تفسير الصراط المستقيم - ج ١

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٠

عزوجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول كان عزوجل ولا متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا فاعل جلّ وعزّ ربنا فجميع هذه الصفات محدثة عن حدوث الفعل منه جل وعزّ ربنا والقرآن كلام الله غير مخلوق فيه خبر من كان قبلكم وخبر ما يكون بعدكم ، انزل من عند الله على محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١).

أقول : ودلالة الخبر كسابقه على المطلوب واضح من وجه كوضوح اشتمالها سيما الأول على جملة من البراهين الدالّة على ذلك.

واما قوله في الثاني : غير مخلوق فالمراد أنّه غير مجعول ولا مختلق من البشر كما تو همّه الكفار ، كما قالوا (إن هذا الّا اختلاق) (٢) ، ولذا صرّح بكونه محدث لله غير أزلي بل استدلّ له بقضية التوحيد.

ومن هنا يظهر الوجه فيما رواه في «الخصال» عن الصادق (عليه‌السلام) قال : والقرآن كلام الله ليس بخالق ولا مخلوق (٣) حيث إنّ المراد نفي اختلاقه وافتعاله ، وأمّا نفي كونه خالقا فكأنّه من الخلق بمعنى الاندراس اي إنّه غضّ طريّ لا يبلى ولا ينسخ أبدا.

وقد ظهر مما مرّ الجواب عمّا استدلّ به القول بالقدم كما عن الأشاعرة من الخبر المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن كلام الله غير مخلوق.

ولذا قال الصدوق (رحمه‌الله) بعد ذكر الخبر : إن المراد منه أي غير مكذوب ،

__________________

(١) بحار الأنوار ـ فضائل القرآن ج ١٩ القديم ص ٣١ باب ان القرآن مخلوق.

(٢) ص : ٧.

(٣) وردت بهذا المضمون روايات عن الباقر والرضا (عليهما‌السلام) ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع بحار الأنوار ج ١٩ ط. القديم باب ان القرآن مخلوق ص ٣١.

٣٨١

ولا يعني به أنه غير محدث لأنه قال : محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى : قيل : ولعلّ المنع من إطلاق الخلق على القرآن إمّا للتقية مماشاة مع العامّة أو لكونه موهما لمعنى آخر أطلق الكفار عليه بهذا المعنى في قولهم : (إن هذا الّا اختلاق) (١).

وعن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لم يزل الله تعالى عالما بذاته ولا معلوم ولم يزل قادرا بذاته ولا مقدور ، قلت جعلت فدلك فلم يزل متكلّما قال عليه‌السلام : الكلام محدث كان الله (عزوجل) وليس بمتكلّم ثم أحدث الكلام (٢).

وفي خبر آخر عنه (عليه‌السلام) لم يزل الله ـ عزوجل ـ ربنا والعلم ذاته ولا معلوم إلى أن قال : قلت فلم يزل الله متكلّما فقال عليه‌السلام : إنّ الكلام صفة محدثة وليست بأزلية كان الله (عزوجل) ولا متكلّم (٣).

وفي «الاحتجاج» سئل أبو الحسن علي بن محمّد عن التوحيد فقيل : لم يزل الله وحده لا شيء معه ثم خلق الأشياء بديعا واختار لنفسه أحسن الأسماء ولم تزل الأسماء والحروف معه قديمة؟ فكتب (عليه‌السلام) : لم يزل الله موجودا ثم كوّن ما أراد .. الخبر (٤).

فان قلت : ظاهر الأخبار المتقدّمة ، بل وكذا الآيات إنّما هو حدوث القرآن في هذا العالم الناسوتي بعد بعثه خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حسبما كان

__________________

(١) ص : ٧.

(٢) بحار الأنوار ج ٤ ط. الآخوندي بطهران ص ١٥٠.

(٣) بحار الأنوار ج ٤ ط. الآخوندي بطهران ص ٧٢.

(٤) الاحتجاج للطبرسي ج ٢ ص ٢٥٠.

٣٨٢

الملك يأتيه بالخصوص الآيات الفرقانية باعتبار الاقتضاءات الخاصّة التي تقضي نزولها عليه ، وأين هذا من القول بسبق صدوره وتقدّم خلقه في عالم الأنوار وتطور تلك الأطوار عليه؟.

