دروس في علم الأصول - ج ٢

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر

دروس في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد باقر الصدر


المحقق: الشيخ ناجي طالب آل فقيه العاملي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٢

ولكن قد يقال ـ كما عن السيد الاستاذ ـ انه لا ثمرة عملية يختلف بموجبها الاحتمالان الاولان ، لانهما معا يسوّغان الفتوى بالاستحباب ولا فرق بينهما في الآثار.

ولكن التحقيق وجود ثمرات عملية يختلف بموجبها الاحتمال الاوّل عن الاحتمال الثاني ـ خلافا لما افاده دام ظلّه ـ ، ونذكر فيما يلي جملة من الثمرات :

الثمرة الاولى : ان يدل خبر ضعيف على استحباب فعل وخبر ثقة على نفي استحبابه ، فاذا بني على الاحتمال الاوّل وقع التعارض بين الخبرين لحجيّة كل منهما بحسب الفرض ونظرهما معا الى حكم واقعي واحد (١) اثباتا ونفيا. واذا بني على الاحتمال الثاني فلا تعارض ، لان الخبر الضعيف الحاكي عن الاستحباب لا يثبت مؤدّاه ليعارض الخبر النافي له ، بل هو بنفسه يكون موضوعا لاستحباب واقعي مترتب على عنوان البلوغ ، والبلوغ محقّق ، وكونه معارضا لا ينافي صدق عنوان البلوغ فيثبت الاستحباب (٢).

__________________

الوارد فيه وطلبا للثواب من الله المنّان فانه قد يتحوّل الى مستحبّ في نفسه بالعنوان الثانوي لكونه انقيادا بل قد يصير عبادة كما لو نوى نية القربة الى الله تعالى وكان العمل راجحا في نفسه.

(١) قال : «ونظرهما معا الى حكم واقعي واحد» لانه لا يمكن ـ على مسلك سيدنا المصنّف رحمه‌الله ـ ان يجعل المولى جلّ وعلا الحجية لامارة ما إلّا اذا كانت تصيب الواقع غالبا ـ كخبر الثقة ـ

(٢) الواقعي بالعنوان الثانوي ، وان كان قد ثبت عدم الاستحباب ظاهرا بالعنوان الاوّلي بخبر الثقة ، ومن الطبيعي تقدّم الاحكام الواقعية على الظاهرية.

١٠١

الثمرة الثانية : ان يدلّ خبر ضعيف على وجوب شيء ، فعلى الاحتمال الثاني لا شك في ثبوت الاستحباب ، لانه مصداق لبلوغ الثواب على عمل ، وامّا على الاحتمال الاوّل فلا يثبت شيء ، لان اثبات الوجوب بالخبر الضعيف متعذّر لعدم حجيته في اثبات الاحكام الالزامية ، واثبات الاستحباب به متعذّر أيضا لانه لا يدلّ عليه فكيف يكون طريقا وحجّة لاثبات غير مدلوله! واثبات الجامع بين الوجوب والاستحباب به متعذّر ايضا ، لانه مدلول تحليلي للخبر فلا يكون حجّة لاثباته عند من يرى ـ كالسيد الاستاذ ـ ان حجية الخبر في المدلول التحليلي متوقّفة على حجيته في المدلول المطابقي بكامله (١).

الثمرة الثالثة : ان يدل خبر ضعيف على استحباب الجلوس في المسجد الى طلوع الشمس مثلا على نحو لا يفهم منه ان الجلوس بعد ذلك مستحب او لا ، فعلى الاحتمال الاوّل يجري استصحاب بقاء الاستحباب (٢) ، وعلى الثاني (٣) لا يجري لانه مجعول بعنوان ما بلغه

__________________

(١) اي بما انّ المدلول المطابقي وهو (الوجوب أو الاستحباب) متعذّر فلا يثبت الجامع بينهما ، ولعله مباح او مكروه أيضا.

(٢) بناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة بأن نستصحب فعلية استحباب بقاء الجلوس على مسلك المصنف. (وفيه) عند السيد الخوئي (قده) اشكال معروف في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية وقد ذكرناه في محلّه من الجزء الرابع فراجع. (فبناء) على مبنى السيد الخوئي رحمه‌الله ـ وهو الصحيح ـ لا تتمّ هذه الثمرة.

(٣) اي وعلى الثاني لا يجري استصحاب الاستحباب ، لان الاستحباب الواقعي مجعول على نفس مورد ما بلغنا فيه ثواب ، وهو ما قبل الطلوع ، ولذلك لا يصحّ استصحاب الثواب لان هذا الاستصحاب لن

١٠٢

ثواب عليه وهذا مقطوع الارتفاع لاختصاص البلوغ بفترة ما قبل الطلوع.

ومهما يكن فلا شك في ان الاحتمال الاوّل مخالف لظاهر الدليل ـ كما تقدّم في الحلقة السابقة ـ فلا يمكن الالتزام بتوسعة دائرة حجية الخبر (١) في باب المستحبّات.

__________________

يثبت عنوان «ما بلغ» لما تعرفه من ان الاستصحاب لا يثبت لوازمه العقلية وإلا لكان مثبتا

(١) من خصوص الخبر الصحيح الى مطلق الخبر ـ وإن كان ضعيفا ـ. ونعم البيان ما ذكره لاسقاط الاحتمال الاوّل في الحلقة الثانية فقال بان الاستدلال بالروايات على حجية مطلق الخبر ـ وان كان ضعيفا ـ في موارد المستحبات مبني على فهم المعنى الاوّل منها وهو غير متعيّن ، «بل ظاهر لسان الروايات ينفيه لانها تجعل للعامل الثواب ولو مع مخالفة الخبر للواقع ، فلو كان وضع نفس الثواب تعبيرا عن التعبّد بثبوت المؤدّى وبحجية البلوغ لما كان هناك معنى للتصريح بان نفس الثواب محفوظ حتى مع مخالفة الخبر للواقع» انتهى ، وهي مقالة المحقق العراقي والسيد الخوئي وغيرهما. (راجع مباحث السيد الحائري ج ٣ / ٢ ص ٥٠٨).

