نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

قال الكلبي : هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناة.

وقال مجاهد : هي خاصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا. وقيل : هي خاصة بالنساء والصبيان.

وحكى القرطبي (١) عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة.

ثم بيّن سبحانه من لا يحل بره ولا العدل في معاملته ، فقال : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) : وهم صناديد الكفر من قريش.

(وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) : أي عاونوا الذين قاتلوكم وأخرجوكم على ذلك ، وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم.

(أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)) : أي الكاملون في الظلم لأنهم تولوا من يستحق العداوة لكونه عدوا لله ولرسوله ولكتابه وجعلوهم أولياءهم.

[الآيتان : الثالثة والرابعة]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) : من بين الكفار ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يرد عليهم من جاءهم من المسلمين ؛ فلما هاجر إليه النساء أبى الله أن يرددن إلى المشركين ، وأمر بامتحانهن فقال :

(فَامْتَحِنُوهُنَ) : أي فاختبروهن.

وقد اختلف فيما كان يمتحن به؟ فقيل : كنّ يستحلفن بالله ما خرجن من بغض

__________________

(١) انظره في «تفسيره» (١٨ / ٥٩). وانظر كذلك الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢ / ٨٨٥).

٤٤١

زوج ولا رغبة من أرض إلى أرض ولا لالتماس دنيا ، بل حبا لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورغبة في دينه ؛ فإذا حلفت كذلك أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها إليه. وقيل : الامتحان هو أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقيل : ما كان الامتحان إلا بأن يتلو عليهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية ، وهي (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) إلى آخرها.

واختلف أهل العلم هل دخل النساء في عهد الهدنة أم لا؟ على قولين : فعلى القول بالدخول تكون هذه الآية مخصصة لذلك العهد ، وبه قال الأكثر. وعلى القول بعدمه لا نسخ ولا تخصيص.

(اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) : هذه الجملة معترضة لبيان أن حقيقة حالهن لا يعلمها إلا الله سبحانه. ولم يتعبدكم بذلك وإنما تعبدكم بامتحانهن حتى يظهر لكم ما يدل على صدق دعواهن في الرغوب في الإسلام.

(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) : أي علمتم ذلك ، بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به.

(فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) : أي إلى أزواجهن الكافرين.

(لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) : تعليل للنهي عن إرجاعهن.

وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحل لكافر ، وأن إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرد هجرتها ، والتكرير لتأكيد الحرمة ؛ أو الأول لبيان زوال النكاح القديم ، والثاني لامتناع النكاح الجديد.

(وَآتُوهُمْ) : أي وأعطوا أزواج هؤلاء اللاتي هاجرن وأسلمن مثل :

(ما أَنْفَقُوا) : عليهن من المهور. قال الشافعي : إذا طلبها غير الزوج من قراباتها منع منها بلا عوض.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) لأنهنّ قد صرن من أهل دينكم.

(إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) : أي مهورهن ، وذلك بعد انقضاء عدتهن كما تدل عليه أدلة وجوب العدة.

(وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) : قد قرأ الجمهور بالتخفيف من الإمساك. واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة : ٢٣١].

٤٤٢

وقرأ الحسن وأبو العالية وأبو عمرو بالتشديد من التمسك (١).

والعصم : جمع عصمة وهي ما يعتصم به. والمراد هنا عصمة عقد النكاح.

والمعنى أن من كانت له امرأة كافرة فليست له بامرأة لانقطاع عصمتها باختلاف الدين.

قال النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر. وكان الكفار يزوجون المسلمين والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك لهذه الآية. وهذا خاص بالكوافر المشركات دون الكوافر من أهل الكتاب ، وقيل : عامة في جميع الكوافر ، مخصصة بإخراج الكتابيات منها.

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إذا أسلم وثنيّ أو كتابيّ لا يفرق بينهما إلا بعد انقضاء العدة.

