تختص بالنهي النفسي لان الغيري ليس موضوعا مستقلا لحكم العقل بقبح المخالفة كما تقدّم في مبحث الوجوب الغيري.

ثم اذا فرضنا ان حرمة العبادة تقتضي بطلانها فان تعلقت بالعبادة بكاملها فهو ما تقدّم ، وان تعلقت بجزئها بطل هذا الجزء (١) لان جزء العبادة عبادة ، وبطل الكل اذا اقتصر على ذلك الفرد من الجزء ، وامّا اذا اتى بفرد آخر غير محرّم من الجزء صحّ المركّب اذا لم يلزم من هذا التكرار للجزء محذور آخر من قبيل الزيادة المبطلة لبعض العبادات. وإن تعلّقت الحرمة بالشرط (٢) نظر الى الشرط فان كان في نفسه عبادة كالوضوء (٣) بطل وبطل المشروط بتبعه ، وإلا (٤) لم يكن هناك موجب لبطلانه ولا لبطلان المشروط ، امّا الاول (٥) فلعدم كونه عبادة ، وامّا الثاني فلان عباديّة المشروط [كالصلاة] لا تقتضى بنفسها عباديّة الشرط (٦)

__________________

(١) ذكر هذه النقطة في الصورتين الثانية والثالثة للتنبيه الرابع من بحث اقتضاء النهي للفساد من تقريرات السيد الهاشمى ص ١٢٤. ومثالها ما لو نهى المولى عن قراءة احدى سور السجدة ورغم ذلك قرأها.

(٢) كاشتراط عدم التكتف في الصلاة.

(٣) حال التضرّر من استعمال الماء.

(٤) اي والّا فان لم يكن عبادة كالتكتف في الصلاة.

(٥) وهو قوله «لم يكن هناك موجب لبطلانه».

(٦) كالستر في الصلاة والتكتف فيها.

٣٢١

ولزوم الاتيان به على وجه قربي ، لان الشرط والقيد ليس داخلا تحت الامر النفسي المتعلق بالمشروط والمقيّد كما تقدّم في محلّه (*).

__________________

(*) اذا فهمنا من تحريم الشرط الارشاد الى افساده للعبادة كما هو الظاهر من النهي عن الشروط فلا كلام في البطلان ، والّا ان لم نستظهر ذلك فمجرّد الحرمة لا يدلّ على ابطاله للعبادة ، ولكن في وجود صغرى لهذا الفرض الاخير نظر.

نظرة في بحث «اقتضاء النهي في العبادات للبطلان»

قد يتصور ابتداء من حالات التحريم ان يكون التحريم متعلقا بنفس المتعلق كالشرك بالله تعالى او بآثاره كشرب الخمر ، أو لما يترتب على الفعل ـ كالصلاة مثلا ـ من ترك الاهم ـ كالانقاذ ـ وكصوم يوم عرفات لمن يضعفه الصيام عن الدعاء ، وامّا كون التحريم امتحانيا او ان التحريم قائم بنفس الجعل فحالتان قد لا نجد لهما مصاديق في الفقه ...

(لكن) ما نجده في الروايات الحالة الثالثة فقط وهي حالة التزاحم بين المهم والأهم لكن في مرحلة الملاك ، بمعنى ان المنهي عنه هو في الاصل عبادة لو لا الموانع الخارجية ، فصوم يوم عاشوراء مستحب ـ كما في الروايات ـ لو لم تكن شهادة سيد شهداء اهل الجنة عليه‌السلام فيه فقد افادت الروايات ان الصيام انما يكون شكرا لله وهذا يوم حزن ، فالصيام فيه يصير شماتة نعوذ بالله ، وصيام ايام التشريق لمن كان في منى بحسب الاصل مستحب لو لا كونهم ضيوف الله جلّ وعلا ، وصوم الضيف بحسب الاصل مستحب لو لا ما يفعله المضيف من الطعام لضيفه فيفسد عليه ، وصلاة الحائض مرغوب بها لو لا انها في حدّ النجاسة ...

(خلاصة الامر) أنه يمكن الجزم بمحبوبية هذه العبادات في ذاتها وان العوارض الخارجية هي التي جعلتها محرّمة او مكروهة ، اذن فالتحريم او الكراهية انما نشأت من المفسدة الغالبة على محبوبية هذه العبادات ، فبناء على هذا قد تصحّ هذه العبادات لانها مصاديق للجامع المأمور به ، (بل) يمكن اجراء البراءة عن تقييد صحة هذه العبادة بعدم كونها منهيا عنها بعد عدم تقييد جامع العبادة بشيء من هذا القبيل.

