تفسير الصراط المستقيم - ج ١

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٦٠

الخلود وابطال انقطاع العذاب ، وبيان الأعراف وأهلها ، وسرّ عدد الدرجات والطبقات والزبانيّة والخطائر ، وأنّ في الجنّة عبادة من غير تكليف ، وتعدّد الأكوان والنشآت والعوالم والخلق الجديد والشفاعة (الكليّة والوسيلة والمقام المحمود) الى غير ذلك من المباحث الكثيرة الّتي ستسمع استيفاء الكلام في شرحها في مواضع من هذا التفسير إن شاء الله الموفّق الفيّاض.

وأمّا الحكمة الشرعيّة الفرعيّة : فقد يدرج فيها ما مرّت إليه الإشارة كعلم الأخلاق والمعاشرة وتزكية النفس وغيرها. لكنّ المراد بها حيثما أطلقت الأحكام العمليّة الفقهيّة الّتي يبحث فيها عن أحوال أفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء والتخيير والوضع. والمراد بالاقتضاء طلب الفعل أو الترك مع المنع من النقيض أو الإذن فيه ، وبالتخيير الإباحة الشرعية أو العقليّة وإن لم يرد فيه شرع خاص وإن لم يخل عن شرع عامّ لاندراجة تحت الأصول والعمومات مع أنّ كلّما حكم به العقل حكم به الشرع وبالعكس على ما بيّناه في الأصول ، وبالوضع جميع الأحكام الوضعية المعتبرة باعتبار الشرع لها كالصحّة والفساد والطهارة والنجاسة والشرطيّة والجزئيّة والسببيّة والمانعيّة واللزوم والإشتغال وغيرها ممّا يبحث فيها عنه حتّى القواعد الفقهيّة الّتي هي مغايرة لمسائلها ، والقواعد الأصوليّة ومسائلها أيضا.

نعم ها هنا علوم آليّة هي كالمبادئ لها بل لغيرها أيضا وعلوم هي الأصول لها. أمّا العلوم الآليّة فكثيرة كعلم النحو الّذي وضعه مولانا أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وعلّمه أبا الأسود الدئلي ثمّ انتشر منه ووسع الناس فيه.

والسبب في ذلك على ما ذكره ابن طاووس وغيره أنّ قريشا كانوا يزوّجون

١٨١

الأنباط (١) فوقع فيما بينهم أولاد ففسد لسانهم حتّى أنّ بنتا لخويلد الأسدي كانت متزوّجة في الأنباط فقالت : إنّ أبوي مات وترك على مال كثير فلمّا رأى عليّ (عليه‌السلام) فساد لسانها أسّس النحو (٢).

وروي أنّ إعرابيّا سمع عن سوقيّ يقرأ إنّ الله بريء من المشركين ورسوله (٣) بالجرّ فشجّ رأسه فخاصمه إلى أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فقال له في ذلك. فقال : إنّه كفر بالله في قراءته فقال (عليه‌السلام) : إنّه لم يتعمّد بذلك (٤).

وروي أنّ أبا الأسود كان في بصره سوء وله بنت تقوده الى عليّ (عليه‌السلام) فقالت : يا أبتاه ما أشدّ حرّ الرّمضاء (بضمّ الدال والراء) تريد التعجب فنهاها عن مقالها وأخبر أمير المؤمنين (عليه‌السلام) بذلك فأسّس (٥).

وروي أنّ أبا الأسود كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل : من المتوفّي (بكسر الفاء) (٦) ، فقال : الله ، ثمّ إنّه أخبر عليّا (عليه‌السلام) بذلك فأسّس (٧).

__________________

(١) النبط بفتحتين وبكسر الباء قوم من العرب دخلوا في العجم والروم واختلفت أنسابهم وفسدت ألسنتهم ، وذلك لمعرفتهم بإنباط الماء أي استخراجه لكثرة فلاحتهم والجمع أنباط. ـ مجمع البحرين كتاب الطاء باب ما أوّله النون ـ.

(٢) الشيعة وفنون الإسلام تأليف السيد حسن الصدر نقلا عن المناقب لابن شهر آشوب ص ١٥٩. ـ بحار الأنوار ط الجديد الآخوندي ج ٤٠ ص ١٦١ ـ.

(٣) التوبة : ٣.

(٤) بحار الأنوار ط الجديد الآخوندي ج ٤٠ ص ١٦٢.

(٥) بحار الأنوار ط الجديد الآخوندي ج ٤٠ ص ١٦٢.

(٦) بصيغة أسم الفاعل.

(٧) بحار الأنوار ط الجديد الآخوندي ج ٤٠ ص ١٦٢.

١٨٢

فعلى أيّ وجه كان دفعه (عليه‌السلام) الى أبي الأسود وقال : ما أحسن هذا النحو أحش له (١) في المسائل فسمّي نحوا.

