دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٢

المحتمل الثالث : ان يكون موضوع الحجية هو الظهور التصديقي الذي لا يعلم بوجود قرينة منفصلة على خلافه.

والفارق بين هذا وسابقه ان عدم القرينة واقعا دخيل في موضوع الحجية على الاحتمال الثاني وليس دخيلا على الاحتمال الثالث بل يكفي عدم العلم بالقرينة.

وتختلف هذه الاحتمالات في كيفية تطبيق الحجية على موضوعها ، فانه على الاحتمال الاوّل تطبق حجية الظهور على موضوعها ابتداء حتى في حالة احتمال القرينة المتصلة فضلا عن المنفصلة ، لان موضوعها هو الظهور التصوّري بحسب الفرض ، وهذا لا يتزعزع بالقرينة المتصلة

__________________

الاول من ناحية احتمال القرينة المتصلة التي تقدم في المقدمة انها تثلم الظهور التصديقي ، او شككنا في الثاني من ناحية احتمال القرينة المنفصلة فلا تجري اصالة الظهور بل كنّا بحاجة الى اصل في المرتبة السابقة ينقّح لنا موضوع اصالة الظهور وهو اصالة عدم القرينة المتصلة والمنفصلة ، فانه باصالة عدم القرينة المتصلة نحرز الجزء الاوّل وهو الظهور التصديقي ، وباصالة عدم القرينة المنفصلة نحرز الجزء الثاني ، فنحتاج الى اجراء اصلين طوليين الّا اذا قطعنا وجدانا بعدم القرينة المتصلة او المنفصلة» انتهى ، ومراده (قده) هنا من «الظهور التصديقي» هو الاستعمالي ، بدليل ما ذكره هنا من قوله انه «باصالة عدم القرينة المتصلة نحرز الظهور التصديقي» وما ذكره في اجود التقريرات من «ان الظهور فيما قال (أي الظهور الاستعمالي) يكفي فيه عدم القرينة المتصلة ، والظهور فيما اراد (اي المدلول الجدّي) مشروط بعدم القرينة المنفصلة».

١٢١

المحتملة فضلا عن المنفصلة كما عرفت ، فلا تحتاج اذن الّا الى اصالة الظهور. وامّا على الاحتمال الثاني فانما يمكن الرجوع الى اصالة الظهور مباشرة مع الجزم بعدم القرينة ، ولا يمكن الرجوع اليها كذلك مع احتمال القرينة المتصلة ، لان موضوع الحجية على هذا الاحتمال هو الظهور التصديقي وهو غير محرز مع احتمال القرينة المتصلة على الخلاف. فلو قيل بحجية الظهور في هذه الحالة لكان اللازم أوّلا افتراض اصل عقلائي ينفي القرينة المتصلة لكي ينقّح موضوع اصالة الظهور باصالة عدم القرينة ، وكذلك لا يمكن الرجوع الى اصالة الظهور مباشرة ـ على الاحتمال الثاني ـ مع احتمال القرينة المنفصلة ، لان المفروض انه قد اخذ عدمها في موضوع حجية الظهور ، فمع الشك فيها لا تحرز حجية الظهور بل يحتاج الى اصالة عدم القرينة اوّلا لتنقيح موضوع الحجية في اصالة الظهور ، وامّا الاحتمال الثالث فهو كالاحتمال الثاني في عدم امكان الرجوع الى اصالة الظهور مباشرة مع احتمال القرينة المتصلة ، لان موضوع الحجية ـ وهو الظهور التصديقي ـ غير محرز مع هذا الاحتمال ، الّا ان الاحتمال الثالث يختلف عن سابقه في امكان الرجوع الى اصالة الظهور مباشرة مع احتمال القرينة المنفصلة ، لان موضوع الحجية ـ على الاحتمال الثالث ـ محرز حتى مع هذا الاحتمال (١) بينما لم يكن محرزا معه على الاحتمال الثاني.

__________________

(١) وذلك لان موضوع الحجية على هذا الاحتمال هو شخص الكلام الذي نجهل بوجود قرائن منفصلة مخالفة له ، بينما موضوع الحجية على الاحتمال الثاني كان هو مجموع الكلام لقوله هناك «ان موضوع الحجية مركّب من جزءين الظهور التصديقي وعدم القرينة المنفصلة»

١٢٢

والتحقيق في تمحيص هذه الاحتمالات ان الاحتمال الاوّل ساقط ، لان المقصود من حجية الظهور (*١) تعيين مراد المتكلّم بظهور (١) كلامه ، وهي (٢) انما تناط عقلائيا بالحيثية الكاشفة عن هذا المقصود ، اذ ليس مبنى العقلاء في الحجية على التعبّد المحض ، وما يكشف عن المراد ليس هو الظهور التصوّري بل التصديقي ، فاناطة الحجية بغير حيثيّة الكشف بلا موجب عقلائيا ، فيتعيّن ان يكون موضوع الحجية هو الظهور التصديقي (* ٢). كما ان الاحتمال الثاني ساقط ايضا ، باعتبار انه يفترض الحاجة في مورد الشك في القرينة المنفصلة الى اجراء اصالة عدم القرينة اوّلا ثم اصالة الظهور ، مع ان نفي القرينة المنفصلة عند احتمالها لا مبرّر له عقلائيا الّا كاشفية الظهور التصديقي عن ارادة مفاده وان ما قاله (٣) يريده ، وهي كاشفية مساوقة لنفي القرينة المنفصلة. وحيث ان الاصول العقلائية تعبّر عن حيثيات من الكشف المعتبرة عقلائيا وليست مجرّد تعبّدات بحتة فلا معنى حينئذ لافتراض اصالة عدم القرينة ثم اصالة الظهور ، بل يرجع

__________________

(١) قال «بظهور كلامه» لان مراد المتكلم يعرف عادة من ظاهر كلامه ، نعم تتدخّل احيانا بعض قرائن لتبرز ارادة خلاف هذا الظاهر.

