دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٢

لا يحرّك الّا نحو متعلّقه ، فلو كان نفس القصد المذكور داخلا في المتعلق لادّى الى ان الامر يحرّك نحو نفس هذه المحركية وهذا مستحيل. (وببيان آخر) ان المكلف لا يمكنه ان يقصد امتثال الامر الّا بالاتيان بما تعلق به ذلك الامر ، فان كان القصد المذكور دخيلا في المتعلق فهذا يعني ان الامر لم يتعلّق بذات الفعل (المجرّد) ، فلا يمكن للمكلف ان يقصد الامتثال بذات الفعل (المجرّد) (١). (وان شئت) قلت : ان قصد امتثال الامر بفعل يتوقّف على ان يكون مصداقا لمتعلق الامر ، وكونه كذلك على فرض اخذ القصد في المتعلّق ـ يتوقّف على انضمام القصد المذكور إليه ، وهذا يؤدّي الى توقّف الشيء على نفسه واستحالة الامتثال.

وقد اجيب على ذلك بانّ القصد اذا كان داخلا في المتعلّق انحل الامر الى امرين ضمنيين (٢) لكل منهما محرّكية نحو متعلقه :

احدهما : الامر بذات الفعل ،

والآخر : الامر بقصد امتثال الامر الاوّل وجعله محرّكا ، فيندفع البيان الاوّل في البرهان المذكور بأنّ الامر الثاني (٣) يحرّك نحو محركية الامر الاوّل لا نحو محرّكية نفسه ، ويندفع البيان الثاني بانّ ذات الفعل متعلّق للامر وهو الامر الضمني الاوّل.

__________________

(١) وذلك لكون المتعلّق هو الصلاة المقيدة لا الصلاة المجرّدة.

(٢) ذكر هذا الكلام في تقريرات السيد الهاشمي ج ٢ ص ٧٦ ناسبا ايّاه الى مشهور المحققين.

(٣) وهو «الامر بقصد امتثال الامر الاوّل» ، فالامر الثاني يحرّك نحو قصد امتثال الامر الاوّل لا قصد امتثال نفسه.

٢٤١

* الثالث : ان قصد امتثال الامر اذا اخذ في متعلّق الامر كان نفس الامر قيدا من قيود الواجب ، وحيث انه قيد غير اختياري فلا بد من اخذه قيدا في موضوع الوجوب ، وهذا يعني اخذ الامر في موضوع نفسه (١) وهو محال. وقد مرّ بنا هذا البرهان في الحلقة السابقة.

وقد يعترض عليه بانّ القيد غير الاختياري للواجب انما يلزم أن يؤخذ قيدا في موضوع الوجوب لانه لو لم يؤخذ كذلك لكان الامر محرّكا نحو المقيّد (٢) وهو يساوق التحريك نحو القيد مع انه غير اختياري ، فلا بدّ من اخذه في الموضوع ليكون وجود الامر ومحرّكيّته بعد افتراض وجود القيد (٣) ، وفي هذه الحالة لا يحرّك الّا الى التقيد وذات المقيد.

وهذا البيان انما يبرهن على اخذ القيد غير الاختياري للواجب قيدا في موضوع الوجوب إذا لم يكن مضمون الوجود بنفس جعل هذا الوجوب ، وامّا اذا كان مضمونا كذلك فلن يحرّك الامر حينئذ نحو القيد لانه موجود بنفس وجوده (٤) ، بل يتجه في تحريكه دائما نحو التقيد (٥) وذات المقيد

__________________

(١) لان معنى الحكم ح سيكون هكذا : اذا قصدت امتثال الامر بالصلاة المقيدة بقصد امتثال الامر بها فحينئذ تجب عليك الصلاة بقصد امتثال الامر بها ، وهو محال لأنه يؤدّي الى الدور لوحدة قصد امتثال الامر الاوّل والاخير وهو قوله «اذا قصدت الامتثال فاقصد الامتثال».

(٢) يقصد بالمقيد هنا الموضوع المقيد ، كالمكلف المتصف بالبلوغ والعقل والاستطاعة او الذي زالت عليه الشمس وهكذا .. (وكان) الاولى التعبير بالموضوع.

(٣) اي قيد الموضوع كدخول الوقت بالنسبة الى الصلاة.

(٤) اي وجود الامر.

(٥) كتقيد الصلاة بقصد امتثال الامر بها.

٢٤٢

والمقام مصداق لذلك لان الامر يتحقق بنفس الجعل الشرعي ، فأيّ حاجة الى اخذه قيدا في الموضوع؟!

