نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

تركه كالنساء والصبيان (١) ، ومن يؤخذ منه الجزية (٢). وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة.

وقيل : إن هذه الآية ناسخة لقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] ، روي ذلك عن عطاء وغيره.

وقال كثير من العلماء : إن الآية محكمة وإن الإمام مخير بين القتل والأسر ، وبعد الأسر مخير بين المن والفداء. وبه قال مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيد وغيرهم ؛ وهذا هو الراجح ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك (٣).

وقال سعيد بن جبير : لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال : ٦٧] ، فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره (٤).

[الآية الثانية]

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥)).

(فَلا تَهِنُوا) : أي لا تضعفوا عن القتال.

__________________

(١) دلّ على ذلك ما أخرجه البخاري (٦ / ١٤٨) ، ومسلم (١٢ / ٤٨) عن ابن عمر قوله مرفوعا : «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان».

(٢) دلّ على ذلك قوله عزوجل : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)) [التوبة : ٢٩].

(٣) قال القاضي محمد بن العربي رحمه‌الله : «والآية محكمة ليس للنسخ فيها طريق ، لا من آيات القتال ولا من غيرها ، لأن النسخ كما بينا إنما يكون بشروط منها المعارضة ومنها معرفة التاريخ ، ولا تاريخ هاهنا يعلم ، ولا معارضة بين الآيتين ، لأن آيات القتال هي معنى قوله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) فأمر بالقتال ثم قال : (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) ثم منوا بعد ذلك عليهم أو فادوهم ، وقد منّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ثمامة بن أثال وأطلقه ، وقال في أسارى بدر : «لو كان المطعم بن عدي حيّا وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» والإمام مخير في الأسرى بين خمسة أشياء : إما القتل أو المنّ أو الفداء أو الرّق أو إقرارهم على الجزية ، وبه قال جماعة.

روى أبو حنيفة الإمام لا يمن إلا من جهة الآية ، ولكن زعم أن في المنّ إتلاف حق الغانمين ، وهذا يبطل بالقتل ، فإن له أن يقتل جميعهم وفي ذلك إتلاف حقهم ، ويبطل أيضا بما قدمناه من الأدلة والله أعلم. (الناسخ والمنسوخ ٢ / ٨٧٢ ، ٨٧٣). والأحكام (٤ / ١٦٨٨).

(٤) ذكر قول سعيد بن جبير القرطبي في «تفسيره» (١٦ / ٢٢٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦). بنحوه.

٤٢١

والوهن : الضعف.

(وَ) لا (تَدْعُوا) : أي الكفار.

(إِلَى السَّلْمِ) : أي الصلح ، ابتداء منكم ؛ فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف.

قال الزجاج : منع الله المسلمين المؤمنين أن يدعوا الكفار إلى الصلح وأمرهم بحربهم حتى يسلموا (١).

واختلف أهل العلم في هذه الآية : هل هي محكمة؟ أو منسوخة؟ فقيل : إنها محكمة وناسخة لقوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١]. وقيل : منسوخة بهذه الآية. ولا يخفى عليك أن لا مقتضى للقول بالنسخ ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية أن يدعوا إلى السّلم ابتداء ولم ينه عن قبول السّلم إذا جنح إليها المشركون ، فالآيتان محكمتان ولم تتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص (٢).

وجملة : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) : مقررة لما قبلها من النهي ، أي وأنتم الغالبون بالسيف والحجة.

قال الكلبي : أي آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات.

وكذا قوله : (وَاللهُ مَعَكُمْ) : أي بالنصر والمعونة عليهم.

__________________

(١) انظر : معاني القرآن للنحاس (٦ / ٤٨٦) ، والمجاز لأبي عبيدة (٢ / ٢١٦) ، وغريب ابن قتيبة (٤١١) ، وزاد المسير (٧ / ٤١٤) ، وتفسير القرطبي (١٦ / ٢٥٦).

(٢) انظر في ذلك : زاد المسير (٧ / ٤١٤) ، القرطبي (١٦ / ٢٥٦).