وبتعبير آخر حينما يقول الشارع المقدّس ما معناه «... وان لم يكن الحديث صادقا» كما رايت في الروايات فهو يدلّ على عدم اعتباره طريقا وحجة بل العكس هو الصحيح ، فهو يعتبره غير حجّة ولا طريقا الى الواقع ، لان معنى «وان لم يكن على ما بلغه» هو : وان كان ناقله مشتبها او كاذبا ، فالشارع المقدّس لم ينظر الى كونه طريقا وحجّة وانما نظر فقط الى متن الخبر والثواب الوارد فيه(*).

__________________

(*) (اقول) من يتأمّل في اخبار «من بلغ» يعرف ان نظر الشارع المقدس الى اعطاء نفس الثواب الوارد في الرواية منّا منه تعالى وتفضّلا لا اكثر ، وهذا هو القدر المتيقن.

١٠٣

__________________

ولا دليل على ان المراد منها هو اعطاء صفة الحجية ـ بمعنى الطريقية والكاشفية ـ لها ، اذ ان هذه الروايات لا تعطي هذه الصفة للروايات الضعيفة التي ورد فيها ثواب على بعض المستحبّات ، فاخبار «من بلغ» لا تقول مثلا «فما ورد فيها فعنّا ورد» او «لا ينبغي لكم التشكيك فيها» وما اشبه هذه المعاني التي وردت في روايات حجية خبر الثقة ، و (ايضا) يبعد جدّا ارادة الاحتمال الثاني ـ وهو الاستحباب الواقعي النفسي ولو بعنوان ثانوي ـ فانه يبعد جدّا ان يعتبر الشارع المقدّس عملا ما مستحبا لمجرّد وروده لنا ولو من واضع كذّاب ، بمعنى ان وضع الواضع الكذّاب سيصير جزء علة في استحباب كل ما يضعه من مستحبّات وثوابات ، فكأنّ المولى تعالى سيكون خلف هذا الواضع يتبعه في وضعه وجعله للاستحبابات ، وهذا امر عجيب حقا. (اضافة) الى ان السبب المتصوّر لهذا التفضل الالهي هو نيّة الخير والانقياد من العامل ، فالاجر والثواب اذن على العمل بهذه النيّة لا على نفس المستحبّ المدّعى ولو لم نعمله. يدلّك على هذا قوله عليه‌السلام في صحيحة هشام السابقة «فصنعه كان له اجره» ومثلها مصححة محمد بن مروان «... فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب اوتيه ...» ومرفوعة جابر بن عبد الله الانصاري ، وكم من الروايات وردت ان الله جلّ وعلا انما يحاسب الناس ويحشرهم على نيّاتهم. (وخلاصة الامر) انّ من يتامّل في اخبار «من بلغ» يرى ان القدر المتيقّن منها هو ارادة معنى التفضّل من الشارع المقدّس بما هو شارع. وذلك ليصحّ هذا الوعد باعطاء نفس الثواب الوارد في الروايات. لا من حيث هو عاقل. ذلك لان العقلاء وان رأوا حسن الاحتياط والانقياد ولكن ذلك لا يلازم نفس هذا الثواب الوارد. مع الاخذ بعين الاعتبار حسن الاحتياط واستحقاق مقدار من الثواب عقلائيا. (فاخبار) من بلغ تفيدنا اعطاء نفس الثواب الوارد منّا منه تعالى وتفضّلا ولا دليل على اعتبار الشارع المقدّس هذا العمل مستحبا ولو بعنوان ثانوي ، فافهم.

١٠٤

البحث الثالث

(في حجيّة الظهور)

اقسام الدلالة

الدليل الشرعي قد يكون مدلوله مردّدا بين امرين او امور وكلها متكافئة في نسبتها اليه ، وهذا هو المجمل ، وقد يكون مدلوله متعيّنا في أمر محدّد ولا يحتمل مدلولا آخر بدلا عنه ، وهذا هو النص ، وقد يكون قابلا لأحد مدلولين ولكنّ واحدا منها هو الظاهر عرفا والمنسبق الى ذهن الانسان العرفي وهذا هو الدليل الظاهر (١).

__________________

(١) قد يتوهّم بعض الطلبة ان هذا الدليل الظاهر يفيد الظن بمراد المتكلّم ـ بخلاف النص الذي يفيد العلم به ـ لكون المعنى المنسبق الى الذهن هو بقوّة ٦٠% او ٧٠% ونحو ذلك وهي درجة تفيد الظن لا اكثر. (وهذا) تصوّر خاطئٌ ، فصحيح ان معنى الظهور هو ما يكون بقوّة ٦٠% ونحو ذلك الّا ان هذا لكونه صادرا بحسب الفرض من عاقل حكيم عارف باللغة سيولّد عند السامعين العلم بمراده ، لان ارادة المعنى المرجوح دون الراجح في الظروف العادية ضرب من الجنون او التدليس.

