دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٢

وعلى هذا الاساس اختلف مجال الاغراض التكوينية عن مجال علاقات الآمرين بالمأمورين ، إذ المناط في المجال الاوّل كاشفية الظهور لدى نفس العامل به فقد يكون منوطا بحصول الظن له (*) ، والمناط في المجال الثاني مقدار كشفه (١) لدى الآمر الموجب لشدّة اهتمامه الداعية الى جعل الحجّية.

الخلط بين الظهور والحجية

اتّضح مما تقدّم ان مرتبة الظهور التصوّري متقوّمة بالوضع ، ومرتبة الظهور التصديقي بلحاظ الدلالة التصديقية الاولى والدلالة التصديقية الثانية متقوّمة بعدم القرينة المتّصلة ، لان ظاهر حال المتكلّم انه يفيد مراده بشخص كلامه ، فاذا كانت القرينة متصلة دخلت في شخص الكلام ولم تكن ارادة ما تقتضيه منافيا للظهور الحالي.

وامّا عدم القرينة المنفصلة فلا دخل له في اصل الظهور وليس مقوّما له ، وانما هو شرط في استمرار الحجية بالنسبة إليه.

ومن هنا يتّضح وجه الخلط في كلمات جملة من الاكابر الموهمة

__________________

(١) اي والمناط في المجال الثاني مقدار كشف الظهور التصوري عند المولى ـ لا عند العبد ـ عن المطابقة للمراد الواقعي فقد قلنا بان احتمال المطابقة قوي لا غلبية المطابقة.

__________________

(*) بل هذا المجال الشخصي منوط بحصول الاطمئنان ، لان العقلاء بما هم عقلاء لا يعملون بما دون الاطمئنان الّا اذا كان اصل الامر ليس بتلك الاهمية.

١٤١

لوجود ثلاث رتب من الظهور كلّها سابقة على الحجية (*) ككلام المحقق

__________________

(*) بعد مراجعة كلمات الاصحاب بالنسبة الى هذه المصطلحات الثلاثة يرى الناظر ضرورة وجود ثلاث مراتب بالبيان التالي :

(أ). مرتبة الظهور التصوّري ، وتتقوّم بمجموع الدوالّ اللفظية ونحوها كالاشارة وظهور الحال بالاخبار او التعجّب او الاستفهام ... (وبقولنا) مجموع الدوالّ اللفظيّة ونحوها تدخل القرائن المتصلة اللفظية وغيرها ممّا تؤثّر في تكوين المدلول الذي يتصوّره السامع.

(ب). مرتبة الظهور الاستعمالي ، وهي متقوّمة بظهور حاله انه متوجّه وغير مخطئ وانه يريد خصوص هذا المدلول التصوّري لا معنى آخر مجازيا.

(ج). مرتبة الظهور الواقعي ، وهي متقوّمة بظهور حال المولى تعالى انه في مقام بيان الاحكام الواقعية ، لا انه متستر وفي مقام التقية. و (قلنا) مرتبة الظهور الواقعي ولم نقل الظهور الجدّي لان اصحابنا حينما يقولون «الجدّي» يكون نظرهم الى المولى العرفي وانه ليس هازلا ، وحينما ينظرون الى المولى الحقيقي يقولون «الواقعي» في مقابل التستر والتقية. وبما ان كلامنا ناظر في علمي الفقه والاصول الى المولى الحقيقي الذي لا يتصوّر في حقّه الهزل كان الاولى ان نقتصر على الجنبة الواقعية دون الجدّية لكونه جادّا دائما.

(والحجّية) حكم مترتّب على هذه المرتبة الثالثة من ظهور شخص الكلام سواء وجدنا قرينة منفصلة فيما بعد ام لا.

وهذه الحجية ـ فضلا عن المدلول الواقعي ـ لا تنهدم بمجيء القرينة المنفصلة ، لان الكلام المطلق إمّا انه كان مطلقا واقعا وهي حالة كون الكلام ناظرا الى تمام حدود موضوع الحكم وامّا انه مهمل وهي حالة ما لو كان الكلام ناظرا الى بيان اصل الحكم لا تفصيلاته ، وعلى اي من هاتين الحالتين لا ينهدم المدلول الواقعي ولا الحجية ... وقد فصّلنا الكلام اكثر في تعليقتنا على مسألة «النظرية العامّة للجمع العرفي» الآتية فراجع هناك.

١٤٢

النائيني رحمه‌الله (١) :

الاولى : مرتبة الظهور التصوّري ،

والثانية : مرتبة الظهور التصديقي على نحو يسوغ لنا التاكيد على انه اراد استعمال ما قاله في معناه الموضوع له (٢).

والثالثة : مرتبة الظهور التصديقي الكاشف عن مراده الواقعي على نحو يسوغ لنا التاكيد على انه اراد كذا (٣) وفقا لهذه المرتبة من الظهور.

والاولى لا تتقوّم بعدم القرينة (٤) ، والثانية تتقوّم بعدم القرينة المتصلة (٥) ، والثالثة تتقوّم بعدم القرينة مطلقا ولو منفصلة (٦).

__________________

(١) وصاحب الكفاية ، راجع الكفاية ، ج ١ ، ص ٣٣٥ ومباحث السيد الهاشمي ، ج ٣ ، ص ٢٦٥.

