دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٢

دلالة الاوامر الظاهرية على الإجزاء عقلا

قد تؤدّي الحجّة الى تطبيق الواجب المعلوم (بها) على غير مصداقه الواقعي بأن تدلّ على ان الواجب صلاة الظهر مع انه صلاة الجمعة او على ان الثوب طاهر مع انه نجس ، فاذا اتى المكلّف بالوظيفة وفقا للحجّة الظاهرية فهل يجزي ذلك عن الواجب الواقعي بلا حاجة الى قيام دليل خاص على الإجزاء ، او يحتاج اثبات الإجزاء في كل مورد الى دليل خاص وبدونه يرجع الى قاعدة عدم الإجزاء؟

قد يقال بالإجزاء بدعوى الملازمة العقلية بين الامر الظاهري وبينه (١) ، لان الامر الظاهري في حالات المخالفة للواقع يكشف عن وجود مصلحة في مورده على نحو يستوفى به الملاك الواقعي الذي يفوت على المكلف بسبب التعبد بالحجّة الظاهرية ، وذلك ببرهان انه لو لا افتراض مصلحة من هذا القبيل لكان جعل الامر الظاهري قبيحا لانه يكون مفوّتا للمصلحة على المكلف وملقيا له في المفسدة ، ومع اكتشاف

__________________

(١) اي وبين الاجزاء عن الحكم الواقعي. فلو افتى المرجع بحكم او اخبرنا الثقة بتطهير الثوب الذي كان متنجسا سابقا فانه قد يقال باجزاء ما فعلناه ـ طبقا لهذه الامارات ـ ولو تبين بعد حين انه كان خلاف الواقع.

__________________

في اصل وجود تكليف ، وإمّا من باب انه بنفس الأمر بالصلاة فيكون الشك دائرا بين الاقل (وهي الصلاة في وقتها المحدّد) والاكثر الاستقلاليين (والاكثر ان يكون الامر منصبّا على (جامع الصلاة) (على ان تكون في الوقت المحدّد) فان لم يأت بها في وقتها المحدّد يبقى الامر الضمني بالاتيان بجامع الصلاة الشامل للأداء والقضاء) وفي مثله تجري البراءة عن الزائد بلا اشكال ، ببيان ان مرجع الاكثر الى امرين ضمنيين : أمر بالصلاة في وقتها ، ومع عدم الامتثال امر بالقضاء ، فزيادته بوجوب القضاء واضحة لا غبار عليها.

٢٨١

مصلحة من هذا القبيل يتعيّن الإجزاء فلا تجب الاعادة فضلا عن القضاء لحصول الملاك الواقعي واستيفائه. والبناء على الاكتشاف المذكور يسمّى بالقول بالسببية في جعل الحجية ، بمعنى ان الامارة الحجّة تكون سببا في حدوث ملاك في موردها (١).

ويرد على ذلك :

أوّلا : ان الاحكام الظاهرية ـ على ما تقدّم ـ احكام طريقية لم تنشأ من مصالح وملاكات في متعلقاتها ، بل (نشأت) من نفس ملاكات الاحكام الواقعية ، وقد مرّ (٢) دفع محذور استلزام الاحكام الظاهرية لتفويت المصلحة والالقاء في المفسدة ، ولو كانت الاحكام الظاهرية ناشئة من مصالح وملاكات (٣) ـ على ما ادّعي ـ للزم التصويب ، إذ بعد فرض وفاء الوظيفة الظاهرية بنفس (٤) ملاك الواجب الواقعي يستحيل ان يبقى الوجوب الواقعي مختصا بمتعلقه الاوّلي بل ينقلب لا محالة ويتعلق بالجامع بين الامرين (٥) وهذا نحو من التصويب.

__________________

(١) القول بالسببية متعدّد الاتجاهات فمنها ما ينسب الى الاشاعرة ومنها ما ينسب الى المعتزلة وقد عرفتهما في بحث «شمول الحكم للعالم والجاهل» في أوائل الجزء الاوّل ولا يقصدهما هنا الماتن ، وانما يقصد احد ثلاثة وجوه ذكرها في تقريرات السيد الهاشمي ج ٢ ، ص ١٦٣ يطول ذكرها وتطبيقها مع عدم كثير فائدة فيها ، وان كان يظهر منه انه يريد خصوص نظرية المصلحة السلوكية التي قال بها الشيخ الانصاري رحمه‌الله ـ بقرينة ما يذكره بعد اسطر تحت عنوان «وثانيا».

(٢) في بحث «الحكم الواقعي والظاهري» من اوائل الجزء الاول.

(٣) في متعلقاتها.

(٤) يقصد «بملاك يعوّض عن ملاك الحكم الواقعي الفائت».

(٥) المطلوب الواقعي والمطلوب الظاهري. (وانما) قال «ويتعلّق

٢٨٢

وثانيا : اذا سلّمنا ان ما يفوت على المكلف بسبب الحجّة الظاهرية من مصالح لا بد ان تضمن الحجّة تداركه ، إلّا ان هذا لا يقتضي افتراض مصلحة (١) الّا بقدر ما يفوت بسببها ، فاذا فرضنا انكشاف الخلاف في اثناء الوقت لم يكن ما فات بسبب الحجّة الّا فضيلة الصلاة في اوّل وقتها مثلا لا اصل ملاك الواقع لإمكان استيفائه معا (٢) ، وهذا يعني ان المصلحة المستكشفة من قبل الأمر الظاهري انما هي في سلوك الأمارة والتعبد العملي بها بالنحو الذي يجبر ما يخسره المكلف بهذا السلوك وليست قائمة بالمتعلق وبالوظيفة الظاهرية بذاتها ، فاذا انقطع التعبّد في اثناء الوقت بانكشاف الخلاف انتهى أمد المصلحة ، وهذا ما يسمّى بالمصلحة السلوكية ، وعليه فلا موجب للاجزاء عقلا.