(هذا) من ناحية ،

٣٢٢

اقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة

وتحلّل المعاملة (١) الى السبب والمسبّب ، والحرمة تارة تتعلّق بالسبب واخرى بالمسبّب ، فان تعلّقت بالسبب (٢) فالمعروف بين الاصوليين انها لا تقتضي البطلان ، إذ لا منافاة بين ان يكون الانشاء والعقد مبغوضا وان يترتّب عليه مسبّبه ومضمونه ، وان تعلّقت بالمسبّب (٣) اي بمضمون المعاملة الذي يراد التوصل إليه بالعقد باعتبار المسبّب فعلا بالواسطة للمكلف وأثرا تسبيبيا له فقد يقال بان ذلك يقتضي البطلان لوجهين :

الاوّل : ان هذا التحريم يعني مبغوضية المسبّب ، اي التمليك بعوض في مورد البيع مثلا ، ومن الواضح ان الشارع اذا كان يبغض ان تنتقل ملكية السلعة للمشتري فلا يعقل ان يحكم بذلك ، وعدم الحكم بذلك عبارة اخرى عن البطلان.

__________________

(١) المراد بالمعاملة هنا ما يقابل العبادة اي ما يشمل العقود والايقاعات وغيرها. فالنهي عن إحياء ارض ـ كنهي الوالد عن ذلك او لحلفه مثلا على عدم الاحياء ـ داخل في هذا البحث

(٢) كالنهي عن الظهار ورغم ذلك يصحّ وتترتّب عليه آثاره

(٣) كبيع المصحف للكافر ـ بناء على تحريمه ـ حيث ان نفس تسليط الكافر على المصحف المبارك مبغوض ، فهل هذه المبغوضية وهذا التحريم يستلزمان بطلان هذا البيع؟

__________________

(وامّا) من ناحية نية القربة للمتوجّه فتحلّ بامكان قصد امتثال الجامع حتّى وإن كان يلازم ذلك الحرمة او الكراهة.

٣٢٣

والجواب : ان تملك المشتري للسلعة يتوقّف على امرين :

احدهما : ايجاد المتعاملين للسبب وهو العقد ، والآخر : جعل الشارع للمضمون ، (وقد) يكون غرض المولى متعلّقا بإعدام المسبّب من ناحية الامر الاوّل خاصة (١) ، لا باعدامه من ناحية الامر الثاني ، فلا مانع من ان يحرم المسبّب على المتعاملين ويجعل بنفسه المضمون (٢) على تقدير تحقق السبب.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (٣) من ان هذا التحريم يساوق الحجر على المالك وسلب سلطنته على نقل المال ، فيصبح حاله حال الصغير ، ومع الحجر لا تصحّ المعاملة.

والجواب : ان الحجر على شخص له معنيان :

احدهما : الحجر الوضعي بمعنى الحكم بعدم نفوذ معاملاته ،

والآخر : الحجر التكليفي بمعنى منعه ،

(فان) اريد ان التحريم يساوق الحجر بالمعنى الاوّل فهو اوّل الكلام ، (وان) اريد انه يساوقه بالمعنى الثاني فهو مسلّم ، ولكن من قال ان هذا يستتبع الحجر الوضعي؟!

__________________

(١) اي من طريق تحريم السبب لكونه سببا توليديا للحرام ، لا باعدام المسبّب من طريق عدم جعل السببية.

(٢) اي لا مانع من ان يحرّم حصول الملكية مثلا ورغم ذلك يحكم بصحّتها.

(٣) ذكره في تقريرات السيد الهاشمي ج ٣ ص ١٢٨.

٣٢٤

فالظاهر ان تحريم المسبّب لا يقتضي البطلان ، بل قد يقتضي الصحة كما اشرنا في حلقة سابقة (١).

__________________

(١) الحلقة الثانية ـ بحث اقتضاء الحرمة للبطلان ـ قال : «وفي الحالة الثانية قد يقال : ان التحريم المذكور يستلزم الصحّة ، لانه لا يتعلّق الا بمقدور ، ولا يكون المسبّب مقدورا الا اذا كان السبب نافذا ، فتحريم المسبّب يستلزم نفوذ السبب وصحّة المعاملة» انتهى(*).