(٢) قال في النسخة الاصلية بدل «اراد استعمال ما قاله في معناه الموضوع له» «قال كذا وفقا لهذا الظهور» ، وفيه ما فيه ، ولذلك كان الاولى تصحيحها في نفس المتن بما يتلاءم مع مرادهم.

(٣) جدّا وواقعا.

(٤) وانما تتقوّم بالدلالة الوضعية للكلام فقط.

(٥) اي ان الاستعمال الحقيقي متقوم بعدم وجود قرينة متصلة على الخلاف ، لانه إن وجد قرينة متصلة مخالفة ككلمة «وخذ العلم منه» في المثال المعروف «اذهب الى البحر وخذ العلم منه» فاننا سنستكشف ان استعمال «البحر» كان مجازيا ، فالاستعمال الحقيقي اذن متقوّم بعدم القرينة المتصلة المخالفة.

(٦) اي ان الارادة الجدية متقوّمة بعدم القرينة مطلقا ولو منفصلة ، فانّ قوله «وخذ العلم منه» سواء كان متصلا ام منفصلا يكشف عن عدم ارادته الجدية للمعنى الحقيقي للبحر.

١٤٣

والحجية حكم مترتّب على المرتبة الثالثة من الظهور ، فمتى وردت القرينة المنفصلة ـ فضلا عن المتصلة ـ هدمت المرتبة الثالثة من الظهور ورفعت بذلك موضوع الحجية.

وهذا الكلام لا يمكن قبوله بظاهره ، فانه وان كان على حقّ في جعل الظهور التصديقي موضوعا للحجية كما تقدّم غير ان الظهور التصديقي للكلام في ارادة المعنى الحقيقي بنحو الجدّية (١) ليس متقوّما بعدم القرينة المنفصلة بل بعدم القرينة المتصلة فقط (٢) ، لان هذا الظهور منشؤه ظهور حال المتكلم في التطابق بين المدلول التصوري لكلامه والمدلول التصديقي ، والتطابق بين المدلول التصديقي الاوّل والمدلول التصديقي الثاني. والمنظور في هذين التطابقين شخص الكلام بكل ما يتضمّنه من خصوصيات ، فاذا اكتمل شخص الكلام وتحدّد مدلوله التصوّري والمعنى المستعمل فيه تنجّز ظهور حال المتكلم في ان ما قاله

__________________

(١) في النسخة الاصلية قال بدل «بنحو الجدّية» «استعمالا جدّيا» والمناسب ما اثبتناه.

(٢) بمعنى ان المدلول الجدّي للكلام يتشكّل من خلال شخص الكلام ، اي ان المعتبر هو الكلام مع قرائنه المتصلة ، فلو قال المولى مثلا «اعتق رقبة» ولم يقيّد كلامه بقيد متصل فانّ المدلول الجدّي للكلام يتشكّل حتى ولو قيّد الرقبة بوصف الايمان بقيد منفصل ، فانّ هذا التقييد المنفصل اقصى ما يوجب هو اسقاط الاطلاق عن الحجية ، لا أنّ المدلول الجدّي لشخص الكلام الاول يسقط ، وكيف يسقط وقد تمّ وتشكّل ، ولذلك ترى العرف يقولون بعد اتمام حديث المولى :

١٤٤

وما استعمل فيه اللفظ هو المراد جدّا ، ومجيء القرينة المنفصلة تكذيب لهذا الظهور الحالي لا انه يعني نفيه موضوعا (١) ، ولهذا كان الاعتماد على القرينة المنفصلة خلاف الاصل العقلائي لان ذلك على خلاف الظهور الحالي ، ولو كان الاعتماد عليها وورودها يوجب نفي المرتبة التي هي موضوع الحجية من الظهور (٢) لما كان ذلك على خلاف الطبع ولكان حاله حال الاعتماد على القرائن المتصلة التي تمنع عن انعقاد الظهور التصديقي على طبق المدلول التصوري (*).

__________________

هذا هو المراد الجدّي للمولى ، ولذلك ايضا تراهم يتعجبون حينما يعلمون منه في مجلس آخر انه لم يكن يريد الرقبة بنحو الاطلاق ، او لم يكن يرد البحر من الماء في المثال السابق «اذهب الى البحر» ، وما هذا التعجّب إلّا لانهم يرون ان المدلول الجدّي قد انعقد بمجرّد انتهاء الكلام.

(١) اي لا ان موضوع حجية الظهور التصديقي سيسقط ، أو قل : لا ان المدلول الجدّي للكلام الاوّل يسقط.

وقد تعرّض لهذا البحث في بحث «احترازية القيود وقرينة الحكمة ـ الحالة الاولى» ، وسيتعرّض له ايضا في قاعدة الجمع العرفي في اكثر من موضع هناك

(٢) «من الظهور» متعلّق ب «نفي المرتبة». ومراده : انه لو كان الاعتماد على القرينة المنفصلة يوجب نفي المراد الجدّي لكان حاله حال القرائن المتصلة مع انها ـ بنظر العقلاء ـ ليست كذلك ، فهل ان قولنا «اذهب الى البحر وخذ العلم منه» كقول المولى مثلا «اكرم العلماء» ثم في وقت آخر يقول «لا تكرم الفسّاق وان كانوا علماء»؟!