وقال بعض أهل العلم : يفرق بينهما بمجرد إسلام الزوج ، وهذا إنما هو إن كانت المرأة مدخولا بها ، وأما إذا كانت غير مدخول بها فلا خلاف بين أهل العلم في انقطاع العصمة بينهما بالإسلام ، إذ لا عدة عليها.

(وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) : أي اطلبوا مهور نسائكم اللاحقات بالكفار.

قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدة إلى الكفار من أهل العهد ، يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت : ردوا مهرها على زوجها الكافر.

(ذلِكُمْ) : أي المذكور من إرجاع المهور من الجهتين.

(حُكْمُ اللهِ) ، ورسوله.

(يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠)). قال القرطبي (٢) : وكان هذا مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة ، بإجماع المسلمين.

__________________

(١) قال الأزهري : «والمعنى : أن المرأة إذا ارتدّت عن الإسلام فزالت عصمة النكاح بينها وبين زوجها المؤمن فلا يتبعها الزّوج بعد انبتاتها عنه (معاني القراءات ص ٤٨٧ ، ٤٨٨) بتحقيقنا ـ ط ـ دار الكتب العلمية.

(٢) انظره في «تفسيره» (١٨ / ٦٨).

٤٤٣

ولما نزلت الآية المتقدمة قال المسلمون : رضينا بحكم الله ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا ، فنزل قوله :

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ) : أي مما دفعتم.

(مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي من مهور نسائكم المسلمات. وقيل : المعنى وإن انفلت منكم أحد من نسائكم.

(إِلَى الْكُفَّارِ) : فارتدت المسلمة.

(فَعاقَبْتُمْ) : قال الواحدي ، قال المفسرون : أي فغنمتم.

وقال الزجاج : تأويله وكانت العقبى لكم ، أي كانت الغنيمة لكم حتى غنمتم.

(فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) : من مهر المهاجرة التي تزوجوها ودفعوه إلى الكفار ولا تؤتوه زوجها الكافر.

قال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وهذه الآية منسوخة قد انقطع حكمها بعد الفتح.

وقال قوم : بل محكمة (١).

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)) : أي احذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم ، فإن الإيمان الذي أنتم متصفون به يوجب على صاحبه ذلك.

[الآية الخامسة]

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) : أي قاصدات مبايعتك على الإسلام.

__________________

(١) انظر : الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢ / ٨٨٧) ، والأحكام له (٤ / ٢٧٧٦) ، الطبري (٢٨ / ٤٤ ، ٤٥) ، النكت (٤ / ٢٢٥) ، زاد المسير (٨ / ٢٤١) ، القرطبي (١٨ / ٦٤) ، الناسخ والمنسوخ للنحاس (٢٣٧) ، الإيضاح (٣٧٦) فما بعدهم.

٤٤٤

و (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) : من الأشياء كائنا ما كان ، هذا كان يوم فتح مكة ، فإن نساء أهل مكة أتين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبايعنه فأمره الله أن يأخذ عليهن أن لا يشركن.

(وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) : وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات.

(وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) : أي لا يلحقن بأزواجهن ولدا ليس منهم.

قال الفرّاء : كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هذا ولدي منك ، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن ، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها ، وليس المراد هنا أنها نسيت ولدها من الزنا إلى زوجها ، لأن ذلك قد دخل تحت النهي عن الزنا.

(وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) : أي في كل أمر هو طاعة لله.

قال عطاء : في كل بر وتقوى.

وقال المقاتل : عني بالمعروف النهي عن النوح ، وتمزيق الثياب ، وجز الشعر ، وشق الجيب ، وخمش الوجوه ، والدعاء بالويل.

وكذا قال قتادة وسعيد بن المسيب ومحمد بن السائب وزيد بن أسلم ، ومعنى القرآن أوسع مما قالوه! قيل : ووجه التقييد بالمعروف مع كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يأمر إلا به ، للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق.

(فَبايِعْهُنَ) : هذا جواب إذا ، والمعنى إذا بايعنك على هذه الأمور فبايعهن ، ولم يذكر في بيعتهن الصلاة والزكاة والصيام والحج لوضوح كون هذه الأمور ونحوها من أركان الدين وشعائر الإسلام ، إنما خص الأمور المذكورة لكثرة وقوعها من النساء.

(وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) : أي اطلب من الله المغفرة لهن بعد هذه المبايعة لهن منك.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)) : أي بليغ المغفرة والرحمة لعباده (١).

__________________

(١) انظر في تفسير هذه الآية : الطبري (٢٨ / ٥١) ، النكت (٤ / ٢٢٨) ، زاد المسير (٨ / ٢٤٤) ، القرطبي (١٧ / ٧١) ، الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢ / ٨٨٨).

٤٤٥

سورة الجمعة

إحدى عشرة آية

وهي مدنيّة ، قال القرطبي (١) : في قول الجميع.

[الآية الأولى]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩)).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) : أي وقع النداء : لها ، والمراد به الأذان إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة ، لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نداء سواه.

(مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) : بيان لإذا وتفسير لها.

وقال أبو البقاء : (من) بمعنى في.

(فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) : قال عطاء : يعني الذهاب والمشي إلى الصلاة.

وقال الفراء : المضي ، والسعي ، والذهاب ، في معنى واحد. ويدل على ذلك قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود : (فامضوا إلى ذكر الله).

وقيل : المراد القصد.

قال الحسن : والله ما هو سعي على الأقدام ولكنه قصد بالقلوب والنيات. وقيل : هو العمل كقوله : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الإسراء : ١٩] ، وقوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)) [الليل : ٤] ، وقوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩)) [النجم : ٣٩].

__________________

(١) انظره في «تفسيره» (١٨ / ٩١).

٤٤٦

قال القرطبي (١) : وهذا قول الجمهور.

(وَذَرُوا الْبَيْعَ) : أي اتركوا المعاملة به ، ويلحق به سائر المعاملات.

قال الحسن : إذا أذّن المؤذن يوم الجمعة لم يحل الشراء والبيع.

والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى السعي إلى ذكر الله وترك البيع ، وهو مبتدأ وخبره :

(خَيْرٌ لَكُمْ) لما في الامتثال من الأجر والجزاء ، وفي عدمه من عدم ذلك إذا لم يكن موجبا للعقوبة.

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩)) : أي إن كنتم من أهل العلم ، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلكم خير لكم ، أو فاختاروا ذلك (٢).

__________________

(١) انظره في «تفسيره» : (١٨ / ١٠١).

(٢) انظر : تفسير الطبري (٢٨ / ٦٨) ، وزاد المسير (٨ / ٢٦٧).

٤٤٧

سورة المنافقين

إحدى عشرة آية

وهي مدنيّة ، قال القرطبي (١) : في قول الجميع.

[الآية الأولى]

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)).

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) : أي إذا وصلوا إليك وحضروا مجلسك.

(قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) : أكدوا شهادتهم بأن ، واللام للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم مع خلوص اعتقادهم ، والمراد بالمنافقين : عبد الله بن أبيّ وأصحابه.

ومعنى نشهد : نحلف ، فهو يجري مجرى القسم ، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم.

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) : معترضة مقررة لمضمون ما قبلها ، وهو ما أظهروه من الشهادة وإن كانت بواطنهم على خلاف ذلك.

(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)) : أي في الشهادة التي زعموا أنها من صميم القلب وخلوص الاعتقاد ، لا إلى منطوق كلامهم وهو الشهادة بالرسالة فإنه حق.

والمعنى والله يشهد إنهم لكاذبون فيما تضمنه كلامهم من التأكيد الدال على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد وطمأنينة قلب وموافقة باطن لظاهر (٢).

__________________

(١) انظره في «تفسيره» (١٨ / ١٢٠).

(٢) انظر : الطبري (٢٨ / ٧١) ، زاد المسير (٨ / ٢٧٥) ، والقرطبي (١٨ / ١٢٥) ، اللباب (٢١٤) ، النكت (٤ / ٢٤٢).