٤٢٢

سورة الفتح

تسع وعشرون آية

كلها مدنيّة بالإجماع ، قاله القرطبي (١).

وقال مروان ومسوّر بن مخرمة : نزلت بين مكة والمدينة في شأن الحديبية ؛ وهذا لا ينافي الإجماع ، لأن المراد بالسّور المدنية ؛ السّور النازلة بعد الهجرة من مكة.

[الآية الأولى]

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥)).

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) : يعني المستضعفين ممن آمن بمكة.

ومعنى : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) : لم تعرفوهم. وقيل لم تعلموا أنهم مؤمنون.

(أَنْ تَطَؤُهُمْ) : بالقتل والإيقاع بهم ، يقال : وطئت القوم أي أوقعت بهم. وذلك أنهم لو أخذوا مكة عنوة بالسيف لم يتميز المؤمنون الذين هم فيها من الكفار ، وعند ذلك لا يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين فتلزمهم الكفارة وتلحقهم سبة.

وهو معنى قوله : (فَتُصِيبَكُمْ) ، أي من جهتهم.

(مَعَرَّةٌ) : أي مشقة بما يلزمكم في قتلهم من كفارة وعيب.

__________________

(١) ينظر : صحيح مسلم (١٧٨٦) ، (٣ / ١٤١٣) ، والطبري (٢٦ / ٤٣) ، والنكت (٤ / ٥٦) ، وزاد المسير (٧ / ٤١٨) ، والقرطبي (١٦ / ٢٦٠) ، ابن كثير (٤ / ١٨٢) ، الدر المنثور (٦ / ٦٧) ، اللباب (١٩٣).

٤٢٣

وأصل المعرة : العيب ، مأخوذة من العر وهو الحرب. وذلك أن المشركين سيقولون إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم.

قال الزجاج : معرة أي إثم ، وكذا قال الجوهري ـ وبه قال ابن زيد ـ.

وقال الكلبي ومقاتل وغيرهما : المعرة كفارة قتل الخطأ.

وقال ابن إسحق : المعرة غرم الدية.

وقال قطرب : المعرة الشدة ، وقيل : الغم.

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) متعلق بأن تطئوهم أي غير عالمين. وجواب لو لا محذوف أي لإذن الله عزوجل لكم ، أو لما كف أيديكم عنهم (١).

__________________

(١) انظر في تفسير هذه الآية : تذكرة الأريب (٢ / ١٦٦) ، البحر المحيط (٨ / ٩٧) ، والفرّاء (٣ / ٦٧).

٤٢٤

سورة الحجرات

ثمان عشرة آية

وهي مدنية ، قال القرطبي : بالإجماع (١).

[الآية الأولى]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) : من التبيين.

وقرأ حمزة والكسائي من التثبيت فتثبتوا. والمراد من التبيين التعرف والتفحص ، ومن التثبيت الأناة وعدم العجلة والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر (٢).

قال المفسرون : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط (٣).

كراهة (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) : أو لئلا تصيبوا ، لأن الخطأ ممن لم يتبين الأمر ولم يتثبت فيه هو الغالب وهو جهالة ، لأنه لم يصدر عن علم.

والمعنى متلبسين بجهالة بحالهم.

(فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ) : بهم من إصابتهم بالخطأ.

(نادِمِينَ (٦)) : على ذلك مغتمين له مهتمين به.

__________________

(١) انظره في «تفسيره» (١٦ / ٣٠٠).

(٢) انظر القرطبي (١٦ / ٣٠٧).

(٣) انظر : مسند أحمد (٤ / ٢٧٩) ، والطبراني في «الكبير» (٣ / ٢٧٤ ، ٢٧٥) ، (٣٣٩٥) ، والدر للسيوطي (٧ / ٥٥٥ ، ٥٥٦) ، الفتح الرّباني (١٨ / ٢٨٢) ، الطبري (٢٦ / ٧٨) ، زاد المسير (٧ / ٤٦٠) ، اللباب (١٩٦) ، القرطبي (١٦ / ٣١١).

٤٢٥

[الآية الثانية]

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)).

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) : باعتبار كل فرد من أفراد الطائفتين.

(فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) : أي إذا تقاتل فريقان من المسلمين فعلى المسلمين أن يسعوا في الصلح بينهم ويدعوهم إلى حكم الله.

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) : أي فإن حصل بعد ذلك التعدي من إحدى الطائفتين على الأخرى ولم تقبل الصلح ولا دخلت فيه ، كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية ، حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه ؛ فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه ، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ويتحروا في الصواب المطابق لحكم الله ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة ، حتى تخرج من الظلم وتؤدي ما يجب عليها للأخرى.

ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين فقال :

(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)) أي واعدلوا إن الله يحب العادلين ، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء.

وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في هذا المرام في شرحه «نيل الأوطار للمنتقى» (١) ، وبسطنا الكلام على أحكام البغي والبغاة في شرحنا «مسك الختام لبلوغ المرام» فليرجع إليهما.

__________________

(١) انظر : نيل الأوطار (٧ / ٣٣٨ فيما بعدها).

٤٢٦

سورة النجم

إحدى وستون ؛ وقيل : اثنتان وستون آية

مكية جميعها ، في قول الجمهور (١).

وروي عن ابن عباس : إلا آية منها ، وهي قوله : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم : ٣٢] الآية.

[الآية الأولى]

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (٣٩)).

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ٣٩) : أي ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله ، ولا ينفع أحدا عمل أحد.

وهذا العموم مخصوص مثل قوله سبحانه : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور : ٢١] ، وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء والملائكة للعباد (٢) ، ومشروعية دعاء الأحياء للأموات وتصدقهم عنهم ونحو ذلك (٣).

ولم يصب من قال : إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور فإن الخاص لا ينسخ العام بل يخصصه ، فكلما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به ـ وهو من غير سعيه ـ كان مخصصا لما في هذه الآية من العموم (٤).

__________________

(١) انظر : الفراء (٣ / ٩٤) ، الطبري (٢٧ / ٢٤) ، النكت (٤ / ١١٨) ، زاد المسير (٨ / ٦٢) ، القرطبي (١٧ / ٨٢) ، ابن كثير (٤ / ٢٤٦) ، الدر المنثور (٦ / ١٢١).

(٢) صحيح : ما رواه مسلم (٣ / ٢٥ ، ٣٤) ، (١٨٣) عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.

(٣) انظر في ذلك : نيل الأوطار (٤ / ١٤٢).

(٤) انظر : الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢ / ٨٧٨ ، ٨٧٩) ، والأحكام له (٤ / ١٧١٩).

٤٢٧

سورة الواقعة

سبع أو ست وتسعون آية

وهي كلها مكية ، في قول جماعة من العلماء كالحسن وعكرمة وجابر وعطاء.

قال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها نزلت بالمدينة ، وهي قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)) [الواقعة : ٨٢] (١).

[الآية الأولى]

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)).

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩)) : قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الكتاب المكنون.

والمطهرون : هم الملائكة. وقيل : هم الملائكة والرسل من بني آدم.

ومعنى لا يمسه : المسّ الحقيقي. وقيل : المعنى لا ينزل به إلا المطهرون. وقيل :

المعنى لا يقرؤه. وعلى كون المراد بالكتاب المكنون هو القرآن ، فقيل : لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس ، كذا قال قتادة وغيره (٢).

وقال الكلبي : المطهرون من الشرك.

وقال الربيع بن أنس : المطهرون من الذنوب والخطايا.

وقال محمد بن الفضل وغيره : معنى الآية لا يقرؤه إلا الموحدون.

وقال الحسين بن الفضل : لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق (٣).

__________________

(١) انظر : الطبري (٢٧ / ٩٦) ، وزاد المسير (٨ / ١٣١).

(٢) انظر : الفراء (٣ / ١٢٩) ، الطبري (٢٧ / ١١٨) والنكت والعيون (٤ / ١٧٨) ، وزاد المسير (٨ / ١٥١) ، القرطبي (١٧ / ٣٢٥) ، وابن كثير (٤ / ٢٩٨).

(٣) انظر : زاد المسير (٨ / ١٥١ ، ١٥٢) ، القرطبي (٧ / ٢٢٥).