(٢) اي ان حجية الظهور تتوقف على معرفة المراد الجدّي للمتكلّم.

(٣) ... بشخص هذا الكلام ...

__________________

(* ١) (اقول) بما ان المقصود من حجية الظهور هو كون الظهور حجّة تنجيزا وتعذيرا ، وهذه الحجية لا تترتب الّا بعد تعيين مراد المتكلم ، لذلك كان الاولى ان يقول «لان المقصود من حجية الظهور هو ما يترتّب على تعيين المراد الجدّي للمتكلم».

(* ٢) لعلّ الاولى اضافة «الثاني» لانه هو رأي السيد المصنّف (قده).

١٢٣

الى اصالة الظهور (١) مباشرة ، لان كاشفيّته (٢) هي المناط في نفي القرينة

__________________

(١) اي بل يرجع الى اصالة الظهور مباشرة التي موضوعها الظهور التصديقي لشخص الكلام. أو قل : اذا شككنا في وجود قرينة منفصلة فانه يحكم عقلائيا بحجية شخص هذا الكلام ، ثم إذا جاءت قرينة مخالفة تسقط هذه الحجية وتتبدّل بحجية اخرى.

(ومن هنا) تعرف ان هذا الرد على المحقق هو ردّ على اصل مبناه القائل بان موضوع الحجية هو مجموع الكلام ـ بما فيه القرائن المنفصلة ـ لا شخص الكلام(*).

(٢) اي لان كاشفية ظهور شخص الكلام

____________________________________

(*) ويمكن للمحقق النائيني (قدس‌سره) ان يدافع عن مسلكه بان ما ذكره السيد الشهيد رحمه‌الله صحيح بالنسبة الى كلام سائر العقلاء ، اما الشارع المقدّس فقد عوّدنا على بيان مراده الجدّي بشكل مقطّع ، ولذلك ترى الفقهاء لا يعتبرون عموما او اطلاقا حجّة حتى ينظروا الى المجاميع الروائية ليتاكّدوا من عدم وجود مخصّص او مقيّد ونحو ذلك.

(ومن يدقّق) في مجموع ما ذكره المحقق النائيني في هذا المبحث وفي اوائل ابحاث التعارض يعرف انه يرى انعقاد الاطلاق الوارد في شخص الكلام لكن بدوا ومن غير ترتب الحجية عليه لانه اطلاق بدوي ، ثم بعد الفحص عن قرائن منفصلة يعرف تمام المراد الجدّى للمتكلم ، بمعنى انه إن وجد قرائن تقيّد ذاك المطلق يسقط ذاك الاطلاق البدوي وبالتالي تسقط حجيته. (بخلاف) مقالة السيد المصنف (قده) الذي يرى ترتب الحجية على الظهور التصديقي لشخص الكلام ثم اذا وجدنا قرينة منفصلة مقيّدة مثلا فان الحجية تسقط دون المدلول التصديقي لشخص الكلام المطلق.

وسياتيك في ابحاث التعارض ان الصحيح هي مقالة المحقق النائيني والسيد الخوئى (رحمهما‌الله) لكن ببيان آخر.

١٢٤

المنفصلة لا انها مترتبة على نفي القرينة بأصل سابق (١).

وهكذا يتعيّن الاحتمال الثالث. وعليه فان علم بعدم القرينة مطلقا او بعدم القرينة المتصلة خاصّة مع الشك في المنفصلة رجعنا الى اصالة الظهور ابتداء ، وان شك في القرينة المتصلة فهناك ثلاث صور :

الصورة الاولى : ان يكون الشك في وجودها لاحتمال غفلة السامع عنها ، وفي هذه الحالة تجري اصالة عدم الغفلة لانها على خلاف العادة وظهور الحال وبها تنفى القرينة ، وبالتالي ينقّح الظهور الذي هو موضوع الحجية. ونسمّي اصالة عدم الغفلة في هذه الصورة بأصالة عدم القرينة لانه بها تنتفي القرينة [المحتملة].

الصورة الثانية : ان يكون الشك في وجودها لاحتمال اسقاط الناقل لها ، وفي هذه الحالة يمكن نفيها بشهادة الراوي المفهومة من كلامه ـ ولو ضمنا ـ بانه استوعب في نقله تمام ما له دخل في افادة المرام ، وبذلك يحرز موضوع اصالة الظهور.