نعم يبقى امكان دعوى الاجزاء بتوهّم حكومة بعض ادلة الحجية

__________________

بالجامع ...» لانه اذا فرض وجود ملاك بقوة ملاك الحكم الواقعي فان المولى لا محالة سيخيّر بينهما لانه تعالى حكيم.

(١) أي «إلا ان هذا لا يقتضي افتراض جبر مصلحة بدل المصلحة الفائتة الا ...» ، اي ان المصلحة من سلوك الامارة انما تجبر بمقدار ما يفوت المكلف من مصلحة الواقع بسبب اتباع الحجّة الظاهرية في خصوص ظرف الجهل بالحكم الواقعي.

(٢) ملاك الواقع مع ملاك وقوع الصلاة في وقتها بالاعادة او قل اذا علم زيد ـ الذي صلّى بثوب نجس اعتمادا على اخبار ثقة بانه قد طهّر ـ علم ضمن الوقت انه قد صلّى بالثوب النجس فالمصلحة التي فاتته هي مصلحة وقوع الصلاة في وقت فضيلتها ، هذه المصلحة التي خسرها يعوّضها الله تعالى له ـ بمقتضى حكمته ـ ولكن يمكن له إعادة الصلاة ضمن وقتها ، وهذا مراده قدس سرّه من قوله «لامكان استيفائه معا».

٢٨٣

على ادلة الاحكام الواقعية وتوسعتها لموضوعها (١) ، وقد اوضحنا ذلك سابقا وهو اجزاء مبني على الاستظهار من لسان دليل الحجية ولا علاقة له بالملازمة العقلية ، ويأتي دفع هذا التوهّم عند التمييز بين

الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية في مباحث التعارض

إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) كتوسعة دليل الطهارة لشرطية الطهارة بقوله عليه‌السلام «كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر ، فاذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك» ، وقد مرّ الكلام فيها في بحث «التصويب بالنسبة الى بعض الاحكام الظاهرية» في اوائل الجزء الاوّل ، وسيأتيك ان شاء الله في اول الجزء الثالث بحث «الاصول التنزيلية والمحرزة» وفي المحل المذكور في المتن.

٢٨٤

(امتناع اجتماع الأمر والنهي)

لا شك في التضاد بين الاحكام التكليفية الواقعية ، وعلى هذا الاساس يمتنع اجتماع الامر والنهي لتضادّهما بلحاظ المبادئ وعالم الملاك وبلحاظ النتائج وعالم الامتثال. امّا الاول فلأن مبادئ الامر هي المصلحة والمحبوبية ومبادئ النهي هي المفسدة والمبغوضية. واما الثاني فلضيق قدرة المكلّف عن امتثالهما معا وعدم امكان الترتب بينهما ، وقد سبق في مباحث القدرة انه كلما ضاقت قدرة المكلف عن الجمع بين شيئين ولم يكن بالامكان الترتب بين أمريهما وحكميهما امتنع جعل الحكمين (١).

وعلى هذا الاساس اذا دلّ دليل على الامر بشيء ودل دليل آخر على النهي عنه من قبيل «صلّ» و «لا تصلّ» كان الدليلان متعارضين للتنافي بين الجعلين بسبب التضاد في عالم الملاك أولا وبسبب ضيق قدرة المكلف عن الجمع بين الامتثالين مع عدم امكان الترتب ثانيا. وهذا مما لا اشكال فيه من حيث الاساس.

__________________

(١) كما فيما لو أمر المولى مثلا بالنقيضين او بالضدين اللذين لا ثالث لهما ، من قبيل «ادرس» و «لا تدرس» و «استيقظ» و «نم» ... وقد ذكر هذه المسألة في بحث «ما هو الضدّ».

٢٨٥

ولكن قد نفترض بعض الخصوصيات في الامر والنهي التي قد تخرجهما عن كونهما مجتمعين حقا على شيء واحد فيزول الامتناع ولا ينشأ التعارض بين دليليهما ، ويمكن تلخيص تلك الخصوصيات فيما يلي :

الخصوصية الاولى : ان نفترض تعلق الامر بالطبيعة على نحو التخيير العقلي بين حصصها وتعلق النهي بحصّة معيّنة (١) من حصصها من قبيل «صلّ» و «لا تصلّ في الحمّام» (٢) ، وهذا الافتراض يوجب اختلاف المتعلّقين بالاطلاق والتقييد ، ولا شك في ان ذلك يوجب زوال السبب الثاني للتنافي وهو ضيق قدرة المكلف عن الجمع بين الامتثالين ، وذلك لانه اذا كان بامكان المكلف ان يصلي في غير الحمّام فهو قادر على الجمع بين الامتثالين ، وانما المهم تحقيق حال السبب الاول للتنافي وهو التضادّ في عالم المبادئ ، فقد يقال بزواله ايضا لان الوجوب بمبادئه متعلق بالجامع ولا يسري الى الحصّة ، والحرمة بمبادئها قائمة بالحصة فلم يتّحد المعروض لهما ، وهذا مبني على بحث تقدم في التخيير

__________________

(١) المراد من الحصّة ذات الوجود الخارجي مع غضّ النظر عن خصوصياته الخارجية. (امّا) لو قيل الفرد فالمراد منه الحصّة مع عوارضها وخصوصياتها الخارجية. راجع أواخر ص ٤٠٤ من تقريرات السيد الهاشمي ج ٢.