__________________

(*) تتميم :

استدلّ المحقق النائيني (رحمه‌الله) على ان النهي في المعاملات يدلّ على الفساد ببعض الروايات من قبيل صحيحة زرارة عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : سالته عن مملوك تزوج بغير اذن سيده ، فقال : «ذاك الى سيّده ان شاء اجازه وان شاء فرّق بينهما» ، قلت : اصلحك الله ان الحكم بن عيينة وابراهيم النخعي واصحابهما يقولون : ان اصل النكاح فاسد ولا تحلّ اجازة السيد له ، فقال ابو جعفر عليه‌السلام : «انه لم يعص الله وانما عصى سيده ، فاذا اجازه فهو له جائز» وسائل ١٤ ، باب ٢٤ ابواب نكاح العبيد ح ١ ص ٥٢٣ ، بتقريب ان قول الامام عليه‌السلام «انه لم يعص الله» ناظر الى ادعاء الحكم بن عيينة واصحابه «ان اصل النكاح فاسد» اي : نعم ، لو عصى الله في العقد يكون النكاح فاسدا ، ممّا يعني بوضوح.

مع الاخذ بعين الاعتبار انه لا فرق بين عقد النكاح وغيره من المعاملات. ان النهي عن المعاملات يعني فساده. (محاضرات السيد الخوئى ٥. النهي عن المعاملات. ص ٤٨).

(واجابه) علماؤنا كالسيد الخوئي والسيد البجنوردي وسيدنا الشهيد (رضوان الله عليهم وحشرنا معهم) بما ملخّصه ان مراد الامام عليه‌السلام من «انه لم يعص الله» انه لم يعقد على الاجنبية في العدّة ولم يعقد على احدى محارمه ولم يعقد على خامسة ونحو ذلك من وجوه الحرام حتى يكون اصل نكاحه فاسدا وانما عقد عقدا شرعيا من جميع الجهات ، الّا انه لكونه عبدا لا يقدر على مثل هذه التصرفات فيحتاج الى اذن او اجازة سيده. ولا اقلّ من الاجمال في نظر الامام عليه‌السلام فلا يمكن الاستدلال بهكذا روايات على

٣٢٥

__________________

ان النهي في المعاملات يقتضي الفساد.

(ملاحظة) ذكرنا هذا التتميم هنا ـ اي في النهي عن المسبّب ـ ولم نذكره في النهي عن السبب لعدم كون تكلّم العبد واجرائه للعقد من دون اذن سيده منهيا عنه ، وانما المنهي عنه هو المسبّب كحصول العلقة الزوجية.

نظرة مختصرة الى اقتضاء حرمة السبب لبطلان المعاملة

انه تارة يكون النهي عن المعاملة نهيا تزاحميا فالمقتضي لصحّة المعاملة موجود ، وتارة يكون النهي عنها نهيا ملاكيا وهذا يقتضي بطلان المعاملة.

(توضيح ذلك) تارة ينهى المولى جلّ وعلا عن البيع بعد النداء لصلاة الجمعة مراعاة للاهمّ وهو صلاة الجمعة ، بمعنى ان البيع في نفسه ـ لو لا المزاحم ـ غير مبغوض ، وفي حالة التزاحم هذه لو فرض ان انسانا لم يراع الاهم وعقد عقد بيع فانّ عليه أن يفي به تمسّكا باطلاق (أوفوا بالعقود) (وإن شئت قلت) إن النهي عن البيع بعد النداء نهي غيري ـ اي لغرض التوجّه الى الصلاة ـ لا نهي نفسي كالنهي عن شرب الخمر ، فلا مفسدة من نفس البيع إذن بل فيه مقتضي الصحّة ، فاذا شككنا بسبب ذاك النهي الغيري في صحّة المعاملة ـ رغم الظنّ القوي بصحتها لسبب وجود المقتضي للصحّة ـ فعلينا ان نرجع الى قوله تعالى «اوفوا بالعقود» فنتمسك باطلاقه لينتج وجوب الوفاء اي صحّة المعاملة. وتارة يكون النهي عن المعاملة نهيا عنها لمبغوضيّتها في نفسها اي على مستوى الملاك ، وذلك كالبيع الربوي والقمار وكبيع المكره وبيع ما لا يجوز الانتفاع به بوجه من الوجوه كالخمر وكالمعاملة على الزنا والغيبة ونحوها من المعاملات المحرّمة ، فان مقتضى تحريم هكذا معاملات يناقض الامر بوجوب الوفاء بها ممّا يجعل اذهان المتشرّعة تنصرف من لفظة «العقود» الى خصوص العقود السائغة.