قلت : حدوث نزوله في هذا العالم بحسب الاقتضاءات الخاصة مما لا شبهة فيه وهو لا ينافي نزوله جملة واحدة في ليلة القدر في السماء الرابعة أو نزوله على طور الأطوار على قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو على لسان الملك أو على القلم أو على غيرها من الخلق مما يفيد تقدّما دهريا على غيره من الماديّات كما أنّ وجود خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما حدث في هذا العالم بعد كافّة الأنبياء مع أنّه يستفاد من قوله عليه‌السلام كنت نبيا وآدم بين الماء والطين (١) تقدّم خلقه ، بل نبّوته على خلق آدم عليه‌السلام فضلا عن غيره ، بل يستفاد من أخبار كثيره متواترة أنّه الخلق الأول وأنّ أول ما خلق الله روحه ونوره الشريف وأنّه أوّل من نطق بالتسبيح والتهليل والتكبير لله رب العالمين ، وأنّ كلّ من عبد الله فإنما كان بتعليمه وتعليم علي عليه‌السلام حتى الأنبياء والملئكة ، إلى غير ذلك مما يدلّ على تقدّم خلق أنوارهم وأرواحهم في عالم آخر غير هذا العالم.

__________________

(١) لم اظفر بسنده ومدركه إلّا أنّه مشهور كما أنّ غواص بحار الأحاديث المجلسي (قدس‌سره) قال في بحار الأنوار تذنيب ذكره للبحث عن كيفية تعبّد النبيّ (ص) قبل بعثه وهل كان متعبدا بشريعة من كان قبله أولا : إنّ الذي ظهر لي من الأخبار المعتبرة والآثار المستفيضة هو أنّه (ص) كان قبل بعثته مذ أكمل الله عقله في بدو سنه نبيا مؤيّدا بروح القدس ، يكلّمه الملك ، ويسمع الصوت ، ويرى في المنام ثم بعد أربعين سنة صار رسولا ، وكلمه الملك معانية ، ونزل عليه القرآن (إلى ان قال :) ويؤيد ذلك الخبر المشهور عندهم : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» أو «بين الروح والجسد».

٣٨٣

بل قد دلت الأخبار الكثيرة على أنّ الله تعالى خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام أو بأربعة آلاف عام ، أو أزيد على اختلاف الأخبار المنزل على جهات الاعتبار ، ومن هنا قالوا : إنّ كينونة النفس في عالم الدهر وإنّما هو قبل كينونة البدن ، أولا ثم تعلّق النقوش والأرواح بها وبالجملة خلق القرآن بل مطلق الكلام كغيره من الإبداعيات إنّما هو في عالم أعلى وأكمل وأبسط وأجمل ثم يتنزّل أمره شيئا فشيئا إلى أن يصل طرف منه إلى هذا العالم.

ولذا ورد في دعاء السمات المرويّ عن الحجّة عجل الله تعالى فرجه :

وأسئلك بمجدك الذي كلّمت به عبدك ورسولك موسى بن عمران عليه‌السلام في المقدسين فوق إحساس الكرّوبيّين فوق غمايم النور فوق تابوت الشهادة في عمود النار في طور سيناء وفي جبل حوريث في الواد المقدس في البقعة المباركة من جانب الطور الأيمن من الشجرة.

فإنّ هذا الكلام حيث كان الكليم في زمرة المقدّسين الذين طهّرهم الله بحقيقة عبوديّتهم عن الالتفات إلى غيره سبحانه فوق إحساس الكروّبيين بفتح الهمزة أي قويهم ومشاعرهم فإنه كان أعظم من أن تناله مداركهم ومعارجهم وشئونهم وترقياتهم ، والمراد بالكرّوبيين هم الملئكة المقرّبون كالأربعة الحملة لعرش التكوين ، وغمام النور في أصلها السحائب البيض التي تغّم الماء الي تستره في أجوافها وكانت تظلّ لبني إسرائيل وتابوت الشهادة وعاء العلم والحكمة والتدبير وحامل التدوير وقلب منطقة معدّل المسير يشهد لحامله بشيء من النبوّة والولاية المطلقتين أو المقيدتين على حسب اختلاف التجلّيات واختلاف الشئونات ومراتب القابليات ، وأمّا عمود النار فهو في الظاهر وإن كان إشارة إلى ما ترائى له في الظاهر نارا وكان نورا إلّا أنه بحسب الحقيقة إشارة إلى روح القدس التي هي عمود من نور بين البطون

٣٨٤

والظهور ينكشف به للإمام عليه‌السلام حقايق أحوال المخلوقين وأفعالها وتطوراتها وشئونها وتجلياتها ، والطور جبل بالشام ، والسيناء هي الشجرة وان كانت في الحقيقة هي شجرة الولاية النابتة في النجف الأشرف ، بل ورد في الأخبار أن النجف هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى تكليما واتخذ الله إبراهيم خليلا وعيسى روحا ومحمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبيبا (١) ، فإن هذا يؤكد ما سمعت.

نعم قد يقال : إن موقع تلك النار على جبل الولاية ومنه ظهرت للنبيين والمرسلين وهو قول سيدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنا صاحب الأزلية الأولية ، والولاية جبل واحد تشعبّت منها جبال كثيره منها جبل الاختراع وجبل الابتداع والجبل الواحدية والجبل الأحدية وغيرها ، وكان ظهور النار لموسى على جبل الولاية جبل الأحدية فافهم ، وأمّا جبل حوريث وقيل : حوريثا فهو جبل بأرض مدين خوطب عليه موسى عليه‌السلام أوّل خطابه.