٤٤٨

سورة الطلاق

إحدى واثنتا عشرة آية

وهي مدنيّة ، قال القرطبي (١) : في قول الجميع.

[الآية الأولى]

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١)).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) : نادى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولا تشريفا له ثم خاطبه مع أمته ، أو الخطاب له خاصة والجمع للتعظيم ، وأمته أسوته في ذلك. والمعنى إذا أردتم تطليقهن وعزمتم عليه.

(فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) : أي مستقبلات لعدتهن ، أو في قبل عدتهن ، أو لقبل عدتهن ، أو لزمان عدتهن ؛ وهو الطهر.

والمراد أن تطلقوهن في طهر لم يقع فيه جماع ثم يتركن حتى تنقضي عدتهن ؛ فإذا طلقتموهن هكذا فقد طلقتموهن لعدتهن.

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) : أي احفظوها واحفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق حتى تتم العدة وهي ثلاثة قروء ، والخطاب للأزواج ، وقيل : للزوجات ، وقيل : للمسلمين على العموم. والأول أولى لأن الضمائر كلها لهم (٢).

__________________

(١) انظره في «تفسيره» (١٨ / ١٤٧).

(٢) انظر : زاد المسير (٨ / ٢٨٨) ، جامع الأمهات لابن الحاجب (ص ٣١٩) ، مغني المحتاج

٤٤٩

(وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) : فلا تعصوه فيما أمركم ولا تضاروهن.

(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) : أي التي كن فيها عند الطلاق ما دمن في العدة ، وأضاف البيوت إليهن مع كونها لأزواجهن لتأكيد النهي وبيان كمال استحقاقهن للسكنى في مدة العدة ، ومثله : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٤] ، وقوله :

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٣].

ثم لما نهى الأزواج عن إخراجهن من البيوت التي وقع الطلاق وهن فيها ، نهى الزوجات عن الخروج أيضا فقال : (وَلا يَخْرُجْنَ) : أي من تلك البيوت ما دمن في العدة إلا لأمر ضروري ؛ وقيل : المراد لا يخرجن من أنفسهن إلا إذا أذن الأزواج لهن ، فلا بأس ، والأول أولى.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) : فهذا الاستثناء هو من الجملة الأولى ، أي لا تخرجوهن من بيوتهن ، لا من الجملة الثانية.

قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا الزنا ، وذلك أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها.

وقال الشافعي وغيره : هي البذاء في اللسان والاستطالة به على من هو ساكن معها في ذلك البيت.

ويؤيد هذا ما قال عكرمة : إن في مصحف أبيّ : إلّا أن يفحشن عليكم ؛ وقيل : المعنى إلا أن يخرجن تعديا ، فإن خروجهن على هذا الوجه فاحشة ، وهو بعيد.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) : يعني أن هذه الأحكام التي بينها لعباده هي حدوده التي حددها لهم ليس لأحد أن يتجاوزها إلى غيرها.

(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) : أي يتجاوزها إلى غيرها أو يحل شيئا منها.

(فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) : بإيرادها موارد الهلاك وأوقعها في مواقع الضرر ، بعقوبة الله له

__________________

(٣ / ٣٨٤) ، شرح الزركشي على الخرقي (٥ / ٥٣٤ ، ٥٣٥) ، مشكل القرآن للقيسي (٢ / ٣٨٤) ، الكشاف للزمخشري (٤ / ٥٥٧) ، وحاشية الجمل على الجلالين (٤ / ٣٥٩) ، الكافي لابن قدامة (٢ / ٩٢٥) ، المحرر لأبي البركات (٢ / ١٠٣). والروضة الندية (٢ / ٦٩) ، مراتب الإجماع لابن حزم (ص ٨٧).

٤٥٠

على مجاوزته لحدوده وتعديه لرسمه.

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١)) قال القرطبي (١) : قال جميع المفسرين أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة ، والمعنى التحريض على الطلاق الواحدة ، والنهي عن الثلاث. فإنه إذا طلق ثلاثا أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع ، فلا يجد إلى المراجعة سبيلا.