(فان قلت) إن الظهار حرام فكيف ترتبت آثاره؟

(قلت) ترتيب آثار الظهار هي عقوبة وهي تناسب حرمة السبب لا أنّ حرمة الظهار تناقض ترتّب الآثار.

٣٢٦

(الملازمة بين حكم العقل وحكم الشارع)

يقسّم الحكم العقلي الى قسمين :

احدهما : الحكم النظري وهو ادراك ما يكون واقعا (١).

والآخر : الحكم العملي وهو ادراك ما ينبغي او ما لا ينبغي ان يقع.

وبالتحليل نلاحظ رجوع الثاني الى الاوّل ، لان الثاني ادراك لصفة واقعية في الفعل وهي انه ينبغي ان يقع وهو الحسن او لا ينبغي وهو القبح. وعلى هذا نعرف ان الحسن والقبح صفتان واقعيّتان يدركهما العقل كما يدرك سائر الصفات والامور الواقعية ، غير انهما (٢) تختلفان عنها في اقتضائهما بذاتهما جريا عمليا معيّنا خلافا للامور الواقعية الاخرى. وعلى هذا الاساس يمكن ان يقال ان الحكم النظري هو ادراك الامور الواقعية التي لا تقتضي بذاتها جريا عمليا معيّنا ، والحكم العملي هو ادراك الامور الواقعية التي تقتضي بذاتها ذلك ، ويدخل ادراك العقل

__________________

(١) كادراك ان الكل اكبر من الجزء وادراك الالوان والهيئات والمصالح والمفاسد وسائر الامور الواقعية التي لا تقتضي بذاتها الجري العملي على طبقها.

(٢) اي غير ان الحسن والقبح يختلفان عن سائر الصفات ...

٣٢٧

للمصلحة والمفسدة في الحكم النظري لان المصلحة ليست بذاتها مقتضية للجري العملي ويختص الحكم العملي من العقل بادراك الحسن والقبح.

وسنتكلّم فيما يلي عن الملازمة بين كلا هذين القسمين من الحكم العقلي وحكم الشارع :

الملازمة بين الحكم النظري وحكم الشارع

لا شك في ان الاحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد وان الملاك متى ما تمّ بكل خصوصياته وشرائطه وتجرّد عن موانع التأثير (١) كان بحكم العلّة التامّة الداعية للمولى الى جعل الحكم على طبقه وفقا لحكمته تعالى. وعلى هذا الاساس فمن الممكن نظريا ان نفترض ادراك العقل النظري لذلك الملاك بكل خصوصياته وشئونه ، وفي مثل ذلك يستكشف الحكم الشرعي لا محالة استكشافا لميّا ، اي بالانتقال من العلّة الى المعلول. ولكن هذا الافتراض صعب التحقق من الناحية الواقعية في كثير من الاحيان لضيق دائرة العقل وشعور الانسان بانه محدود الاطلاع ، الامر الذي يجعله يحتمل غالبا ان يكون قد فاته الاطلاع على بعض نكات الموقف ، فقد يدرك المصلحة في فعل ولكنه لا يجزم عادة بدرجتها وبمدى اهميّتها وبعدم وجود اي مزاحم لها ، وما لم يجزم بكل ذلك لا يتمّ الاستكشاف.

__________________

(١) في النسخة الاصلية «عن الموانع عن التاثير» ، وما اثبتناه أولى.

٣٢٨

الملازمة بين الحكم العملي وحكم الشارع

عرفنا ان مرجع الحكم العملي الى الحسن والقبح وانهما أمران واقعيان يدركهما العقل. وقبل الدخول في الحديث عن الملازمة ينبغي ان نقول كلمة عن واقعية هذين الامرين : فان جملة من الباحثين فسّر الحسن والقبح بوصفهما حكمين عقلائيين اي مجعولين من قبل العقلاء تبعا لما يدركون من مصالح ومفاسد للنوع البشري (١) ، فما يرونه مصلحة كذلك يجعلونه حسنا وما يرونه مفسدة كذلك يجعلونه قبيحا ، ويميّزهما عن غيرهما من التشريعات العقلائية اتفاق العقلاء عليهما وتطابقهم على تشريعهما لوضوح المصالح والمفاسد التي تدعو الى جعلهما ، (وهذا) التفسير خاطئٌ وجدانا وتجربة ، امّا الوجدان فهو قاض بان قبح الظلم ثابت بقطع النظر عن جعل اي جاعل كامكان الممكن (٢) ، وامّا التجربة فلأن الملحوظ خارجيا عدم تبعية الحسن والقبح للمصالح والمفاسد ، فقد تكون المصلحة في القبيح اكثر من المفسدة فيه ، ومع هذا يتفق