ثم لا يخفى أن ما سمعت من معنى الكلام إنّما هو معناه الخاص التدويني وله معنى عام شامل له وللتكويني أيضا وهو أنّه عبارة عن كلمات صادرة عن المتكلم بإحداثه لها أو تلاوته لها سواء كانت من الذوات المجرّدة أو الماديّة أو من الجواهر أو الأعراض أو الأفعال والصفات أو الألفاظ أو غيرها إذا لوحظت باعتبار قيامها بالمتكلّم قيام صدور ، ومن هنا يطلق الكلم على الأرواح والنفوس ومنه قوله

__________________

(١) في سفينة البحار ج ٢ ص ٥٧٢ عن إرشاد القلوب روى عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) أنه قال : الغرىّ قطعه من الجبل الذي كلّم الله عليه موسى تكليما وقدّس عليه عيسى تقديسا واتخذ عليه إبراهيم خليلا ، ومحمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليهم حبيبا وجعله للنبيين مسكنا.

٣٨٥

تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (١) ، وقد أطلقت الكلمة على عيسى في مواضع من القرآن والكلمات على الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) (٢) ، (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) (٣) ، أي فضائلهم ومناقبهم.

ولذا ورد عنهم في أخبار كثيرة نحن الكلمات التامّات والأسماء الحسنى (٤) وفيهم نزلت قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) (٥) وتماميتهم إنّما هو في رتبة الإمكان وإن كان الإمكان معدن القصور والنقصان.

ثم ان الكلام هو الكلمات بالإسناد ، وهما الكاف والنون والمشار بهما الى المهية والوجود.

__________________

(١) فاطر : ١٠.

(٢) الكهف : ١٠٩.

(٣) لقمان : ٢٧.

(٤) راجع بحار الأنوار ج ٧ ط. القديم باب ٥٠ ص ١٢٦.

(٥) الانعام : ١١٥.

٣٨٦

الفصل الثالث

في حقيقة الوحي والإلهام وكيفية نزول القرآن على سيد الأنام

(عليه وعلى عترته المعصومين آلاف التحية والسّلام)

الوحي مصدر من وحي الله يحي من باب وعد ، ومثله أوحى اليه ، وأصله الصوت الخفي ، أو الاشارة المفهمة ، أو إفهام الغير بأيّ وجه غلب استعماله فيما ألقي على الأنبياء من عند الله سبحانه.

قال في القاموس : الوحي : الإشارة ، والكتابة ، والمكتوب ، والرسالة ، والإلهام ، والكلام الخفي ، وكلّما ألقيته إلى غيرك ، والصوت يكون في الناس وفي غيرهم كالوحي والوحاة والجمع وحيّ بالضم فالكسر ثم التشديد ، وأوحي إليه : بعثه وألهمه ، ونفسه : وقع فيها خوف.

وذكر شيخنا الطبرسي (رحمه‌الله) (١) : أن أصل الوحي عند العرب أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالاستتار والإخفاء.

__________________

(١) الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي ، أمين الدين أبو علي : مفسر محقق لغوي فقيه من أعاظم الامامية ، له مصنفات قيمة منها : مجمع البيان في تفسير القرآن الذي قال الشهيد فيه : لم يؤلف مثله ، جوامع الجامع في التفسير ، أعلام الورى باعلام الهدى وغيرها توفى سنة ٥٤٨ ه‍ في سبزوار ونقل إلى المشهد الرضوي (عليه‌السلام)

٣٨٧

وأمّا ما روى عن ابن عباس : أنّه لا وحي إلّا القرآن فإنّ المراد به أنّ القرآن هو الوحي الذي نزل به جبرئيل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أن يكون أنكر ما قلناه ، ويقال : أوحي له واليه قال العجّاج (١) : أوحي له القرار فاستقرّت.

أقول : لكنّ الأولى عدم إضافه الإلقاء إلى الإنسان بإلقاء القيد ، والخطب فيه سهل كسهولته في إطلاقه في كلام العرب على وجوه شتى ، فقد أطلق على وحي النبوّة في قول تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (٢) ، وعلى إعلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عين كلامه وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) (٣) ، وعلى الإلهام والقذف في القلوب كقوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) (٤) ، وقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (٥) ، وإن قيل : إنّه وحي إعلام لا إلهام فقوله : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٦) ، وعلى الجبلّة الفطرية كوّنت عليها الأكوان كقوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (٧) ، وإن كان الأقوى وفاقا لأكثر المحققين أنّه على وجه الاعلام والإلهام لما أشرنا إليه في غير

__________________

(١) العجاج عبد الله بن لبيد بن صخر من شعراء العرب ، ولد في الجاهلية ، وقال الشعر فيها ، ثم أسلّم وعاش إلى أيام الوليد بن عبد الملك ، ففلج وأقعد ، وهو والد «رؤية» الراجز المشهور ، توفى نحو ٩٠ ه‍.