الصورة الثالثة : ان يكون الشك في وجودها غير ناشئ من احتمال الغفلة ولا من الاسقاط المذكور فلا يمكن الرجوع الى اصالة الظهور ابتداء للشك في موضوعها وهو الظهور التصديقي ، ولا يمكن تنقيح موضوعها باجراء اصالة عدم القرينة لانه لا توجد حيثية كاشفة عقلائيا عن عدم القرينة

__________________

(١) فان العقلاء حينما يعتبرون ظهورا ما حجّة فانهم يعتبرون ظهور شخص الكلام حجّة ، لا أنهم ينفون اوّلا القرائن المنفصلة المحتملة ثم يستظهرون ثم يعتبرونه حجّة ، فان هكذا طولية هي امور تعبدية لا تناسب طبيعة العقلاء الذين يعتبرون كاشفية شخص الكلام هي موضوع الحجية.

١٢٥

المحتملة لكي يعتبرها العقلاء ويبنون على اصالة عدم القرينة ، وبهذا نعرف ان احتمال القرينة المتصلة في مثل هذه الحالة يوجب الاجمال.

وبما ذكرناه اتضح ان اصالة الظهور واصالة عدم القرينة كل منهما اصل عقلائي في مورده (١) ، فالاوّل يجري في كل مورد احرزنا فيه الظهور التصديقي وجدانا او بأصل عقلائي آخر ، والثاني يجري في كل مورد شك فيه في القرينة المتصلة لاحتمال الغفلة (٢) ، ولا يرجع احد الاصلين الى الآخر خلافا للشيخ الانصاري (قدس سرّه) (٣) حيث ارجع اصالة الظهور الى اصالة عدم القرينة ، ولصاحب الكفاية رحمه‌الله حيث ارجع اصالة عدم القرينة الى اصالة الظهور (٤).

__________________

(١) وان كان احدهما في طول الآخر كما مرّ سابقا مرارا من ان اصالة عدم القرينة تنقّح موضوع اصالة الظهور.

(٢) الغفلة هنا شاملة للخطإ والنسيان لوحدة المناط فيها.

وهذا الكلام على مبناه (قده) ، امّا على مبنى المحقق النائيني فاصالة عدم القرينة تجري ايضا لنفي احتمال وجود قرينة منفصلة بعد الفحص.

(٣) راجع بحوث السيد الحائري ج ٢ / ٢ ، ص ١٧٤ عند قوله «وامّا نسبة اصالة الظهور الى اصالة عدم القرينة ...».

(٤) قد يقرّب كلام الشيخ الاعظم الانصاري رحمه‌الله بوجود تلازم بين احتمال وجود قرينة متصلة واحتمال ارادة خلاف الظاهر ، وان احتمال وجود قرينة متصلة قد غفل عنها السامع او الناقل هو الاحتمال الوحيد لاحتمال ارادة خلاف الظاهر ، فيكتفى باجراء اصالة عدم القرينة لازالة سبب ومنشأ الاحتمال الثاني فتثبت الارادة الجدية لشخص الكلام بلا حاجة الى جريان اصالة الظهور ، فكان المرجع اذن هي اصالة عدم القرينة.

وقد يقرّب كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله بان العقلاء إنما يبنون على استكشاف

١٢٦

الظهور الذاتي والظهور الموضوعي

الظهور سواء كان تصوريا او تصديقيا تارة يراد به الظهور في ذهن انسان معيّن وهذا هو الظهور الذاتي ، واخرى يراد به الظهور بموجب علاقات اللغة واساليب التعبير العام وهذا هو الظهور الموضوعي. والاوّل يتأثّر بالعوامل والظروف الشخصية للذهن التي تختلف من فرد الى آخر تبعا الى انسه الذهني وعلاقاته ، بخلاف الثاني الذي له واقع محدّد يتمثّل في كل ذهن يتحرّك بموجب علاقات اللغة واساليب التعبير العام.

__________________

المراد الجدّي من خلال ما فهموه وما نقل إليهم ، وكأنّهم يقولون «الظاهر ان مراده الجدّي هو ما فهمناه او ما نقل إلينا ـ بلا زيادة ولا نقيصة ـ» من دون حاجة ـ بعد هذا ـ الى قولهم قبل ذلك «الاصل عدم وجود قرينة متصلة على الخلاف» ، فيكتفون باجراء اصالة الظهور وان المتكلم يريد جدّا وواقعا عين ما فهمناه منه وذلك لان المجاز على خلاف الطبع الاوّلي والدلالات الوضعية للكلام ، فان ارتكازهم على ان المراد الجدّي هو ما فهمه السامع او الناقل يعني انهم يرون ان المتكلّم اراد جدّا عين ما فهمه السامع من اطلاق او عموم وحقيقة ونحو ذلك لا انه يريد معنى مقيّدا او خاصا او مجازيا ، ومن هنا تعرف ان اصالة الظهور تغني عن اصالة عدم القرينة لانها تتضمّنها ، فهي اذن الاصل.

(وهذا) التقريب لكلام صاحب الكفاية اسلم مما ذكره هو نفسه في تعليقته على الرسائل من انه قد يتفق ان نقطع بعدم القرينة المتصلة مع شكنا في ارادة المعنى الظاهر ... فانه يرد عليه عدم تصوّر ذلك ـ ثبوتا ـ للملازمة بين الشك في احدهما مع الشك في الآخر كما ذكرنا قبل قليل.

(وعلى ايّ حال) لا ثمرة من هذا البحث فلا نطيل.