هذه اهمّ براهين الاستحالة مع بعض التعليق عليها (*).

__________________

(والنتيجة) من الجواب على الوجه الثالث هو ان «قصد امتثال الامر» هو اختياري ومن قيود الواجب.

__________________

(*) نظرة مختصرة في هذا البحث :

لا شك في ان الاصل في الاعمال هي التوصلية ، بيان ذلك :

١. ان المراد هنا من التوصلي هو ما لا يحتاج الى نية القربة وقصد امتثال الامر ، بخلاف التعبدي الذي يحتاج الى ذلك.

٢. ان «قصد امتثال الامر» شيء ممكن في عالمي الجعل والامتثال ، (امّا) في عالم الجعل فبأن نقول بانحلال الامر. في التعبديّات. الى امرين ضمنيين : الاوّل الامر بذات الفعل بنحو الاهمال من ناحية نية قصد الامتثال وعدمها كالصلاة ، والثاني الامر بقصد امتثال «الامر بذات الصلاة» ، وهذان الامران الانحلاليان وان كانا بنظرة طوليين الّا انهما بالنظر الى كونهما في نفس الجعل هما عرضيان خاصة وانهما نشئا من ملاك واحد وقد ذكر السيد الشهيد في بحوثه هذا الكلام اكثر من مرّة ، راجع بحوث السيد الهاشمي ج ٢ ص ٨٩ ، النقطة الثانية. (وعلى اي حال) فقد قلنا بالامرين الضمنيين. دون الاستقلاليين. لان ما نفهمه من لسان الادلّة ولو بالنظرة البدوية هو كون الحكم. في التعبديات. واحدا لا متعدّدا ولا داعي لرفع اليد عن هذا الظهور العرفي (وامّا) في عالم الامتثال فبأن يقصد امتثال الامر الضمني الاوّل ، بعد البناء على الانحلال الى امرين ضمنيين كما قلنا وذلك بان يكون الحكم مثلا هكذا تجب عليك الصلاة بشرط ان تقصد فيها امتثال الأمر بها ، ولا يستفاد من لزوم «قصد امتثال الامر» اكثر من قصد امتثال الامر الضمني الاوّل.

٣. انه لا شك فقيها في جواز قصد القربة الى الله جلّ وعلا او لوجه الله ونحو ذلك مما لا يدخل مفهوم الامر في هذا القصد فنتخلّص بذلك من اصل الاشكالات على دخول «قصد

٢٤٣

وثمرة هذا البحث ان الاختلاف بين القسمين اذا كان مردّه الى عالم الحكم فبالامكان عند الشك في كون الواجب تعبديا او توصليا التمسك باطلاق دليل الواجب لنفي دخل قصد الامتثال في متعلق الوجوب ، كما هو الحال في كل القيود المحتملة فتثبت التوصلية ، وامّا اذا كان مردّه الى عالم الملاك بسبب استحالة اخذ القصد المذكور في متعلق الامر فلا يمكن التمسك بالاطلاق المذكور لاثبات التوصلية ، لانّ التوصلية لا تثبت حينئذ الّا باثبات عدم دخل قصد الامتثال في الملاك ، وهذا ما لا يمكن اثباته بدليل الامر لا مباشرة لانّ مفاد الدليل هو الامر لا الملاك ، ولا بصورة غير مباشرة عن طريق اثبات الاطلاق في متعلق الامر ، لان الاطلاق في متعلق الامر انما يكشف عن الاطلاق في متعلق (* ١) الملاك اذا كان بامكان المولى ان يأمر بالمقيد فلم يفعل ، والمفروض هنا عدم الامكان.

وقد تذكر ثمرة اخرى في مجال الاصل العملي (١) عند الشك في التعبدية وعدم قيام الدليل ، وهي ان هذا الشك مجرى للبراءة اذا كان

__________________

(١) كالبراءة ـ في مقابل الاصل اللفظي كالاطلاق ـ.

__________________

امتثال الامر» في متعلق الامر.

٤. بناء على امكان اخذ نية القربة في متعلّق الحكم سواء كانت بمعنى «قصد امتثال الامر» او بمعنى «لوجه الله» ونحو ذلك فمع عدم معرفتنا ـ رغم البحث ـ بأخذ نية القربة في عمل ما يجري بلاد شك الاطلاق اللفظي كما هو الحال في كل حالة يشك فيها في دخالة قيد ما في متعلق الحكم.

(* ١) الاولى حذف كلمة «متعلّق».