__________________

(*) الصحيح في المقام ان يقال انه لا معنى لسقوط الكلام عن الحجية إلا استكشاف عدم وجود ارادة جدية في الكلام ، وإلا فلا معنى لسقوط الحجية التي هي معلول المدلول

١٤٥

الظهور الحالي

وكما ان الظهور اللفظي حجّة كذلك ظهور الحال (١) ولو لم

__________________

(١) الاصل عقلائيا وجود تطابق بين الظهور اللفظي والظهور الحالي ، وهذا ما يسمّونه باصالة التطابق بين ظهور الكلام وظهور الحال ، وهذه الاصالة عقلائية يرجع اليها العرف عند احتمال عدم التطابق.

ويختلف الحال عند الانسان (فتارة) يكون في حال الجدّ وهي حالتان : (فتارة) يكون في حال الاخبار وهي حالات فتارة يكون في حال الصدق وهي ايضا حالات فتارة يكون ظاهر كلامه عين مراده الواقعي وتارة تتغايران كما لو اورد كلاما يريد خلاف ظاهره لتقية ونحو ذلك وهو ما يسمّى بالتورية وقد يريد خلاف ظاهره لكن لا بالكلية كما في حالة المبالغة ، وتارة يكون في حال الكذب ، (وتارة) يكون في حال الانشاء ، واحوال الانشاء متعدّدة منها التعجب والطلب والاستفهام والتمني والترجي ونحوها ، (وتارة) يكون في حال الهزل ... الى ما هنالك من حالات كثيرة ذكروها في علم البلاغة وغيره مما لا فائدة من جمعه هنا.

(وما) يهمّنا من هذا البحث هو خصوص ما يتعلّق بالآيات والروايات ، وظاهر الحال عادة يكون واضحا فيها ، الّا انه ترد بعض الروايات المتعارضة بنحو السلب والايجاب فترى بعض علمائنا يحملون بعضها على التعجب والاستنكار ونحو ذلك ، اي على خلاف ظاهر حال الرواية ، وهذا امر لا ينبغي ان يقع من علمائنا لان عدم ذكر الرواة ان الامام عليه‌السلام كان في حال الاستنكار والتعجّب يقضي ان نحمل الرواية على ظاهر حاله حتى وان

__________________

الجدّي الّا بسقوط علّتها.

(وإنّ) تعجّب العرف من التقييد بالقيد المنفصل المخالف ناشئ من مخالفة المتكلم ـ في مرحلة الارادة الجدّية ـ لشخص كلامه الاوّل قبل ان نصل الى مرحلة الحجية.

١٤٦

يتجسّد في لفظ ايضا. فكلّما كان للحال مدلول عرفي ينسبق اليه ذهن الملاحظ اجتماعيا اخذ به ، غير ان اثبات الحجية لهذه الظواهر غير اللفظية لا يمكن ان يكون بسيرة المتشرّعة وقيامها فعلا في عصر المعصومين على العمل في مقام استنباط الاحكام بظواهر الافعال والاحوال غير اللفظية ، لان طريق اثبات قيامها في الظواهر اللفظية قد لا يمكن تطبيقه في المقام لعدم شيوع ووفرة هذه الظواهر الحالية المجرّدة عن الالفاظ لتنتزع السيرة من الحالات المتعدّدة ، كما لا يمكن ان يكون اثبات الحجية لها بالادلّة اللفظية الآمرة بالتمسك بالكتاب واحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة عليهم‌السلام كما هو واضح لعدم كونها كتابا ولا حديثا ، وانما الدليل هو السيرة العقلائية (*) على ان لا

__________________

استلزم ذلك الوقوع في التعارض وذلك لان عدم ذكر الرواية استنكار الامام ونقلها الى الكتب ـ مع فرض وثاقة الناقلين ـ تدليس في بيان احكام الله جلّ وعلا ، امّا حصول التعارض فامر غير عزيز في رواياتنا وليس مستنكرا لوجود محامل عقلائية عليه من قبيل التقية والحفاظ على شيعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحو ذلك

__________________

(*) هذا الكلام صحيح لا غبار عليه وبيان ذلك طبقا لمذهبنا في التغاير بين السيرة العقلائية (الناشئة من اسس عقلائية فهي لا تختلف من زمان الى زمان ولا من مكان الى مكان ولا تتخلّف لانها اطمئنانية) وبين السيرة العرفية (الناشئة من العادات والتقاليد وإن كانت خاطئة) واضح ، فان الشارع المقدّس لا يخالف الاولى وقد يخالف الثانية ، لذلك فالثانية هي التي تحتاج الى معرفة امضاء الشارع لها ...

المهم انه على مذهبنا هذا يصحّ الاستدلال بالسيرة العقلائية على حجية «الظهور الحالي» من دون حاجة الى معرفة امضاء الشارع المقدّس ، وامّا على ما ذهب

١٤٧

يدخل في اثبات امضائها التمسك بظهور حال المولى وسكوته في التقرير والامضاء لان الكلام في حجية هذا الظهور.