__________________

(١) إشارة الى ان نظر العلماء وميزانهم هو مصالح ومفاسد النوع البشري ، لا مصالح ومفاسد غير البشر ، فانّ الحس عند البشر قد يكون قبيحا عند الحيوانات والحشرات وكذا العكس ، فالوساخة مثلا قبيحة عند البشر حسنة عند الحشرات.

(٢) هذا ردّ على قولهم بان ما «يرونه مصلحة» كذلك يجعلونه حسنا وما يرونه مفسدة كذلك يجعلونه قبيحا ، فقبح الظلم ثابت واقعا ولو لم يوجد عاقل في العالم ، والممكن ممكن بقطع النظر عن جعل اي جاعل.

٣٢٩

العقلاء على قبحه ، فقتل انسان لاجل استخراج دواء مخصوص من قلبه يتمّ به انقاذ انسانين من الموت اذا لوحظ من زاوية المصالح والمفاسد فقط فالمصلحة اكبر من المفسدة ، ومع هذا لا يشك احد في ان هذا ظلم وقبيح عقلا (*) فالحسن والقبح اذن ليسا تابعين للمصالح والمفاسد بصورة بحتة بل لهما واقعية تلتقي مع المصالح والمفاسد في كثير من الاحيان وتختلف معها أحيانا.

والمشهور بين علمائنا الملازمة بين الحكم العملي العقلي والحكم الشرعي ، وهناك من ذهب الى استحالة حكم الشارع في موارد الحكم العملي العقلي بالحسن والقبح ، فهذان اتجاهان :

اما الاتجاه الاوّل فقد قرّب بان الشارع احد العقلاء وسيّدهم فاذا كان العقلاء متطابقين بما هم عقلاء على حسن شيء وقبحه فلا بد ان يكون الشارع داخلا ضمن ذلك أيضا.

والتحقيق أنّا تارة نتعامل مع الحسن والقبح بوصفهما امرين واقعيين يدركهما العقل ، واخرى بوصفهما مجعولين عقلائيين رعاية للمصالح العامّة (١) ، فعلى الاوّل لا معنى للتقريب المذكور لان العقلاء بما هم عقلاء انما يدركون الحسن والقبح ولا شك في ان الشارع يدرك

__________________

(١) كوضع اشارات السير للحفاظ على النظام العام للسير.

__________________

(*) قد يستشكل في وضوح هذا الامر فيقال بانه بالمصلحة والمفسدة الغالبتين يتشخص الحسن والقبح دائما حتى بالنسبة الى هذا المثال ، ولذلك حكم فقهاؤنا على ما هو معروف عنهم بقتل المسلمين اذا تترّس بهم الكفّار وتوقّف نصر الاسلام على قتل المسلمين ... راجع جواهر الكلام ج ٢١ ص ٦٨ فما بعد.

٣٣٠

ذلك ، وانما الكلام في انه هل يجعل حكما تشريعيا على طبقهما او لا؟ وعلى الثاني إن اريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ ما ادركه العقلاء من المصالح العامّة التي دعتهم الى التحسين والتقبيح فهذا استكشاف للحكم الشرعي بالحكم العقلي النظري لا العملي لان مناطه هو ادراك المصلحة ولا دخل للحسن والقبح فيه ، وان اريد استكشاف الحكم الشرعي بلحاظ حكم العقلاء وجعلهم الحسن والقبح فلا مبرّر لذلك ، اذ لا برهان على لزوم صدور جعل من الشارع يماثل ما يجعله العقلاء.

وامّا الاتجاه الثاني فقد قرّب بان جعل الشارع للحكم في مورد حكم العقل بالحسن والقبح لغو لكفاية الحسن والقبح [العقليين] للادانة والمسئولية والمحركية.