(٢) هنا النسبة بين المتعلقين ـ كما ترى ـ نسبة العموم والخصوص المطلق بخلاف النسبة بينهما في الخصوصية الثانية فانها العموم من وجه.

٢٨٦

العقلي وانه هل يستبطن تخييرا شرعيا (*) ووجوبات مشروطة للحصص (١) ولو بلحاظ عالم المبادئ (٢) ، فان قيل باستبطانه ذلك لم يجد اختلاف المتعلّقين بالاطلاق والتقييد في التغلب على السبب الاوّل للتنافي ، لان وجوب الجامع يسري ولو بمبادئه الى الحصص ، وان انكرنا

__________________

(١) هنا ارجع السيد الشهيد (قده) التخيير العقلي الى التخيير الشرعي ، فبناء على تفسير التخيير العقلي بهذا التفسير يصير المعنى هكذا «ان لم تمتثل وتطبق طبيعة الصلاة بسائر المصاديق فطبّقها على المصداق الفلاني» كالصلاة في الحمام مثلا ، وهذا معناه سريان الوجوب الى الحصّة وهي الصلاة في الحمّام ، فاذن سيجتمع على هذه الحصّة الامر والنهي فيتنافيان ويتعارضان وهو ما يعبّرون عنه بامتناع اجتماع الامر والنهي.

(راجع تقريرات السيد الهاشمي ج ٢ أسفل ص ٤٠١)

(٢) أي ولو بان نؤمن بسريان الحبّ الى الحصّة ـ دون سريان نفس الوجوب من جامع الصلاة الى الحصّة ـ فان تعلق الحبّ بالحصّة وسريانه من الجامع الى الصلاة في الحمام سينافي لا محالة تعلق النهي بها وهو ينتج امتناع اجتماع الامر والنهي بلحاظ المبادئ.

__________________

(*) (أقول) الذي تقدّم في بحث «التخيير في الواجب» هو انه هل يرجع التخيير الشرعي الى التخيير العقلي أو لا ، وليس العكس. وعلى ايّ حال فقد كان الاولى ان يقول هكذا «... وهذا مبني على بحث تقدّم في التخيير العقلي وهو : هل ان الوجوب المتعلق بالجامع يسري الى الحصص او لا ، فان قلنا بالسريان لم يجد اختلاف المتعلّقين المطلق والمقيد في التغلب على السبب الاول للتنافي (وهو التضاد بين مبادئهما) ، لان وجوب الجامع يسري ولو بمبادئه الى الحصص ، وان انكرنا السريان المذكور اتّجه القول ...» بلا حاجة الى ارجاع البحث الى مسلك الوجوبات المشروطة ، اضافة الى انه تطويل للمسافة واقتصار على هذا المبنى.

٢٨٧

الاستبطان المذكور (١) اتجه القول بعدم التنافي وجواز الامر بالمطلق والنهي عن الحصّة (٢).

غير أن مدرسة المحقق النائيني رحمه‌الله برهنت على التنافي بين الامر بالمطلق والنهي عن الحصّة بطريقة اخرى منفصلة عن الاستبطان المذكور ، وهي ان الامر بالمطلق يعني ان الواجب لوحظ مطلقا من ناحية حصصه ، والاطلاق مؤدّاه الترخيص في تطبيق الجامع على ايّ واحدة من تلك الحصص وهذا متعدد بعدد الحصص ، وعليه فالترخيص في تطبيق الجامع على الحصّة المنهي عنها ينافي هذا النهي لا محالة ، لان نفس الحصّة معروضة لهما معا (٣) ، فالتنافي لا يقع بالذات بين النهي عن الحصّة والامر بالمطلق بل بين النهي عن الحصّة والترخيص فيها الناتج عن اطلاق متعلق الامر (٤).

__________________

(١) يقصد بالاستبطان المذكور هنا سريان الوجوب من الجامع الى الافراد الخارجية.

(٢) لاختلاف المتعلّقات ، لان الامر متعلق بطبيعي الصلاة والمفروض ان الوجوب لا يسري من الجامع الى الافراد والنهي متعلّق بمصداق من مصاديق هذا الوجوب (وهو الصلاة في الحمّام مثلا) فلا تنافي بين الامر والنهي لا بلحاظ الملاكات ولا بلحاظ مرحلة الامتثال ، وهذا بيان ما يقولونه من امكان اجتماع الامر والنهي مع اختلاف العناوين بالاطلاق والتقييد.

(٣) اي للامر والنهي.

(٤) ذكره في تقريرات السيد الهاشمي ببيان جيد ج ٣ ص ٣٠.

٢٨٨

والفرق بين إثبات التنافي بطريقة الميرزا هذه واثباتها بدعوى الاستبطان المذكور سابقا انه على طريقة الميرزا لا يكون هناك تناف بين وجوب المطلق والنهي على نحو الكراهة عن حصّة من حصصه ، لان الكراهة لا تنافي الترخيص. ومن هنا فسّر الميرزا كراهة الصلاة في الحمّام وامثالها ، وامّا على مسلك الاستبطان المذكور سابقا فالتنافي واقع بين الامر بالمطلق والنهي عن الحصّة سواء كان تحريميا او كراهتيا ..