١٢٧

وما هو موضوع الحجية هو الظهور الموضوعي ، لان هذه الحجية قائمة على اساس ان ظاهر حال كل متكلّم ارادة المعنى الظاهر من اللفظ ، ومن الواضح ان ظاهر حاله باعتباره انسانا عرفيا ارادة ما هو المعنى الظاهر موضوعيا لا ما هو الظاهر نتيجة لملابسات شخصية في ذهن هذا السامع او ذاك.

واما الظهور الذاتي ـ وهو ما قد يعبّر عنه بالتبادر او الانسباق ـ فيمكن ان يقال بانه امارة عقلائية على تعيين الظهور الموضوعي ، فكل انسان اذا انسبق الى ذهنه معنى مخصوص من كلام ولم يجد بالفحص شيئا محدّدا شخصيا يمكن ان يفسّر ذاك الانسباق فيعتبر هذا الانسباق دليلا على الظهور الموضوعي (١).

وبهذا ينبغي ان يميّز بين التبادر على مستوى الظهور الذاتي والتبادر على مستوى الظهور الموضوعي.

فالاوّل (٢) كاشف عن الظهور الموضوعي وبالتالي عن الوضع.

والثاني كاشف انّي تكويني ـ مع عدم القرينة ـ عن الوضع.

الظهور الموضوعي في عصر النص

لا شك في ان ظواهر اللغة والكلام تتطوّر وتتغيّر على مرّ الزمن

__________________

(١) وبالنتيجة نرى ان الظهور الذاتي يكون بالنسبة الى المستظهر مرآة وطريقا لمعرفة الظهور الموضوعي كما كان الامر في القطع الذاتي والقطع الموضوعي.

(٢) اي التبادر الذاتي.

١٢٨

بفعل مؤثرات مختلفه لغوية وفكريّة واجتماعية (١). فقد يكون ما هو المعنى الظاهر في عصر صدور الحديث مخالفا للمعنى الظاهر في عصر السّماع الذي يراد العمل فيه بذاك الحديث ، وموضوع حجية الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له لانها حجية عقلائية قائمة على اساس حيثية الكشف والظهور الحالي.

ومن الواضح ان ظاهر المتكلم ارادة ما هو المعنى الظاهر فعلا في زمان صدور الكلام منه ، وعليه فنحن بالتبادر نثبت ـ بطريق الإنّ (٢) ـ الظهور الذاتي ، وبالظهور الذاتي نثبت الظهور الموضوعي في عصر السماع ، ويبقى علينا ان نثبت ان الظهور الموضوعي في عصر السماع مطابق للظهور الموضوعي في عصر الكلام الذي هو موضوع الحجية (٣) ، وهذا ما نثبته بأصل عقلائي يطلق عليه اصالة عدم النقل وقد نسميه باصالة الثبات في اللغة ، وهذا الاصل العقلائي يقوم على اساس ما يخيّل لا بناء العرف ـ نتيجة للتجارب الشخصية ـ من استقرار اللغة وثباتها ، فان الثبات النسبي والتطوّر البطيء للغة يوحي للافراد الاعتياديين بفكرة عدم تغيّرها وتطابق ظواهرها على مرّ الزمن ، وهذا الايحاء وإن كان خادعا ولكنه على ايّ حال ايحاء عام استقرّ بموجبه البناء العقلائي على إلغاء

__________________

(١) يظهر هذا جليا من خلال الشعر في العصر الجاهلي ونحوه.

(٢) اي بطريق كشف المعلول عن العلّة.

(٣) فان موضوع الحجية ظهور الكلام في عصر صدور الكلام ، وهو هنا عصر المعصومين عليهم‌السلام ، لا عصر السماع وهو عصرنا ، وذاك لانّ المتكلم انما يكلّم السائل بلسانه لا بلساننا نحن.

١٢٩

احتمال التغيّر في الظهور باعتباره حالة استثنائية نادرة تنفى بالاصل ، وبامضاء الشارع للبناء المذكور نثبت شرعية اصالة عدم النقل او اصالة الثبات. ولا يعني الامضاء تصويب الشارع للايحاء المذكور ، وانما يعني من الناحية التشريعية جعله احتمال (١) التطابق حجّة ما لم يقم دليل على خلافه.

ولا شك ايضا في ان المتشرّعة الذين عاصروا المعصومين خلال اجيال عديدة طيلة قرنين ونصف من الزمان كانت سيرتهم على العمل باصالة عدم النقل وعلى الاستناد في اواسط هذه الفترة واواخرها الى ما يرونه من ظواهر الكلام الصادر في بدايات تلك الفترة مع انها كانت فترة حافلة بمختلف المؤثّرات والتجديدات الاجتماعية والفكرية التي قد يتغيّر الظهور بموجبها.

ولكن اصالة عدم النقل لا تجري فيما اذا علم بأصل التغير في الظهور او الوضع وشك في تاريخه ، [وذلك] لعدم انعقاد بناء عقلائي في هذه الحالة على افتراض عدم النقل في الفترة المشكوكة ، والسرّ في ذلك ان البناءات العقلائية انما تقوم على اساس حيثيات كشف عامة نوعية ، فحينما يلغى احتمال النقل عرفا يستند العقلاء في تبرير ذلك الى ان النقل حالة استثنائية في حياة اللغة بحسب نظرهم ، وامّا من حيث

__________________

(١) يقصد بالاحتمال هنا الظن القوي بدليل ما سيذكره في الجملة الاخيرة في هذا البحث من قوله «.... وانما المتيقّن منها عقلائيا حالات الاحتمال الساذج للتغير والنقل.» وذلك لان الارتكاز العقلائي مبني على حيثية الكشف وليس مبنيا على التعبد المحض.