 ـ أعلام زركلى ج ٤ ص ٢١٨ ـ.

(٢) النساء : ١٦٣.

(٣) الشورى : ٥١.

(٤) المائدة : ١١١.

(٥) القصص : ٧.

(٦) القصص : ٧.

(٧) النحل : ٦٨.

٣٨٨

موضع من مساوقة الوجود للشعور ، وعلى الهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية كما في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (١) ، وعلى الإشارة والإيماء كقوله تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٢) ، قيل معناه : أومي ورمز ، وقيل : كتب لهم بيده في الأرض وقد يؤيّد الأوّل بقوله تعالى في موضع آخر : (إِلَّا رَمْزاً) (٣) ، بل عن أحدهما عليهما‌السلام فيما رواه العياشي فكان يومي برأسه (٤) ، إلى غير ذلك من المعاني التي لا يهمّنا البحث عنها وإنّما الكلام في حقيقة الوحي الذي اختص به الأنبياء عليهم‌السلام فقد يعرف بأنّه خطاب من الحقّ الى الخلق يصل إليهم بواسطة النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واليه بواسطة الملك فهما واسطتان في إيصال الخطابات الإلهية أحدهما سفير من الحق ، والآخر إلى الخلق ، ولعلّ الأظهر أنّ وساطة الملك غير شرط في ذلك ، لا لأنّ الوحي قد يكون في النوم بل في اليقظة أيضا بالقذف في القلب والإلهام الغيبي إذ الحق توسط الملك في جميع ذلك أيضا بل لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد يكون في الرتبة أعلى من الملك فلا يسعه في المعارج الرّوحانية والمخاطبات الربانية شيء من الملئكة المقربين ولا أحد من الخلق أجمعين ، ولذا خوطب نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله عزّ من قائل : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٥).

__________________

(١) الانعام : ١١٢.

(٢) مريم : ١١.

(٣) آل عمران : ٤١.

(٤) عن أحدهما (عليهما‌السلام) قال : لمّا سأل ربه أن يهب له ذكرا فوهب الله له يحيى فدخله من ذلك فقال : رب اجعل لي آية قال آيتك ألّا تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلّا رمزا ، فكان يومي برأسه وهو الرمز.

(٥) النمل : ٦.

٣٨٩

بل قال الصدوق (رحمه‌الله) في «إكمال الدين» : «إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكون بين أصحابه فيغمى عليه وهو ينصابّ عرقا فإذا أفاق قال : قال الله (عزوجل) كذا وكذا ونهيكم عن كذا».

وأكثر مخالفينا يقولون : إنّ ذلك كان يكون عند نزول جبرئيل (عليه‌السلام) فسئل الصادق عليه‌السلام عن الغشية التي كانت تأخذ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكانت تكون عند هبوط جبرئيل عليه‌السلام؟ فقال عليه‌السلام : لا إنّ جبرئيل عليه‌السلام كان إذا أتى النبيّ (ص) لم يدخل عليه حتى يستأذنه فإذا دخل قعد بين يديه قعدة العبد وإنّما ذلك عند مخاطبة الله عزوجل ايّاه بغير ترجمان وواسطة.

ثم قال (الصدوق) : حدّثنا بذلك الحسن بن أحمد بن إدريس ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد بن مالك ، عن محمد بن الحسين بن زيد ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن ثابت ، عن الصادق جعفر بن محمد صلوات الله عليهما (١).

ثم انه لا يخفى أنّ النفس الانسانية في بدو كينونتها وأصل خلقتها قابلة لانطباع الصورة الواقعة في عالم الحقائق والمعاني فيها وإنّما المانع لها من انكشاف الصور العمليّة واستنزال الحقائق الواقعية في الكسوة والمثالية واستكشاف الأمور الغيبيّة شيء من أمور وإن كان مرجع بعضها إلى نفي الاقتضاء :

أحدها تقمّص جوهرها وخمود فطنتها وجمود طبيعتها كحديد المرآة قبل أن يذوب ، ويشكّل ويصيقل ، وبل كتراب معدن الحديد الذي لم يستعدّ بعد لإفاضة الصور الحديدية عليه ، فضلا عن أن يستعدّ للذوب والتشكّل والصقالة.

__________________

(١) كمال الدين : ٥١ بحار الأنوار ج ١٨ ط. الاخوندي بطهران ص ٢٦٠.

٣٩٠

ثانيها كدورات المعاصي وظلمات الشهوات المكدرّة لجوهر النفس المظلمة لعالمها المانعة عن تجلّي الحق لها وإشراق نور العلم عليها وذلك كصداء المرآة وطبعها.