٢٤٤

قصد الامتثال مما يؤخذ في الواجب على تقدير اعتباره (١) ، إذ يدخل في كبرى دوران الواجب بين الاقلّ والاكثر (الارتباطيين) (٢) ، ومجرى لاصالة الاشتغال اذا كان قصد الامتثال مما لا يؤخذ كذلك اذ لا شك في وجوب شيء شرعا وانما الشك في سقوط الواجب المفروغ عن ثبوته (*).

__________________

(١) اي على تقدير اعتقادنا بدخالة قصد امتثال الأمر في المتعلّق العبادي.

(٢) بتقريب ان الزائد بما انه تكليف مشكوك ـ كالقنوت في الصلاة ـ فتجري فيه البراءة.

__________________

(*) لا شك انه مع الايمان بجريان الاطلاق لاثبات التوصلية لا يبقى محل لجريان البراءة وذلك لورود الاصول اللفظية على الاصول العملية كما تعلم.

٢٤٥
٢٤٦

(التخيير في الواجب)

التخيير تارة يكون عقليا وأخرى شرعيا ، فإن كانت البدائل مذكورة على نحو التردّد متعلّقة للأمر في لسان الدليل فالتخيير شرعي وإلا فهو عقلي.

وقد وقع الكلام في تحليل واقع الوجوب في موارد التخيير وكيفية تعلّقه ، وفي ذلك عدّة اتجاهات :

الاتجاه الأوّل (١) : إنّ الوجوب في موارد التخيير العقلي متعلّق بالجامع ، وفي موارد التخيير الشرعي متعلق بكلّ واحد من البدائل ولكن مشروطا بترك البدائل الاخرى (*).

__________________

(١) هو لصاحب الكفاية ، راجع مباحث السيد الهاشمي (حفظه الله) ج ٢ ص ٤٠٩ / النظرية الثانية.

(ويمكن) ان يوجّه كلامه (قدس‌سره) بان الوجوب التخييري الشرعي يكشف ـ بدليل الوجوبين ـ عن وجود ملاكين ، ولكن لمانع ما ولو لمصلحة التسهيل جعلهما المولى تعالى بنحو التخيير لا التعيين.

__________________

(*) ان قصد بقوله «.. مشروطا ..» معنى «بنحو انه يجوز له ترك البدائل الأخرى» فبها والا فإنه ح يرد عليه ايرادات واضحة للمتأمّل منها انه ما المانع ان يأتي المكلّف بكلا الواجبين بالوجوب التخييري ، ثانيا : إنه لا شك في قيام أيّ من البدائل مقام الآخر في

٢٤٧

وقد يلاحظ عليه (١) بأن الوجوبات المشروطة تستلزم امورا لا تناسب الوجوب التخييري كما تقدم في الحلقة السابقة من قبيل تعدد العقاب بترك الجميع (٢).

الاتجاه الثاني : ارجاع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي فيلتزم بأن الوجوب يتعلّق بالجامع دائما ، امّا ببرهان استحالة الوجوبات المشروطة كما اشير اليه فيتعين هذا ، وإمّا ببرهان ان الوجوب التخييري له ملاك واحد ، والواحد لا يصدر إلا من واحد (٣) ، فلا بدّ من فرض جامع بين البدائل يكون هو علة تحصيل ذلك الملاك.

الاتجاه الثالث : التسليم بانّ الوجوب في موارد التخيير يتعلق بالجامع دائما ولكن يقال ان وجوب الجامع يستلزم الوجوبات المشروطة للحصص والافراد ، اي وجوب كل واحدة منها بشرط انتفاء الحصص الاخرى ، وهذه الوجوبات بمجموعها لما كانت روحا نفس ذلك الوجوب المتعلق بالجامع فليس من ناحيتها إلا عقاب واحد في فرض ترك الجميع.

__________________

(١) راجع المصدر السابق ص ٤١١ المؤاخذة الثالثة.

(٢) وردّ السيد الشهيد هذه الملاحظة في المصدر السابق بما ملخّصه : ان العقاب انما يتوجّه على تفويت الملاك وفي المقام لم يفت الّا ملاك واحد بدليل التخيير.

(٣) مراده : والملاك الواحد لا يصدر إلّا من جامع واحد.

__________________

تحصيل المصلحة المطلوبة ممّا يجعل الانسان مطمئنا بكون هذه البدائل مصاديق لجامع واحد ولو من قبيل الجامع الانتزاعي ـ لا الحقيقي ـ والّا فلما اختار المولى تعالى عين هذه الخيارات دون غيرها؟!