الظهور التضمني

اذا كان للكلام ظهور في مطلب فظهوره في ذلك المطلب بكامله ظهور استقلالي وله ظهور ضمني في كل جزء من اجزاء ذلك المطلب.

ومثال ذلك اداة العموم في قولنا «أكرم كل من في البيت» ونفرض ان في البيت مائة شخص ، فلأداة العموم ظهور (* ١) في الشمول للمائة باعتبار دلالتها على الاستيعاب ، ولها ظهور ضمني في الشمول لكل واحد من وحدات هذه المائة ، ولا شك في حجية كل ظواهرها الضمنية.

ولكن اذا ورد مخصص منفصل دلّ على عدم وجوب بعض افراد العام ـ ولنفرض ان هذا البعض يشمل عشرة من المائة ـ فهذا يعني ان بعض

__________________

اليه سيدنا المصنف (قده) من لزوم الحاجة الى معرفة الامضاء فاننا سنقع في مشكلة كيفية معرفة الامضاء فانه لم ينقل هذا الامضاء باللفظ ولا يصحّ الاستدلال على وجوده بظهور الحال لانه يورث الدور او التسلسل ، ولذلك يتعيّن على السيد الشهيد (قده) إمّا الالتزام بمذهبنا او القول باننا مطمئنّون بامضاء الشارع المقدّس لهذه السيرة العقلائية.

(* ١) بل نصّ ، الّا ان يكون مدخول اداة العموم غير منحصر كقول المولى «اكرم جميع العلماء» ، فان كلمة «العلماء» تشمل كل من له علم ولو بأدنى مراتبه وفي ايّ مجال كان علمه ، وهذه دائرة تشمل كل الناس تقريبا ، وهذه الدائرة بهذه السعة معلومة عند الجميع انها غير مرادة وذلك للانصراف عن اكثرهم ، وامّا القدر المتيقّن منهم فهو مشمول بالنص وامّا الاطراف المشكوكة الارادة فمشمولة بالظهور

١٤٨

الظواهر الضمنية سوف تسقط عن الحجية (*) لمجيء المخصّص ، والسؤال هنا هو ان الظواهر الضمنية الاخرى التي تشمل التسعين الباقين هل تبقى على الحجية او لا؟ فان قيل بالاوّل كان معناه ان الظهور التضمّني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجية (١) ، وإن قيل بالثاني كان معناه التبعية كما تكون الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية في الحجية.

__________________

(١) أي «غير تابع للمدلول المطابقي ..» ، ومراده ان يقول فإن قيل بان التسعين تبقى على الحجية كان معناه ان حجية الظهور التضمني قائمة بذاتها وغير تابعة لحجية المدلول المطابقي.

__________________

(*) تقدّم في مسألة «الخلط بين الظهور والحجية» السابقة التفصيل بين ما لو كان ورود المخصّص المنفصل بعد العمل او لا وبين ما لو كان المتكلم في مقام البيان او الاهمال او لا ... فراجع.

وهنا نضيف ـ باختصار ـ ان سيرة المتشرّعة في هكذا موارد قائمة على الاخذ بالعموم في الباقي ولو من باب علمهم بان الشارع المقدّس في مقام بيان احكام الشريعة المقدّسة فان تخصيصه بقدر معيّن ـ مع كونه ملتفتا الى ذلك العام ـ يعني قانونيا بقاء الباقي على الحجية ، وهذا هو ظاهر حاله وإلا كان عليه ان يبيّن ، وتخريج ذلك على مذهبنا انه سيتبين انّ الشارع المقدّس قد كان سابقا في مقام الاهمال من هذه الناحية فليس المراد الجدّي من هذا العام هو العموم ، فيتمسّك المتشرّعة بالظهور في العموم في مرحلة المراد الاستعمالي ، وبتعبير آخر : ما نحن فيه من قبيل التمسّك بالاطلاق المقامي ، فحينما يخرج المولى من العام مقدارا معيّنا مع كون المولى في مقام بيان تمام حدود احكامه يقول العرف لو وجد واقعا مخصّص آخر لذكره المولى ، وايضا لو لم يرد تمام الباقي لما ذكر العام بلفظة تفيد العموم. واداة العموم موضوعة للدلالة على استيعاب تمام افراد مدخولها ، لكن بعد معرفتنا بوجود تخصيص نستكشف ان العموم كان ناظرا في مرحلة الواقع الى استيعاب تمام أفراد الباقي.

١٤٩

والأثر العملي بين القولين انه على الاوّل نتمسّك بالعام لاثبات الحكم لتمام من لم يشملهم التخصيص ، وعلى الثاني تسقط حجية الظواهر التضمنية جميعا ولا يبقى دليل حينئذ على ان الحكم هل يشمل تمام الباقي او لا؟