وعن ابن سلّام (٢) كانت الرقعة : الكلام ثلاثة أشياء : اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ، فالإسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره ، وبعضهم اقتصر على هذا القدر ، وبعضهم حكى أزيد من ذلك : وكتب (عليه‌السلام) في آخره كتبه عليّ بن أبو طالب فعجزوا عن ذلك فقالوا أبو طالب اسمه لا كنيته وقالوا : هذه تركيب مثل حضر موت.

وعن الزمخشري في «الفائق» : ترك في حال الجرّ على لفظه في حال الرّفع لأنّه اشتهر بذلك وعرف فجرى مجرى المثل الذي لا يغيّر (٣).

وفي «محاضرات الأوائل» عن السيوطي عن أبي الأسود قال : دخلت على أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فرأيته مطرقا متفكّرا فقلت : فبم تفكّر يا سيّدي؟ فقال (عليه‌السلام) : إنّي سمعت ببلدكم هذا لحنا فأردت أن أصنع كتابا في أصول العربيّة. فقلت : إن فعلت هذا أحييتنا وبقيت فينا هذه اللّغة ، قال : ثمّ أتيته بعد ثلاث فألقى إليّ صحيفة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم الكلمة اسم وفعل وحرف. فالإسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ثمّ قال (عليه‌السلام) لي : تتبّعه وزد فيه ما وقع لك ، واعلم يا أبا الأسود أنّ

__________________

(١) أحش : علق عليه حواشي.

(٢) هو أبو عبيد قاسم بن سلّام بن مسكين بن زيد الهروي الفقيه الأذيب اللّغوي المحدّث القاري توفي بالمدينة المنوّرة أو مكّة المكرّمة سنة (٢٢٤) ه أو قبلها.

(٣) بحار الأنوار ط الجديد الآخوندي ج ٤٠ ص ١٦٢.

١٨٣

الأشياء ، ثلاثة : ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر ، قال أبو الأسود : فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه فكان من ذلك حروف النصب فذكرت فيها إنّ وأنّ وليت وكأنّ ولعلّ ولم أذكر لكنّ ، فقال لي : لم تركتها؟ فقلت : لم أحسبها منها. فقال : بلى هي منها فزدها فيها. ورواه الزجّاج في «الأمالي» بالإسناد عن أبي الأسود (١) وأرسله غير واحد من أصحابنا أيضا.

وعلم التصريف الّذي ربما يذكر فيه علم الاشتقاق وعلم الخطّ أيضا.

وعلم اللّغة الذي لم يكن في أوّل الأمر اهتمام بتدوينه ونقله وضبطه الى أن شرّف الله تعالى هذا اللّسان بنبيّه المرسل وكتابه المنزل بعد ما كانت اللّغة العربيّة في نفسها أفصح اللّغات وأوجزها وأوسعها كما يشهد به مقايستها بغيرها من اللّغات ، بل روى الشيخ الصّدوق في «العلل» عن مولانا الصادق (عليه‌السلام) عن أبيه (عليه‌السلام) قال : ما أنزل الله (تبارك وتعالى) كتابا ولا وحيا إلّا بالعربيّة فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم وكان يقع في مسامع نبيّنا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالعربيّة فإذا كلّم به قومه كلّمهم بالعربيّة فيقع في مسامعهم بلسانهم وكان أحد لا يخاطب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بأيّ لسان خاطبه إلّا وقع في مسامعه بالعربيّة كلّ ذلك يترجم جبرائيل تشريفا من الله تعالى له.

وعلم المعاني والبيان والبديع وغيرها من العلوم المتداولة الّتي يغني عن التعرّض لها شيوع تداولها.

وأمّا العلوم الشرعيّة الّتي ليست بأصليّة اعتقاديّة محضة فهي ثلاثة : علم الكتاب العزيز ، وعلم الأحاديث المأثورة عن النّبي والأئمّة الطّاهرين (صلوات الله

__________________

(١) معجم الأدباء : ج ١٤ ص ٤٩.

١٨٤

عليهم أجمعين) وعلم الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

أمّا علم الأخبار المأثورة والأحكام الشرعيّة الفرعيّة الّتي يقابل بها الأصوليّة وغيرهما ممّا يتوقّف كلّ منها عليه كأصول الفقه والدّراية والرجال وغيرها من المبادئ العامّة والخاصّة لكلّ منهما فاشتهار القول فيها وكثرة تداولها أغنانا عن التعرض لها في خصوص المقام الّذي كان المقصود فيه الإشارة الى نوع العلوم.