٢٤٨

(والفرق) بين هذا الاتجاه وسابقه ان هذا يقول بسراية الوجوب الى الحصة بالنحو المذكور ، وامّا ذاك الاتجاه فلا يلتزم بالسراية ، وعليه لا تكون الحصّة معروضة للوجوب بل مصداقا لمعروض الوجوب (١) ، فالوجوب بالنسبة إلى الحصة في موارد التخيير كالنوعية بالنسبة إلى أفراد الانسان ، فإن هذا الفرد او ذاك مصداق لمعروض النوعية لا معروض لها (٢).

__________________

(١) بيان ذلك من خلال الرسم :

Y نمايش تصويرE

فالعتق والصيام والاطعام على الاتجاه الثاني ليست معروضة للوجوب كما ترى ، نعم هي على الاتجاه الثالث معروضة له.

(٢) هذا تمثيل للاتجاه الثاني ورسمه ـ كالسابق ـ بالنحو التالي :

فإن النوعية لا تعرض على زيد وحسن وحسين لأنها من الاعراض التي لا يمكن أن تعرض على الخارج وإنما تعرض على المفاهيم النوعية (الكلية)

٢٤٩

وقد يعترض على الاتجاه الثالث بانّ الوجوب فعل اختياري للشارع يجعله حيثما اراد ، فإذا جعله على الجامع لا يعقل ان يسرى بنفسه الى غير الجامع ، فان أريد بالوجوبات المشروطة سريان نفس ذلك الوجوب فهو مستحيل ، وان أريد ان الشارع يجعل وجوبات اخرى (١) مشروطة فهو بلا موجب فيكون لغوا.

ويمكن أن يجاب على ذلك بأن هذا انما يتم في مرحلة جعل الحكم والايجاب لا في مرحلة الشوق والارادة ، إذ لا مانع من دعوى الملازمة في هذه المرحلة بين حبّ الجامع وانحاء من الحب المشروط للحصص ، ولا يأتي الاعتراض باللغوية ، لأن الكلام هنا عن المبادئ التكوينية للحكم ، وهذه الملازمة لا برهان عليها ولكنها مطابقة للوجدان (*).

__________________

فقط كالانسان والفرس ونحو ذلك. فإنه لا يصحّ ان تقول «زيد نوع» ويصح ان تقول «الانسان نوع».

(١) اي اضافة الى الوجوب المنصبّ على الجامع.

__________________

(*) الحقّ ان الاحكام تنصبّ على عناوين المتعلقات بما هي مرايا حاكية عن معنوناتها في الخارج ، فقول المولى مثلا «صل» انما ينظر فيه الى عنوان «الصلاة» بما هو مرآة وحاك عن الصلاة التي يمكن او القابلة لأن تحصل في الخارج مع غضّ النظر عن خصوصياتها المتصفة بها في الخارج ، فليس نظر المولى الى لباس زيد الاخضر ومكان صلاته في اي زاوية من زوايا غرفته و.... انما يطلب منا طبيعة الصلاة التي توجد في ايّ فرد من افرادها سواء كانت بثوبه هذا او ذاك او في هذه الزواية او تلك. ونحن حينما تقول بتعلّق الاوامر بالطبائع نقصد هذا المعنى من الطبائع التي توجد في الخارج بوجود افرادها. ولا يمكن قانونيا تعلق الاحكام بالافراد الخارجية لأن الخصوصيات الخارجية الزائدة عن طبيعة الصلاة مثلا غير مطلوبة قطعا ، فيبقى ان المتعلق المطلوب (هل) هو هذه الطبيعة

٢٥٠

__________________

الخارجية التي أتى بها المكلّف ، (ام) هو عنوان تلك الطبيعة القابل للانطباق على كثيرين؟ (من الواضح) ان المقنّن ـ أيّا كان ـ لا ينظر في احكامه الى خصوص فرد معيّن لعدم وجود غرض في خصوص هذا الفرد الخارجي المعيّن ، وانما في اي فرد حقق المكلّف العنوان لكفاه ذلك ، (هذا) قبل حصول الفرد والمصداق في الخارج ، امّا بعد حصوله فاعتباره هو الواجب (الذي يجب فعله) تحصيل للحاصل ، نعم هو مصداق لمعروض الوجوب كما عرفت. (هذا) كلّه في الأوامر ،