ثالثها عدولها عن عالم الحقائق والتوجّه من المبادي العالية إلى مصالح المعيشة والأمور الدنيّة الحسيّة ، بل وكذا استيعاب همّتها وقصر نظرها على ظواهر الطاعات وأبدان العبادات وصرف النظر في الأحكام الظاهرة الحسيّة والغفلة عن التحقّق بحقايقها النورانية المعنوية فالنفس حينئذ كمرآت معدول بها من جهة الصورة المطلوبة إلى غيرها.

قال مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما في «النهج» وإنّما الدنيا منتهى بصر الأعمى لا يبصر مما ورائها شيئا ، والبصير ينفذها بصره ويعلم أنّ الدار ورائها فالبصير منها شاخص والأعمى إليها شاخص ، والبصير منها متزوّد والأعمى لها متزوّد (١).

رابعها : وقوع السدّ والحجاب بينه وبين الصورة المطلوبة باعتقادات واقعة في قلبه حاصلة من العادة والتقليد والتكسّب والتعصّب وغيرها فرسخت وتأكّدت في قلبه ومنعت له عن إدراك الحقائق على ما هي عليه ، وهذا كالجدار الواقع بين المرآة والصورة وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٢).

خامسها جمود القريحة وخمود نار الطبيعة بترك الانتقال والارتحال من صورة إلى صورة ومن منزل إلى أعلى منه حتى يصل إلى ما هو المطلوب الأصلي من

__________________

(١) نهج البلاغة خطبة «١٣٣».

(٢) يس : ٩.

٣٩١

الحضرة الالهيّة على المنهج القويم ، والصراط المستقيم فإنّ السعادة وبلوغ أقصى المراتب ليست فطرية لكلّ أحد من آحاد الناس فلا يمكن الوصول إلى المقصد الحقّ إلّا بالعثور على الجهة التي بها يقع الاهتداء والانتهاء اليه لضرورة بطلان الطفرة.

ثم إنّه لا يخفى أنّ النفس المستعدّة لمقام النبوة والرسالة فارغة بحسب الفطرة الأصلية والجبلة الاختيارية الأوليّة عن تلك الموانع وعمّا يئول إليها ، فنفوسهم المقدّسة العلوية في أصل الفطرة كمرآت صقيلة مجلّوة بالعلم والعمل والبقاء على مقتضى الكينونة الاولى محاذية لشطر الحق سبحانه إمّا بلا واسطة كنور نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو معها كسائر الأنبياء والملئكة عليهم‌السلام ، فإنّ أنوارهم وافئدتهم وأرواحهم مخلوقة من أشعة نور نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولذا ورد أنّ قلوب شيعتهم إنّما خلقت من فاضل طينة أبدانهم وأنّ شيعتهم خلقوا من شعاع طينتهم (١) ، وأنّ الأنبياء والمرسلين والملئكة والمقرّبين حتى العالين والكروبييّن كلهم من شيعتهم عليهم‌السلام من الخلق الأوّل أو غيره كما ورد في تفسير قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) (٢) ، وقوله تعالى : (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) (٣) ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) (٤) ، والأخبار الكثيرة الدالة على كيفيّة بدو أنوارهم وانشعاب الأنوار من نورهم ، وبالجملة فنفوس الأنبياء صلوات الله عليهم لما كان متنسمة من نفحات المجد والقدس ، متنعمة في

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٧ ط. القديم باب بدو أرواحهم وطينتهم وأنوارهم ـ وج ٤ باب الطينة والميثاق.

(٢) الصافات : ٨٣.

(٣) ص : ٧٥.

(٤) الأعراف : ١٤٣.

٣٩٢

بساط سرادق الانبساط والانس ، كانت مختصّة بشرف الوحي والإلهام.

والقدف والنكت ، والأحلام ، وساير مراتب التلّقي ، والتلقين ، والاعلام بضروبها وأنواعها ومراتبها الكثيرة التي يختص كل منهم بشيء حسب اختلاف الجهات والمراتب والنشئات (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) (١) ، (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) (٢).

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه من أنواع التلقّي والاستفاضة وصنوف الوحي والإلهام ليس بمجرد التخيّل وتجوهر الصورة المرتسمة من مرآت المتخيّلة بحسب قوة الإدراك وظهور الصور المثالية والإدراكية في الأعيان حتى يظنّ أنّها أجسام مرئية ملموسة وأصوات مسموعة مدركة بالآلات الجسمانية كما قد يظهر للممرورين (٣) والمبرسمين (٤) ، على ما زعمه بعض ملاحدة الفلاسفة المنكرين للملائكة والأرواح الروحانية لزعمهم أنّها قوى غير شاعرة ولا مدركة للعالم فإنّ هذا القول إلحاد في الدين وخروج عمّا أجمع عليه كافّة الأنبياء والمرسلين بل الحقّ الذي تظافر به الكتاب والسنّة بل ضرورة الدين والمكاشفات القطعيّة الحاصلة لأرباب الشهود واليقين بل للأولياء والأنبياء والمرسلين هو أنّ الملئكة جواهر روحانية شاعرة عابدة لله سبحانه قادرة على التشكّل بالأشكال المختلفة بإذن ربهم سبحانه وهم الصافات ، والزاجرات ، والتاليات للذكر ، والحاملات للوقر ، والمقسّمات للأمر إلى

__________________

(١) البقرة : ١٥٢.