(نعم) هناك حالات لا يحصل لنا منها العلم بالمراد الجدّي للمولى بل لا

١٠٥

أمّا المجمل فيكون حجّة في اثبات الجامع بين المحتملات اذا كان له على اجماله اثر قابل للتنجيز ما لم يحصل سبب من الخارج يبطل هذا التنجيز (١) امّا بتعيين المراد من المجمل مباشرة ، وامّا بنفي احد

__________________

يحصل اكثر من الظن وذلك كما في الحالات التي يحصل عندنا منها شك في كون المتكلّم في مقام بيان تمام خصوصيات موضوع الحكم او انه في مقام الاهمال من هذه الجهة المعيّنة (التي نريد ان نستفيد الاطلاق بلحاظها) ، وكما في حال وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب بحيث لم يحصل عندنا بسببه انصراف الى خصوص هذا القدر المتيقّن ، وكما في حالات التعارض ، فاننا في مثل هكذا حالات نتّبع هذا الظهور ـ تبعا للدلالة الوضعية للكلام ـ ولو لم يحصل عندنا اطمئنان بالمراد الجدّي للمولى.

(اذن) فالدليل الظاهر صنفان ، صنف يحصل عندنا منه اطمئنان بالمراد الجدّي للمتكلم العاقل ، وصنف قد لا يحصل لنا منه اطمئنان ، وكلاهما ـ كما سيأتيك ـ حجّة ، امّا وجه حجية الصنف الاوّل فواضح ، وامّا وجه حجية الثاني فقد مرّ في مسألة القدر المتيقّن في مقام التخاطب من بحث الاطلاق ، ويأتيك هنا بعد قليل ان شاء الله من وجود ارتكاز واضح عند العقلاء على كون الدلالات الوضعية للكلام حجّة بين الموالي والعبيد ..

(١) تفصيل ذلك :

ـ تارة لا يكون للجامع بين المحتملات اثر عملي ، فلا يكون حجّة في إثبات شيء.

ـ وتارة يكون له أثر كصيغة الامر اذا افترضنا تردّدها بين الوجوب والاستحباب ، فان للجامع بينهما (وهو المطلوبية) اثرا شرعيا وهو جواز الاتيان بالفعل.

ـ وقد يبطل هذا التنجّز ١ ـ إمّا بتعيين المراد من المجمل كأن نعلم ان المراد من صيغة الامر الوجوب مثلا ، و٢ ـ وإمّا بنفي احد المحتملين كنفي

١٠٦

المحتملين ، فانه بضمّه الى المجمل يثبت كون المراد منه المحتمل الآخر ، وامّا بمجمل آخر مردّد بين محتملين ويعلم بأن المراد بالمجملين معا معنى واحد وليس هناك الّا معنى واحد قابل لهما معا فيحملان عليه ، وامّا بقيام دليل على اثبات احد محتملي المجمل ، فانه وان كان لا يكفي لتعيين المراد من المجمل في حالة عدم التنافي بين المحتملين ولكنه يوجب سقوط حجية المجمل في اثبات الجامع وعدم تنجّزه ، لأنّ تنجّز الجامع بالمجمل انما هو لقاعدة منجزية العلم الاجمالي

__________________

الوجوب فيتعيّن الاستحباب ، و٣ ـ وإمّا بتلاقي هذا المجمل مع مجمل آخر في معنى واحد فيتعيّن ، و٤ ـ وإمّا بقيام دليل تعبدي على اثبات احد محتملي المجمل ، كأن يرد مثلا «اترك العين» وكانت لفظة العين مجملة بين عين الذهب وعين الماء ، وجاءتنا امارة حجّة تقول «اترك عين الذهب» ففي هذه الحالة يجب ترك عين الذهب دون عين الماء لجريان البراءة ح في عين الماء بلا معارض (كما مرّ معنا في ابحاث العلم الاجمالي ـ الركن الثالث ـ من انه اذا كان احد الاطراف غير مشمول لقاعدة البراءة كترك عين الذهب في المثال فان الطرف الآخر وهو ترك عين الماء تجري فيه قاعدة البراءة بلا معارض ، ولهذا يقولون بانحلال العلم الاجمالي في هذه الحالة).

ولا شك انك تعلم ان الامارة وإن كانت حجّة تعبدا إلا انها لا تثبت دائما المراد الجدّي الواقعي للمتكلم وأنه كان يريد من العين في «اترك العين» هي عين الذهب ، إذ لعلّ الراوي ل «اترك عين الذهب» قد اشتبه ، ولعلّ المتكلم كان يريد في حال عدم التنافي بين المحتملين ـ كما في مثالنا المفروض ـ لزوم ترك كلتا العينين من باب استعمال لفظ واحد في اكثر من معنى ، نعم لو كان بينهما تناف كما في «عدّة المرأة ثلاث قروءات» فانه لا يصحّ ارادة اكثر من معنى واحد من لفظة «قرء» وذلك للتنافي بين الطهر والحيض.

١٠٧

وهذه القاعدة لها اركان اربعة ، وفي مثل الفرض المذكور يختلّ ركنها الثالث (١) كما اوضحنا ذلك في الحلقة السابقة ، حيث ان احد المحتملين اذا ثبت بدليل (٢) فلا يبقى محذور في نفي المحتمل الآخر بالاصل العملي المؤمّن.

وامّا النص فلا شك في لزوم العمل به ولا يحتاج الى التعبّد بحجيّة الجانب الدلالي منه اذا كان نصّا في المدلول التصوّري والمدلول التصديقي معا (٣).

__________________

(١) الركن الثالث هو ـ اجمالا ـ ان يكون كلّ من الطرفين مشمولا في نفسه وبقطع النظر عن التعارض الناشئ من العلم الاجمالي لدليل الاصل المؤمّن.