٤٢٨

وقد ذهب الجمهور إلى منع المحدث من مس المصحف ، وبه قال علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وابن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي.

وروي عن ابن عباس والشعبي وجماعة منهم أبو حنيفة : ويجوز للمحدث مسه (١).

وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في «شرحه للمنتقى» فليرجع إليه (٢).

__________________

(١) انظر : سبل السلام (١ / ٧٠) ، جامع الأمهات (ص ٥٩) كفاية الأخيار (ص ٧٨) ، شرح العبادات لليعقوبي (ص ١٢٦).

(٢) انظر : نيل الأوطار (١ / ٢٦٠ ، ٢٦٢ ، ٢٨٣ ، ٢٨٥).

٤٢٩

سورة الحديد

تسع وعشرون آية

كلها مدنية. قال القرطبي : في قول الجميع (١).

[الآية الأولى]

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)).

(وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً) : الذين اتبعوه هم. الحواريون ، جعل الله في قلوبهم مودة لبعضهم البعض.

(وَرَحْمَةً) : يتراحمون بها بخلاف اليهود فإنهم ليسوا كذلك.

أصل الرأفة : اللين.

والرحمة : الشفقة.

وقيل : الرأفة : أشد الرحمة.

(وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) : أي ابتدعوا رهبانية. ورجحه أبو علي الفارسي على العطف على ما قبلها.

والرهبانية : بفتح الراء وضمها ، وهي بالفتح الخوف من الرهب ، وبالضم منسوبة إلى الرهبان ؛ وذلك لأنهم غلوا في العبادة وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من

__________________

(١) انظره في «تفسيره» (١٧ / ٢٣٥).

٤٣٠

المطعم والمشرب والمنكح ، وتعلقوا بالكهوف والصوامع ، لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا. ذكر معناه قتادة والضحاك وغيرهما.

(ما كَتَبْناها) : أي ما فرضناها.

(عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ) : استثناء منقطع ، أي ما كتبناها عليهم رأسا ولكن ابتدعوها ابتغاء.

(رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها) أي هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم.

(حَقَّ رِعايَتِها) ، بل ضيعوها وكفروا بدين عيسى ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا وتركوا الترهب ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم وهم المرادون بقوله :

(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) الذي يستحقونه بالإيمان ، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما بعثه الله.

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧)) : خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به (١).

__________________

(١) انظر : الطبري (٢٧ / ١٣٨) ، زاد المسير (٨ / ١٧٦) ، القرطبي (٧ / ٢٦٣) ، والبحر المحيط (٨ / ٢٢٨).

٤٣١

سورة المجادلة

اثنتان وعشرون آية

وهي مدنية ، قاله القرطبي (١) : في قول الجميع ، إلا رواية عن عطاء : أن العشر الأول منها مدنية.

[الآيتان : الأولى والثانية]

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)).

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) : بأن يقول الزوج لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ؛ كذا قال ابن عباس.

فالمعنى والذين يقولون ذلك القول المنكر الزور.

(ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) : بالتدارك والتلافي ، كما في قوله : (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) [النور : ١٧] ، أي إلى مثله.

قال الأخفش : لما قالوا وإلى ما قالوا يتعاقبان. قال : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣] ، وقال : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣)) [الصافات : ٢٣] ، وقال : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥)) [الزلزلة : ٥] ، وقال : (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ) [هود : ٣٦].

وقال الفراء : اللام بمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء.

وقال الزجاج : المعنى يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا.

__________________

(١) انظره في «تفسيره» (١٧ / ٢٦٩).

٤٣٢

قال الأخفش أيضا : الآية فيها تقديم وتأخير ، والمعنى والذين يظاهرون من نسائهم ، ثم يعودون لما كانوا عليه من الجماع.

(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ، لما قالوا. أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا.

واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال :

الأول : أنه العزم على الوطء ، وبه قال العراقيون : أبو حنيفة وأصحابه ، وروي عن مالك.

وقيل : هو الوطء نفسه ، وبه قال الحسن. وروي أيضا عن مالك ، وهو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق ، وبه قال الشافعي.