١٣٠

تثبت هذه الحالة الاستثنائية فلا تبقى حيثية كشف مبرّرة للبناء على نفي احتمال تقدمها.

بل لا يخلو التمسك باصالة عدم النقل من اشكال في الموارد التي علم فيها بوجود ظروف معيّنة بالامكان ان تكون سببا في تغيّر مدلول الكلمة ، وانما المتيقّن منها (١) عقلائيا حالات الاحتمال الساذج للتغير والنقل.

التفصيلات في الحجية

توجد عدّة اقوال تتّجه الى التفصيل في حجية الظهور ـ وقد اشرنا الى احدها (٢) في الحلقة السابقة ـ ونذكر فيما يلي اثنين من تلك الاقوال :

__________________

(١) اي ان القدر المتيقن من موارد جريان اصالة عدم النقل هو حالة وجود احتمال ساذج وضعيف في النقل.

(٢) وهو التفصيل في الحجية بلحاظ ظواهر القرآن الكريم وظواهر غيره وهو منسوب الى الاخباريين ، وقد خرج هناك السيد المصنف (قده) بنتيجة عدم صحّة هذا التفصيل نكتفي هنا بالاشارة الى دليل النتيجة فنقول :

نقل عن الاخباريين انهم يدّعون خروج ظهور الكتاب الكريم عن الحجية لوجهين :

الاوّل : النهي عن اتباع المتشابهات والتي منها الظواهر ، قال تعالى (هو الّذى أنزل عليك الكتب منهءايت مّحكمت هنّ أمّ الكتب وأخر متشبهت فأمّا الّذين فى قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشبه منه ابتغآء الفتنة وابتغآء تأويله وما يعلم تأويله إلّا الله والرّسخون فى العلم يقولونءامنّا به كلّ مّن عند ربّنا وما يذّكّر إلّآ أولوا الألبب) ، فالمحكم ما يكون نصّا في معنى واحد والمتشابه يشمل الكلمات المجملة

١٣١

__________________

سواء كان اجمالها بنحو التساوي بين معانيها في القوّة او كان بعض معانيها اقوى من البعض الآخر.

(واجابوا) عن هذا الاشكال بأجوبة :

منها : بانه ـ مع التسليم بشمول المتشابه للظاهر ـ يكون من باب التمسك بالظاهر للردع عن الاخذ بالظواهر!

ومنها : ان هذه الآية لا تدل على اكثر من النهى عن الاخذ بالمتشابهات لوحدها مع غضّ النظر عن المحكمات لغاية الفتنة وايقاع البلبلة في نفوس المسلمين وتحريف المعاني القرآنية عن المعاني الصحيحة.

ومنها : ان المراد بالمتشابه هو المتشابه مصداقا لا مفهوما ، فقول الباري جلّ وعلا (الرّحمن على العرش استوى) كلمة «العرش» معروفة مفهوما ، وكذا كلمة «استوى» ولكن تطبيق استواء الرحمن جلّ وعلا على العرش وما هو هذا العرش وكيفية تسبيح الكائنات حتى الجمادات والرعد وكيفية شهادة اعضائنا علينا يوم القيامة وكيفية اخذ الميثاق من بني آدم وكيفية تكليم الله تعالى لموسى و... فهي امور متشابهة مصداقا ، وقد قلنا «مصداقا لا مفهوما» لان كتاب الله جلّ وعلا (هدى لّلنّاس) (* ١) و (بيان لّلنّاس) (* ٢) فهو اذن (وكتب مّبين) (* ٢) لا غموض فيه مفهوما والّا لم يكن هدى للناس وبيانا لهم ولم يكن مبينا بل كان غامضا ، اذن هذه الآية الكريمة خارجة عن موضوع بحث الظهور من الاصل ، فتأمّل.

ومنها : ان الظهورات ليست معان متشابهة بل هي داخلة تحت المعاني المحكمة ولذلك ترى العقلاء ـ كما مرّ في بحث الدليل على حجية الظهور ـ يأخذون بالظواهر ولا يعتبرونها من المتشابهات سواء ذلك في القرآن الكريم

__________________

(* ١) البقرة ـ ١٨٥.

(* ٢) آل عمران ـ ١٣٨.

(* ٣) المائدة ـ ١٥.

١٣٢

__________________

او الروايات او في كلام بعضهم البعض.

(والنتيجة) عدم صحّة الاستدلال بهذه الآية المباركة على عدم حجية الظهور في الكتاب الكريم.

والثاني : وجود روايات تنهى عن التمسك بظواهر القرآن الكريم.