ويرد على ذلك ان حسن الامانة وقبح الخيانة [العقليين] مثلا وان كانا يستبطنان درجة من المسئولية والمحرّكية غير ان حكم الشارع على طبقهما يؤدّي الى نشوء ملاك آخر للحسن والقبح وهو طاعة المولى ومعصيته ، وبذلك تتاكّد المسئولية والمحرّكية ، فاذا كان المولى مهتمّا بحفظ واجبات العقل العملي بدرجة اكبر مما تقتضيه الاحكام العملية نفسها حكم على طبقها وإلا فلا (*).

__________________

(*) تذكير : الاحكام نوعان : شرعية وعقلية ، امّا الشرعية فواضحة ، وامّا العقلية فهي حكم العقل بلزوم اطاعة المولى. وقلنا بانها عقلية. لا شرعية. لانها ان كانت شرعية اي يحكم المولى بلزوم اطاعة اوامره للزم التسلسل بمعنى ان قلنا : انّ الله تعالى هو الذي اوجب علينا اطاعته لسألنا انفسنا : ومن يقول يجب اطاعة امر المولى هذا؟ فان

٣٣١

وبذلك يتضح انه لا ملازمة بين الحكم العقلي العملي وحكم الشارع على طبقه ، ولا بينه وبين عدم حكم الشارع على طبقه ، فكلا الاتجاهين غير تام.

__________________

قلت : الله ، لرجع السؤال : ومن يقول : يجب اطاعة امره ... وهكذا ، اذن يلزم ان يكون الحاكم بلزوم اطاعة المولى هو العقل ولذلك سمّوا هذا الحكم بالحكم العقلي. ومن هنا قلنا هناك انّ مقدمة الواجب. مثلا. واجبة عقلا لان الذي يحكم بوجوبها هو العقل لا الشرع.

٣٣٢

(حجية الدليل العقلي)

الدليل العقلي ان كان ظنيا فهو بحاجة الى دليل على حجيّته ، ولا دليل على حجية الظنون العقلية (١) ، وامّا اذا كان قطعيا فهو حجة من اجل حجية القطع ، ونسب الى بعضهم القول بعدم حجية القطع الناشئ من الدليل العقلي وهو بظاهره غير معقول ، لان حجية القطع الطريقي غير قابلة للانفكاك عنه مهما كان سببه. ومن هنا حاول بعض الاعلام توجيهه ثبوتا بدعوى تحويل القطع من طريقي الى موضوعي ، وذلك بأن يفرض عدم القطع العقلي قيدا في موضوع الحكم المجعول (٢) ، فمع القطع العقلي لا حكم ليكون القطع منجّزا له.

ويرد على ذلك :

أوّلا : ان القطع العقلي الذي يؤخذ عدمه في موضوع الحكم هل هو

__________________

(١) بل الدليل على عدمه ، يظهر ذلك جليا من قوله تعالى (وما يتّبع أكثرهم إلّا ظنّا إنّ الظّنّ لا يغنى من الحقّ شيئا) و (ولا تقف ما ليس لك به علم) وغير ذلك من آيات كريمة واضحة في المطلوب.

(٢) أي إن لم يكن الحكم ناشئا من العقل فالحكم فعلي ، فمع القطع العقلي لا يكون الحكم فعليا ، وبالتالي هذا القطع بالحكم الناشئ من العقل لا ينجّز الحكم.

٣٣٣

القطع بالحكم المجعول (١) او بالجعل ، والاوّل واضح الاستحالة لان القطع بالمجعول يساوق في نظر القاطع ثبوت المجعول فعلا ، فكيف يعقل ان يصدّق بانه يساوق انتفاءه ، وأمّا الثاني فلا تنطبق عليه هذه الاستحالة إذ قد يصدّق القاطع بالجعل بعدم فعلية المجعول (٢) ، ولكن التصديق بذلك هنا خلاف المفروض ، لان المفروض قيام الدليل العقلي القطعي على ثبوت تمام الملاك للحكم (٣) ، فكيف يعقل التصديق باناطة الحكم بقيد آخر (٤)؟ وبكلمة موجزة : ان المكلف اذا كان قاطعا عقلا بثبوت تمام الملاك للحكم فلا يمكن ان يصدق باناطته بغير ما قطع عقلا بثبوته ، واذا كان قاطعا عقلا بثبوت الملاك للحكم ولكن على نحو لا يجزم بانه ملاك تام ويحتمل دخل بعض القيود فيه (٥) ، فليس هذا القطع حجّة في نفسه بلا حاجة الى بذل عناية في تحويله من طريقي الى موضوعي.