وقيل : هو الكفارة ، والمعنى أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة ، وبه قال الليث بن سعد وروي عن أبي حنيفة.

وقيل : هو تكرير الظهار بلفظه ، وبه قال أهل الظاهر.

والظاهر أنها تجزىء أي رقبة كانت.

وقيل : يشترط أن تكون مؤمنة ، كالرقبة في كفارة القتل. وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه ، وبالثاني قال مالك والشافعي واشترطا سلامتها من كل عيب.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) المراد بالتماس : هنا الجماع ، وبه قال الجمهور ، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفّر.

وقيل : المراد به الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة ، وبه قال مالك ، وهو أحد قولي الشافعي.

والإشارة بقوله : (ذلِكُمْ) إلى الحكم المذكور ، وهو مبتدأ وخبره :

(تُوعَظُونَ) : أي تؤمرون (بِهِ) أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار. وفيه بيان لما هو المقصود من شرع الكفارة.

قال الزجاج : المعنى ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به ، أي أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣)) : لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فهو مجازيكم عليها.

٤٣٣

ثم ذكر سبحانه حكم العاجز عن الكفارة ، فقال : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فمن لم يجد الرقبة في ملكه ولم يتمكن من قيمتها ، فعليه صيام شهرين متواليين ؛ لا يفطر فيهما ، فإن أفطر يستأنف إن كان الإفطار لغير عذر ، وإن كان لعذر من سفر أو مرض ، فقال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر بن دينار والشعبي والشافعي ومالك : يبني ولا يستأنف.

وقال أبو حنيفة : إنه يستأنف ، وهو مروي عن الشافعي. فلو وطئ ليلا أو نهارا عمدا أو خطأ استأنف ، وبه قال أبو حنيفة ومالك.

وقال الشافعي : لا يستأنف إذا وطئ ليلا لأنه ليس محلا للصوم. والأول أولى.

(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) لكل مسكين مدّان ، وهما نصف صاع. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.

وقال الشافعي وغيره : لكل مسكين مد واحد. والظاهر من الآية أنه يطعمهم حتى يشبعوا مرة واحدة ، أو يدفع إليهم ما يشبعهم ، ولا يلزمه أن يجمعهم مرة واحدة ، بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم وبعضهم في يوم آخر.

والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما تقدم من الأحكام ، وهو مبتدأ وخبره مقدر ، أي ذلك واقع.

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : أي لتصدقوا أن الله أمر به وشرعه ، أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي وتقفوا عند حدود الشرع ، ولا تعتدوها ولا تعودا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور.

والإشارة بقوله : (وَتِلْكَ) إلى الأحكام المذكورة ، وهو مبتدأ وخبره :

(حُدُودُ اللهِ) : فلا تجاوزوا حدوده التي حدها لكم ، فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية ، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة.

(وَلِلْكافِرِينَ) : الذين لا يقفون عند حدود الله ولا يعملون بما حده الله لعباده وسماه كفرا تغليظا وتشديدا.

(عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)) : هو عذاب جهنم (١).

__________________

(١) انظر في تفسير هذه الآية وأقوال أهل العلم فيها : الأحكام لابن العربي (٤ / ١٧٣٤ إلى ١٧٤٦) ، والناسخ والمنسوخ (٢ / ٨٨١) ، مراتب الإجماع لابن حزم (ص ٩٣) الروضة الندية للمصنف

٤٣٤

سورة الحشر

وهي مدنيّة.

قال القرطبي (١) : في قول الجميع.

[الآية الأولى]

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)).

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)) قال مجاهد : إن بعض المهاجرين وقعوا في قطع النخل ، فنهاهم بعضهم وقالوا : إنما هي مغانم للمسلمين. وقال الذين قطعوا : بل هو غيظ للعدو ، فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطع النخيل وتحليل من قطعه من الإثم.

واختلف المفسرون في تفسير اللينة؟

فقال الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل : إنها النخل كله إلا العجوة.

وقال الثوري : هي كرام النخل.

وقال أبو عبيدة : إنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني.