(٢) البقرة : ٨٧.

(٣) الممرور من غلبت عليه المرة وهي بكسر الميم بمعنى الصفراء أو السوداء.

(٤) المبرسم بضم الميم وفتح الباء والسين أصيب بالبرسام وهو بكسر الباء التهاب في الحجاب الذي بين الكبد والقلب.

٣٩٣

غير ذلك من الفيوض التكوينيّة والتشريعيّة التي لا يعصون الله فيها ويفعلون ما يؤمرون وإن ما يظهر منهم من الأشكال والأصوات والكلمات إنّما هو على وجه الحقيقة العينية في الخارج لا مجرد التخيّل والتصور.

ثم اعلم أن الوحي بالمعنى العام الذي مرّت إليه الإشارة قسمان :

أحدهما الوحي التكويني المتعلّق بجعل الذوات وإنشاء الموجودات وإفاضة القابليّات وتشيّؤ الماهيّات وقبول الأعراض والصفات وغيرها مما ينسبه القائلون بالأعيان الثابتة إلى القدم والقائلون بالطبائع إليها والقائلون بالبخت والاتّفاق الى البعث إلى غير ذلك من مقالات الجهّال وأهل الضلال سبحانه وتعالى عمّا يقولون علوا كبيرا ، فإنّ الحق في ذلك أنّ تذوّت كل ذات من الذوات ، وتعيّن كل ماهيّة من الماهيّات ، بل وجود كلّ شيء من الموجودات ، واتصافه بكلّ شيء من الأحوال والصفات بلا فرق بين الشرور والخيرات إنّما بقبوله وإختياره بعد تعلّق المشية الفعلية الإرادة الحتمية التكوينية فسمعت وأجابت وسارعت وأطاعت فخرجت منقادة متشئية ، متذوتة ، متصفة بما قبلها من الأحوال والأفعال والصفات بعد ما كانت في بقعة العدم البحت البات الذي لا تميّز ولا تعيّن لها فيه أصلا ، وظرفية العدم لها مجرّد تعبير ، وإلّا فأين الظرف وأين المظروف ، وذلك أنه سبحانه خلق الأشياء بها فخلق ما شاء كما شاء لما شاء ، وأوحى إلى كل شيء أمره ، وهذا هو المراد بالقول التكويني في قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ، وبالقول والوحي في الآيتين : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا

__________________

(١) النحل : ٤٠.

٣٩٤

طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١) ، (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (٢) ، بل هو المراد به أيضا في قوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (٣) ، وبالهداية في قوله تعالى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٤) ، فأوّل وحي وقع لله سبحانه في عالم التكوين فعله لفعله بفعله ، فأوحى به إلى نفسه وترجم عنه به له بما أظهر فيه من آثار الربوبية إذ لا مربوب حسبما اقتضاها الإمكان الراجح في مقام الفعل ، وذلك بعد البد والمحذوف الذي يقال له اسم الفاعل وهو مقاماته وعلاماته التي لا تعطّل لها في كلّ مكان يعرفه بها من عرفه لا فرق بينه وبينها إلّا أنّهم عباده وخلقه فيترجم الحقيقة المحمّدية صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلّ من المقامات الثلاثة بنفسهما لنفسها أوّلا ، وللمرتبة النازلة عنها ثانيا فيترجم اسم الفاعل لنفسه ، وللفعل والفعل له وللمفعول الأوّل الّذي هو العقل ، وهكذا في العوالم الكثيرة الّتي هي المراتب الواقعة في السلسلة الطولية المنتظمة ، المتنسقة التي ما يحمل عليها ما ورد في بعض الأخبار من أنّ لله تعالى ألف ألف عالم (٥) فيتنزّل الأمر والحكم من كل عالم منها إلى غيره.

وجملة القول فيها على وجه الإشارة أنّه يتنزّل من العقل إلى الروح ومن الروح إلى النفس ، ومنها إلى محدّد الجهات الفلك الأعظم ، ومنه إلى فلك البروج ، ومنه إلى السموات السبع وإلى العناصر ، ومنها إلى المعادن ، ومنها النباتات ، ومنها

__________________

(١) فصلت : ١١.

(٢) فصلت : ١٢.

(٣) النحل : ٦٨.

(٤) طه : ٥٠.

(٥) بحار الأنوار ج ١٤ ط. القديم ص ٧٩.

٣٩٥

إلى الملئكة ، ومنهم إلى الجانّ ، ومنهم إلى الإنسان.