(أمّا) في النواهي فالحال فيها كالحال في الأوامر تماما ، وذلك لوحدة المناط وأن المقنّن لا ينظر الى أفراد الغصب الخارجية ، خاصّة اللاحقة منها ، وانما ينظر الى طبيعة «الغصب» فينهى عنها ، ولذلك تقول بوحدة الأوامر والنواهي لا بتعدّدها ، فلا تغصب مثلا هو نهي واحد عن عنوان «الغصب» ، وافراد الغصب الخارجية ما هي إلّا مصاديق لهذا العنوان المنهي عنه ، فهي مصاديق لمعروض النهى لا أنها في نفسها هي معروضة للنهي ، وبتعبير آخر : العقل يحكم في النواحي بحرمة كل افراد الغصب وشرب اي قطرة من الخمر وغيرهما ـ لا الشارع ـ وذلك لانطباق الفرد الخارجي على العنوان المحرّم ، كما كان الأمر في «الصحة البطلان» حينما قلنا بأن الصحّة هي انطباق المصداق الخارجي على العنوان المطلوب والبطلان هو عدم انطباقه عليه ، وليس دور المولى والمقنّن هو الحكم بالانطباق وعدمه ، وانما هذان من وظائف العبد ولذلك لم تقل في بحث «الأحكام التكليفة والوضعية» بأن الصحّة والبطلان التكوينيين أحكام شرعية وانما مجالها عالم الامتثال وهو مجال المكلفين.

(فإذا) عرفت هذا تعرف وجه صحّة الصلاة في المغصوب ـ اذا جاء بكافّة اجزاء الصلاة وشرائطها ـ وإن القول بصحتها متوقف على كون الأمر والنهي متعلقين بالطبائع والعناوين وان هذه الصلاة في المغصوب بما انها مصداق لعنوان الصلاة المطلوبة تصحّ رغم تلتبسها ببعض الخصوصيات المحرّمة وسيأتيك في محلّه مزيد بيان كعدم اشتراط الصلاة بإباحة المكان او اللباس فانتظر.

وهكذا تعرف صحة الاتجاهة الثاني رغم ايماننا بسريان الحب والبغض الى الأفراد

٢٥١

وهذا التحليل للوجوب التخييري له ثمرات :

منها : ما سوف يظهر في مسألة اجتماع الأمر والنهي (١).

ومنها : ما قد يقال من انه اذا شك في واجب انه تخييري او تعييني فعلى القول برجوع التخيير الشرعي الى ايجاب الجامع يكون المقام من موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير ، فان قيل هناك بالبراءة قيل بها هنا باجرائها عن التعيين (٢) ، وإلا فلا ، وعلى القول برجوع التخيير الشرعي إلى وجوبات مشروطة كما يقرره الاتجاه الأوّل فالشك مرجعه إلى الشك في اطلاق الوجوب واشتراطه (٣) اي في ثبوته في حال الاتيان بما

__________________

(١) مثال ذلك : قول المولى «صلّ» و «لا تغصب» ، فإن قلنا بالاتجاه الثاني فقد يقال بصحّة الصلاة في المغصوب لتعدّد العناوين والجهاد ، وإن قلنا بالاتجاه الثالث يقال عادة ببطلان الصلاة في المغصوب للنهي عن كل فرد من افراد الغصب حتّى ولو كان في ضمن فرد واجب بالاصل كالصلاة ..

(٢) لكون التعيين فيه الطبيعة مع خصوصية زائدة مشكوكة وهي كون الكفارة خصوص العتق مثلا

(٣) مراده من الوجوب المطلق هو التعييني ومن المشروط التخييري ، بيان المسألة : انه لو شككنا في كون وجوب العتق بنحو التعيين (وهو يعني

__________________

الخارجية ، وذلك لأن الحبّ انما يسري الى الجهة المطلوبة والبغض الى الجهة المبغوضة ، كما ان الحبّ للصلاة الخارجية الفلانية لا يتعلق بهذه الزاوية من الغرفة او تلك او بهذا الثوب او ذاك الّا ان يوجد خصوصيات معيّنة في نظر الشارع يفضلها الشارع او لا يفضلها كبياض الثوب او سواده وليس كلامنا الآن في هذه الخصوصيات الاخرى ، وانما يتعلق بجهة الصلاتية ، وعليه يصحّ الاتجاه الثاني وتصحّ الصلاة في المغصوب

٢٥٢

يحتمل كونه بديلا وعدلا ، وهذا شك في الوجوب الزائد بلا اشكال فتجري البراءة.