وقال مقاتل : بعد ذلك ، أي بعد طلقة أو طلقتين أمرا بالمراجعة.

قال الواحدي : الأمر الذي يحدث أن يوقع في قلب الرجل المحبة لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين.

قال الزجاج : وإذا طلقها ثلاثا في وقت واحد؟! فلا معنى لقوله : لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.

[الآيتان : الثانية والثالثة]

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣)).

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) : أي قاربن انقضاء أجل العدة.

(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : أي راجعوهن بحسن معاشرة ورغبة فيهن من غير قصد إلى مضارة لهن.

(أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : أي اتركوهنّ حتى تنقضي عدتهنّ ، فيملكن نفوسهن مع بقائهن بما هو لهن عليكم من الحقوق وترك المضارة لهن.

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) : على الرجعة ، وقيل : على الطلاق ، وقيل : عليهما قطعا للتنازع وحسما لمادة الخصومة. والأمر للندب كما في قوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا

__________________

(١) انظر تفسيره (١٨ / ١٥٦ ، ١٥٧).

٤٥١

تَبايَعْتُمْ) [البقرة : ٢٨٢] وقيل : إنه للوجوب. وإليه ذهب الشافعي.

قال : الإشهاد واجب للرجعة مندوب إليه في الفرقة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، وفي قول للشافعي : إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق. وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد.

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) : هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شهدوا به تقربا إلى الله.

وقيل : الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة عند الرجعة فيكون قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أمرا بنفس الإشهاد ، ويكون قوله : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ) ، أمرا بأن تكون خالصة لله (١).

(ذلِكُمْ) : أي ما تقدم من الأمر بالإشهاد وإقامة الشهادة.

(يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ) : وخص المؤمن.

(بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ؛ لأنه المنتفع بذلك دون غيره.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢)) مما وقع فيه من الشدائد والمحن.

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي من وجه لا يخطر بباله ولا يكون في حسابه.

قال الشعبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة ، أي من طلق كما أمر الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة وأنه يكون كأحد الخطاب بعد العدة.

قال الكلبي : ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجا من النار إلى الجنة.

وقال الحسن : مخرجا مما نهى الله عنه.

وقال أبو العالية : مخرجا من كل شيء ضاق على الناس.

وقال الحسين بن الفضل : ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجا من العقوبة ، ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب ، أي يبارك له فيما آتاه.

وقال سهل بن عبد الله : ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجا من عقوبة

__________________

(١) انظر : الأحكام لابن العربي (١٨١٣) ، والناسخ والمنسوخ (٢ / ٣٩١) ، الفرّاء (٣ / ١٦٢) ، المجاز (٢ / ٢٥٩) ، ابن قتيبة (٤٧١) ، الطبري (٢٨ / ٩٣).

٤٥٢

أهل البدع ، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب ، وقيل غير ذلك.

وظاهر الآية العموم ، ولا وجه للتخصيص بنوع خاص ، ويدخل ما فيه السياق دخولا أوليا.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) : أي ومن يثق بالله فيما نابه كفاه ما أهمه.

(إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) : أي بالغ ما يريده من الأمر ، لا يفوته شيء ولا يعجزه مطلوب ، أو نافذ أمره لا يرده شيء.

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣)) : أي تقديرا وتوقيتا أو مقدارا ، فقد جعل الله سبحانه للشدة أجلا تنتهي إليه وللرخاء أجلا ينتهي إليه.

وقال السدي : هو قد الحيض والعدة (١).

[الآية الرابعة]

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤)).

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) : من الكبار اللاتي قد انقطع حيضهن وأيسن منه.

(إِنِ ارْتَبْتُمْ) : أي شككتم وجهلتم كيف عدتهن.

(فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) : لصغرهن وعدم بلوغهن سن المحيض ، أي فعدتهن ثلاثة أشهر أيضا ، وحذف هذا لدلالة ما قبله عليه.