وأمّا علم تفسير الكتاب وهو المقصود بالبحث في هذا الكتاب فلنشر الى تعريفه وموضوعه وغايته ومرتبته من العلوم وجملة من مبادئه على وجه الاختصار بعد التنبيه على شرف العلم سيّما ما تعلّق فيه بالكتاب السنّة.

الفصل الثالث

في شرف العلم وفضله من الكتاب والسنة والعقل

أمّا الشواهد القرآنيّة فكثيرة جّدا كقوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (٢) فإنّه أثبت الرفعة والفضيلة أولا للمؤمنين ثمّ خصّ من بينهم أولى العلم وفضّلهم على غيرهم بدرجات مبهمة غير معيّنة تعظيما وتفخيما وتكثيرا لها وأشعارا على أنّها على حسب اختلاف مراتبهم في العلم. ثمّ إنّ التفضيل بالدرجات وإن كان للمؤمنين أيضا من أهل بدر في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى قوله : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ

__________________

(٢) المجادلة : ١١.

١٨٥

رَبِّهِمْ) (١) وللمجاهدين في قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) (٢) ولمن وفّق للايمان والعمل الصالح في قوله تعالى : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) (٣) إلّا أنّ درجات أهل العلم أرفع من درجات الجميع لأنّ الايمان يجمعهم ويشملهم وقد جعله عامّا متعقّبا بالخاص لمزيد الإختصاص سيّما بعد كون المخاطب بقوله : منكم من مؤمني أهل بدر ومع اتّصافهم بالجهاد والإيمان والعمل الصالح فدلّت الآية الشريفة على أشرفيّة أهل العلم على غيرهم من بني آدم المفضّلين على غيرهم من أهل العالم بل يستفاد ذلك أيضا من قوله تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) (٤) (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٥)

وكقوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٦) الدالّ على نفي المساواة بين العالم والجاهل بل قيل : إنّه يرجع إليه أيضا ما في القرآن من نفي الدالّ المساواة في المواضع الستّة الباقية تمام السبعة الّتي فرّق بينهما وهي مضافا إليه الخبيث والطّيب ، الأعمى والبصير ، والظلمات والنور ، والظلّ والحرور ، والأحياء والأموات ، وأصحاب الجنة وأصحاب النّار.

وكقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) (٧) فبدء ، سبحانه أوّلا بنفسه وثنّى بالملائكة ، وثلّثهم بأولى العلم ، وكفى به شرفا وفضلا

__________________

(١) الأنفال : ٢.

(٢) النساء : ٩٥.

(٣) طه : ٧٥.

(٤) الانعام : ٨٣. ويوسف : ٧٦.

(٥) يوسف : ٧٦.

(٦) الزمر : ٩.

(٧) آل عمران : ١٨.

١٨٦

بل اقتصر عليهم بعد ذكر نفسه سبحانه في قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (١) على أظهر الوجهين بل وفي قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٢) وقوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٣) حيث شاركوا الملائكة في أجلّ صفاتهم فإنّهم من خشية ربّهم مشفقون ، بل قد يقال : إنّه يستفاد من الحصر الظاهر منه بضميمة قوله تعالى : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إلى قوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٤) إنّه ليس للجنّة أهل إلّا العلماء الّذين هم أهل الخشية. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (٥) وقوله تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (٦) وقوله تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) (٧) وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (٨) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي لا يخفى التقريب في كلّ منها.

وأمّا الأخبار فكثيرة ، ففي «الأمالي» عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من خرج من بيته يطلب علما شيّعه سبعون ألف ملك يستغفرون له (٩).

وفيه عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): «طلب العلم فريضة على كل مسلم» فاطلبوا العلم من مظانه واقتبسوه من أهله فانّ تعليمه لله حسنة وطلبه عبادة ،

__________________

(١) آل عمران : ٧.

(٢) الرعد : ٤٣.

(٣) فاطر : ٢٨.

(٤) البينة : ٨.

(٥) النمل : ١٥.

(٦) العنكبوت : ٤٩.

(٧) سبأ : ٦.

(٨) الروم : ٢٢.

(٩) أمالي الشيخ الطوسي ـ بحار الأنوار ـ ط الاخوندي ج ١ ص ١٧٠.

١٨٧

والمذاكرة به تسبيح ، والعمل به جهاد ، وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة الى الله تعالى ، لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبل الجنة ، والمؤنس في الوحشة ، والصاحب في الغربة والوحدة ، والمحدّث في الخلوة ، والدليل على السرّاء والضرّاء والسلاح على الأعداء ، والزّين عند الأخلّاء ، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم ، ويهتدي بفعالهم ، وينتهى الى رأيهم ، وترغب الملائكة في خلّتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، وفي صلاتها تبارك عليهم يستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر ، وهو امه وسباع البر وأنعامه ، إنّ العلم حياة القلوب من الجهل وضياء الأبصار من الظلمة ، وقوّة الأبدان من الضعف ، يبلغ بالعبد منازل الأخيار ، ومجالس الأبرار ، والدرجات العلى في الآخرة والاولى ، الذكر فيه يعدل بالصيام ، ومدارسته بالقيام ، به يطاع الرّب ويعبد ، وبه توصل الأرحام ، وبه يعرف الحلال والحرام ، العلم امام العمل والعمل تابعه يلهمه السعداء ، ويحرّمه الأشقياء ، فطوبى لمن لا يحرمه الله منه حظّه (١).