(٢) كما اذا علمنا بحرمة اكل النخاع وتردّدنا ـ مثلا ـ في كونه الخيط الممتدّ في العمود الفقري او مخّ الرأس ، ثم علمنا بحرمة ما في العمود الفقري ، فان هذا وان لم يحدّد لنا المراد الواقعي من النخاع الّا انه ينحلّ العلم الاجمالي وتجري قاعدة الحلية في دماغ الرأس بلا معارض.

(٣) قال «والمدلول التصديقي» لأنّ موضوع الحجية في الظهور هو المدلول التصديقي الجدّي ، فان لم نعرف المراد الجدّي فلا يكون الكلام نصّا ، مثال ذلك إننا نعلم ان صيغة الامر بحسب الدلالة التصوّرية تدلّ على الوجوب ، لكن قد ترد في سياق نحو اغتسل للجنابة والزيارة والجمعة ونعلم بوجوب غسل الجنابة واستحباب غسل الزيارة فهنا نشك في المراد الجدّي من اغتسل للجمعة في هذا السياق ، فلا يكون هذا اللفظ نصّا في مرحلة الدلالة التصديقية رغم كونه نصا في مرحلة الدلالة التصوّرية.

١٠٨

دليل حجية الظهور

وامّا الظاهر فظهوره حجّة ، وهذه الحجية هي التي تسمّى باصالة الظهور (١).

ويمكن الاستدلال عليها بوجوه (*) :

__________________

(١) وكأنّها مختصر لقولهم «اصالة حجيّة الظهور» لان الاصل حجية الظهور حتّى يأتينا معارض لهذا الظهور كما هو واضح.

__________________

(*) قد يتوهّم البعض ان بحث «الظهور» صغرويا وكبرويا من الابحاث البسيطة التي تعتمد ـ صغرويا ـ على الظهورات العرفية للكلام وكبرويا على وجود ارتكاز واضح عند العقلاء على العمل طبقا لهذا الظهور وقد امضى الشارع المقدّس هذه السيرة العقلائية ، والسلام ، فلما ذا التطويل والتعقيد؟!

(ولكن) الصحيح وجود عقبات امام المحققين صغرويا وكبرويا ، اما صغرويا فقد مرّت فيما سبق ورأينا كم اختلف علماؤنا في هذا المجال كاختلافهم في امكان التمسك بالاطلاق فيما لو شككنا في كون المولى في مقام البيان ام لا ، وكاختلافهم في المفاهيم كمفهوم الشرط و...

وامّا كبرويا فقد اختلفوا في العديد من المسائل كاختلافهم في حجية قول اللغوي وكاختلافهم في حجية كلام نظن بارادة غير ظاهره ـ ولو من الروايات الضعيفة المعارضة ـ وغير ذلك من الابحاث التي مرّ بعضها ويأتيك البعض الآخر.

(وما اريد) قوله هنا هو التاكيد على هذه الابحاث لشدّة اهميّتها في مقام الاستنباط ، وان كنّا نسلّم بوجود تطويلات وتعقيدات في بعض مسائله لا داعي لها وهذه مشكلة عامّة في علم الاصول وقع فيها علماؤنا محاولة منهم لاستقصاء ما امكن من افكار اصحابنا رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين ، نسأل الله تعالى ان يوفقنا لسلوك الخط الوسط انه سميع مجيب.

١٠٩

الوجه الاوّل : الاستدلال بالسّنة المستكشفة من سيرة المتشرّعين من الصحابة (١) واصحاب الأئمة عليهم‌السلام حيث كان عملهم على الاستناد الى ظواهر الادلة الشرعية في تعيين مفادها ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة توضيح الطريق لاثبات هذه السيرة.

الوجه الثاني : الاستدلال بالسيرة العقلائية على العمل بظواهر الكلام ، وثبوت هذه السيرة عقلائيا مما لا شك فيه لانه محسوس بالوجدان ويعلم بعدم كونها سيرة حادثة بعد عصر المعصومين اذ لم يعهد لها بديل في مجتمع من المجتمعات ، ومع عدم الردع الكاشف عن التقرير والامضاء شرعا تكون هذه السيرة دليلا على حجية الظهور (*).

__________________

(١) اي صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(*) لا بأس هنا ببيان ما نراه صحيحا من السيرة العقلائية ، فهي تغاير سيرتي العرف والمتشرّعة ، أمّا مغايرتها لسيرة المتشرّعة فواضح وذلك لكون سيرة المتشرّعة ناشئة من افعال المعصومين عليهم‌السلام واقوالهم ، وامّا سيرة العرف فهي السيرة التسامحية وقد تختلف من مكان الى آخر ومن زمان الى آخر ، فقد يكون يوجد سيرة عند العرف في مكان ما في زمان معيّن على الفحشاء مثلا كما في قوم لوط عليه‌السلام ، وامّا سيرة العقلاء فهي الناشئة من الناس كمفكرين وذوي عقول ولذلك تراها سيرة علمية ناشئة من حيثيات كشف نوعية توجب العلم او الاطمئنان دائما لا غالبا ، ولذلك فهي لا تتغيّر ولا تتبدّل بحسب الامكنة او الازمنة ، بل ان المولى جلّ وعلا يكون رئيس العقلاء في هذه الامور ويحكم بها أيضا ، ولذلك فلا نتصوّر ان يحكم الشارع في ظرف من الظروف على خلاف ما اجمع عليه العقلاء ، وان امكن ذلك عقلا بان يقول الشارع المقدّس مثلا انا لا ارضى باتباع الاطمئنان وعليكم باتباع العلم الوجداني فقط ، ولكن اثباتا لا تصدر هكذا احكام منه تعالى كما هو مشاهد في الخارج لانها احكام ناشئة من طبيعة العقلاء كما عرفت ، و

١١٠

الوجه الثالث : التمسك بما دلّ على لزوم التمسّك بالكتاب والسّنة والعمل بهما (١) ، بتقريب ان العمل بظاهر الآية او الحديث مصداق عرفا لما هو المأمور به (٢) في تلك الادلّة فيكون (٣) واجبا ، ومرجع هذا الوجوب الى الحجية.

