نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام ، فحذف لفظة فيه لكونه معلوما ، فيكون قوله : هذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب.

ويجوز أن يكون في الكلام حذف بتقدير القول ، أي ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم فتقول هذا حلال وهذا حرام وقائله هذا حرام وهذا حلال.

ويجوز أن ينتصب الكذب أيضا بتصف وتكون ما مصدرية ، أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب.

واللام في قوله : (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) هي لام العاقبة لا لام العرض ، أي فيعقب ذلك افتراؤكم على الله الكذب بالتحليل والتحريم ، وإسناد ذلك إليه من غير أن يكون منه (١).

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال : قرأت هذه الآية في سورة النحل : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) إلى آخر الآية ، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا (٢).

قال [الشوكاني في] (٣) «فتح القدير» (٤) : قلت : صدق رحمه‌الله ؛ فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فينا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما يقع كثيرا من المؤثرين للرأي المقدمين له على الرواية ، أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنة كالمقلدة ؛ وإنهم لحقيقيون بأن يحال بينهم وبين فتواهم ويمنعوا من جهالاتهم ، فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير فضلوا وأضلوا ؛ فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل :

كبهيمة عمياء قاد زمامها

أعمى على عوج الطريق الجائر

وقال الطبراني : عن ابن مسعود قال : عسى رجل يقول : إن الله أمر كذا ونهى عن كذا ، فيقول الله له : كذبت! أو يقول : إن الله حرم كذا وأحل كذا ، فيقول الله له :

كذبت (٥)! انتهى.

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٤ / ٥٠٢) ، القرطبي (١٠ / ١٩٦) ، البيان (٢ / ٨٦).

(٢) أورده السيوطي في «الدر» (٥ / ١٧٥) وعزاه لابن أبي حاتم فقط.

(٣) ما بين [] سقط من المطبوعة.

(٤) انظره في «تفسيره» هذا (٣ / ٢٠١).

(٥) ضعيف : رواه الطبراني في «الكبير» (٨٩٩٥) عن عطاء بن السائب ، عن غير واحد من أصحابه به.

٣٦١

وقال الحافظ ابن القيم رحمه‌الله في «إعلام الموقعين» (١) : لا يجوز للمفتي أن يشهد على الله ورسوله بأنه أحل كذا أو حرمه ، أو أوجبه أو كرهه إلا بما يعلم أن الأمر فيه كذلك مما نص الله ورسوله على إباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهته.

وأما ما وجده في كتابه الذي تلقى عمن قلدوا فيه ، فليس له أن يشهد على الله ورسوله ويغير الناس بذلك ولا علم له بحكم الله ورسوله.

قال غير واحد من السلف : ليحذر أحدكم أن يقول أحل الله كذا ، وحرم كذا فيقول له الله كذبت لم أحل كذا ولم أحرمه.

وثبت في «صحيح مسلم» (٢) من حديث بريدة بن [الحصيب] (٣) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا حاصرت حصنا فسألوك أن تنزلهم على حكم الله ورسوله فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك».

وسمعت شيخ الإسلام ـ يعني الشيخ ابن تيمية رضي الله عنه ـ قال : حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم ، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر ، فقلت له : ما هذه الحكومة؟ فقال : هذا حكم الله! فقلت له : صار قول زفر حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة! قل : هذا حكم زفر وقوله ، ولا تقل حكم الله ونحو هذا من الكلام. انتهى.

[الآية السادسة]

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)).

__________________

فذكره.

وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١ / ٨٢) : وفيه من لم يسمّ».

(١) انظره في (١ / ٣٩).

(٢) حديث صحيح : رواه مسلم (١٢ / ٣٧ ، ٤٠) ، وأبو داود (٢٦١٢) ، (٢٦١٣) ، والترمذي (١٤٠٨) ، (١٦١٧) ، وابن ماجة (٢٨٥٨) ، وأحمد في «المسند» (٥ / ٣٥٢ ، ٣٥٨) ، والدارمي (٢ / ٢١٥).

(٣) ما بين [معقوفين] صحّفت إلى (الخصيب) وهو خطأ ، والتصويب من مصادر التخريج.

٣٦٢

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) : حذف المفعول للتعميم لكونه بعث إلى الناس كافة.

وسبيل الله : هو الإسلام.

(بِالْحِكْمَةِ) : أي بالمقالة المحكمة الصحيحة.

قيل : وهي الحجج القطعية المفيدة لليقين.

(وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) : وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع ، وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها.