ولكن التحقيق ان طريقة الميرزا هذه في اثبات التنافي (١) غير وجيهة لان الاطلاق ليس ترخيصا في التطبيق ولا يستلزمه ، أمّا انه ليس ترخيصا فلأن حقيقة الاطلاق كما تقدّم هو عدم لحاظ القيد مع الطبيعة (٢) عند ما يراد جعل الحكم عليها ، واما انه لا يستلزم الترخيص (٣) فلأن عدم لحاظ القيد انما يستلزم عدم المانع من قبل الامر في تطبيق متعلقه على ايّ حصّة

__________________

(١) بين الترخيص في التطبيق على ايّ مصداق من مصاديق الواجب وبين النهي التحريمي ـ لا النهي الكراهتي ـ.

(٢) أي مع لحاظ الطبيعة ، اي وانما الاطلاق هو لحاظ الطبيعة فقط ـ ببيان تقدم في بحث الاطلاق ـ وليس فيه نظر الى الترخيص في التطبيق على الحصص.

(٣) وبتعبير آخر : إن اطلاق الصلاة في قول الشارع «صلّ» لا يستلزم الترخيص في تطبيق الصلاة المأمور بها في الحمام وانما إذا جاء «لا تصلّ في الحمام» يجمع بينهما بالجمع العرفي فيحمل النهي على الكراهة او يقيّد «صلّ» فيصير «صلّ الّا في الحمّام» ، نعم يصحّ كلام المحقق النائينى رحمه‌الله إن رخّص المولى تعالى ـ رغم قوله «لا تصلّ فى الحمّام» ـ في تطبيق الصلاة المأمور بها على «الصلاة في الحمّام» فانه في هذه الحالة يحصل تعارض مستقرّ بين «صلّ» و «لا تصلّ في الحمّام» فافهم.

٢٨٩

من الحصص ، وعدم المانع من قبل الأمر شيء وعدم المانع من قبل جاعل الامر المساوق للترخيص الفعلي شيء آخر ، وما ينافي النهي عقلا هو الثاني دون الاوّل (١).

وعلى ايّ حال فاذا تجاوزنا هذه الخصوصية وافترضنا الامتناع والتنافي على الرغم من الاختلاف بالاطلاق والتقييد بين المتعلّقين نصل حينئذ الى الخصوصية الاخرى كما يلي (٢) :

الخصوصية الثانية : ان نفترض تعدّد العنوان اي تعلق الامر بعنوان والنهي بعنوان آخر ، وتعدد العنوان قد يسبّب جواز الاجتماع ورفع

__________________

(١) وعليه فليس بين «صلّ» و «لا تصلّ في الحمّام» تعارض كما يدّعي المحقق النائيني ، ولذلك اضطرّ ان يجمع بينهما بكراهة الصلاة في الحمّام ، وانما الصحيح ان بينهما اطلاقا وتقييدا ، فنقول «صلّ الّا في الحمّام والّا في المغصوب فانّ الصلاة فيهما محرّمة».

(٢) ان افترضنا جواز اجتماع الامر والنهي في حالة الخصوصية الاولى فالوجه المعروف لهذا القول هو عدم سريان الحكم من الطبيعة الى الحصّة فلم يجتمع امر ونهي على نفس الحصّة حتى يقع التعارض ، فان قلنا بعدم السريان من الجامع الى الحصّة فمعنى هذا أنّ حالة الخصوصية الثانية والتي هي من قبيل «صلّ» و «لا تغصب» ستحلّ بنفس الحلّ السابق وهو بعدم سريان الامر والنهي على «الصلاة في المغصوب» فلا يجتمعان على هذه الحصّة وستكون النتيجة ـ في هذه الحالة الثانية ـ هي القول بامكان اجتماع الامر والنهي بلا كلام لتعدد العناوين وتعلّق الاوامر بالطبائع ، فلكون الحالة الثانية على فرضيّة جواز الاجتماع محلولة وواضحة افترض ما لو قلنا بالحالة الاولى بالامتناع والسريان فما ذا ستكون النتيجة في الحالة الثانية؟

٢٩٠

التنافي بأحد وجهين :

الاوّل : ان تعدّد العنوان يبرهن على تعدّد المعنون.

والثاني : دعوى الاكتفاء بمجرد تعدد العنوان في دفع التنافي مع الاعتراف بوحدة المعنون والوجود خارجا.

امّا الوجه الاوّل فهو ـ إذا تمّ ـ يدفع التنافي بكلا تقريبيه اي بتقريب استبطان الامر بالجامع للوجوبات المشروطة بالحصص (*) وبتقريب استلزامه الترخيص في التطبيق على الحصّة المنافي للنهي ، إذ مع تعدد الوجود الخارجي لا يجري كلا هذين التقريبين (١). ولكن الاشكال في تمامية هذا الوجه ، إذ لا برهان على ان مجرّد تعدّد العنوان يكشف عن تعدد المعنون خارجا ، لان بالامكان انتزاع عنوانين من موجود خارجي واحد.

نعم اذا ثبت ان العنوان ماهية حقيقية للشيء تمثّل حقيقته النوعية فمن الواضح ان تعدده يساوق تعدّد الشيء خارجا ، إذ لا يمكن ان يكون للشيء الخارجي الواحد ماهيّتان نوعيّتان (٢) ، ولكن ليس كل عنوان يشكل الماهية النوعية لمعنونه ، بل كثيرا ما يكون من العناوين العرضيّة المنتزعة.