وفيه عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): العالم بين الجهّال كالحيّ بين الأموات ، وإنّ طالب العلم ليستغفر له كل شيء حتى حيتان البحر وهو امه ، وسباع البر وأنعامه فاطلبوا العلم ، فانه السبب بينكم وبين الله (٢).

وفي «غوالي الليالي» (٣) عنه عليه‌السلام ، من خرج من بيته يلتمس بابا من

__________________

(١) أمالي الشيخ الطوسي ـ بحار الأنوار ـ ط الاخوندي ج ١ ص ١٧١.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي ـ بحار الأنوار ـ ط الاخوندي ج ١ ص ١٧٢.

(٣) غوالي الليالي ـ بحار الأنوار ـ ط الاخوندي ج ١ ص ١٧٧.

١٨٨

العلم لينتفع ويعلّمه غيره كتب الله له بكل خطوة (١) عبادة ألف سنة صيامها وقيامها وحفّته الملائكة بأجنحتها ، وصلّى عليه طيور السماء وحيتان البحر ودوابّ البر ، وأنزله الله منزلة سبعين صدّيقا ، وكان خيرا له من أن كانت الدنيا كلّها له فجعلها في الآخرة.

وفي «منية المريد» عنه عليه‌السلام : من أحبّ أن ينظر الى عتقاء الله من النار فلينظر الى المتعلّمين ، فو الذي نفسي بيده ما من متعلّم يختلف الى باب العلم إلّا كتب الله له بكل قدم عبادة سنه ، وبنى الله له بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض وهي تستغفر له ، ويمسي ويصبح مغفورا له وشهدت الملائكة أنّهم عتقاء الله من النار (٢) ، وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): من جائه الموت وهو يطلب العلم ليحيا به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة (٣).

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): نوم مع علم خير من صلاة مع جهل (٤).

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): من تعلّم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل كان أفضل من أن يصلّي ألف ركعة تطوعا (٥).

وفي «جامع الاخبار» عنه عليه‌السلام : يا أبا ذر من خرج من بيته يلتمس بابا من العلم كتب الله ـ عزوجل ـ له بكل قدم ثواب نبي من الأنبياء وأعطاه الله بكل حرف يسمع أو يكتب مدينة في الجنة ، وطالب العلم أحبه الله وأحبّه الملائكة

__________________

(١) الخطوة بضم الخاء وسكون الطاء : ما بين القدمين عند المشي.

(٢) بحار الأنوار ط الاخوندي ج ١ ص ١٨٤.

(٣) بحار الأنوار ط الجديد ج ١ ص ١٨٤ عن منية المريد.

(٤) بحار الأنوار ط الجديد ج ١ ص ١٨٥ عن منية المريد.

(٥) بحار الأنوار ط الجديد ج ١ ص ١٨٠ عن روضة الواعضين.

١٨٩

واحبّه النبيون ، لا يحبّ العلم إلّا السعيد ، فطوبى لطالب العلم يوم القيامة ، ومن خرج من بيته يلتمس بابا من العلم كتب الله له بكل قدم ثواب شهيد من شهداء بدر ، وطالب العلم حبيب الله ، ومن أحبّ العلم وجبت له الجنة ، ويصبح ويمسي في رضا الله ، ولا يخرج من الدنيا حتى يشرب من الكوثر ، ويأكل من ثمرة الجنة ويكون في الجنة رفيق الخضر عليه‌السلام ، وهذا كله تحت هذه الآية : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (١).

وقال مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام : كفى بالعلم شرفا أنه يدّعيه من لا يحسنه ويفرج إذا نسب اليه ، كفى بالجهل ذما أن يتبرّأ منه من هو فيه.

وعنه عليه‌السلام ، العلم أفضل من المال بسبعة : الأوّل : أنه ميراث الأنبياء ، والمال ميراث الفراعنة ، والثاني : العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص ، والثالث يحتاج المال إلى الحافظ ، والعلم يحفظ صاحبه ، الرابع : العلم يدخل في الكفن ويبقى المال ، الخامس : المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل الّا للمؤمن خاصّة ، السادس : جميع الناس يحتاجون إلى العلم «العالم» .. في أمر دينهم ، السابع : العلم يقوّي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه (٢).