قيل : وهي الحجج الظنية الإقناعية الموجبة للتصديق بمقدمات مقبولة. قيل : وليس للدعوة إلا هاتان الطريقتان. ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألد إلى استعمال المعارضة والمناقضة ونحو ذلك من الجدل ، ولهذا قال سبحانه :

(وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : أي بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة ، وإنما أمر الله سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقا وغرضه صحيحا وكان خصمه مبطلا وغرضه فاسدا (١).

[الآية السابعة]

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)).

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) : أي بمثل ما فعل بكم لا تجاوزوا ذلك.

قال ابن جرير (٢) : نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته ، لا يتعداها إلى غيرها ، وهذا صواب ؛ لأن الآية وإن قيل : إن لها سببا خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ ، وعمومه يؤدي هذا المعنى الذي ذكره. وسمى سبحانه الفعل الأول الذي هو فعل البادئ بالشر عقوبة ، مع أن العقوبة ليست إلا فعل الثاني وهو المجازي ، للمشاكلة وهي باب معروف وقع في كثير من آيات الكتاب

__________________

(١) اختلف العلماء في هذه الآية : أمنسوخة أم محكمة؟ وقد ذكر القرطبي (١٠ / ٢٠٠) أنها محكمة من جهة العصاة من الموحدين ، ومنسوخة بالقتال في حق الكافرين.

وانظر : النحاس (١٨٠) ، والإيضاح (٢٩١) ، وابن البازي (٢٩٥) ، والبصائر (١ / ٢٨٠).

(٢) انظر : تفسير الطبري (١٤ / ١٩٧).

٣٦٣

العزيز ، ثم حث سبحانه على العفو فقال :

(وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)) أي لئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل فالصبر خير لكم من الانتصار ، ووضع الصابرين الظاهر موضع الضمير ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد.

وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية محكمة ؛ لأنها واردة في الصبر عن المعاقبة والثناء على الصابرين على العموم.

وقيل : هي منسوخة بآيات القتال ؛ ولا وجه لذلك.

٣٦٤

سورة الإسراء

مائة وإحدى عشرة آية

وهي مكيّة : [قاله] (١) ابن عباس ، ومثله عن ابن الزبير إلا أنه استثنى : إلا ثلاث آيات ، قوله عزوجل : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) [الإسراء : ٧٦] نزلت حين جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفد ثقيف ، حين قالت اليهود : ليست هذه بأرض الأنبياء ، وقوله تعالى : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) [الإسراء : ٨٠] ، وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠] ، وزاد [مقاتل] (٢) قوله : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ) (٣) [الإسراء : ١٠٧].

[الآية الأولى]

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩)).

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) : هذا النهي يتناول كل مكلف ، وقد وجه الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعريفا للأمة وتعليما لهم ، وإن كان الخطاب لكل فمن يصلح له من المكلفين (٤).

والمراد النهي للإنسان أن يمسك إمساكا يصير به مضيقا على نفسه وعلى أهله ،

__________________

(١) ما بين [المعقوفين] بغير الهاء في المطبوعة ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) صحفت في المطبوع إلى (مقابل) وهو خطأ والصواب ما أثبت ، وهو مقاتل بن سليمان المفسّر صاحب الأشباه والنظائر في القرآن والتفسير ، طبع بمصر ـ الهيئة العامة للكتاب المصري.

(٣) فليعلم أن سورة الإسراء ـ بني إسرائيل ـ مكيّة بإجماع المفسرين إلا ما ذكره المصنف من آيات ، وقيل : إلا آيتين : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) وانظر : البحر المحيط (٦ / ٣).

(٤) قال قتادة : لا تمتنع من النفقة في الطاعة ولا تنفق في المعصية. (معاني النحاس ٣ / ١٤٥).

٣٦٥

ولا يوسع في الإنفاق توسيعا لا حاجة إليه بحيث يكون به مسرفا ، فهو نهي عن جانبي الإفراط والتفريط ، ويحصل من ذلك مشروعية التوسط وهو العدل الذي ندب الله إليه.

ولا تك فيها مفرطا أو مفرّطا

كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وقد مثّل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه بحيث لا يستطيع التصرف بها ؛ ومثّل حال من يجاوز الحد في التصرف بحال من يبسط يده بسطا لا يتعلق بسببه فيها شيء مما تقبض الأيدي عليه ، وفي هذا التصوير مبالغة بليغة.

ثم بين سبحانه غاية الطرفين المنهي عنهما فقال :

(فَتَقْعُدَ مَلُوماً) : عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح (١).

(مَحْسُوراً (٢٩)) : بسبب ما فعلته من الإسراف ، أي منقطعا عن المقاصد بسبب الفقر (٢).

والمحسور في الأصل : المنقطع عن السير.

وقيل : معناه نادما على ما سلف.

[الآية الثانية]

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)).

(وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) : أي لا لسبب من الأسباب المسوغة لقتله شرعا.

(فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) : أي لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين ، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين ، والسلطان التسلّط على القاتل إن شاء قتل وإن

__________________

(١) قال عكرمة وقتادة : أي تقعد نادما. (النحاس ٣ / ١٤٦).

(٢) قال الزجاج : المحسور : الذي قد بلغ الغاية في التّعب والإعياء ، وقال ابن قتيبة : (مَحْسُوراً) منقطعا ، تحسرك العطيّة وتقطعك ، كما يحسر السّفر البعير فيبقى منقطعا به اه.

وقال القاضي أبو يعلى : وهذا الخطاب أريد به غير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنه لم يكن يدّخر شيئا لغد ، وكان يجوع حتى يشدّ الحجر على بطنه ، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما يملكون ، فلم ينههم الله ، لصحة يقينهم ، وإنما نهى من خيف عليه التحسّر على ما خرج من يده ، فأما من وثق بوعد الله تعالى فهو غير مراد بالآية. زاد المسير ٥ / اه. (٣٠).

٣٦٦

شاء عفا ، وإن شاء أخذ الدية (١).

(فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) : أي لا يجاوز ما أباحه الله له ، فيقتل بالواحد الاثنين أو الجماعة ، أو يمثّل بالقاتل أو يعذبه.

(إِنَّهُ) ، أي الولي.

(كانَ مَنْصُوراً (٣٣)) أي مؤيدا معانا ، فإن الله سبحانه نصره بإثبات القصاص له بما أبرزه من الحجج وأوضحه من الأدلة ، وأمر أهل الولايات فبمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه (٢).

وقيل : هذه الآية من أول ما نزل من القرآن في شأن القتل ؛ لأنها مكيّة.

[الآية الثالثة]

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦)).

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) : أي تتبع ما لا تعلم ، من قولك : قفوت فلانا إذا اتبعت أثره. ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت ، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم

__________________

(١) قال أبو جعفر : اختلف المتقدمون من العلماء في «السلطان» الذي جعل للوليّ؟

فروى خصيف عن مجاهد قال : حجّته التي جعلت له ، أن يقتل قاتله.

وذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا هو السلطان الذي جعل له ، وأنه ليس له أن يأخذ الدّية ، إلا أن يشاء القاتل.

وقال الضحاك في السلطان الذي جعل له : إن شاء قتل ، وإن شاء أخذ الدّية ، وإن شاء عفا.

والقول عند أهل المدينة وأهل الكوفة ، قول مجاهد : إن السلطان هاهنا القود خاصّة ، لا ما سواه.

وذهب الشافعي رحمه‌الله إلى قول الضحاك ، غير أنه قال : كان يستحق إذا عفا أخذ الدّية ، اشترط ذلك أو لم يشترطه ، والحجّة له.

وانظر : معاني القرآن (٣ / ١٤٩) ، وجامع الطبري (١٥ / ٨١) ، وتفسير القرطبي (١٠ / ٢٥٥) ، وزاد المسير (٥ / ٣٢) ، وقد رجّح ابن جرير قول الضحاك وهو أيضا قول ابن عباس فقال : «وأولى التأويلين بالصواب ما قاله ابن عباس أن لوليّ القتيل ، القتل إن شاء أخذ الدية ، وإن شاء العفو ، لصحة الخبر بذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) أورد الطبري آثارا في تفسير هذه الآية عن عبد الله بن كثير عن مجاهد وأبي بن كعب وغيرهم ، وانظره : (١٥ / ٨٣) ، والسيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٨١).

٣٦٧

يتبعون آثار أقدام الناس.

ومعنى الآية : النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له ، وهذه قضية كلية.

وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور ، فقالوا : لا تذم أحدا بما ليس لك به علم.

وقيل : هي في شهادة الزور.

وقيل : هي في القافية.

وقال القتيبي : معنى الآية لا تتبع الحدس والظنون ، وهذا صواب ، فإن ما عدا ذلك هو العلم.

وقيل : المراد بالعلم هنا هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند ، قطعيا كان أو ظنيا.

قال أبو السعود في «تفسيره» (١) : واستعماله بهذا المعنى لا ينكر شيوعه.

وقال الشوكاني (٢) : أقول : هذه الآية قد دلّت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم ، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظن كالعمل بالعام وبخبر الواحد ، والعمل بالشهادة ، والاجتهاد في القبلة ، وفي جزاء الصيد ونحو ذلك ، فلا يخرج من عمومها ومن عموم أن الظن لا يغني من الحق شيئا ، إلا ما قام دليل جواز العمل به ، فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان بعدم وجود الدليل في الكتاب والسنة فقد رخص فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاذ لما بعثه قاضيا : «بم تقضي؟ قال بكتاب الله. قال : فإن لم تجد؟ قال : بسنة رسول الله. قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي» (٣).