__________________

(١) لانه بناء على الوجوبات المشروطة وسريان الوجوب الى الحصص يمكن اجتماع الامر والنهي لكون متعلقيهما متعددين وجودا وان اتّحدا خارجا من قبيل من يصلي وينظر بشهوة الى غير حليلته ، وكذلك الامر بناء على كون الاطلاق ترخيصا في التطبيق.

(٢) او قل : وجودان. وعلى أيّ حال فلا شك في كون «الصلاة في المغصوب وجودا واحدا رغم تعدّد العناوين».

__________________

(*) لعلّ الاولى التعبير بقوله «اي بتقريب استبطان الامر بالجامع الامر بالحصص».

٢٩١

وامّا الوجه الثاني فحاصله ان الاحكام انما تتعلّق بالعناوين والصور الذهنية لا بالوجود الخارجي مباشرة (١) ، فاذا كان العنوان في افق الذهن متعددا كفى ذلك في عدم التنافي.

فان قيل (٢) ان العناوين في الذهن انما يعرض لها الامر والنهي بما هي مرآة للخارج ، وهذا يعني استقرار الحكم في النهاية على الوجود الخارجي بتوسط العنوان ، والوجود الخارجي واحد فلا يمكن ان يثبت امر

__________________

(١) بيان ذلك : ان قول المولى مثلا «صلّ» فانه لم ينظر الى اكثر من لزوم الاتيان بطبيعة الصلاة سواء كان بهذا الثوب او بذاك وسواء كانت بعد دخول الوقت بساعة او أقلّ او اكثر طالما كانت في الوقت المحدّد ، وكذا لو قال «اكرم عالما» فهو مخيّر في كيفية الاكرام وفي اكرام من شاء من العلماء ، وهكذا في كل القوانين والتشريعات ، فليس نظر المولى المشرّع الى وجوب مصداق معيّن من الصلاة. ولذلك قالوا بان الاحكام تتعلق بالطبائع(*).

(٢) بيان ذلك : ان العنوان ـ الذي هو متعلّق الحكم ـ بما انه منظور اليه كمرآة كاشفة عن الخارج فسيجتمع الامر والنهي على المنظور إليه خارجا ومنها الحصّة الخارجية للصلاة في المغصوب وسيتعارض الامر والنهي في هذا المجمع الخارجي الواحد ، وهذا يعني امتناع اجتماع الامر والنهي.

__________________

(*) (بل) لا يمكن ان يتعلّق امر بمصداق خارجي ، حتى لو امر المولى عبده بقوله «آتني كتابي هذا» فانّ لعبده ان يمتثل كيفما شاء ولو بان يتناول الكتاب اوّلا بيساره ويعطيه اياه بيمينه ، او يعطيه إيّاه وهو يبتسم او يتكلّم او لا وهكذا ... ولذلك قالوا بانّ المفاهيم الذهنية كالمناولة والصلاة هي كليات وليست جزئيات.

٢٩٢

ونهي عليه ولو بتوسّط عنوانين.

كان الجواب على ذلك ان ملاحظة العنوان في الذهن مرآة للخارج عند جعل الحكم عليه لا يعني ان الحكم يسري الى الخارج حقيقة ، وانما يعني ان العنوان ملحوظ بما هو صلاة او غصب لا بما هو صورة ذهنيّة (١).

وهذا الوجه ـ اذا تمّ ـ انما يدفع التنافي بالتقريب الاوّل ، اي بدعوى الاستبطان المذكور سابقا (٢) ، فان الامر بجامع الصلاة اذا كان يستبطن وجوبات مشروطة بعدد الحصص فكل وجوب متعلّق بحصّة من

__________________

واجاب السيد الشهيد رحمه‌الله بان المراد من «ان الأحكام انما تتعلّق بالعناوين والصور الذهنيّة لا بالوجود الخارجي» العناوين بالحمل الشائع الصناعي او قل بنحو الكلي الطبيعي أي العناوين المنظور اليها كمرآة كاشفة عن الطبائع الخارجية ، فالاحكام تتعلق بهذه العناوين لا بالعناوين المنظور اليها بنحو الكلي العقلي الذي لا يمكن انطباقه على الخارج كالانسان النوع ، فانه لا يوجد في الخارج «انسان نوع» ، ولا بالطبائع والحصص الخارجية ، فان هذه الحصص هي مصاديق للمأمور به. وعلى اي حال فان اكتفينا بتعدّد العناوين والجهات يكون متعلّقا الامر والنهي متغايرين وهما العناوين المنظور إليها كمرايا تكشف عن الخارج لا نفس المصاديق الخارجية ، وهذا قد يشكّل ـ ولو عند البعض ـ اساسا للقول بامكان اجتماع الامر والنهي.

(١) اي بما هو صورة ذهنية لا تنطبق على الخارج ولا يمكن امتثالها كالصلاة النوع.

(٢) وقد عرفت ان مفادها سريان الوجوب من الجامع الى الحصص ، فرغم القول بهذا السريان يمكن اجتماع الامر والنهي على فعل واحد لتعدّد جهاته وعناوينه.

٢٩٣

حصص الصلاة بهذا العنوان لا بها بما هي حصّة من حصص الغصب ، فلا تنافي بين الوجوبات المشروطة والنهي بعد افتراض تعدّد العنوان. ولكن الوجه المذكور لا يدفع التنافي بالتقريب الثاني الذي افاده المحقق النائيني وهو المنافاة بين النهي عن الحصّة والترخيص في التطبيق [عليها] ، لان اطلاق الواجب لحالة غصبيّة الصلاة اذا كان يعني الترخيص في تطبيقه على المقيد بهذه الحالة فهو مناف لتحريم هذه الغصبية لا محالة (*).