وثانيا : ان القطع العقلي لا يؤدي دائما الى ثبوت الحكم بل قد

__________________

(١) أي الفعلي ، مثاله : اذا لم يكن القطع بالوجوب الفعلي للصلاة مثلا عقليا فامتثل اي فتجب عليك الصلاة ح ، ومثال الثاني : اذا لم يكن القطع باصل الوجوب عقليا فامتثل.

(٢) كما فيمن يقطع باصل وجوب الصلاة ولا يقطع بفعليتها عليه ولو لعدم علمه بدخول وقت الصلاة.

(٣) اي لاصل الجعل.

(٤) وهو عدم كون القطع عقليا.

(٥) كدخالة عدم كون القطع عقليا.

٣٣٤

يؤدّي الى نفيه (١) ، من قبيل ما يستدل به على استحالة الامر بالضدين ولو على وجه الترتّب (٢) ، فما ذا يقال بهذا الشأن؟ وهل يفترض ان المولى يجعل الحكم المستحيل في حقّ من وصلت اليه الاستحالة بدليل عقلي على الرغم من استحالته؟!

فالصحيح اذن ان المنع شرعا عن حجية الدليل العقلي القطعي غير معقول لا بصورة مباشرة ولا بتحويله من القطع الطريقي الى الموضوعي.

ولكنّ القائلين (٣) بعدم حجية الدليل العقلي استندوا الى جملة من الروايات التي ندّدت بالعمل بالادلة العقلية (٤) واكّدت على عدم قبول اي عمل غير مبني على الاعتراف بأهل البيت عليهم‌السلام ونحو ذلك من الألسنة.

والصحيح ان الروايات المذكورة لا دلالة فيها على ما يدّعى ، وانما

__________________

(١) يقول : ان القطع العقلي لا يثبت دائما احكاما وانما قد ينفيها لاستحالتها ، كما لو قطع العقل باستحالة اجتماع حكمين متضادّين على متعلّق واحد ، فهل تتصوّر ان ينهانا الشارع عن هكذا احكام بدعوى انها عقلية؟!

(٢) كما يدّعي ذلك صاحب الكفاية ، إذ انه يدّعي الاستحالة ولو على وجه الترتب ، وقد مرّ توضيحه في محلّه.

(٣) نسب ذلك الى الاخباريين ، راجع هذا البحث في مصباح الاصول ج ٢ ص ٥٤ ، ومنتهى الاصول ج ٢ ص ١٤ ومنتهى الدراية ج ٤ ص ١٥٢.

(٤) من قبيل «ان دين الله لا يصاب بالعقول» و «ليس شيء ابعد عن دين الله من عقول الرجال» و «اما انه شرّ عليكم ان تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا» وغير ذلك كثير تجده في مقدّمات جامع احاديث الشيعة والباب السادس والسابع من صفات القاضي من الوسائل.

٣٣٥

هي بصدد امور اخرى ، فبعضها بصدد المنع من التعويل على الرأى والاستحسان ونحو ذلك من الظنون العقلية ، وبعضها بصدد بيان كون الولاية شرطا في صحّة العبادة ، وبعضها بصدد بيان عدم جواز الانصراف عن الادلّة الشرعية والتوجّه رأسا الى الاستدلالات العقلية ، مع ان التوجّه الى الادلّة الشرعية كثيرا ما يحول دون حصول القطع من الاستدلال العقلي كما هو الحال في رواية ابان الواردة في دية اصابع المرأة (١).

وبهذا ينتهي البحث في الدليل العقلي وبذلك نختم الكلام في مباحث الادلة من الحلقة الثالثة. وقد كان الشروع فيها في اليوم التاسع عشر من جمادى الثانية ١٣٩٧ ه‍ ، وكان الفراغ في اليوم الثالث

__________________

(١) وهي رواية صحيحة مشهورة رواها المحمّدون الثلاثة في كتبهم (الكافي ، الفقيه ، والتهذيب) والبرقي في محاسنه وهي :

محمد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم عن ابيه عن ابن ابي عمير ومحمد بن يعقوب عن محمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان عن ابن ابي عمير عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن ابان بن تغلب قال قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في رجل قطع اصبعا من اصابع المرأة كم فيها؟ قال : عشرة من الابل ، قلت : قطع اثنتين؟ قال : عشرون ، قلت : قطع ثلاثا؟ قال : ثلاثون ، قلت : قطع اربعا؟ قال : عشرون. قلت : سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع اربعا فيكون عليه عشرون! إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ونقول : الذي جاء به شيطان ، فقال : «مهلا يا ابان ، هذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّ المرأة تعاقل الرجل الى ثلث الدّية ، فاذا بلغت الثلث رجعت الى النصف ، يا ابان انك اخذتني بالقياس ، والسّنّة إذا قيست محق الدين» وسائل ١٩ ، باب ٤٤ من ابواب ديات الاعضاء ح ١ ص ٢٦٨.