(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) : أي انتهاء عدتهن وضع الحمل ، وظاهر الآية أن عدة الحوامل هي بالوضع سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن ، وقد تقدم الكلام في هذا في سورة البقرة (٢) مستوفى ، وحققنا البحث في هذه الآية وفي الآية الأخرى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً).

__________________

(١) انظر : الفراء (٣ / ١٦٣) ، زاد المسير (٨ / ٢٩٦).

(٢) سورة البقرة : آية (٢٣٣).

٤٥٣

وقيل : معنى (إِنِ ارْتَبْتُمْ) : إن تيقنتم.

ورجح ابن جرير (١) أنه بمعنى الشك ، وهو الظاهر.

قال الزجاج : إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن تحيض مثلها.

وقال مجاهد : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) أي لم تعلموا عدة الآيسة والتي لم تحض ، فالعدة هذه.

وقيل : المعنى إن ارتبتم في الدم الذي يظهر منها هل هو حيض أم لا بل استحاضة ، فالعدة ثلاثة أشهر (٢).

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤)) : أي من يتقيه في امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، يسهل عليه أمره في الدنيا والآخرة.

وقال الضحاك : من يتق الله فيطلق للسّنّة ، يجعل له من أمره يسرا في الرجعة.

وقال مقاتل : من يتق الله في اجتناب معاصيه ، يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة.

[الآيتان : الخامسة والسادسة]

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)).

__________________

(١) انظر : الطبري (٢٨ / ٩٦).

(٢) انظر : كفاية الأخيار (ص ٤٢٤) ، جامع الأمهات (ص ٣١٨ ، ٣١٩) ، شرح الزركشي على الخرقي (٥ / ٥٥٥) ، والإشراف (٤ / ٢٨٢) ، والإجماع لابن المنذر (٤٤٧٠) ، والإفصاح للوزير (٢ / ١٧٤) ، مراتب الإجماع لابن حزم (ص ٨٧) ، مغني المحتاج (٥ / ٣٨٨) ، الروضة للمصنف (٢ / ٦٩).

٤٥٤

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) : هذا بيان ما يجب للنساء من السكنى ، و (من) للتبعيض ، أي بعض مكان سكناكم ، وقيل : زائدة.

(مِنْ وُجْدِكُمْ) : أي من سعتكم وطاقتكم.

والوجد : القدرة.

قال الفراء : يقول على من يجد ، فإن كان موسعا وسع عليها في المسكن والنفقة ، وإن كان فقيرا فعلى قدر ذلك.

قال قتادة : إن لم تجد إلا ناحية بيتك فأسكنها فيه.

وقد اختلف أهل العلم في المطلّقة ثلاثا هل لها سكنى ونفقة أم لا؟

فذهب مالك والشافعي إلى أن لها السكنى ولا نفقة لها.

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن لها النفقة والسكنى.

وذهب أحمد وإسحق وأبو ثور إلى أنه لا نفقة لها ولا سكنى ، وهذا هو الحق.

وقد قرره الشوكاني في «شرحه للمنتقى» (١) بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.

(وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) : في المسكن والنفقة.

وقال مجاهد : في المسكن.

وقال مقاتل : في النفقة.

وقال أبو الضحى : هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) : أي إلى غاية هي وضعهن للحمل. ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة.

فأما الحامل المتوفى عنها زوجها ، فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان وأصحابه : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.

وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة

__________________

(١) حقا ما قاله المصنف وانظر : نيل الأوطار (٧ / ١٠٥ ، ١٠٨).

٤٥٥

وأصحابه : لا ينفق عليها إلا من نصيبها ، وهذا هو الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة.

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) : أولادكم بعد ذلك.

(فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي أجور إرضاعهن. والمعنى أن المطلقات إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلّقين لهن منهن ، فلهن أجورهن على ذلك.

(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) : هو خطاب للأزواج والزوجات ، أي تشاوروا بينكم بمعروف غير منكر ، وليقبل بعضكم من بعض المعروف والجميل.

وأصل معناه : ليأمر بعضكم بعضا بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم.