__________________

(*) (نظرة) في مسألة اجتماع الامر والنهي.

اوّلا : ما هو الحرام من الغصب؟ الجواب : ان مجرّد الاستيلاء على مال الغير بلا اذن ـ فضلا عن التصرّف فيه ـ حرام وذلك واضح عند العقلاء أجمعين ، ورغم وضوحه يحسن ذكر ولو رواية واحدة دالة على ذلك ، وهي صحيحة زيد الشحّام عن ابي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : «من كانت عنده أمانة فليؤدّها الى من ائتمنه عليها ، فانه لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله الّا بطيبة نفس منه» (وسائل ٣ باب ٣ من مكان المصلّي ح ١ ، ص ٤٢٤).

ثانيا : هل مسألة اجتماع الصلاة والغصب من صغريات مسألة اجتماع الامر والنهي (بمعنى هل ان التركيب بينهما اتحادي) او لا (بمعنى ان التركيب بينهما انضمامي)؟

وقبل الجواب لا بد من التذكير بالمراد من الاتحادي والانضمامي هنا فنقول : المراد من التركيب الاتّحادي هو ان يكون احدهما مقوّما لماهية الآخر ، كالمادّة أو الصورة بالنسبة الى المركّب منهما ، وامثلتها معروفة كالخشب والصورة النوعية للكرسي ، وقلنا المادة والصورة ولم نقل الجنس والفصل لأن الكلام في بحث اجتماع الامر والنهي انما هو في المبادئ ـ لا في المشتقّات كالحيوان والناطق والعالم وحرام وحلال وطاهر ونجس ... مما يحمل على الذات بلا واسطة ذو ـ ، فان محل البحث في تعارضاتها مبحث التعارض.

والمراد من التركيب الانضمامي هو كونهما متحدين في الوجود الواحد وليس أحدهما

٢٩٤

__________________

مقوّما لماهية الآخر كالصلاة وحمل المغصوب ، فانّ حمل المغصوب ليس مقوّما لماهية الصلاة ، اي انه ليس من اجزائها وشرائطها ولا دليل على انها من موانعها ، وكالصلاة والنظر الى الاجنبية بشهوة وهكذا ...

(فاذا عرفت هذا) نقول : انّ التركيب بين الصلاة والغصب تركيب انضمامي ـ لا اتحادي ـ وبالتالي لا يكون هذا المثال مثالا صحيحا لمسالة اجتماع الامر والنهي وان اشتهر تمثيله في كتب الاصول.

بيان ذلك : ان الصلاة مركّبة من نية وقراءة واذكار واوضاع معيّنة وكلّ منها يغاير حقيقة الغصب ، فان الكون في الارض المغصوبة هو من مقولة «الاين» وفي الثوب المغصوب هو من مقولة الاين او الاضافة او الحركة ، وعلى اي حال فحقيقة النيّة ـ بما انها امر قلبي ـ تغاير حقيقة الغصب بلا كلام ، وامّا القراءة والاذكار فهي وإن كانت تتوقف على تحريك الفم وهو تصرّف في فضاء الارض المغصوبة الّا ان تحريك الفم هو من مقدّمات الاذكار ، (لان الاذكار تتوقف على اخراج الصوت من الحنجرة وتحريك اللسان والشفتين) وليس نفس الاذكار ، والواجب هو الأذكار ، فان حصلت اكتفي بها حتى وإن كانت بعض مقدّماتها كتحريك الفم محرّمة. طبعا مع تأتّي نية القربة من المصلّى ومثله الكلام في التوضّي بماء مغصوب ، فان المطلوب هو الطهارة. بمعنى اسم المصدر. وهي تحصل بغسل بعض الاعضاء ومسح اخرى وهو يحصل حتى بالمقدّمة المحرّمة ، وامّا الاوضاع الخاصّة للصلاة فهي تغاير الكون في الارض او الثوب المغصوبين حقيقة وماهية ، فحقيقة السجود مثلا هي وضع المساجد السبعة على الارض وقد حصل ، وامّا كون الارض أو الثوب مغصوبا فخارج عن حقيقة السجود وماهيّته بالكلية .. وامّا حركات المصلي من وضع الى آخر فهي مقدّمات للاوضاع المطلوبة وليست اجزاء من الصلاة.

ثالثا : بناء على الانضمام بين الصلاة والغصب تصحّ الصلاة بلا كلام وذلك لعدم دخول الغصب في حقيقة الصلاة ، وامّا بناء على الاتحاد فهنا يأتي السؤال ـ الذي هو بحثنا. هل يمكن اجتماع الامر والنهي على متعلق واحد وجودا وماهية ولو لتعدّد العناوين والجهات؟

٢٩٥

الخصوصية الثالثة : ان نسلّم بانّ الخصوصيتين السابقتين غير نافعتين لدفع التنافي وان الصلاة في المكان المغصوب لا يمكن ان يجتمع عليها أمر ونهي بعنوانين ، ولكننا نفترض انها متعلّقة للامر والنهي مع عدم تعاصرهما في الفعلية زمانا (١) فيبحث عما اذا كان هذا نافعا في دفع التنافي أو لا. ومثاله المقصود حالة طروّ الاضطرار بسوء الاختيار ، وتوضيحه ان الانسان تارة يدخل الى الارض المغصوبة بدون اختياره واخرى يدخلها بسوء اختياره ، وفي كلتا الحالتين يصبح بعد الدخول مضطرّا الى التصرّف في المغصوب بالمقدار الذي يتضمّنه الخروج غير ان هذا المقدار يكون مضطرّا إليه لا بسوء الاختيار في الحالة الاولى ، ومضطرا إليه بسوء الاختيار في الحالة الثانية. ويترتب على ذلك ان هذا المقدار في الحالة الاولى يكون مرخّصا فيه من قبل الشارع ،

__________________

(١) اي اذا كان احدهما فعليا فالحكم الآخر غير فعلي.