ثانيهما الوحي التشريعي المتعلّق بإفاضة العلوم والحقائق والأحكام المتعلقة بتكوين الشرع وشرع الكينونة وإن كانت التسمية تومي إلى الإختصاص فإنّ التعبير مبني على التغليب ، ولذا قيل بل قد ورد في الأخبار : أنّ مبدء كثير من العلوم الحكمية العقليّة والصناعيّة هو الوحي من الله سبحانه وإنّه كان ذلك بتعليم الأنبياء كالطبّ والنجوم ، والرمل ، والأعداد ، والحروف بل اشتغل كثير منهم بكثير من الصناعات ولعلّه على وجه الإلهام والاعلام كاشتغال أبينا آدم على نبينا وآله وعليه‌السلام بالفلاحة ، وإدريس بالخياطة ، ونوح بالنجارة ، وعلى كل حال فقد يقال : إن الوحي قسمان : جلّي وخفي ، فالجلّي ما كان بواسطة سفير يبلّغه سواء كان ذلك السفير مرئيا مواجها له في سفارته وتبليغه كأن يرى الشخص ويسمع الصوت كما لخصوص أولى العزم أو لغيرهم من المرسلين أيضا أو لم يكن مرئيا له كأن يسمع الصوت ولا يرى الشخص كما في كثير من الأنبياء.

ولذا قد يفرّق بين الرسول والنبيّ بأنّ الرسول هو المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر ، وله شريعة مبتدئة كآدم على نبينا وآله عليه‌السلام أو ناسخة كنبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبأنّ النبيّ هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يرى الملك ، والرسول هو الذي يسمع الصوت ويرى في منامه ويعاين ، وبأنّ الرسول قد يكون من الملائكة كما قال سبحانه : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (١) ، ومن الناس بخلاف النبيّ ، والخفي ما لم يكن بواسطة السفير ،

__________________

(١) الحج : ٧٥.

٣٩٦

وهو إمّا إلهام في اليقظة أو رؤيا في المنام صريح لا يحتاج إلى التفسير أو تلويح يؤوّل بالتعبير ، وهذا القسم من الوحي يكون للأنبياء كما ورد عن الصادق عليه‌السلام قال : الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات فنبيّ منبأ في نفسه لا يعد وغيرها ، ونبي يرى في المنام ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد عليه امام مثل ما كان لإبراهيم عليه‌السلام على لوط عليه‌السلام ، ونبيّ يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد أرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس عليه‌السلام قال تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (١) ، وعليه إمام ، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو امام مثل أولي العزم وقد كان إبراهيم على نبيّنا وآله عليه‌السلام نبيا وليس بإمام حتى (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) «بأنه يكون في ولده كلهم» (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢).

ويكون للأوصياء أيضا خصوصا للأئمة الطاهرين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ الذين هم بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين والملئكة المقربين.

ففي «إرشاد» المفيد (٣) و «الاحتجاج» عن مولينا الصادق عليه‌السلام قال :

__________________

(١) سورة الصافات : ١٤٧.

(٢) سورة البقرة : ١٢٤.

(٣) الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري ، أبو عبد الله ، ويعرف بابن المعلم : محقق مدقق ، فقيه ، انتهت اليه رياسة الشيعة في عصره ، ولد في عكبرا (على عشرة فراسخ من بغداد) سنة ٣٣٦ ، وتوفي ببغداد سنة ٤١٣ ، وله نحو مأتي مصنف منها الإرشاد في تاريخ النبيّ (ص) والزهراء والائمة عليهم‌السلام ، قيل : إنه وجد مكتوب بعد دفن المفيد على لوح قبره من الامام الثاني عشر الحجة القائم عجل الله تعالى فرجه فيه هذه الأبيات :

٣٩٧

علمنا غابر ومزبور ونكت في القلوب ونقر في الأسماع ، وإنّ عندنا الجفر الأحمر والجفر الأبيض مصحف فاطمة عليها‌السلام ، وعندنا الجامعة ، فيها جميع ما يحتاج إليه ، فسئل عن تفسير هذا الكلام فقال عليه‌السلام : أمّا الغابر فالعلم بما يكون وأمّا المزبور فالعلم بما كان ، وأمّا النكت في القلوب فهو الإلهام ، وأمّا النقر في الأسماع فحديث الملئكة نسمع كلامهم ولا نرى أشخاصهم (١).

وفي «الامالي» عن الحرث النضري قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الذي يسئل عنه الإمام وليس عنده فيه شيء من أين يعلمه؟ قال عليه‌السلام : ينكت في القلب نكتا أو ينقر في الاذن نقرا (٢).

وقيل له عليه‌السلام : إذا سئل الامام عليه‌السلام كيف يجيب؟ قال عليه‌السلام : إلهام أو سماع وربما كانا جميعا (٣).