وبين هذه الوجوه فوارق ، فالوجه الثالث مثلا بحاجة الى تماميّة دليل

__________________

(١) كحديث الثّقلين المتواتر عند الفريقين (راجع مثلا كتاب المراجعات ـ المراجعة ٨) ، فان الامر بالتمسّك بكتاب الله وعترة رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم شامل للأخذ بظواهر الكتاب والسّنة

(٢) من التمسك بالثّقلين

(٣) العمل بظاهرهما

__________________

لذلك فاذا ثبتت السيرة العقلائية في مسألة ما فلا حاجة الى اثبات تقريرها وامضائها من الشارع لمعلومية ذلك وجدانا.

نعم اذا شك في نوعية سيرة ما هل هي عقلائية. اي ناشئة من ارتكاز العقلاء. ام عرفية. اي ناشئة من العادات والتقاليد والاساطير والتسامح في الامور وعدم الاهتمام بدقائق الاحكام. فاننا ح نحتاج الى معرفة امضاء الشارع المقدّس ، والسبب في ذلك اننا قلنا ان سيرة العقلاء هي الناتجة عن طبيعة العقلاء ، والعقلاء لا يحكمون في المواضيع المشكوكة الملاكات ، او قل لا يحكمون الا اذا كان الموضوع واضح الملاك ، فاذا شكوا فانهم لا يحكمون في المواضيع ، وفي الحالة المذكورة المفروض وجود شك في منشأ هذه السيرة هل هي طبيعة العقلاء ام التقاليد والتسامح فنحتاج الى معرفة امضاء الشارع المقدّس في هكذا حالة ، وعلى ايّ حال فما عليه العقلاء لا يحتاج الى معرفة الامضاء لانه يورث الاطمئنان وهو علم عرفا والثانية تحتاج.

١١١

على حجية الظهور ولو في الجملة (١) دونهما (٢) ، لان مرجعه الى الاستدلال بظهور الاحاديث الآمرة بالتمسّك واطلاقها (٣) ، فلا بدّ من فرض حجية هذا الظهور في الرتبة السابقة. كما ان الوجهين الاوّلين يجب ان لا يدخل في تتميمهما التمسّك بظهور حال المولى لاثبات الامضاء ، لان الكلام الآن في حجيته (٤) كما اشرنا الى ذلك في الحلقة السابقة.

__________________

(١) يقصد من كلمة «ولو في الجملة» معنى «ولو بنحو قد اتفق العقلاء على حجيته» لشدّة ظهوره مثلا بحيث صار هذا الظهور هو القدر المتيقن من الظهورات الحجّة. هكذا حديث ـ كحديث الثقلين مثلا الذي يأمرنا بالتمسك بالكتاب والسنّة الشامل بظهوره القوي لظهورات الكتاب والسنّة ـ يكون دليلا على لزوم الاخذ بظهورات الكتاب والسنة ، ولا يرد ح اشكال الدور بالاستدلال على حجيه الظهور (اي ظهورات الكتاب والسنّة) بالظهور (اي بظهور حديث الثقلين في شمول الكتاب والسنّة لظهوراتهما).

(٢) اي دون الوجهين الاوّلين.

(٣) لحالات الظهور.

(٤) اي في حجية أصل الظهور الشامل لظهور اللفظ وظهور الحال.

(توضيح المطلب) سياتيك ان موضوع حجيّة الظهور هو المراد الجدّي للمتكلّم ، وهو لا يعرف من خلال اللفظ لوحده ، وانما يحتاج الامر الى معرفة حال المتكلّم ـ ولو ظاهرا ـ انه في مقام بيان تمام مقصوده وغير معتمد على قرائن منفصلة ، وانه في مقام بيان حقيقة الحكم الواقعي وغير متستر فيه ، وانه في مقام الجدّ وليس هازلا ، وانه ملتفت الى ما يقول غير ساه ولا ناس ولا مخطئ ... كلّ هذه الامور تجعلك تعرف ان موضوع الحجية ليس هو «ظهور اللفظ» ، وانما هو «المراد الجدّي للمتكلّم» الذي يكون عادة «ظهور اللفظ» منشأ لمعرفته. (فاذا) اردت ان تستدلّ بالسيرة العقلائية مثلا

١١٢

__________________

على «حجية الظهور» عليك ان تعرف ان المراد بالظهور هنا هو «الظهور التصديقي الثاني» وهو يتوقف غالبا على «الظهور التصوّري» و «ظهور حال المتكلّم» فاذا اردت ان تبرهن على ان الظهور الجدّي للكلام الفلاني حجّة فليس لك ان تعتمد على ظهور حال المتكلم انه في مقام البيان لانّ الكلام الآن في حجية الظهورات وانما عليك ان تثبت ان المتكلّم في مقام البيان فحينئذ لا تقع في الدور(*).