__________________

والجواب بالنفي ، وذلك لان متعلّق النهي ـ كالغصب في «لا تغصب» ـ يكون شموليا فستكون كل الطبائع الخارجية للغصب منهيا عنها ، ولا يعقل ان تكون طبيعة خارجية ما مبغوضة للمولى ومنهيا عنها ثم يحبّها المولى لجهة اخرى او يأمر بها أيضا؟! او ان يحب تطبيق مصداق من مصاديق الواجب ـ كالصلاة ـ على هذه الطبيعة المبغوضة؟!

وبتفصيل اكثر : اذا كان متعلقا الامر والنهي شموليين فسيحصل تعارض في المجمع ، وان كان متعلق الامر مطلقا بالاطلاق البدلي والنهي شموليا فان وجد مندوحة كما لو استطاع على الصلاة في المباح تعيّن ذلك وان صحّت الصلاة في المغصوب أيضا لكون الاباحة غير معلوم انها مقومة لماهية الصلاة ـ كما قلنا قبل قليل ـ فتجري البراءة عن هذه الشرطية المشكوكة ، وان لم يوجد مندوحة جرت قاعدة الترتّب كتقديم الاهمّ ، وذلك كما في «انقذ» و «لا تغصب» وكان الانقاذ في الارض المغصوبة.

٢٩٦

خلافا للحالة الثانية لان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي المسئولية والادانة (١) كما تقدّم ، ولكن النهي ساقط على القول المتقدّم بان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينافيه خطابا (٢). وعليه فلو كان وقت الصلاة ضيقا وكان بامكان المكلف ان يصلي حال الخروج بدون ان تطول بذلك مدّة الخروج فصلّى بنفس خروجه فهذه صلاة في المكان المغصوب ولا شك في وجوبها في الحالة الاولى لان الخروج باعتباره مضطرّا إليه لا بسوء الاختيار غير منهي عنه منذ البدء ، وامّا في الحالة الثانية فقد يقال بانها منهي عنها ومأمور بها غير ان النهي والامر غير متعاصرين زمانا (٣) ، ومن هنا جاز ثبوتهما معا ، وذلك لان النهي سقط خطابا بالاضطرار الحاصل بسوء الاختيار وإن لم يسقط عقابا وإدانة ، والامر توجّه الى الصلاة حال الخروج بعد سقوط النهي فلم يجتمعا في زمان واحد.

__________________

(١) اي لا ينافي استحقاق العقاب ، كما تقدّم في مسألة «حالات ارتفاع القدرة».

(٢) اي ان المضطر ـ بسوء اختياره ـ الى الخروج من ارض الغير يستحق العقاب على خروجه لانه دخل الى ارض الغير عاصيا فيستحق العقاب على وجوده وخروجه ولذلك قالوا بأنّ اضطراره لا ينافي عقابه أي كأنّه مختار ، نعم لا يصح عقلا ان ينهى عن الخروج.

(٣) أي كان بداية منهيا عن الصلاة في الارض المغصوبة وامّا الآن فغير منهي عنها بل هو مأمور بالخروج وهو يصلّي الآن في ضيق الوقت وهو يخرج ، والامر بالصلاة موجود الآن بمقتضى اطلاق الامر بالصلاة ، ومن هنا جاز ثبوت الامر بالصلاة الآن والنهي عن الصلاة قبل الدخول الى الارض المغصوبة.

٢٩٧

ولكن التحقيق ان ذلك (١) لا يدفع التنافي بين الامر والنهي لان سقوط النهي لو كان لنسخ وتبدّل في تقدير الملاكات لامكن ان يطرأ الامر بعد ذلك ، وامّا اذا كان بسبب الاضطرار بسوء الاختيار الذي هو نحو من العصيان فهذا انما يقتضي سقوط الخطاب لا المبادئ (٢) ، فالتنافي بلحاظ المبادئ ثابت على كل حال. هذا اذا اخذنا بالقول السابق الذي يقول بأن الاضطرار بسوء الاختيار ينافي الاختيار خطابا ، واذا انكرنا هذه المنافاة (٣) فالامر أوضح.

وقد واجه الاصوليون هنا مشكلة اجتماع الامر والنهي من ناحية اخرى في المقام وحاصلها انه قد افترض كون الخروج مقدّمة للتخلص الواجب من الغصب ، ومقدّمة الواجب واجبة ، فيكون الخروج واجبا فعلا مع كونه منهيا عنه بالنهي السابق الذي لا يزال فعليا بخطابه وروحه معا (٤) او بروحه وملاكه فقط على الاقل فهل يلتزم بانّ الخروج ليس مقدمة

__________________

(١) اي الاختلاف في الوقت. وكلمة «التنافي» غير موجودة في النسخة الاصلية ولا شك ان ذلك كان سهوا.