وقال عليه‌السلام : الجاهل صغير وإن كان شيخا ، والعالم كبير وإن كان حدثا (٣).

وقال عليه‌السلام : الناس أبناء ما يحسنون.

وقال عليه‌السلام : من عرف بالحكمة لحظته العيون بالوقار.

__________________

(١) بحار الأنوار ط الاخوندي ج ١ ص ١٧٨ عن جامع الاخبار.

(٢) بحار الأنوار ط الجديد ج ١ ص ١٨٥.

(٣) الحديث : الشاب.

١٩٠

وقال عليه‌السلام : المودّة اشبك الأنساب والعلم أشرف الأنساب (١).

وقال عليه‌السلام : لا كنز أنفع من العلم ، ولا قرين سوء شر من الجهل (٢).

وقال عليه‌السلام : الشريف من شرّفه علمه (٣).

وقال عليه‌السلام : عليكم بطلب العلم فإنّ طلبه فريضة ، وهو صلة بين الأخوان ، ودالّ على المروئة ، وتحفة في المجالس ، وصاحب في السفر ، وانس في الغربة (٤).

وقال عليه‌السلام : كل وعاء يضيق بما جعل فيه الّا ووعاء العلم فإنّه يتسع.

وفي عدّة الداعي عنه عليه‌السلام : جلوس ساعة عند العلماء أحبّ إلى الله من عبادة ألف سنة ، والنظر إلى العالم أحبّ إلى الله من اعتكاف سنة في البيت الحرام ، وزيارة العلماء أحبّ إلى الله تعالى من سبعين طوافا حول البيت وأفضل من سبعين حجّة وعمرة مبرورة متقبّلة ، ورفع الله له سبعين درجة وأنزل الله عليه الرحمة ، وشهدت له الملائكة أنّ الجنة وجبت له (٥).

وعن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): إن لله ـ عزوجل ـ كلّ يوم وليلة ألف رحمة على جميع خلقه فتسعمأة وتسعة وتسعون رحمة للعلماء وطالب العلم والمسلمين ورحمة واحدة لسائر الناس.

وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): حملة القرآن عرفاء أهل الجنة ، والشهداء

__________________

(١) بحار الأنوار ط الجديد ج ١ ص ١٨٣.

(٢) بحار الأنوار ط الجديد ج ١ ص ١٨٣.

(٣) بحار الأنوار ط الجديد ج ١ ص ١٨٣.

(٤) بحار الأنوار ط الجديد ج ١ ص ١٨٣.

(٥) بحار الأنوار ط الجديد ج ١ ص ٢٠٥ عن عده الداعي.

١٩١

قوّاد أهل الجنة ، والأنبياء سادة أهل الجنة (١).

وعنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): إنّ فضل العالم على العابد كفضل الشمس على الكواكب ، وفضل العابد على غير العابد كفضل القمر على الكواكب (٢).

وفي البصائر عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : عالم ينتفع بعلمه أفضل من عبادة سبعين ألف عابد (٣).

وفي الغوالي : علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل ، إلى ذلك من الاخبار الكثيرة الدالّة على فضل العلم والمعرفة على العبادة فضلا عن غيرها.

هذا مضافا إلى أنّ فضيلة الإنسان وشرفه على غيره ليس بشيء مما يرجع إلى الأمور البدنية الجسمانية ، ولا بشيء من القوى الحيوانية التي هي أقوى في كثير من الحيوانات منها الإنسان بل إنّما هو بالعلم والعمل المتعلّقين بإصلاح أمور المعاش والمعاد ، فيما يتعلّق بالدين والدنيا ، ولا ريب أنّ الأصل في العمل هو العلم لأنّ العامل على غير علم وبصيرة كالسائر على غير طريق لا يزيده كثرة السير إلّا بعدا وانحرافا عن الطريق ، وهذا العلم قد اختصّ به الإنسان من بين الأكوان والأعيان ، ولذا قال : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٤) ، وكان أول ما أنزل على رسوله الله في النزول الثانوي التفصيلي الجسماني مطابقا لما في النزول الجملي الروحاني النوراني قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥) ، ثم

__________________

(١) الأصول من الكافي ج ٢ ص ٦٠٦ بتفاوت يسير.

(٢) بحار الأنوار ط الجديد ـ ج ٢ ص ١٩.

(٣) بحار الأنوار ط الجديد ـ ج ٢ ص ١٩.

(٤) الرحمن : ١ ـ ٣.

(٥) العلق : ١ ـ ٥.

١٩٢

لا يخفى أنّ الإنسان ميّت وحياته بالعلم والمعرفة.