وقال جعفر بن محمد : إنها العجوة خاصة. وقيل : هي ضرب من النخل.

__________________

(٢ / ٦٥ ، ٦٧) ، كفاية الأخيار للحصني (٤١٣ ، ٤١٨) ، جامع الأمهات لابن الحاجب (٣٠٨ ، ٣١٣) ، مغني المحتاج للشربيني (٣ / ٣٥٢ ، ٣٥٨) ، شرح الزركشي لمختصر الخرقي (٥ / ٤٧٨ ، ٤٨٥) ، الروض المربع للبهوتي (٢ / ٣١٠ ، ٣١٢).

(١) تفسير القرطبي (١٧ / ٢٦٩) ، ابن كثير (٤ / ٣١٨) ، الطبري (٢٨ / ٢) ، النكت (٤ / ١٩٨) ، زاد المسير (٨ / ١٨٠) ، اللباب (٢٠٦) ، الدر المنثور (٦ / ١٧٩).

٤٣٥

وقال الأصمعي : هي الدقل ، وأصل اللينة لونة فقلبت الواو الساكنة ياء لانكسار ما قبلها ، وجمع اللينة لين ، وقيل : ليان.

وقد استدل بالآية على أن حصون الكفار وديارهم لا بأس بأن تهدم وتحرق وترمى بالمجانيق ، وكذلك قطع أشجارهم ونحوها.

وكذا استدل بها على جواز الاجتهاد ، وعلى تصويب المجتهدين ، والبحث مستوفى في كتب الأصول.

[الآية الثانية]

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)).

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) : أي ما رده عليه من أموال الكفار ، والضمير عائد إلى بني النضير.

(فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) يقال : وجف البعير يجف وجفا : وهو سرعة السير ، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع.

والركاب : ما يركب من الإبل خاصة.

والمعنى لم تركبوا لتحصيله خيلا ولا إبلا ولا تجشمتم لها مشقة ولا لقيتم به حربا ، وإنما كانت من المدينة على ميلين ، فجعلها الله سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبارك وسلم خاصة ، فإنه افتتحها صلحا وأخذ أموالها ، وقد كان يسأله المسلمون أن يقسم لهم فنزلت الآية.

(وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) : من أعدائه ، وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أصحابه ، لكونهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ، بل مشوا إليها مشيا ولم يقاسوا فيها شيئا من شدائد الحروب.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)) ، يسلط من يشاء على من أراد ، ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)) [الأنبياء : ٢٣].

٤٣٦

[الآية الثالثة]

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧)) :

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ) : هذا بيان لمصارف الفيء بعد بيان أنه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة ، والتكرير لقصد التقرير والتأكيد.

ووضع (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) ، موضع قوله : (مِنْهُمْ) للإشعار بأن هذا الحكم لا يختص ببني النضير وحدهم ، بل هو حكم على كل قرية يفتحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلحا ، ولم يوجف عليها المسلمون بخيل ولا ركاب.

والمراد بالقرى بنو النضير وقريظة وفدك وخيبر.

وقد تكلم أهل العلم في هذه الآية والتي قبلها : هل معناهما متفق أو مختلف؟ فقيل : معناهما متفق كما ذكرنا ، وقيل : مختلف. وفي ذلك كلام لأهل العلم طويل.

قال ابن العربي : لا إشكال في أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات :

أما الآية الأولى وهي قوله : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) فهي خاصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خالصة له وهي أموال بني النضير وما كان مثلها.

وأما الآية الثانية وهي : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) فهذا كلام مبتدأ غير الأول المستحق غير الأول ، وإن اشتركت هي والأولى في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاءه الله على رسوله ، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال ، واقتضت آية الأنفال وهي الآية الثالثة أنه حاصل بقتال ، [وعريت] (١) الآية الثانية وهي : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) عن ذكر حصوله بقتال أو بغير قتال ، فنشأ الخلاف من هاهنا :

فطائفة قالت : هي ملحقة بالأولى وهي مال الصلح.

__________________

(١) وقع في «المطبوعة» (وأعربت) وهو خطأ واضح ، والتصويب من فتح القدير (٥ / ٩٨).