وقد ذهب بعض الاصوليين الى سقوط الظواهر والدلالات التضمنية جميعا عن الحجيّة ، وذلك لان ظهور الكلام في الشمول لكل واحد من المائة في المثال المذكور انما هو باعتبار نكتة واحدة وهي الظهور التصديقي (الاوّل) لاداة العموم في انها مستعملة في معناها الحقيقي وهو الاستيعاب ، وبعد ان علمنا بأنّ الاداة لم تستعمل في الاستيعاب بدليل ورود المخصّص واخراج عشرة من المائة نستكشف ان المتكلم خالف ظهور حاله واستعمل اللفظ في المعنى المجازي ، وبهذا تسقط كل الظواهر الضمنية عن الحجية لانها كانت تعتمد على هذا الظهور الحالي الذي علم بطلانه ، وفي هذه الحالة يتساوى افتراض ان تكون الاداة في المثال مستعملة في التسعين او في تسعة وثمانين لانّ كلّا منهما مجاز ، وايّ فرق بين مجاز ومجاز؟

وقد اجاب على ذلك جملة من المحققين كصاحب الكفاية رحمه‌الله (١) بان المخصّص المنفصل لا يكشف عن مخالفة المتكلّم لظهور حاله في استعمال الأداة في معناها الحقيقي ، وانما يكشف فقط عن عدم تعلّق ارادته الجدية باكرام الافراد الذين تناولهم المخصّص ،

__________________

(١) راجع كفاية الاصول ج ١ ص ٣٣٥ ومباحث السيد الهاشمي ج ٣ ص ٢٦٥.

١٥٠

فبالامكان الحفاظ على هذا الظهور وهو ما كنّا نسميه بالظهور التصديقي الاوّل فيما تقدّم ونتصرّف في الظهور التصديقي الثاني وهو ظهور حال المتكلم في ان كل ما قاله وابرزه باللفظ مراد له جدّا ، فان هذا الظهور لو خلّي وطبعه يثبت ان كل ما يدخل في نطاق المعنى المستعمل فيه فهو مراد جدّا ، غير ان المخصص يكشف عن ان بعض الافراد ليسوا كذلك ، فكلّ فرد كشف المخصص عن عدم شمول الارادة الجدية لهم نرفع اليد عن الظهور التصديقي الثاني بالنسبة إليه ، وكل فرد لم يكشف المخصص عن ذلك فيه نتمسّك بالظهور التصديقي الثاني لاثبات حكم العام له.

وفي بادئ الامر قد يخطر في ذهن الملاحظ ان هذا الجواب ليس صحيحا لانه لم يصنع شيئا سوى انه نقل التبعيض في الحجية من مرحلة الظهور التصديقي الاوّل الى مرحلة الظهور التصديقي الثاني ، فاذا كان الظهور التضمّني غير تابع للظهور الاستقلالي في الحجية فلما ذا لا نعمل على التبعيض في مرحلة الظهور التصديقي الاوّل (١)؟ واذا كان تابعا له كذلك (٢) فكيف نعمله في مرحلة الظهور التصديقي الثاني ونلتزم بحجية بعض متضمناته دون بعض؟

وردّنا على هذه الملاحظة ان فذلكة الجواب ونكتة نقل التبعيض من مرحلة الى مرحلة هي ان الظواهر الضمنية في مرحلة الظهور التصديقي

__________________

(١) خلافا لصاحب الكفاية ، فانه لم يعمله في مرحلة الاستعمال.

(٢) اي واذا كان المدلول التضمني تابعا للمدلول الاستقلالي في الحجية ـ كما هو الحال في المداليل الالتزامية ـ فيلزم ان يسقط التضمني إذا سقط الاستقلالي ، لا ان نعمل التبعيض في مرحلة الظهور التصديقي الثاني كما فعل صاحب الكفاية.

١٥١

الاوّل مترابطة ولها نكتة واحدة ، فان ثبت بطلان تلك النكتة لم يسلم شيء من تلك الظواهر الضمنية ، والنكتة هي ظهور حال المتكلم (١) في انه يستعمل اللفظ استعمالا حقيقيا ، فان هذا هو الذي يجعلنا نستظهر ان هذا الفرد من المائة داخل في نطاق الاستعمال وذاك داخل وهكذا.

فاذا علمنا بأنّ اللفظ قد استعمل مجازا وان المتكلم قد خالف

__________________

(١) في مرحلة الاستعمال.

ومراده من الجواب : اننا (تارة) نقول «جاء اسد» ونريد به المعنى الحقيقي ، فهذا استعمال حقيقي ، و (تارة اخرى) نقول «جاء اسد القوم» ونريد به الرجل الشجاع ، وهذا استعمال مجازي لاننا استعملنا لفظة «اسد» هنا في غير المعنى الموضوعة له ولكن مع ذلك يصحّ الاستعمال لوجود «وجه شبه» بينهما ، و (ثالثة) نقول «جاء اسد» ونقصد به الرجل الجبان او كتابا او اي شيء آخر لا مناسبة بينه وبين المعنى الحقيقي ل «اسد» فهذا يسمّى استعمالا خاطئا وذلك لعدم وجود «وجه شبه» بينهما.

فاذا تأمّلت في هذه الحالات الثلاثة ترى ان نظرنا فيها الى مرحلة الاستعمال ، ففي الحالة الاولى قد استعملت اللفظة في مرحلة الاستعمال في معناها الموضوعة له ، وفي الحالة الثانية لم تستعمل ـ اي في مرحلة الاستعمال ـ في معناها الموضوعة له ، وكذا الامر في الحالة الثالثة.