فالعلم يحيي نفوسا قطّ ما عرفت

من قبل ما الفرق بين الصدق والمين

العلم للنفس نور يستدلّ به

على الحقائق مثل النور في العين

وربما ينسب إلى مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال :

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله

وأبدانهم قبل القبور قبور

وإن أمرأ لم يحيى بالعلم ميّت

وليس له حتى النشور نشور

ومن بعضهم :

الّناس موتى وأهل العلم أحياء

والناس مرضى وهم فيهم أطبّاء

والّناس أرض وأهل العلم فوقهم

سماء نور وما في النور ظلماء

وزمرة العلم روح الخلق كلّهم

وساير الناس في التمثيل أعضاء

وعن بعض اليونانيين : كما أن البدن الخالي عن النفس يفوح منه نتن الجيف فكك النفس الخالية عن العلم والأدب ، فالحياة الحقيقة الدائمة للنفس الإنسانية إنما هي بالعلم والمعرفة واليه إشارات كثيرة في الكتاب العزيز.

كقوله تعالى : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (١) ، وقوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) (٢) أي ظلمات الجهالة والضلالة ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (٣) وقوله تعالى :

__________________

(١) يس : ٧٠.

(٢) الانعام : ١٢٢.

(٣) الأعراف : ١٧٩.

١٩٣

(وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (١) يعني قبور الأجسام الناسوتية.

وعن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة (٢) (٣).

وكان عليه‌السلام يقول روّحوا أنفسكم ببديع الحكمة فإنّها تكلّ كما تكلّ الأبدان (٤).

وفي النبوي : الناس كلهم موتى إلّا العالمون.

وعن بعض الحكماء : إنّ القلب ميّت وحياته بالعلم ، والعلم ميّت وحياته بالطلب ، والطلب ضعيف وقوّته بالمدارسة ، فهو محتجب وإظهاره بالمناظرة ، وهو عقيم نتاجه العمل ، فإذا زوّج العلم بالعلم توالد وتناسل ملكا أبديا لا آخر له.

وقال سقراط : من فضيلة العلم أنّك لا تقدر أن يخدمك فيه أحد كما يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك ، ولا يقدر أحد على سلبه عنك.

ومن جوامع الكلم قولهم : العلم أحسن حلية ، والعلم أفضل قنية ، العلم أفضل خلف ، والعمل به أكمل شرف ، لا سمير كالعلم ، ولا ظهير كالحلم ، خير إلّا المواهب العقل ، وشرّ المصائب الجهل ، من صاحب العلماء وقر ، ومن صاحب السفهاء حقر ، من قلّ عقله كثر هزله ، من لم يتعلّم في صغره لم يتقدّم في كبره.

العلم كنز لا يفنى ، والعقل ثوب لا يبلى ، لا يستخف بالعلم إلّا وكيع جاهل أو

__________________

(١) فاطر : ٢٢.

(٢) نهج البلاغة ج ٢ ـ ص ١٨١.

(٣) طرائف الحكمة : لطائفها وغرائبها المعجبة للنفس اللذيذة لها ـ مجمع البحرين ط النجف ج ٥ ص ٨٩.

(٤) في مجمع البحرين ج ٤ ص ٢٩٨ : بديع الحكمة : غرائبها ، ومنه الحديث روّحوا أنفسكم ببديع الحكمة.

١٩٤

وضيع خامل ، كم من عزيز أذلّه جهل ، وكم من ذليل أعزّه عقله ، الرأي بغير علم ضلال ، والعلم بغير علم وبال ، العلم جمال واستعماله كمال.

وعن بعضهم إذا تجرّد العلم عن العلم يكون عقيما ، وإذا خلى العمل عن العلم كان سقيما.

العقل والشرع وإن تطابقا على شرف العلم وفضله إلّا أنّه لا ريب في اختلاف أنواع العلم من حيث الشرف والرتبة ، إمّا باعتبار الموضوع أو الغاية أو غيرها ، بل ربما يكون بعض العلوم مما لا يضرّ جهله ، ولا ينفع علمه وبعضها مما يضرّ ولا ينفع كالسحر المشار اليه بقوله تعالى : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) (١) ، ومن هنا يظهر أنّ الوجه نقسام العلوم بانقسام الأحكام الخمسة ، وقد أشير في خبر إبراهيم بن عبد الحميد المرويّ في الكافي وغيره عن مولينا الكاظم عليه‌السلام إلى الأقسام منها :

قال عليه‌السلام : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد وإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ما هذا؟ فقيل : العلّامة ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : وما العلّامة فقالوا له : اعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها ، وأيّام الجاهلية والأشعار والعربية : قال : فقال النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ذلك علم لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه ، ثم قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما العلم ثلاثة : آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنّة قائمة ، وما خلاهن فهو فضل (٢).

__________________

(١) البقرة : ١٠٢.