__________________

وجوب العتق مطلقا ـ أي حتى ولو اطعم ـ) او بنحو التخيير (وهو يعني عدم وجوب العتق اذا اطعم) وأتينا بالاطعام مثلا فإنه بناء على الاتجاه الاوّل الذي مفاد الوجوبات المشروطة فيه هكذا : اذا لم تفعل احد اثنين من الثلاثة فافعل الثالث ، مثلا : ان لم تصم ولم تطعم فاعتق ، وبناء على كون الوجوب تعيينيا يكون هكذا : اعتق اي اعتق مطلقا سواء اطعمت او لم تطعم ، فإن اطعم المكلّف شك في بقاء وجوب العتق ورفعه فتجري البراءة لأن الشك بعد الاطعام هو شك في اصل وجوب التكليف بالعتق في هذه الحالة ، لا انه شك في الاتيان بالمكلف به بعد العلم بوجود تكليف ، (فتأمّل).

(ملاحظة) قال باطلاق الوجوب أو اشتراطه دون اطلاق الواجب واشتراطه لأن الشك هنا هو في كون الوجوب ـ كوجوب العتق مثلا ـ تعيينيا او تخييريا.

٢٥٣
٢٥٤

(الوجوب الغيري لمقدمات الواجب)

تعريف الواجب الغيري

اتضح مما تقدّم ان المكلف مسئول عن مقدّمات الواجب من قبل نفس الوجوب المتعلق بها (١) ، لانه يحرّك نحوها تبعا لتحريكه نحو متعلقه ، وهذه المسئولية في حدودها العقلية متفق عليها باعتبارها من شئون حكم العقل بلزوم الامتثال.

وانما وقع الكلام في دعوى الوجوب الشرعي للمقدمة ، فالمشهور بين الاصوليين هو ان ايجاب الشيء يستلزم ايجاب مقدمته فتتصف

__________________

(١) اي بالمقدمات ، بمعنى ان الوجوب كوجوب الحج يحرّك نحو السير الى الحج تبعا لتحريكه نحو نفس الحج ، فالوجوب يحرّك أوّلا وبالذات نحو الحج ، ولانّه يحرّك نحوه يحرّك تبعا لذلك نحو السير الى الحج ، والذي يحكم بهذه المحرّكية هو العقل لا الشارع. فانه لو كان الشارع هو الذي يحرّكنا نحو المقدمة ويأمرنا بالاطاعة لصحّ سؤالنا : وما الدليل على لزوم اطاعة هذا الامر؟ فان قلت : امر المولى ، لعاد نفس السؤال : وما الدليل على لزوم اطاعة هذا الامر ...؟؟؟ وهكذا اذن يلزم ان نؤمن بانّ الحاكم في هكذا مجالات هو العقل لا المولى ، ولذلك قال (قده) «وهذه المسئولية في حدودها العقلية متفق عليها باعتبارها من شئون حكم العقل بلزوم الامتثال» فافهم.

٢٥٥

المقدمة بوجوب شرعي غير انه تبعي ، إمّا بمعنى انه معلول لوجوب ذي المقدمة ، او بمعنى ان الوجوبين معا معلولان للملاك القائم بذي المقدمة ، فهذا الملاك بنفسه يؤدّي الى ايجاب ذي المقدمة نفسيا وبضمّ مقدّمية المقدّمة يؤدّي الى ايجابها غيريا ، وعلى كلا الوجهين فالتلازم بين الوجوبين محفوظ.

ويعرّف هؤلاء القائلون بالملازمة الواجب الغيري بانّه «ما وجب لغيره» او «ما وجب لواجب آخر» ، والواجب النفسي بانه «ما وجب لنفسه» او «ما وجب لا لواجب آخر».

وعلى هذا الاساس يصنفون الواجبات في الشريعة الى قسمين : فالصلاة والصيام والحج ونحوها واجبات نفسية ، والوضوء والغسل وطيّ المسافة واجبات غيرية.

وقد لوحظ عليهم (١) ان الصلاة ونحوها من الواجبات لم يوجبها الشارع الّا لما يترتّب عليها من الفوائد والمصالح (٢) ، وهي (٣) مغايرة وجودا لتلك الفوائد والمصالح ، فيصدق عليها انها وجبت للغير (٤) ،

__________________

(١) ذكر هذه الملاحظة والجواب عليها في مباحث السيد الهاشمي ج ٢ ص ٢٢١.

(٢) فالفائدة من الصلاة ـ مثلا ـ تظهر من قوله تعالى (وأقم الصّلوة إنّ الصّلوة تنهى عن الفحشآء والمنكر ،) والفائدة من الصيام تظهر من قوله تعالى (كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون) «كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون» الخ ... راجع إن شئت «علل الشرائع» للشيخ الصدوق رحمه‌الله.