(وما نحن فيه) من هذا القبيل تماما ، (فتارة) يقول المولى «اكرم كل من في البيت» ويريدهم كلهم ، فهو استعمال حقيقي لانه استعمل لفظة «كل» ـ اي في مرحلة الاستعمال ـ في معناها الحقيقي وهو الشمول ، و (تارة اخرى) يستعملها في الاعم الاغلب مجازا بدليل الاستثناء المنفصل لعشرة افراد من المائة مثلا ، ففي هذه الحالة نعرف ان المتكلم لم يستعمل لفظة «كل» في معناها الحقيقي وانما في المعنى المجازي وهو معنى الاعمّ الاغلب فلا موجب في هكذا صورة ان يتمسك بلفظة" كل" لاثبات الحكم على كل الباقين.

١٥٢

ظهوره الحالي المذكور فلا موجب بعد ذلك لافتراض ان هذا الفرد او ذاك داخل في نطاق الاستعمال ، وهذا خلافا (١) للظواهر الضمنية في مرحلة الظهور التصديقي الثاني ، فان نكتة كل واحدة منها مستقلة عن نكتة الباقي ، فان كل جزء من اجزاء مدلول الكلام ـ اي المعنى المستعمل فيه ـ ظاهر في الجدّيّة (٢) ، فاذا علمنا ببطلان هذا الظهور في بعض اجزاء الكلام

__________________

(وأمّا) لو قلنا بان المولى قد استعمل لفظة «كل» ـ في مرحلة الاستعمال ـ في معناها الحقيقي لكنه في مرحلة الارادة الجدية ـ لم يرد منها الجميع وانما استثنى عشرة منهم ففي هذه الحالة يصحّ التمسك بعموم العام في الباقي لكون العموم مرادا له في مرحلة الاستعمال اي ان استعماله حقيقي ولا مجازية فيه.

وظاهر حال الشارع المقدس الذي هو في مقام بيان الاحكام الشرعية ان استعمالاته حقيقية وانه يريد من لفظة «كل» مثلا معنى الشمول ، وانه اذا جاء استثناء منفصل فهذا لا يعني ان استعماله الاوّل كان مجازيا وانه كان يريد منها معنى الاعمّ الاغلب فانّ هذا لا يناسب ظاهر حاله ، وانما معنى هذا الاستثناء المنفصل ان الشارع المقدّس لم يذكر هذا الاستثناء المنفصل إمّا تقيّة وامّا لعدم قدرة السامع على تحمّل الاستثناءات او لغير ذلك من الوجوه ، ولذلك ترى المتشرّعة يأخذون بعموم العام في الباقي تمسكا بظهور حال الشارع المقدّس انه في مقام الاستعمال الحقيقي لا المجازي.

(١) اي : وهذا خلافا لما اذا استظهرنا ان الاستعمال ـ في مرحلة الارادة الاستعمالية ـ حقيقي ، وان التبعّض والاستثناء ناظران الى مرحلة الارادة الجدّية ، فعلى هذا الاستظهار يثبت باصالة التطابق بين الارادتين ارادة كل جزء من اجزاء الكلام جدّا بنحو مستقلّ عن ارادة الجزء الآخر جدّا.

(٢) لاصالة التطابق بين الارادتين الاستعمالية والجدية.

١٥٣

فلا يسوّغ ذلك رفع اليد عن ظهور الاجزاء الاخرى من مدلول الكلام في الجدية ، وهكذا يثبت (١) ان العام حجة في الباقي.

ومن الجدير بالذكر الاشارة الى ان الاستشكال في حجية العام في تمام الباقي بعد التخصيص ـ على النحو المتقدّم ـ انما اثير في المخصصات المنفصلة دون المتصلة ، نظرا الى انه في حالات المخصص المتصل كما في «اكرم كل من في البيت الّا العشرة» تكون الاداة مستعملة في استيعاب افراد مدخولها حقيقة ، غير ان المخصص المتصل يساهم في تعيين هذا المدخول وتحديده فلا تجوّز ليقال اي فرق بين مجاز ومجاز؟

وعلى ايّ حال فبالنسبة الى الصيغة الاساسية للمسألة المطروحة وهي حجية الظهور التضمني اتّضح ان الظواهر التضمنية اذا كانت جميعا بنكتة واحدة (٢) وعلم ببطلان تلك النكتة سقطت عن الحجية كلها ، واذا كانت استقلالية في نكاتها لم يسقط بعضها عن الحجية بسبب سقوط البعض الآخر.

__________________

(١) بناء على هذا الاستظهار وهو استظهار كون الاستعمال حقيقيا وان التبعّض انما هو في مرحلة الارادة الجدية فقط.

(٢) وهي ظهور الكلام في جميع الاجزاء بنحو الظهور الواحد في المجموع كما لو قال احد «جاء الاسود» فاننا نستظهر منها على الصعيدين الاستعمالي والجدّي الاسود المفترسة ، فاذا اطّلعنا على بعضهم ـ ولم نطّلع على الباقى ـ فعرفناهم رجالا شجعانا فحينئذ نعرف ان استعماله كان مجازيا (لانه استعمل لفظة «اسد» في غير ما وضعت له) فلا يمكن في هذه الحالة ان نستظهر ان الباقي هم اسود مفترسة للخدشة في مرحلة الارادة الاستعمالية.