__________________

(*) (اقول) انّ من يلاحظ كل بحث «حجية الظهور» يصل الى نتيجة تلفت النظر وهي ان بحث علمائنا (اعلى الله مقامهم) يدور في مجال تشخيص موضوع هذه الحجية ، فاذا اتّضح ترتّبت الحجية تلقائيا. وبتعبير آخر : ستعرف في المسألة التالية ان موضوع الحجية هو المدلول الجدّي للمتكلّم ، وهو غالبا يعرف من الظهور التصوري مع ظهور حال المتكلّم ، فاذا عرفنا مراده الجدّي ـ كصغرى ـ سيكون حجّة باعتراف جميع الاصوليين بلا خلاف. فالكلام اذن في الصغرى لا في «حجية الظهور التصديقي الثاني» ، ولذلك ترى السيد الخوئي مثلا يعتبر ان مسألة «حجية الظهور» مسألة متفقا عليها بعد وضوح «الظهور التصديقي الثاني» ، فكان اللازم اذن عنونة هذا البحث ب «كيفية معرفة موضوع حجية الظهور» فاذا عرف كان حجة عقلائيا وذلك لمعرفة المراد الجدّي للمتكلم ، وليس وراء عبّادان من قرية ، والشارع المقدّس قد امضى هذا الاعتبار العقلائي بلا شك وخلاف. (فصحيح) انهم بحثوا في الدليل على حجية الظهور هنا في احدى مسائل هذا البحث ولكن يرجع البحث حتى في هذه المسألة في بعض جوانبها الى تشخيص موضوع حجية الظهور فمثلا في قول السيد الشهيد (قدس‌سره) الآتي بعد بضعة أسطر «... فهناك حالات تكون حجية الظهور اخفى من غيرها كحالة احتمال اتصال الظهور بقرينة متصلة ، فقد بنى المشهور على حجية الظهور في هذه الحالة خلافا لما اخترناه في حلقة سابقة» يرجع الخلاف بينهما في صغرى الظهور لا في كبراه ، وامثال هذه الكلمات في هذا البحث كثيرة.

١١٣

وقد يلاحظ على الوجه الاوّل ان سيرة المتشرّعة وان كان من المعلوم انعقادها في ايّام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام على العمل بظواهر الدليل الشرعي ، ولكن الشواهد التاريخية انما تثبت ذلك على سبيل الاجمال ولا يمكن التأكّد من استقرار سيرتهم على العمل بالظواهر في جميع الموارد ، فهناك حالات تكون حجية الظهور اخفى من غيرها كحالة احتمال اتصال الظهور بقرينة متصلة (١) ، فقد بنى المشهور على حجية الظهور في هذه الحالة خلافا لما اخترناه في حلقة سابقة.

وهنا نقول إن مدرك الحجية اذا كان هو سيرة المتشرّعة المعاصرين للمعصومين فكيف نستطيع ان نتأكّد انها جرت فعلا على العمل بالظهور في هذه الحالة بالذات ، واما اذا كان مدرك الحجية السيرة العقلائية فيمكن للقائلين بالحجية ان يدّعوا شمول الوجدان العقلائي لهذه الحالة ايضا.

وقد يلاحظ على الوجه الثاني وهو الاستدلال بالسيرة العقلائية أمران :

احدهما : انه قاصر عن الشمول لموارد وجود امارة معتبرة عقلائيا على خلاف الظهور ولو لم تكن معتبرة شرعا ، كالقياس مثلا (٢) ـ لو قيل

__________________

(١) سياتي تفصيل هذه المسألة في اواخر مسألة «تشخيص موضوع الحجية» عند قوله «وان شكّ في القرينة المتصلة فهناك ثلاث صور ...».

(٢) تجد شرح هذا المطلب مع نفس هذا المثال في مباحث السيد الحائري ج ٢ / ٢ ص ١٥١.

١١٤

بأنّ العقلاء يعتمدون عليه في رفع اليد عن الظهور ـ فلا يمكن اثبات حجية الظهور المبتلى بهذه الامارة على الخلاف بالسيرة العقلائية ، اذ لا سيرة من العقلاء على العمل بمثل هذا الظهور فعلا (١) ، اللهم الّا اذا استفيد من دليل اسقاطها عن الحجية تنزيلها منزلة العدم بلحاظ تمام الآثار (٢). ولكن الصحيح ان هذا الكلام انما يتّجه لو قيل بان الامضاء يتحدّد بحدود العمل الصامت (٣) للعقلاء.

غير انك عرفت في الحلقة السابقة ان الامضاء يتّجه الى النكتة المرتكزة التي هي اساس العمل وهي في المقام الحجية الاقتضائية

__________________

(١) وذلك لعدم وجود ظهور فعلي عندهم.

(٢) اي اللهم الا اذا استفيد من دليل اسقاطها ـ اي الامارة الغير معتبرة شرعا ـ عن الحجية تنزيل هذه الامارة منزلة العدم فلا تمنع عن بقاء ظهور الآية او الرواية الصحيحة السند حجّة. (ولكن الصحيح) انّ هذا الفهم لا دليل عليه (اضافة) الى انه لا يوجد هكذا سيرة فعلية عند العقلاء ، فمع عدم وجودها فعلا لا نعلم بالامضاء ، وذلك لأنّ امضاء سيرة ما انما يكون في طول وجود هذه السيرة. وثالثا ـ وهو ما ذكره بقوله : «ولكن الصحيح ان هذا الكلام ... الخ» ـ ان هذا الكلام اي القول بان القياس ونحوه في نظر العقلاء بمثابة العدم يصحّ اذا ثبت ان الشارع المقدّس يمضي جميع ارتكازات العقلاء.