(٣) اي الواجبات كالصلاة.

(٤) كالنهي عن الفحشاء والمنكر ـ بالنسبة الى الصلاة ـ.

٢٥٦

وهذا يعني ان كل هذه الواجبات تصبح غيرية ولا يبقى فى نطاق الواجب النفسي الا ما كانت مصلحته ذاتيه له كالايمان بالله سبحانه وتعالى (١).

وأجاب هؤلاء على الملاحظة المذكورة بانّ الصلاة وإن كانت واجبة من اجل المصلحة المترتبة عليها الّا ان هذا لا يدرجها في تعريف الواجب الغيري ، لان الواجب الغيري ليس كل ما وجب لغيره ، بل هو ما وجب لواجب آخر ، والمصلحة الملحوظة في ايجاب الصلاة ليست متعلقة للوجوب بنفسها فلا يصدق على الصلاة انها وجبت لواجب آخر.

فإن سألت : كيف لا تكون تلك المصلحة واجبة مع ان الصلاة الواجبة انما اوجبت من اجلها؟

كان الجواب : ان الايجاب مرجعه الى الاعتبار والجعل الذي هو العنصر الثالث من عناصر تكوين الحكم في مقام الثبوت ، وغاية الواجب انما يجب ان تكون مشاركة للواجب بدرجة اقوى في عالم الحب والارادة ، لان حبّه انما هو لاجلها لا في عالم الجعل والاعتبار ، لانّ الجعل قد يحدّد به المولى مركز حقّ الطاعة على نحو يكون مغايرا لمركز حبّ الاصيل لما تقدّم في بداية هذه الحلقة من ان المولى له ان يحدد مركز حقّ الطاعة في مقدمات مراده الاصيل بجعل الايجاب عليها لا

__________________

(١) والتقرّب الى الله تعالى اقصى حد ممكن للانسان حتّى يصل الى غاية الغايات وهي الفناء في ذاته تعالى فلا يرى لنفسه عملا ولا يرى مدبرا له الّا الله ولا يرى في العالم وجودا الا وجود الله ونحو ذلك من المراتب التي لا يصل اليها الا الانسان الكامل ، وفّقنا الله لكل خير ، فانه لا حول ولا قوّة إلّا به.

٢٥٧

عليه (١) ، فتكون هي الواجبة في عالم الجعل دونه.

وعلى هذا فاذا جعل الشارع الايجاب على الصلاة ابتداء وحدّدها مركزا لحقّ الطاعة ولم يدخل المصلحة المنظورة له في العهدة كانت الصلاة واجبا نفسيا لا غيريا ، لانها لم تجب لواجب آخر وان وجبت لمصلحة مترتبة عليها ، وخلافا لذلك الوضوء فانه وجب من اجل الصلاة الواجبة فينطبق عليه تعريف الواجب الغيري.

خصائص الوجوب الغيري

ولا شك لدى الجميع في ان الوجوب الغيري للمقدّمة ـ إذا كان ثابتا ـ فهو لا يتمتّع بجملة من خصائص الوجوب النفسي ، ويمكن تلخيص احوال الوجوب الغيري فيما يلي :

أوّلا : انه ليس صالحا للتحريك المولوي بصورة مستقلة ومنفصلة عن الوجوب النفسي ، بمعنى ان من لا يكون بصدد التحرّك عن الوجوب النفسي للحج لا يمكن ان يتحرّك بروحية الطاعة والاخلاص للمولى عن الوجوب الغيري لطيّ المسافة ، لانّ ارادة العبد المنقاد التكوينية يجب ان تتطابق مع ارادة المولى التشريعية ، ولما كانت ارادة المولى للمقدّمة في إطار مطلوبية ذيها ومن اجل التوصّل اليه فلا بدّ (٢) ان تكون ارادة العبد

__________________

(١) ولو للتسهيل على المكلفين ، إذ قد يكون من الصعب عليهم تحصيل الغاية من العبادة فيطلب شيئا يقربهم به الى تلك الغاية ، او لكون الطريق المؤدية للغاية غامضة على المكلفين فيعيّنها المولى لهم.

(٢) اي لا بد لكي يتحرّك بروحية الطاعة ان يكون قاصدا امتثال ذي المقدمة.

٢٥٨

المنقاد لها في اطار امتثال ذيها.