(٢) الأصول من الكافي ط الجديد ص ٣٢ كتاب فضل العلم.

١٩٥

والمراد بالآية المحكمة غير المتشابهات بأن تكون واضحة الدلالة وغير المنسوخة كي يجوز العمل بها ، وأمّا المتشابه والمنسوخ فلا ينتفع بهما ، والفريضة العادلة كلّ ما علم وجوبها في الشريعة ، أو خصوص ما علم من الكتاب كما هو أحد إطلاقات الفرض ، أو خصوص ما علم من غيره لمقابلته في المقام للآية المحكمة والتعميم أقرب ، وأبعد من الكلّ إرادة الفرائض المستعملة في باب الميراث بأن يراد العدل في القسمة أي معدّله على السهام المذكورة في الكتاب والسنّه من غير جور ، أو خصوص ما اتّفق عليه المسلمون من الأحكام (١) إذ لا وجه للحمل عليهما.

وأمّا السنّة فالمراد إمّا خصوص المستحبّات ، أو مع المكروهات بناء على استحباب ترك المكروه ، أو ما علم بالسنّة وإن كان واجبا ، وقيامها بقائها من غير نسخ.

وقد يقال في بيان هذه الأقسام : إنّ العلوم الاخرويّة قسمان : علوم معاملة وعلوم مكاشفة ، والثاني لا يوجد في كل وقت إلّا في أقلّ قليل من الناس وهو أعزّ من الكبريت الأحمر والمذكور منه في القرآن إنّما هو على سبيل الرمز والإيماء بحيث لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم. وامّا علوم المعاملة فهذه الأقسام الثلاثة المذكورة في الخبر كلّها منها ، وذلك لأنّ العلوم الدينيّة النافعة في الآخرة إمّا متعلّقة بالأصول الاعتقادية أو بالفروع العلمية ، والثانية إمّا متعلّقة بالأفعال وأعمال الجوارح من الحلال والحرام وامّا متعلّقة بالأحوال وأعمال القلب من محاسن الأخلاق وأضدادها فهذه أقسام ثلاثة.

__________________

(١) كما قال ابن الأثير في النهاية ج ٣ ص ٤٣٣ : الفريضة العادلة : العدل في القسمة بحيث تكون على السهام المذكورة في الكتاب والسنة ـ وقيل : ما اتفق عليه المسلمون.

١٩٦

فالآية المحكمة أشارة إلى أصول العقائد وأركانها المستفادة من الآيات المحكمات القرآنيّة. والفريضة العادلة إشارة إلى العلم بالفرائض والواجبات والمحرمات الّتي يجب على المكلّفين الإتيان بها أو الكفّ عنها.

والسنّة القائمة إشارة إلى العلم بالسنن والنوافل فانّها من الأعمال الّتي تؤثّر في جلب الأحوال للقلوب وكسب الأخلاق الحسنة وإزالة الملكات الرديّة وكلّها ثابتة من طريق الكتاب والسنّة.

قلت : ويحتمل أيضا أن يكون المراد بالآية المحكمة العلم بالكتاب العزيز ووجوه آياته وتفسيرها وتنزيلها وتأويلها وظاهرها وباطنها إلى سبعين بطنا وأزيد ، فإنّ الكلمة من آل محمّد (عليهم‌السلام) لتنصرف على سبعين وجها من كلّها المخرج فما ظنّك بالقرآن الذي لا يعلمه إلّا من خوطب به والمعصومين من ذريّته وهم الرّاسخون في العلم الّذين قرنهم الله تعالى بنفسه في محكم كتابه.

قال (عليه‌السلام): ما من شيء إلّا وفيه كتاب وسنّة.

وقال (عليه‌السلام): ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب الله تعالى ولكن لا تبلغه عقول الرّجال (١).

وبالفريضة العادلة ما يجب على المكلّفين علمه ولا يعذر أحد بجهله من الواجبات والمحرّمات المتعلّقة بالعبادات وغيرها ، والمراد بعدلها توسطها بين طرفي الإفراط والتفريط.

وبالسنّة القائمة الطريقة المستفادة من الشريعة الحقّة في السنن والآداب والعقود والإيقاعات والأحكام والأخلاق وغيرها.

__________________

(١) المحاسن ص ٢٦٧ ـ بحال الأنوار ج ٩٢ ص ١٠٠ نقلا عن المحاسن.