(٣) المراد بالعمل الصامت للعقلاء هو التوجّه الموجود في ارتكازهم والغير ظاهر خارجا وعمليا ، ولذلك فلك ان تغيّر ما في المتن بقولك «يتحدّد بحدود ارتكاز العقلاء» ، وهذه الجملة هي في الحقيقة تكملة لقوله السابق إذ لا سيرة من العقلاء.

١١٥

للظهور (١) مطلقا. وكلّ حجّة كذلك لا يرفع اليد عنها الّا بحجّة ، والمفروض عدم حجية الامارة على الخلاف شرعا فيتعيّن العمل بالظهور (*).

__________________

(١) مراده من «الحجّيّة الاقتضائية للظهور» هنا هو الحجّيّة التي اقتضاها ظهور الآية او الرواية الصحيحة السند ، او قل مراده كاشفية ظهور الكلام ـ الحجّة (سندا) ـ عن المراد الجدّي للمتكلّم وان كان التعبير قاصرا عن افادة مقصوده (قده) ، ومراده يعرف من مجموع كلماته في بحث الظهور كقوله الآتي وسط ص ١٣٩ انه في مجال الشرعيات «يكتفى بالكشف النوعي الاقتضائي للظهور تنجيزا وتعذيرا» ، كما انه من الواضح ان الحجية لا تقتضي الظهور ، وانما الظهور والكشف عن مراد المتكلم هو الذي يقتضي الحجية ، وهذا هو مراده الواقعي فيتعيّن علينا لكي نفسّر كلامه ان نقول مراده الحجية التي اقتضاها الظهور ، هذا أولا ، وثانيا بيان اجمالي المطلب : ان الامضاء يتّجه الى النكتة المرتكزة في اذهان العقلاء التي هي اساس اعتبار الكلام حجّة عندهم وهي في المقام الظهور الحجة ولا ترفع اليد عن هذا الكلام المعتبر سندا ودلالة الّا بحجة اخرى ، هذا مراد السيد المصنف (قده).

(والمراد) من «مطلقا» هنا اي سواء حصل علم بمراد المولى ام لم يعلم ، وأيّا كان منشأ هذا الاقتضاء سواء كان منشؤه فطرة الانسان التي يجدها بوجدانه فيما لو تلبّس بلباس المولوية ، ام كان منشؤه طبع العقلاء في الجري على طبق الظهور.

__________________

(*) وبتعبيرنا : اننا وان قلنا بان الدليل على حجية الظهور هو السيرة العقلائية وذلك لكاشفية الكلام عن المراد الجدّي للمتكلّم ولكن هذا لا ينافي عدم اهتمامنا باي عارض من خارج الآية او الرواية الصحيحة السند الظاهرة في معنى معين ، وذلك لفرض عدم

١١٦

والامر الآخر الذي يلاحظ على الوجه الثاني (١) ان السيرة العقلائيّة انما انعقدت على العمل بالظهور واتخاذه اساسا لاكتشاف المراد في المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة عادة ، والشارع ليس من هذا القبيل ، فان اعتماده على القرائن المنفصلة يعتبر حالة متعارفة ولا توجد حالات مشابهة في العرف لحالة الشارع ليلاحظ موقف العقلاء منها.

وهذا الاعتراض انما قد يتجه اذا كان دليل الامضاء متطابقا في الموضوع مع السيرة العقلائية ، فكما ان السيرة العقلائية موضوعها المتكلّم الاعتيادي الذي يندر اعتماده على القرائن المنفصلة كذلك دليل

__________________

(١) في النسخة الاصلية «الاوّل» وهو سهو واضح

__________________

اعتبار هذا العارض شرعا سواء كان قياسا او رواية ضعيفة السند تعارض ظهور الرواية الصحيحة ، فاننا قلنا فيما سبق ان خبر الثقة بنحو الموضوعية حجّة ، اي بما هو خبر ثقة ، وخبر غيره غير معتبر ولا أثر له وبمثابة العدم ، وبتعبير آخر : مورد السيرة العقلائية هنا هو الاخذ بالظهور لكاشفيته عن مراد المتكلم ، وامّا تحديد الكلام المعتبر سندا من غيره فهو بيد الشارع ، والمفروض ان الشارع المقدّس قد اعتبر القياس والرواية الضعيفة غير حجّتين وانهما بمثابة العدم ، فننظر اذن الى خصوص الآية او الرواية الصحيحة فان كانت ظاهرة وكاشفة عن مراد المتكلّم كانت حجّة في نظر العقلاء والمشرّع الحكيم ، والّا فلو لا هذا الكلام لوقع الفقيه في الكثير من المشاكل في عمليات استنباطه لكثرة الروايات الضعيفة المعارضة للصحيحة ، بل على هذا عمل الكلّ او الجلّ.

(هذا) كلّه كان على فرض عدم نظر الرواية الضعيفة الى تفسير الكلام في الآية او الرواية الصحيحة ، (والّا) فان كانت ناظرة الى تفسيرها فان اثّرت على ظهورها فبها والّا فلا قيمة لها.

١١٧

الامضاء ، ولكن دليل الامضاء اوسع من ذلك (١) لان السيرة العقلائية وان كانت مختصّة بالمتكلم الاعتيادي الّا انها تقتضي الجري على طبقها في كلمات الشارع ايضا ، إمّا للعادة او لعدم الاطلاع الى فترة من الزمن على خروج الشارع في اعتماده على القرائن المنفصلة عن الحالة الاعتيادية ، وهذا يشكّل خطرا على الاغراض الشرعية يحتّم الردع لو لم يكن الشارع موافقا على الاخذ بظواهر كلامه (٢). ومن هنا يكشف عدم الردع عن اقرار الشارع لحجية الظهور (٣) في الكلام الصادر منه.