أقول : وأنت ترى أنّهما يدلان على وقوع السماع عن غير الأنبياء بل يظهر من أخبار أخر أنّ المشاهدة يقع منهم أيضا كما رواه في «الأمالي» عن أبي حمزة قال :

__________________

لا صوت الناعي بفقدك إنّه

يوم على آل الرسول عظيم

إن كنت قد غيّبت في جدث الثرى

فالعدل والتوحيد فيك مقيم

والقائم المهدي يفرح كلّما

تليت عليك من الدروس علوم

قال صاحب تفسير (الصراط المستقيم) في رجاله (نخية المقال) في ترجمة المفيد :

وشيخنا المفيد بن محمّد

عدل له التوقيع هاد مهتد

أستاذه صدوق السعيد

وبعد عزّ رحم المفيد

(١) الإرشاد ج ٢ ص ١٨٠ ط. طهران مطبعة الحيدرية.

(٢) بحار الأنوار ج ٧ ط. القديم ص ٢٧٩ عن أمالي ابن الشيخ.

(٣) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٧٩ ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ.

٣٩٨

سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّ منّا لمن ينكت في قلبه ، وإنّ منّا لمن يؤتى في منامه ، وإن منّا لمن يسمع الصوت مثل صوت السلسلة في الطست ، وإن منا لمن يأتيه صورة أعظم من جبرئيل وميكائيل (١) ، وقال عليه‌السلام : منا من ينكت في قلبه ، ومنّا من يقذف في قلبه ، ومنّا من يخاطب (٢) ، وقال (عليه‌السلام): إنّ منا لمن يعاين معاينة ، وإنّ منّا لمن ينقر في قلبه كيت وكيت ، وإنّ منّا لمن يسمع كما تقع السلسلة في الطست ، قال قلت والذي يعاينون ما هو؟ قال : عليه‌السلام : خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل (٣).

وفي «البصائر» في الصحيح عن زرارة قال : دخلت عليه وفي يده صحيفة فغطّاها عنّي بطيلسانه ثم أخرجها فقرأها علي : إنّ ما يحدّث به المرسلون كصوت السلسلة أو كمناجاة الرجل صاحبه (٤).

وفيه في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال عليه‌السلام : كان علي عليه‌السلام يعمل بكتاب الله وسنّة نبيه فإذا أورد عليه الشيء الحادث الذي لا في الكتاب ولا في السنّة ألهمه الله الحقّ فيه إلهاما ، وذلك والله من المعضلات (٥).

وفيه عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّا نزداد في الليل والنهار ولو لا أن نزداد لنفد ما عندنا ، فقال أبو بصير : جعلت فداك من يأتيكم؟ فقال عليه‌السلام : إنّ منّا يعاين معاينة ، ومنّا من ينقر في قلبه كيت

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤ ص ٢٧٩ ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٧٩ ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ.

(٤) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٨٠ ط. القديم عن أمالي ابن الشيخ.

(٥) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٨٨ ط. القديم عن بصاير الدرجات.

٣٩٩

وكيت ، ومنّا من يسمع بأذنه وقعا كوقع السلسلة في الطست ، قال : قلت : جعلني الله فداك من يأتيكم بذاك؟ قال عليه‌السلام : هو خلق أكبر من جبرئيل وميكائيل (١).

وفيه عن علي بن يقطين قال : سئلت أبا الحسن عليه‌السلام عن شيء من أمر العالم فقال عليه‌السلام : نكت ونقر في الأسماع وقد يكونان معا (٢).

وفيه عنه عليه‌السلام : علم عالمكم سماع أو إلهام؟ قال عليه‌السلام : يكون سماعا ويكون إلهاما ويكونان معا (٣).

وفيه عن علي بن السائي (٤) قال : سئلت الصادق عليه‌السلام عن مبلغ علمهم ، فقال عليه‌السلام : مبلغ علمنا ثلثة وجوه : ماض وغابر وحادث ، فأمّا الماضي فمفسر ، وأما الغابر فمزبور وأما الحادث فقذف في القلوب ، ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ، ولا نبيّ بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،.

وفيه إشارة الى أن هذه العلوم على الوجوه المذكورة لا تستلزم النبوّة فإنّها تحصل لغير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أيضا حسبما تأتي اليه الاشارة.

وفيه وفي «الإختصاص» عن عبد الله بن النجاشي عنه عليه‌السلام قال : فينا والله من ينقر في أذنه ، وينكت في قلبه ، وتصافحه الملئكة ، قلت كان أو اليوم؟ قال

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) بحار الأنوار ج ٧ ص ٢٨٩ ط. القديم عن بصاير الدرجات.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) السائي : نسبة إلى ساية وهي قرية من قرى المدينة أو من مكة ، والمراد به هو علي بن سويد السائي ، عدّه الشيخ من أصحاب الصادق عليه‌السلام ووثّقه وعدّه المفيد في الإختصاص من أصحاب الكاظم عليه‌السلام.

٤٠٠