ونكتفي(*) هنا بالاشارة الى الجواب على هذا الوجه وهو ان هذه الروايات امّا ضعيفة السند ولم يروها فقهاء اصحاب الأئمة عليهم‌السلام واما معارضة لما ذكرناه من الآيات المباركة من ان القرآن الكريم هدى وبيان للناس لا غموض مفهومي فيه. واننا اذا قلنا بحجية ظواهر القرآن الكريم فاننا نقيّد ذلك بلزوم الفحص عن كلمات اهل البيت عليهم‌السلام أوّلا حذرا من الاشتباه في الفهم ، فقد يوجد نكات في القرآن الكريم لا نتوجّه اليها ، وهذا لا يعني عدم كون القرآن هدى وبيانا للناس وذلك لاننا نقول بان مقدار الفهم متفاوت ومرتبط بمدى خبرويّة القارئ واستيعابه ، وذلك من وجه ، كهذه الحلقة الثالثة فالطالب يفهم منها الى مستوى معين واستاذه يفهم احسن لانه يعرف مناشئ هذه الكلمات ، ومع ذلك فالمؤلف يزيدهم لانه يعرف اضافة الى تلك الامور ان هذه الكلمة الفلانية اشارة الى الردّ على كلام فلان و... ولا شك انه قد تخفى بعض النكات والامور على الشارح للكتاب ...

فاذا كان الامر هكذا في هذا الكتاب العادي فكيف بكتاب الله عزوجل واين لنا بادراك اسرار كل كلمة وكل سياق و...

وقد يكون مراد الاخباريين هذا المستوى العالي من الفهم من اننا لا ندركه فلا يكون حجة من باب السالبة لانتفاء الموضوع ، ويرد عليهم أنّ ما ندركه بناء على الدلالات العرفية فهو حجّة بالبيان السابق وان لم ندرك اسرار هذه

__________________

(*) بما ان جواب السيد الشهيد (قدس‌سره) في الحلقة الثانية جيد ومفصّل رأينا عدم ذكره هنا لامكان رجوع الطالب اليه. ا

١٣٣

* القول الاوّل : التفصيل بين المقصود بالإفهام وغيره (١).

فالمقصود بالإفهام يعتبر الظهور حجة بالنسبة اليه ، لان احتمال القرينة المتصلة على الخلاف بالنسبة اليه لا موجب له ـ مع عدم احساسه بها ـ الّا احتمال غفلته عنها فينفى ذلك باصالة عدم الغفلة باعتبارها اصلا عقلائيا ، واما غيره فاحتماله للقرينة لا ينحصر منشؤه بذلك بل له منشأ آخر وهو احتمال اعتماد المتكلم على قرينة ثم التواطؤ عليها بصورة خاصّة بينه وبين المقصود بالإفهام خاصّة ، وهذا الاحتمال لا تجدي اصالة عدم الغفلة لنفيه فلا يكون الظهور حجّة في حقّه (٢).

__________________

لآيات المباركة واعماقها ... او قل ان لم نر تفسيرا لاهل البيت عليهم‌السلام فاننا نأخذ بما نستظهره من معاني وعلى هذا سيرة المتشرّعة من اصحابنا من زمان الأئمة عليهم‌السلام الى زماننا هذا.

الى ما هناك من اجوبة ذكرها اصحابنا رضوان الله عليهم.

والنتيجة هي عدم صحّة التفصيل في موضوع حجية الظهور بلحاظ ظواهر القرآن الكريم وظواهر غيره.

(١) هذا التفصيل هو مختار المحقق القمي (قده)

(٢) ولعدم حجية الظهور في حقّ غير المقصودين بالافهام ، قال المحقق القمي رحمه‌الله بالانسداد ، اذ انّ اجوبة الرسول الاعظم والائمة الاطهار عليهم‌السلام ناظرة الى اسئلة السائلين ولعله يوجد قرائن حالية او مقالية عندهم على ارادة خلاف الظاهر واختفت على من لم يقصد افهامه وليس هناك اصل عقلائي يرفع هذا الاحتمال ، فنحن اذن لا نعرف تمام حدود الاحكام لا وجدانا ولا عقلائيا ، فلا طريق لنا لمعرفة الاحكام الشرعية فنتنزّل الى مرتبة حجية الظنون.

١٣٤

وقد اعترض على ذلك جملة من المحققين (١) بأنّ اصالة عدم القرينة اصل عقلائي برأسه يجري لنفي احتمال القرينة في الحالة المذكورة وليس مردّها الى اصالة عدم الغفلة ليتعذّر اجراؤها في حقّ غير المقصود بالإفهام الذي يحتمل تواطؤ المتكلّم مع من يقصد افهامه على القرينة.

والتحقيق ان هذا المقدار من البيان لا يكفي ، لان الاصل العقلائي لا بد ان يستند الى حيثية كشف نوعية لئلّا يكون اصلا تعبديا على خلاف المرتكزات العقلائية ، وهي (٢) متوفّرة لنفي احتمال القرينة المتصلة الناشئ من احتمال غفلة السامع عنها. فاذا اريد نفي احتمال القرينة المتصلة الناشئ من سائر المناشئ ايضا (٣) بأصل عقلائي فلا بد من ابراز حيثيّة كشف نوعية تنفي ذلك. وعلى هذا الاساس ينبغي ان نفتش عن مناشئ احتمال ارادة خلاف الظاهر عموما وملاحظة مدى امكان نفي كل واحد منها بحيثيّة كشف نوعية مصحّحة لاجراء اصل عقلائي مقتض لذلك (٤). ومن هنا نقول :

انّ شكّ الشخص غير المقصود بالإفهام في ارادة المتكلّم للمعنى الظاهر ينشأ من احد امور :

الاول : احتمال كون المتكلّم متستّرا بمقصوده وغير مريد لتفهيمه

__________________

(١) بل اكثرهم ، كالمحقق النائينى والسيد الخوئي (رحمهما‌الله)

(٢) كلمة «وهي» غير موجودة في النسخة الاصلية والظاهر أنّ عدم وجودها سهو

(٣) كمنشإ احتمال التواطؤ بين المتكلم والمقصود بالافهام

(٤) اي مقتض لنفي احتمال ارادة خلاف الظاهر

١٣٥

بكلامه.