__________________

(١) اي أوسع من سيرة العقلاء.

(٢) و (موافقا) على اعتبار شخص الكلام حجّة مع غضّ النظر عن احتمال وجود قرائن منفصلة بل عن العلم بوجودها ، غاية الامر انه عند العلم بوجودها فان الحجية تسقط.

(٣) يقصد الحجية عند العقلاء وفي نظرهم ..

(النتيجة) انه لا يرد هذا الاشكال أيضا على صحّة الاستدلال بالسيرة العقلائية على العمل بالظهور. فان العقلاء يعتبرون فيما بينهم ان موضوع الحجية هو شخص الكلام ، وكذلك في تعاملهم مع كلام الشارع المقدّس ، غاية الأمر انه يجب عليهم الفحص لما علمناه من عادة الشارع في الاعتماد على القرائن المنفصلة في بيان تمام حدود مواضيع الاحكام ، هذه القرائن المنفصلة تخدش عند سيدنا الشهيد (قده) بحجيّة الكلام ، وسكوت الكلام عن الحجية في حال العلم بوجود قرينة منفصلة لا تخدش بالقول بصحّة الاستدلال بالسيرة العقلائية على اصل حجية الظهور ، وللكلام تتمّة تأتيك في مسألة «الخلط بين الظهور والحجية».

١١٨

تشخيص موضوع الحجية

ظهور الكلام في المعنى الحقيقي قسمان ـ كما تقدّم ـ تصوّري وتصديقي ، والظهور التصوري كثيرا (١) ما لا ينثلم حتى في حالة قيام القرينة المتصلة على الخلاف. فاذا قال المولى «اذهب الى البحر وخذ العلم منه» كانت الجملة (٢) قرينة على ان المراد بالبحر معنى آخر غير معناه الحقيقي ، وعلى الرّغم من وجود القرينة فان الظهور التصوّري لكلمة «البحر» في معناها الحقيقي لا يزول ، وانما يزول الظهور التصديقي في ارادة المتكلم لذلك المعنى الحقيقي. من هنا صحّ القول بأنّ الظهور التصوّري للفظ في المعنى الحقيقي محفوظ حتى مع القرينة المتصلة على الخلاف ، وان الظهور التصديقي له (٣) في ذلك منوط بعدم القرينة المتصلة ، غير انه محفوظ حتى مع ورود القرينة المنفصلة ، فانّ القرينة المنفصلة لا تحول دون تكوّن اصل الظهور التصديقي للكلام في ارادة المعنى الحقيقي وانما تسقطه عن الحجية كما مرّ بنا في حلقة سابقة.

وعلى ضوء التمييز بين الظهور التصوّري والظهور التصديقي وبعد

__________________

(١) قال «كثيرا» ومثّل له بالبحر ، فان ظهوره التصوّري لا ينثلم رغم مجيء القرينة المتّصلة الدّالة على ارادة العالم. وفي مقابله «احيانا قليلة» مثل «ماء الورد» و «غلام زيد» ونحو ذلك فان الظهور التصوّري ل «ماء» و «غلام» ينخدش لكونهما بمثابة الكلمة الواحدة.

(٢) اي جملة «وخذ العلم منه».

(٣) اي للكلام في المعنى الحقيقي منوط ...

١١٩

الفراغ عن حجية الظهور عقلائيا وعن سقوطها مع ورود القرينة [المنفصلة] لا بدّ من البحث عن تحديد موضوع هذه الحجية وكيفية تطبيقها على موضوعها. وبهذا الصدد نواجه عدّة محتملات بدوا :

المحتمل الاوّل : ان يكون موضوع الحجية هو الظهور التصوّري مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف متصلة او منفصلة (١).

المحتمل الثاني : ان يكون موضوع الحجية هو الظهور التصديقي مع عدم صدور القرينة المنفصلة (٢).

__________________

(١) هذه مقالة المحقق الاصفهاني (قده) ، راجع مباحث السيد الحائري ج ٢ / ٢ ص ١٦٦ وبحوث السيد الهاشمي ج ٤ ص ٢٦٧ ، وقد يوجّه كلامه بانه ليس في كل الحالات يعرف المراد الجدّي والواقعي للمولى ، ولذلك ترى العبيد في هكذا حالات يتبعون الدلالات التصورية لشخص الكلام ويعتبرونه هو الحجّة ولا يرفعون ايديهم عنه الّا اذا جاءتهم قرائن متصلة او منفصلة تبيّن خلاف المدلول التصوري للكلام.

(٢) هذه مقالة المحقق النائيني رحمه‌الله ، راجع مباحث السيد الحائري ج ٢ / ٢ ص ١٦٥ وبحوث السيد الهاشمي ج ٤ ص ٢٦٧ وفي كلام المحقق النائيني رحمه‌الله تشويش لا يليق ذكره هنا. (راجع بحوث السيد الحائري ـ المصدر السابق ، اسفل الصفحة) ، ولكن مع غضّ النظر عمّا ذكره السيد الحائري حفظه الله في تعليقته يحسن ان نذكر ما قرّره السيد الهاشمي حفظه الله قال : «ما ذهب اليه المحقق النائيني (قده) تبعا للشيخ الانصاري رحمه‌الله من ان موضوع اصالة الظهور مركّب من جزءين : احدهما الظهور التصديقي ، والآخر عدم القرينة المنفصلة. فمتى ما أحرزنا كلا هذين الجزءين كان الظهور حجة ومتى شككنا في ذلك فان شككنا في

١٢٠