٤٣٧

وطائفة قالت : هي ملحقة بالثالثة وهي آية الأنفال ، والذين قالوا إنها ملحقة باية الأنفال اختلفوا هل هي منسوخة؟ أو محكمة؟ هذا أصل كلامه.

وقال مالك : إن الآية الأولى من هذه السورة خاصة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والآية الثانية هي في بني قريظة ، يعني أن معناها يعود إلى آية الأنفال.

ومذهب الشافعي أن سبيل خمس الفيء سبيل خمس الغنيمة ، وأن أربعة أخماسه كانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي بعده لمصالح المسلمين.

(فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) : المراد بقوله : (فَلِلَّهِ) أنه يحكم فيه بما يشاء ، وللرسول ويكون ملكا له ، ولذي القربى ، وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، لأنهم قد منعوا من الصدقة فجعل لهم حقا في الفيء ، قيل : تكون القسمة في هذا المال على أن تكون أربعة أخماسه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخمسه يقسم أخماسا للرسول خمس ولكل صنف من الأصناف الأربعة المذكورة خمس. وقيل : يقسم أسداسا ، السادس سهم الله سبحانه ، ويصرف إلى وجوه القرب ، كعمارة المساجد ونحو ذلك.

(كَيْ لا يَكُونَ) : أي الفيء.

(دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) دون الفقراء.

والدولة : اسم للشيء يتداوله القوم بينهم ؛ يكون لهذا مرة ولهذا مرة.

قال مقاتل : المعنى أنه يغلب الأغنياء الفقراء فيقسمونه بينهم ؛ ثم لما بين لهم سبحانه مصارف هذا المال أمرهم بالاقتداء برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال :

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) : أي ما أعطاكم من مال الغنيمة.

(فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) : أي عن أخذه.

(فَانْتَهُوا) عنه ولا تأخذوه.

قال الحسن والسدي : ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه ، وما منعكم منه فلا تطلبوه.

وقال ابن جريج : ما أتاكم من طاعتي فافعلوا وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه.

٤٣٨

والحق أن هذه الآية عامة في كل شيء يأتي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمر أو نهي أو قول أو فعل ، وإن كان السبب خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وكل شيء أتانا به من الشرع فقد أعطانا إياه وأوصله إلينا ، وما أنفع هذه الآية وأكثر فائدتها (١).

ثم لما أمرهم بأخذ ما أمرهم بأخذه الرسول وترك ما نهاهم عنه أمرهم بتقواه وخوفهم شدة عقوبته فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ) فهو معاقب لمن لم يأخذ ما آتاه الرسول ولم يترك ما نهاه عنه.

__________________

(١) انظر : الأحكام لابن العربي (٤ / ١٧٦٠) ، والناسخ والمنسوخ (٢ / ٨٨٤) ، زاد المسير (٨ / ٢٠٩) ، المجاز لأبي عبيدة (٢ / ٢٥٦) ، الطبري (٢٨ / ٢٤) ، النكت (٤ / ٢١٠) ، القرطبي (١٨ / ١٠) ، الفراء (٣ / ١٤٤) ، والروضة الندية للمصنف (٢ / ٣٤٢) ، فتح القدير (٥ / ٩٨).

٤٣٩

سورة الممتحنة

ثلاث عشرة آية

وهي مدنيّة ، قال القرطبي : في قول الجميع (١).

[الآيتان : الأولى والثانية]

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)).

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) : بدل من الموصول بدل اشتمال.

(وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) : يقال أقسط إلى الرجل إذا عاملته بالعدل.

قال الزجاج : المعنى وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)) : أي العادلين. ومعنى الآية أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال ، وعلى أن لا يظاهروا الكفار عليهم ، ولا ينهى عن معاملتهم.

قال ابن زيد : كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ.

قال قتادة : نسختها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥].

وقيل : هذا الحكم كان ثابتا في الصلح بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين قريش ؛ فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم. وقيل : هي خاصة في خلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بينه وبينه عهد ، قاله الحسن.

__________________

(١) انظره في «تفسيره» (١٨ / ٤٩).

٤٤٠