١٩٧

وعلى كلّ حال فلا ريب أنّ الأصل في العلوم الشرعية من الأصولية الاعتقادية والفروعيّة العملية هو كتاب الله المشتمل على جميع المعارف والحقائق والأصول والفروع ، ولذا قال مولانا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على ما رواه الإمام (عليه‌السلام) في تفسير : عليكم بالقرآن فإنّه الشفاء النّافع ، والدّواء المبارك. عصمة لمن تمسّك به. ونجاة لمن تبعه لا يعوجّ فيقوم ، ولا يزيغ فيستعتب. ولا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الردّ إلى أن قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما أنعم الله (عزوجل) على عبد بعد الإيمان بالله أفضل من العلم بكتاب الله والمعرفة بتأويله ومن جعل الله له في ذلك حظّا ثمّ ظنّ أنّ أحدا لم يفعل به ما فعل به قد فضّل عليه فقد حقّر نعم الله تعالى عليه (١).

وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٢) : فضل الله القرآن والعلم بتأويله ، ورحمته توفيقه لمولاه محمد وآله الطاهرين ومعاداة أعدائهم.

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وكيف لا يكون ذلك خيرا مما يجمعون وهو ثمن الجنة ونعيمها ، فأنه يكتسب بها رضوان الله الذي هو أفضل من الجنة ويستحق بها الكون بحضرة محمّد وآله الطيبين الذي هو أفضل من الجنة ، ان محمد لله وآله الطيبين أشرف زينة في الجنان.

ثم قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : يرفع الله بهذا القرآن والعلم بتأويله وبموالاتنا أهل البيت والتبّري من أعدائنا أقواما فيجعلهم في الخير قادة أئمة في الخير

__________________

(١) تفسير الامام ص ٤ و ٥.

(٢) يونس : ٥٧ ـ ٥٨.

١٩٨

تقتص آثارهم وترمق أعمالهم ، ويقتدى بأفعالهم وترغب الملائكة في خلّتهم وبأجنحتها تمسحهم ، وفي صلواتها تبارك عليهم ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهوامّه ، وسباع البر وأنعامه ، والسماء ونجومها (١).

وفي «نهج البلاغة» انّ مولانا أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قال في خطبة له : وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث ، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب ، واستضيئوا واستشفوا (خ ل) بنوره فإنّه شفاء الصدور ، وأحسنوا تلاوته فإنّه أحسن القصص فإنّ العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أعظم والحسرة له ألزم وهو عند الله ألوم (٢).

وفيه عن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبة له قال عليه‌السلام : إنّ علم القرآن ليس يعلم ما هو إلّا من ذاق طعمه فعلم بالعلم به جهله وبصّر به عماه وسمّع به صممه وأدرك به ما قد فات ، وحيي به بعد أن مات ، فاطلبوا ذلك من عند أهله وخاصّته ، فإنّهم خاصّة نور يستضاء به وأئمة يقتدى بهم ، هم عيش العلم وموت الجهل ، وهم الذين يخبركم حلمهم عن علمهم وصمتهم عن منطقهم وظاهرهم عن باطنهم لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه (٣).

__________________

(١) تفسير الامام ص ٤ و ٥ ـ بحار الأنوار ج ٩٢ كتاب القرآن ص ١٨٣.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ـ ١٠٨.

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ـ ١٤٥.

١٩٩

الفصل الرابع

في علم التفسير

علم التفسير هو علم يبحث فيه عن مراد الله تعالى من قرآنه المجيد ، وهذا التعريف هو المحكيّ عن مولينا قطب الدين الرازي البويهي تلميذ العلامة أعلى الله مقامه في شرحه للكشاف.

وأورد عليه بأنّ البحث فيه ربما يكون عن أحوال الألفاظ كمباحث القراءة وناسخيّة الألفاظ ومنسوخيّتها وأسباب نزولها وترتيب نزولها إلى غير ذلك فلا يجمعها حدّه.

وأيضا يدخل فيه البحث في الفقه عما يثبت بالكتاب فإنّه البحث عن مراد الله تعالى من قرآنه ، فالحدّ غير جامع ولا مانع.

قيل : ولذا عدل الشارح التفتازاني عنه إلى قوله : هو العلم الباحث عن أحوال ألفاظ كلام الله تعالى من حيث الدلالة على مراد الله تعالى.

أقول : أمّا النقض في مراده بمباحث القرائة وغيرها مما ذكره فهو غير وارد عليه ، وذلك لأنّ تلك المباحث وما ضاهاها إن كانت له مدخلية في اختلاف المعنى المراد من اللفظ فلا ريب في دخوله من تلك الجهة في علم التفسير والحدّ أيضا يشمله وإن لم يكن لها مدخليّة أصلا في اختلاف المعاني فدخولها في علم التفسير ممنوع جدا ، ولذا أفردوا علم القرائة وغيرها بالتصنيف وإنّما أشاروا إليها في كتب التفسير على وجه الإجمال والاختصار مع الحوالة إلى تلك الكتب وربما لم يشيروا إليها أصلا.

وبعضهم تصدّى لذكر المشاهير منها دون الشواذّ النوادر.

٢٠٠