١٥٤

٢ ـ (الدليل العقلي)

الدليل العقلي هو كل قضية يدركها العقل ويمكن ان يستنبط منها حكم شرعي.

والبحث عن القضايا العقلية تارة يقع صغرويا في ادراك العقل وعدمه واخرى كبرويا في حجية الادراك العقلي.

ولا شك في ان البحث الكبروي اصولي ، وامّا البحث الصغروي فهو كذلك اذا كانت القضية العقلية المبحوث عنها تشكّل عنصرا مشتركا في عملية الاستنباط (١) ، وامّا القضايا العقلية التي ترتبط باستنباط احكام معيّنة ولا تشكّل عنصرا مشتركا (٢) فليس البحث عنها اصوليا.

ثم ان القضايا العقلية التي يتناولها علم الاصول إمّا ان تكون قضايا فعلية وإمّا ان تكون قضايا شرطية ، فالقضية الفعلية من قبيل ادراك العقل استحالة تكليف العاجز ، والقضية الشرطية من قبيل ادراك العقل ان وجوب شيء يستلزم وجوب مقدّمته ، فان مردّ هذا الى ادراكه لقضية شرطية مؤدّاها : «إذا وجب شيء وجبت مقدّمته» ، ومن قبيل ادراك العقل ان قبح

__________________

(١) كحكم العقل باستحالة تكليف العاجز.

(٢) كحكم العقل بقبح الكذب وشرب الخمر ونحوهما.

١٥٥

فعل (١) يستلزم حرمته ، فان مردّه الى قضية شرطية مؤدّاها : «اذا قبح فعل حرم».

والقضايا الفعلية إمّا ان تكون تحليلية او تركيبية (٢) ، والمراد بالتحليلية ما يكون البحث فيها عن تفسير ظاهرة من الظواهر وتحليلها ، كالبحث عن حقيقة الوجوب التخييري (٣) او عن حقيقة علاقة الحكم بموضوعه (٤) ، والمراد بالتركيبية ما يكون البحث فيها عن استحالة شيء بعد الفراغ عن تصوّره وتحديد معناه ، من قبيل البحث عن استحالة الحكم الذي يؤخذ العلم به في موضوعه (٥) مثلا.

والقضايا الشرطية إما ان يكون الشرط فيها مقدّمة شرعية من قبيل المثال الاوّل لها (٦) ، وامّا ان لا يكون كذلك من قبيل المثال

__________________

(١) اذا وصل الى حدّ معيّن كالفحشاء والمنكر والبغي.

(٢) او قل : تصورية او تصديقية.

(٣) وهل انه عبارة عن تعلق الحكم بالجامع وهذا الجامع يكون جامعا بين مصاديق الوجوب التخييري او ان الحكم منصبّ مباشرة على افراد الوجوب التخييري بنحو مشروط بترك بقية الخصال ...

(٤) فهل ان الحكم عبارة عن ظلّ الموضوع ومعلولا له او ما ذا؟ ....

(وهل) ان الحكم متعلق بالموضوع ـ كما في «صلّ» مثلا ـ بنحو تعلّقه بجامع الصلاة او بافراد الصلاة بنحو التخيير ، وان كان متعلقا بالجامع فهل يسري الحكم من الجامع الى حصصه ام لا ...

(٥) مثالها لو قال المولى مثلا «اذا علمت بوجوب الصلاة فتجب ح عليك» فان هكذا حكم مستحيل عقلا للدور كما هو واضح.

(٦) وهو قوله «اذا وجب شيء ـ اي شرعا ـ وجبت مقدمته ـ عقلا فقط او عقلا وشرعا ـ».

١٥٦

الثاني لها (١).

وكل القضايا الشرطية التي يكون شرطها مقدّمة شرعية تسمّى بالدليل العقلي غير المستقلّ لاحتياجها في مقام استنباط الحكم منها الى اثبات تلك المقدّمة من قبل الشارع ، وكل القضايا الشرطية التي يكون شرطها مقدّمة غير شرعية (٢) تسمّى بالدليل العقلي المستقل لعدم احتياجها الى ضمّ اثبات شرعي ، وكذلك تعتبر القضايا العقلية الفعلية التركيبية كلها ادلّة عقلية مستقلّة لعدم احتياجها الى ضمّ مقدمة شرعية في الاستنباط منها ، لان مفادها استحالة انواع خاصّة من الاحكام (٣) فتبرهن (٤) على نفيها بلا توقف على شيء اصلا ، ونفي الحكم كثبوته مما يطلب استنباطه من القاعدة الاصولية (٥).

واما القضايا الفعلية التحليلية فهي تقع في طريق الاستنباط عادة عن طريق صيرورتها وسيلة لاثبات قضية عقلية تركيبية والبرهنة عليها ، او

__________________

(١) وهو قوله «اذا قبح فعل عقلا حرم شرعا».

(٢) كمثال «اذا قبح فعل حرم» السابق.

(٣) كالحكم السابق والذي مفاده الحكم الماخوذ في موضوعه العلم به ، فان هذا النوع من الاحكام مستحيل عقلا.

(٤) اي فتبرهن هذه القضايا والادلة العقلية على عدم وجود هكذا احكام في الشرع الحنيف.