الثاني : احتمال كونه معتمدا على قرينة منفصلة (١).

الثالث : احتمال كونه معتمدا على قرينة متصلة غفل عنها السامع.

الرابع : احتمال كونه معتمدا على قرينة ذات دلالة خاصة متّفق عليها بين المتكلم وشخص آخر كان نظر المتكلم اليه.

الخامس : احتمال وجود قرينة متصلة التفت اليها السامع ولكنه لم ينقلها الينا ولو من اجل انها كانت متمثّلة في لحن الخطاب او قسمات وجه المتكلم ونحو ذلك مما لا يعتبر لفظا.

والفرق بين المقصود بالافهام وغيره ان المقصود بالإفهام لا يوجد الاحتمال الاوّل بشأنه (٢) وكذلك الاحتمال الرابع ، كما ان الاحتمال الخامس غير موجود في شأن السامع المحيط بالمشهد سواء كان مقصودا بالافهام او لا.

وحجية الظهور في حقّ غير السامع ممن لم يقصد افهامه تتوقف على وجود حيثيّات كشف مبرّرة عقلائية لالغاء الاحتمالات الخمسة بشأنه وهي موجودة فعلا بالبيان التالي :

امّا الاحتمال الاوّل فينفى بظهور حال المتكلّم في كونه في مقام تفهيم مراده بكلامه.

__________________

(١) يعرفها المتكلّم والمقصود بالافهام دون السامع

(٢) لان التستر بالمقصود في الحالات العادية خلاف غرض الشارع المقدّس من بيان الاحكام الشرعية للناس ، ومثله ـ فى المخالفة لغرض الشارع ـ الاحتمال الرابع.

١٣٦

وامّا الاحتمال الثاني فينفى بظهور حاله في ان ما يقوله يريده ، اي انه فى مقام تفهيم مراده بشخص كلامه (١).

وامّا الاحتمال الثالث فينفى باصالة عدم الغفلة.

واما الاحتمال الرابع وهو ما ابرزه المفصّل فينفى بظهور حال المتكلّم العرفي في استعمال الادوات العرفية للتفهيم والجري وفق اساليب التعبير العام.

وامّا الاحتمال الخامس فينفى بشهادة الناقل ـ ولو ضمنا ـ بعدم حذف ما له دخل من القرائن الخاصّة في فهم المراد.

* القول الثاني : وتوضيحه ان ظهور الكلام يقتضي بطبعه حصول الظن ـ على الاقلّ ـ بانّ مراد المتكلم هو المعنى الظاهر ، لانه أمارة ظنيّة كاشفة عن ذلك ، فاذا لم تحصل أمارة ظنيّة على خلاف ذلك اثّر الظهور فيما يقتضيه (٢) وحصل الظن الفعلي بالمراد. واذا حصلت امارة ظنية على الخلاف وقع التزاحم بين الامارتين (٣) ، فقد لا يحصل حينئذ ظن

__________________

(١) ولك ان تعبّر بنفس ما يذكره بعد أسطر في الاحتمال الخامس من قول" فينفى بشهادة الناقل ـ ولو ضمنا ـ بعدم حذف ما له دخل من القرائن الخاصّة في فهم المراد" والمفادان واحد

(٢) اي اثّر الظهور في معرفة المراد الجدّي للمتكلّم ولو بقوّة الظن على الاقلّ

(٣) اي بين الظهورين ، ثم إنّ الفرق بين هذه المسألة ومسألة التعارض ، انه في التعارض غير المستقر تكون المشكلة في كيفية الجمع العرفي بين الظهورين مثل «اغتسل للجمعة» و «لا يجب غسل الجمعة» فيحمل

١٣٧

فعلي بارادة المعنى الظاهر ، بل قد يحصل الظن على خلاف الظهور تاثّرا بالامارة الظنية المزاحمة.

وعلى هذا فقد يستثنى من حجية الظهور حالة الظن الفعلي بعدم ارادة المعنى الظاهر ، بل قد يقال بأنّ حجية الظهور اساسا مختصّة بصورة حصول الظن الفعلي على وفق الظهور (١). ويمكن تبرير هذا القول بأنّ حجية الظهور ليست حكما تعبديا وانما هي على اساس كاشفية الظهور ، فلا معنى لثبوتها في فرض عدم تاثير الظهور في الكشف الظني الفعلي على وفقه.

وقد اعترض الأعلام على هذا التفصيل بأنّ مدرك الحجيّة بناء العقلاء ، والعقلاء لا يفرّقون بين حالات الظن بالوفاق وغيرها ، بل

__________________

العرف الاول على الاستحباب ، وفي التعارض المستقرّ كما في «صلّ» و «لا تصلّ» تحصل المشكلة في شمول دليل حجية السند لكلا الدليلين فلا يجري ... وأمّا هنا فليس عندنا دليلان حجّة انما هو دليل واحد مثل «اقم للصلاة» و «ادع عند رؤية الهلال» فانّا قد نظن بعدم ارادة الظاهر وهو الوجوب لانه لو كان واجبا لاشتهر بين المسلمين او لأن طبيعة الموضوع تجعلنا نستبعد ارادة الوجوب ، او لورود رواية ضعيفة بعدم الوجوب ، وهكذا ... ولاختلاف هذه المسألة عن مسألة التعارض قال «وقع التزاحم» ولم يقل «وقع التعارض».