٣٣٦

والعشرين من شهر رجب ١٣٩٧ ه‍ ، وبما ذكرناه يتمّ الجزء الاوّل من الحلقة الثالثة ويتلوه الجزء الثاني الذي تكتمل به هذه الحلقة إن شاء الله تعالى ، وهو في مباحث الاصول العملية ، والى المولى سبحانه نبتهل ان يتقبّل منا هذا بلطفه ويوفّقنا لمراضيه والحمد لله اوّلا وآخرا. (*)

__________________

(*) وصل العبد الفقير الى ربّه الى هذا المكان ليلة الجمعة الواقعة في التاسع عشر من شهر ربيع الاوّل من عام ١٤١٨ ه‍ ق ولا نزال نعيش تحت اضواء وانوار ولادة سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفيده الامام الصادق عليه‌السلام وتمت مراجعته يوم الثلاثاء الواقع في ٢٢ شوّال المكرّم من عام ١٤١٩ ه‍ وذلك في قم المقدّسة والمشرّفة بالسيدة فاطمة المعصومة عليه‌السلام وحشرنا الله معها ومع آبائها الطاهرين وابنائهم المعصومين انه ارحم الراحمين ،

(*) وتمّت مراجعته للطبعة الثانية في ١٢ شعبان المعظم من سنة ١٤٢٥ ه‍ الواقع في ٢٧ / ٩ / ٢٠٠٤ م في بيروت حماها الله من كل مكروه ،

والحمد لله رب العالمين

٣٣٧
٣٣٨

الفهرس

القسم الثاني وائل الإثبات التعبدي ................................................. ٥

المرحلة الأولى: وفي اثبات أصل حجية الاخبار ....................................... ٥

المرحلة الثانية وفي تحديد دائرة حجية الاخبار ...................................... ٨٥

حجية الخبر مع الواسطة ...................................................... ٩٢

في قاعدة التسامح في أدلة السنن ................................................ ٩٧

البحث الثالث في حجية الظهور ............................................... ١٠٥

اقسام الدلالة ............................................................. ١٠٥

دليل حجية الظهور ........................................................ ١٠٩

تشخيص موضوع الحجية ................................................... ١١٩

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي ............................................ ١٢٧

الظهور الموضوعي في عصر النص ............................................ ١٢٨

التفصيلات في الحجية ..................................................... ١٣١

الخلط بين الظهور والحجية .................................................. ١٤١

الظهور الحالي ............................................................. ١٤٦

٣٣٩

الظهور التضمني ............................................................. ١٤٨

الدليل العقلي ............................................................... ١٥٥

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور ........................................... ١٦١

شرطية القدرة ومحلها ....................................................... ١٦١

حالات ارتفاع القدرة ....................................................... ١٦٩

الجامع بين المقدور وغيره .................................................... ١٧٢

وشرطية القدرة بالمعنى الاعم.................................................... ١٧٥

ما هو الضد؟ ............................................................. ١٨٦

اطلاق الواجب لحالة المزاحمة ................................................ ١٨٨

التقييد بعدم المانع الشرعي .................................................. ١٩١

قاعدة امكان الوجوب المشروط ................................................ ١٩٤

المسؤولية تجاه القيود والمقدمات ................................................. ١٩٩

القيود المتاخرة زمانا عن المقيد .................................................. ٢٠٣

زمان الوجوب والواجب (الواجب المعلق) ........................................ ٢١٣

(المقدمة المفتوتة).............................................................. ٢١٣

المسؤولية عن المقدمات قبل الوقت ............................................. ٢١٩

أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم ........................................... ٢٢٥

اخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه .......................................... ٢٢٥

أخذ العلم بالحكم في موضوع ضده أو مثله .................................... ٢٣٤

٣٤٠