(٥) قوله «ونفي الحكم ...» دليل على كون هذه القضايا العقلية الفعلية التركيبية من علم الاصول لانه بها يمكن استنباط نفي وجود بعض الاحكام في الشرع المقدّس.

١٥٧

عن طريق مساعدتها على تحديد كيفية تطبيق القاعدة الاصولية (١).

ومثال الاوّل (٢) تحليل الحكم المجعول على نحو القضية الحقيقية ، فانه يشكّل برهانا على القضية العقلية التركيبية القائلة باستحالة اخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.

ومثال الثاني (٣) تحليل حقيقة الوجوب التخييري بارجاعه الى وجوبين مشروطين او وجوب واحد على الجامع مثلا ، فان ذلك قد يتدخل في تحديد كيفية اجراء الاصل العملي عند الشك ودوران أمر الواجب بين كونه تعيينيا لا عدل له او تخييريا ذا عدل.

وسوف نلاحظ ان القضايا العقلية متفاعلة فيما بينها ومترابطة في بحوثها ، فقد نتناول قضية تحليلية بالتفسير والتحليل فتحصل من خلال الاتجاهات المتعدّدة في تفسيرها قضايا عقلية تركيبية ، إذ قد يدّعي بعض صيغة تشريعية معيّنة في تفسيرها فيدّعي الآخر استحالة تلك الصيغة ويبرهن على ذلك فتحصل بهذه الاستحالة قضية تركيبية (٤) ، او قد نطرح

__________________

(١) وهذا امر بيّن بعد ما عرفت ان هذه القضايا هي مبادئ تصوّرية للقضايا التركيبية

(٢) لقوله «عن طريق صيرورتها وسيلة ...». بيان هذا المثال : انه على القول بكون الاحكام الشرعية مجعولة بنحو القضايا الحقيقية ـ اي مفروضة الموضوع ـ يصحّ اصل مثال «اذا علمت بوجوب الصلاة عليك فقد وجبت عليك» على مستوى التصور انما الاستحالة في مرحلة التصديق

(٣) لقوله «عن طريق مساعدتها ...»

(٤) نذكر مثالا لها من بحث الترتب باختصار : اذا تزاحم على مكلّف

١٥٨

قضية تحليلية للتفسير فيضطرنا تفسيرها الى تناول قضايا تحليلية اخرى تساعد على تفسير تلك القضية (١) ، وفي مثل ذلك تدرس تلك القضايا

__________________

وجوبان لفعلين متساويي الأهميّة كانقاذين لغريقين او مختلفي الاهمية كانقاذ وصلاة فمن المعلوم عقلا تقديم الاهم او التخيير في مورد التساوي .. وذلك يعني وجود قيد آخر للامر بالصلاة ونحوها وهو عدم الابتلاء بضدّ لا يقلّ عنه اهمية.

(لكن) ما معنى «عدم الابتلاء» المذكور ، وبتعبير آخر : ما هو هذا القيد العقلي الزائد؟ هنا يأتي دور «التفسير والتحليل» اللذين ذكرهما هنا السيد الشهيد قدس‌سره الشريف.

هنا اتجاهان في تحليل وتفسير الاحكام التكليفية في حالات التزاحم ، فمنهم ـ كصاحب الكفاية رحمه‌الله ـ يقول : يشترط في فعلية الاحكام التكليفية عدم وجود امر بالضد (كالانقاذ) والّا فلا تجب الصلاة مثلا ، والّا لو وجبت في حال عدم ارادة الانقاذ لترتّب على عهدة المكلّف وجوبان فعليان في عرض واحد وهو محال. (واجابوه) بان الاصل عدم تقيّد وجوب الصلاة الّا بما لا بدّ منه ، وما لا بدّ منه هو تقيّده بعدم الاشتغال بضدّ لا يقلّ عنه اهمية او قل الضرورات تقدّر بقدرها ، ولا دليل عقلي ولا نقلي على التقييد اكثر من هذا ، وعليه فان لم يشتغل بالاهم او المساوي تتحقق جميع شرائط فعلية وجوب الصلاة فتجب عليه ح ، ولا اشكال من ترتّب وجوبين فعليين على عهدته ح لان ذلك حصل بسوء اختياره ، بل لا تعارض ولا تزاحم في هكذا حالة ....

فانظر كيف تحصّل من خلال هذين الاتجاهين قضايا عقلية تركيبية كالقول بامكان الترتّب او استحالته.

(١) وذلك مثلما حصل في مسألة «اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه» ، فقد قيل ان الاختلاف بينهم منشؤه الاختلاف في المراد من الحرمة هل هي

١٥٩

الاخرى عادة ضمن إطار تلك القضية اذا كان دورها المطلوب مرتبطا بما لها من دخل في تحليل تلك القضية وتفسيرها.

وسنتناول فيما يلي مجموعة من القضايا العقلية التي تشكّل عناصر مشتركة في عملية الاستنباط ، ثم نتكلّم بعد ذلك عن حجية الدليل العقلي.

__________________

الحرمة التشريعية أم المنع ، ثم يضطرّنا هذا الامر الى اثارة الفرق بين هاتين الحرمتين ..

١٦٠