قال مقاتل : المعنى ليتراض الأب والأم على أجر مسمى. قيل : فالمعروف الجميل من الزوج أن يوفر لها الأجر ، والمعروف الجميل منها أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من [الأجر] (١).

(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) : أي في أجر الرضاع ، فأبى الزوج أن يعطي الأم الأجر وأبت الأم أن ترضعه إلا بما تريد من الأجر.

(فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦)) : أي يستأجر مرضعة أخرى ترضع ولده ، ولا يجب عليه أن يسلم بما تطلبه الزوجة ، ولا يجوز له أن يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر.

قال الضحاك : إن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى ، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر.

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) : فيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من نسائهم على قدر سعتهم.

(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) : أي كان رزقه بمقدار القوت أو مضيقا ليس بموسع.

(فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) : أي مما أعطاه من الرزق ليس عليه غير ذلك.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) : أي ما أعطاها من الرزق ، فلا يكلف الفقير بأن ينفق ما ليس في وسعه ، بل عليه ما يقدر عليه وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق.

(سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)) : أي بعد ضيق وشدة سعة وغنى (٢).

__________________

(١) وقع في «المطبوعة» (الأب) وهو خطأ صوبناه من فتح القدير (٥ / ٢٤٥).

(٢) انظر : تفسير القرطبي (١٨ / ١٦٩).

٤٥٦

سورة التحريم

اثنتا عشرة آية

وهي مدنيّة ، قال القرطبي (١) : في قول الجميع.

وتسمى سورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[الآيتان : الأولى والثانية]

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢)).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) : اختلف في سبب نزول الآية على أقوال :

الأول : قول أكثر المفسرين ، قال الواحدي : قال المفسرون : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيت حفصة فزارت أباها ، فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم تدخل حتى خرجت مارية ، ثم دخلت. فلما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها : «لا تخبري عائشة ولك عليّ أن لا أقربها أبدا» ؛ فأخبرت حفصة عائشة ـ وكانتا متصافيتين ـ فغضبت عائشة ، ولم تزل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى حلف أن لا يقرب ماريّة ، فأنزل الله هذه السورة (٢).

__________________

(١) انظر : تفسيره (١٨ / ١٧٧).

(٢) ضعيف : رواه ابن جرير (٢٨ / ١٠٧) ، والطبراني في «الأوسط» (٧ / ١٢٦ ، ١٢٧ مجمع) ، والدارقطني (٢ / ٤١ ، ٤٢) ، عن ابن عباس ، وعمر وأبي هريرة. وأورده السيوطي في «الدر» (٨ / ٢١٤ ، ٢١٥ ، ٢١٦). وقال الحافظ (٨ / ٦٥٧) : «وهذه طرق يقوي بعضها بعضا ، فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا» ...

٤٥٧

قال القرطبي (١) : أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة وذكر القصة.

وقيل : السبب أنه كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، فتواطأت عائشة وحفصة أن يقولا له إذا دخل عليهما : إنا نجد منك ريح مغافير (٢).

وقيل : السبب المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسنده ضعيف (٣).

والجمع ممكن بوقوع القصتين : قصة العسل وقصة مارية ، وأن القرآن نزل فيهما جميعا.

(تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) : ومرضاة اسم مصدر وهو الرضا.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١)) : لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك.

قيل : وكان ذلك ذنبا من الصغائر ، فلذا عاتبه الله عليه ، وقيل : إنها معاتبة على ترك الأولى.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) : أي شرع لكم تحليلها وبين لكم ذلك ، فكان اليمين عقد والكفارة حل ، لأنها تحل للحالف ما حرمه على نفسه.

قال مقاتل : المعنى قد بين الله كفارة أيمانكم في سورة المائدة ، أمر الله نبيه أن يكفر يمينه ويراجع وليدته فأعتق رقبة.

قال الزجاج : وليس لأحد أن يحرم ما أحل الله.