ثانيا : ان امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثوابا بما هو امتثال له ، وذلك لانّ المكلف إن اتى بالمقدّمة بداعي امتثال الواجب النفسي كان عمله بداية في امتثال الوجوب النفسي ، ويستحقّ الثواب عندئذ من قبل هذا الوجوب (١) ، وإن اتى بالمقدّمة وهو منصرف عن امتثال الواجب

__________________

(١) حينما قال ان امتثال الوجوب الغيري لا يستتبع ثوابا بما هو امتثال للمقدّمة رأى ان هذا الكلام قد يخالف الوجدان فى بعض الحالات وذلك فيما لو فرض شخصان غني وفقير ذهبا الى الحج فالغني ذهب بالطائرة فوصل بسرعة وسهولة والفقير ذهب ماشيا فوصل بعد اشهر في ايام الحرّ منهكا أىّ انهاك ، فهل من العدل ان يغضّ النظر عن المقدمات فلا يستحق الثاني ثوابا زائدا عن ثواب الغني ويستوي في عدم الاستحقاق مع الغني؟!

ولعلّه لهذا السبب حاول التخلّص بقوله ان «المكلف ان اتى بالمقدّمة بداعي امتثال الواجب النفسي كان عمله بداية في امتثال الوجوب النفسي ويستحق الثواب عندئذ من قبل الوجوب النفسي». وبهذا الحل يفترق الشخصان المذكوران في الثواب المستحق*.

__________________

(*) مسألة استحقاق الثواب وعدمه على الواجبات مسألة كلامية لا اصولية ، ولكن رغم ذلك تعرّض لها سيدنا الشهيد (رحمه‌الله) لابراز خصائص الوجوبات الغيرية ، ونحن تبعا له نتعرّض لهذه المسألة فنقول : ان الواجبات المولوية هي كالديون في عهدة المكلفين ان ادّوها ادّوا ما عليهم وإلا استحقّوا العقاب ، وهذا امر واضح في ديننا ـ رغم محاولة البعض التشكيك بهذا الامر البديهي فلا يستحق المكلّف الثواب بلا فرق بين كون المقدّمات صعبة ـ كالسير مشيا الى الحج كما في الزمان السابق ـ او سهلة ـ كالسفر اليه بالطائرة ـ ، ولا سيّما ان كانت نيّة المسافر بالطائرة السفر الى الحجّ بايّ شكل امكن ، ونيّة المسافر مشيا ان

٢٥٩

النفسي فلن يكون بامكانه ان يقصد بذلك امتثال الوجوب الغيري لما تقدّم (١) من عدم صلاحية الوجوب الغيري للتحريك المولوي.

ثالثا : ان مخالفة الوجوب الغيري بترك المقدّمة ليست موضوعا مستقلا لاستحقاق العقاب اضافة الى ما يستحق من عقاب على مخالفة الوجوب النفسي ، وذلك لانّ استحقاق العقاب على مخالفة الواجب انما هو بلحاظ ما يعبّر عنه الواجب من مبادئ وملاكات تفوت بذلك ، ومن الواضح ان الواجب الغيري ليس له مبادئ وملاكات سوى ما للواجب النفسي من ملاك فلا معنى لتعدّد استحقاق العقاب.

ورابعا : ان الوجوب الغيري ملاكه المقدمية ، وهذا يفرض تعلقه بواقع المقدمة دون ان يؤخذ فيه اي شيء اضافي لا دخل له في حصول ذي المقدمة. ومن هنا كان قصد التوصّل بالمقدمة الى امتثال تكاليف المولى والتقرب بها نحوه تعالى خارجا عن دائرة الواجب الغيري لعدم دخل ذلك في حصول الواجب النفسي ، فطيّ المسافة الى الميقات كيفما وقع وبأيّ داع اتفق يحقق الواجب الغيري ولا يتوقّف الحج على وقوع هذا الطي بقصد قربي ، وهذا معنى ما يقال من ان الواجبات الغيرية توصلية (٢).

__________________

(١) قبل اسطر في الخصوصية الاولى.

(٢) حتّى وإن كانت في نفسها عبادية ، فان قصد القربة قيد داخل في نفس المقدمة ومقوّم لماهيتها ، فالوضوء ، ـ العبادي ـ واجب غيري توصّلي بهذا المعنى.

__________________

لو امكنه الاسهل لفعله ، وقد يقال باستحقاق الثواب على الزائد عن القدر المتيقن من المقدّمات ، فيستحق الماشي ثوابا اكثر من المسافر بالطائرة ، وفيه نظر واضح ، نعم في مرحلة المنّ بالثواب ما نتوقّعه من ساحة عدل الله تعالى هو التفاوت في الثواب.

٢٦٠