(١) قد يذكر المتكلم كلاما كقوله مثلا «اكرم العلماء» فتارة نظنّ بعدم ارادة جميع العلماء لعلمنا من الخارج انه لا يحبّ مثلا الفاسقين ، وهذا هو مثال قوله «حالة الظن الفعلي بعدم ارادة المعنى الظاهر» ، وتارة نظنّ ارادة جميع العلماء وهو مثال قوله «بل قد يقال بان حجية الظهور ...».

١٣٨

يعملون بالظهور فيها جميعا ، وهذا يكشف عن الحجية المطلقة.

وهذا الاعتراض من الاعلام قد يبدو غير صحيح بمراجعة حال الناس ، فإنّا نجد ان التاجر لا يعمل بظهور كلام تاجر آخر في تحديد الاسعار اذا ظنّ بانه لا يريد ما هو ظاهر كلامه ، وان المشتري لا يعتمد على ظهور كلام البائع في تحديد وزن السلعة اذا ظنّ بأنّه يريد غير ما هو ظاهر كلامه وهكذا.

ومن هنا عمّق المحقق النائيني رحمه‌الله اعتراض الأعلام اذ ميّز بين العمل بالظهور في مجال الاغراض التكوينية الشخصية وبين العمل به في مجال الامتثال وتنظيم علاقات الآمرين بالمأمورين.

ففي المجال الاوّل لا يكتفى بالظهور لمجرّد اقتضائه النوعي ما لم يؤثّر هذا الاقتضاء في درجة معتدّ بها من الكشف الفعلي ، وفي المجال الثاني يكتفى بالكشف النوعي الاقتضائي للظهور تنجيزا وتعذيرا ولو لم يحصل ظن فعلي بالوفاق او حصل ظن فعلي بالخلاف. والامثلة المشار اليها تدخل في المجال الاوّل لا الثاني.

وهذا الكلام وان كان صحيحا وتعميقا لاعتراض الأعلام ولكنه لا يبرز نكتة الفرق بين المجالين ولا يحلّ الشبهة التي يستند اليها التفصيل على النحو الذي شرحناه آنفا.

فالتحقيق الذي يفي بذلك ان يقال ان ملاك حجية الظهور هو كشفه ، ولكن لا كشفه عند المكلّف بل كشفه في نظر المولى ، بمعنى ان المولى حينما يلحظ ظواهر كلامه فتارة يلحظها بنظرة تفصيلية فيستطيع بذلك ان يميّز بصورة جازمة ما اريد به ظاهره عن غيره لانه الاعرف

١٣٩

بمراده ، واخرى يلحظها بنظرة اجمالية فيرى ان الغالب هو ارادة المعنى الظاهر ، وذلك يجعل الغلبة كاشفا ظنيا (١) عند المولى عن ارادة المعنى الظاهر بالنسبة الى كل كلام صادر منه حينما يلحظه بنحو الاجمال. وهذا الكشف هو ملاك الحجية لوضوح ان حجية الامارة حكم ظاهري وارد لحفظ الاغراض الواقعية الاكثر اهميّة ، وهذه الاهمية قد اكتسبها (٢) الاغراض الواقعية التي تحفظها الامارة المعتبرة بلحاظ قوّة الاحتمال ، كما تقدّم في محلّه (٣). ومن الواضح ان قوّة الاحتمال المؤثّرة في اهتمام المولى انما هي قوّة احتماله لا قوة احتمال المكلّف. فمن هنا تناط الحجية بحيثيّة الكشف الملحوظة للمولى وهي الظهور (٤) لا بالظن الفعلي لدى المكلّف.

__________________

(١) اي كاشفا قويا ، بمعنى ان المولى بما انه يعلم ان اغلب ظهورات كلامه تطابق مراداته الواقعية فسوف يكون كل ظهور بحدّ ذاته مظنون المطابقة للواقع. (ولم) يكن من المناسب ان يستعمل لفظة «ظنيا» ، إلّا ان نحمل لفظة «المولى» على العرفي لا الحقيقي جلّ وعلا.

(٢) في النسخة الاصلية «اكتسبتها» ولعلّه خطأ مطبعي.

(٣) في مسألة «شبهة التضاد ونقض الغرض» عند قوله «... وذلك بأن نقول إنّ مبادئ الاحكام الظاهرية هي نفس مبادئ الاحكام الواقعية ... الخ».

(٤) اي وهي الظهور التصوّري العرفي اي النوعي ـ لا الشخصي ـ فان هذا الطريق اعتبره الشارع المقدّس حجّة لا غلبية موافقته للمراد الواقعي له ، مع غضّ النظر عن الاسباب التي قد تمنع من حصول ظن فعلي بالمطابقة مع المراد الواقعي ، فنحن كعبيد متعبّدون بهذا الطريق سواء حصل عندنا ظن بالمطابقة ام لا.

١٤٠