قلت : وهذا هو الحق ، إن تحريم ما أحل الله لا ينعقد ولا يلزم صاحبه ، فالتحليل والتحريم هو إلى الله سبحانه لا إلى غيره ، ومعاتبته نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه السورة أبلغ دليل على ذلك ، والبحث طويل والمذاهب فيه كثيرة والمقالات فيه طويلة ، وقد حققه الشوكاني رحمه‌الله تعالى في مؤلفاته بما يشفي.

واختلف العلماء هل مجرد التحريم يمين يوجب الكفارة أم لا؟ وفي ذلك خلاف ؛ وليس في الآية ما يدل على أنه يمين ؛ لأن الله سبحانه عاتبه على تحريم ما أحله الله له ،

__________________

(١) انظره في «تفسيره» (١٨ / ١٧٧ ، ١٧٩).

(٢) المغافير : بقلة متغيرة الرائحة.

(٣) أورده السيوطي في «الدر» (٨ / ٢١٧) ، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا.

وضعّفه القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٧٩).

٤٥٨

ثم قال : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) ، وقد ورد في القصة التي ذهب أكثر المفسرين إلى أنها هي سبب نزول الآية (١) أنه حرم أولا ، ثم حلف ثانيا كما قدمنا.

(وَاللهُ مَوْلاكُمْ) : أي وليكم وناصركم والمتولي لأموركم.

(وَهُوَ الْعَلِيمُ) : بما فيه صلاحكم وفلاحكم.

(الْحَكِيمُ (٢)) : في أقواله وأفعاله (٢).

__________________

(١) حديث صحيح : رواه البخاري (١١ / ٢٩٣) ، (١٤ / ٣٨٥) ، ومسلم (١٠ / ٧٥) ، وأبو داود (٣ / ٣٨٦) ، والنسائي (٦ / ١٢٣) ، (٧ / ١٣) ، وابن سعد في «طبقاته» (٨ / ٧٦ ق ١) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٢٧٦) ، عن عائشة مرفوعا مختصرا وتاما.

ورواه النسائي كما في «تفسير ابن كثير (٤ / ٣٨٦) ، والحاكم في «المستدرك» (٢ / ٤٩٣) وصححه وأقرّه الذهبي عن أنس مرفوعا.

وصححه الحافظ في «الفتح» (١١ / ٣٩٢).

(٢) انظر في تفسير هذه الآية : الفرّاء (٣ / ١٦٥) ، النكت (٤ / ٢٦٠) ، زاد المسير (٨ / ٣٠٢) ، القرطبي (١٨ / ١٧٧ ، ١٨٤) ، ابن كثير (٤ / ٣٨٦) ، اللباب (٢١٧) ، ابن قتيبة (٤٧٢).

٤٥٩

سورة نوح

تسع وعشرون أو ثمان وعشرون آية

مكيّة ، قاله عبد الله بن [عباس] (١) وأخرجه عنه ابن [الضريس] (٢) والنحاس وابن مردويه.

[الآيات : الأولى والثانية والثالثة]

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢)).

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠)) : أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص النية ، إنه كثير المغفرة للمذنبين ، وقيل : معنى استغفروا : توبوا عن الكفر إنه كان غفارا للتائبين عنه (٣).

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١)) : المراد بالسماء : المطر.

والمدرار الدّرور : وهو التحلب بالمطر ، أي إرسالا مدرارا.

وفي هذه الآية دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر وحصول أنواع الأرزاق ، ولهذا قال :

(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢)) : جارية.

__________________

(١) حرّفت في «المطبوعة» إلى (عبد الله بن الزبير) وهو خطأ ، وما أثبتت هو الصواب كما في «الدر المنثور» (٨ / ٢٨٨) ، وفتح القدير (٥ / ٢٩٦).

(٢) صحّفت إلى (الفريس) وهو خطأ واضح والتصويب أيضا من فتح القدير (٥ / ٢٩٦).

(٣) انظر : الطبري (٢٩ / ٥٧) ، والنكت (٤ / ٣٠٩) ، زاد المسير (٨ / ٣٦٨) ، القرطبي (١٨ / ٢٩٩).

٤٦٠