(٢) يقول السيد الشهيد قدس سرّه بأنّه يبقى الخروج مبغوضا رغم اضطراره للخروج والصلاة وكونه في ضيق وقت الصلاة فنقع في تناف وتعارض بين الامر بالصلاة ومبغوضية خروجه ، نعم يجب عليه الصلاة كي لا تفوته صلاته ايضا مع ارتكابه لخروج مبغوض.

(٣) اي اذا قلنا بان الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وعقابا ـ وهو رأي السيد الشهيد ـ كان الامر أوضح ، وذلك لانه على هذا القول لا تسقط فعلية الخطاب وانما تسقط فاعليته ومحرّكيته فقط.

(٤) على قول السيد المصنّف.

٢٩٨

للواجب (اي لترك البقاء) او بتخصيص في دليل حرمة التصرّف في المغصوب على نحو ينفي وجود نهي من اوّل الامر عن هذه الحصّة من التصرّف او بانخرام في قاعدة وجوب المقدّمة وجوه بل أقوال :

اما الوجه الاوّل : فحاصله ان الخروج والبقاء متضادّان ، والواجب هو ترك البقاء ، وفعل احد الضدّين ليس مقدّمة لترك ضدّه ، كما تقدّم في الحلقة السابقة (١).

وهذا الوجه حتى إذا تمّ لا يحلّ المشكلة على العموم ، لان هذه المشكلة لا نواجهها في هذا المثال فقط بل في حالات اخرى لا يمكن انكار المقدّمية فيها من قبيل من سبّب بسوء اختياره الى الوقوع في مرض مهلك ينحصر علاجه بشرب الشراب المحرّم فان مقدمية الشرب في هذه الحالة واضحة (*).

__________________

(١) اي ليس الخروج مقدّمة لترك البقاء ، وانما هما متضادّان ، كما كان البياض ليس مقدّمة لترك السواد ، وانما إرادة الخروج هي المقدّمة لترك البقاء وقد تقدّم ذلك في بحث «اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه» عند قوله «ولكن الصحيح انه لا مقدّمية لترك احد الفعلين لإيقاع الفعل الآخر ...» ، مثال آخر : انه لا مقدّمية لترك الصلاة لتحصيل الانقاذ ، بل المقدّمية هنا لارادة الانقاذ فان اراده فانه تلقائيا لن يصلّي ، وهنا الامر كذلك فليس الخروج مقدّمة للتخلّص الواجب فليس الخروج اذن واجبا ، فيبقى متصفا بصفة الحرام فقط فلا يتصف اذن الخروج بالواجب والحرام في نفس الوقت.

__________________

(*) (اقول) لا شك في صحّة ردّ السيد المصنف (رحمه‌الله) على هذا الوجه ، فانه لا مجال لانكار المقدمية. (لكن) يحسن في هذا المجال ان نقول بانه رغم ايماننا بالمقدّمية

٢٩٩

__________________

الّا ان ذا المقدّمة ليس واجبا ، وذلك لان الغاية من التخلّص هو «كون الانسان خارج الارض المغصوبة او قل في الارض المباحة» ، وكون الانسان في الارض المباحة ليس واجبا ، والّا فلو كانت احكام الضدّين اللذين لا ثالث لهما دائما هكذا. اي اذا كان احدهما واجبا لكان الآخر حراما. لوقعنا في احكام عجيبة من قبيل قولنا «الزنا حرام» فضدّه الذي لا ثالث له واجب وهكذا.! وهذا مما لا نظن ان يلتزم به أحد فحينئذ نقول : ان حكم العقل الواضح بوجوب الخروج انما يكون من باب دفع اشدّ المحذورين (وهو البقاء) ، فالخروج حرام بذاته وواجب لغيره لانه اقل المحذورين ، فاذا وصلنا الى هنا نقول : ان الخروج حرام بالحرمة الفعلية لا الفاعلية ، امّا الفعلية فلتمامية شرائط فعلية الحرمة من التعدّي على ممتلكات الغير بلا اذنه وبسوء الاختيار ، وامّا عدم الفاعلية فلاشتراط فاعلية الحكم ـ اي منجّزيته ـ بالقدرة العقلية والشرعيّة على الامتثال ، وهنا لا قدرة على التخلّص الّا بالتصرّف في الارض المغصوبة.

(ونفس الكلام) يجري فيمن أوقع نفسه بسوء اختياره في مرض مهلك ، فاننا هنا رغم ايماننا بمقدمية شرب الدواء للعلاج الّا ان المراد من العلاج وصول الانسان الى «الكون بسلامة» ، والكون بسلامة ليس واجبا ، نعم القاء النفس في التهلكة والضرر حرام وهذا امر عقلائي جدّا ، فقد يوجد في شيء ما مفسدة الزامية ولا يوجد في ضدّه الذي لا ثالث له مصلحة إلزامية.

(وعلى أيّ حال) فيجب شرب الدواء للتخلّص من الموت ـ مثلا ـ من باب دفع اشدّ المحذورين بأقلّهما ، لا انه واجب لواجب آخر كالسير الى الحج ، او قل لا ان في شرب الدواء المحرّم مصلحة ـ والّا لما حرّمه الشارع المقدّس ـ ، لكن رغم مفسدته فانه يدفع الأسوأ.

(اذن) الخروج من الارض المغصوبة وشرب الدواء المحرّم واجبان بالوجوب الغيري من باب دفع اشدّ المحذورين بأقلّهما فهما في الواقع محرّمان فلم يجتمع أمر ونهي في كلا المثالين ، واطلاق الواجب الغيري هنا. بمعنى ما يكون فيه مصلحة بالنسبة الى ذي

٣٠٠