__________________

(١) انظر : تفسيره (٥ / ١٧١).

(٢) في «فتح القدير» (٣ / ٢٢٧).

(٣) حديث ضعيف : رواه أبو داود (٣٥٩٢) ، (٣٥٩٣) ، والترمذي (١٣٢٧) ، (١٣٢٨) ، وأحمد (٥ / ٢٣٠ ، ٢٣٦ ، ٢٤٢) ، والطيالسي في «مسنده» (٥٥٩) ، والدارمي (١ / ٦٠) ، والطبراني في «الكبير» (٢٠ / ٣٦٢) ، (١٧٠) ، وعبد بن حميد في «المنتخب» (١٢٤) ، والبيهقي في «الكبرى» (١٠ / ١١٤) ، وفي «المعرفة» له (١ / ١٧٣) ، و «الخطيب في الفقيه والمتفقه» (١ / ١٨٨ ، ١٨٩) ، وابن عبد البر في «الجامع» (١٥٩٢ ، ١٥٩٣) وانظر : تلخيص الحبير (٤ / ١٨٢ ، ١٨٣) ، ونصب.

٣٦٨

وهو حديث صالح للاحتجاج به ، كما أوضحنا ذلك في بحث مفرد.

وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتب أو السنة ، ولكنه قصّر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولا أولياء ، لأنه رأي في شرع الله ، وللناس عنه غنى بكتاب الله سبحانه وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم تدع إليه حاجة ، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل ، إنما هو رخصة للمجتهد ، يجوز له أن يعمل به ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به وينزله منزلة مسائل الشرع.

وبهذا يتضح لك أتم إيضاح ويظهر لك أكمل ظهور ، أن هذه الآراء المدونة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء ، والعامل بها على شفا جرف هار.

فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفى ما ليس له به علم ، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده ، ظلمات بعضها فوق بعض (١). انتهى.

وقد قيل : إن هذه الآية خاصة بالعقائد ؛ ولا دليل على ذلك أصلا ، بل علل الله سبحانه النهي عن العمل بما ليس يعلم بقوله :

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ) : أشار إلى الثلاثة الأعضاء ، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.

وقال الزجاج : إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك.

وأنشد ابن جرير (٢) مستدلا على عدم جواز هذا ، قول الشاعر (٣) :

ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى

والعيش بعد أولئك الأيام

واعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام ، وتبعه غيره على ذلك الخطأ كصاحب «الكشاف».

__________________

الرّاية (٤ / ٦٣).

(١) انظر : أقوال المفسرين في «الطبري» (١٥ / ٨٦) ، ابن كثير (٥ / ٧٢) ، البحر المحيط (٦ / ٣٦) ، والقرطبي (١٠ / ٢٦٢) ، ومجاز أبي عبيدة (١ / ٣٧٩).

(٢) انظر : تفسير الطبري (١٥ / ٨٧).

(٣) البيت في «ديوانه» (ص ٥٥١).

٣٦٩

والضمير في (كان) من قوله : (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦)) يرجع إلى كل ، وكذا الضمير في عنه.

ومعنى سؤال هذه الجوارح : أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات ، والمستعمل هو الروح الإنساني ، فإن استعملها في الخير استحق الثواب وإن استعملها في الشر استحق العقاب.

وقيل : إن الله سبحانه ينطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها.

[الآية الرابعة]

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧)).

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) : المرح قيل : هو شدة الفرح.

وقيل : التكبر في المشي. وقيل : تجاوز الإنسان قدره. وقيل : الخيلاء في المشي. وقيل : البطر والأشر. وقيل : النشاط. والظاهر أن المراد به الخيلاء والفخر.

قال الزجاج في تفسير الآية : لا تمش في الأرض مختالا فخورا.

وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلا عليها أو على ما هو معتمد عليها ، تأكيدا وتقريرا.

ولقد أحسن من قال :

ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا

فكم تحتها قوم هم منك أرفع

وإن كنت في عزّ وحرز ومنعة

فكم مات من قوم هم منك أمنع

والمرح مصدر وقع حالا ، أي : ذا مرح. وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع تأكيد. وقرأ الجمهور مرحا بفتح الراء. وحكى يعقوب عن جماعة كسرها ، على أنه اسم فاعل (١).

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٥ / ٣٤) ، والقرطبي (١٠ / ٢٥٧) ، والبحر المحيط (٦ / ٤٢).

٣٧٠

[الآية الخامسة]

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨)).

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) : قد أجمع المفسرون على أن هذه الصلاة المراد بها الصلاة المفروضة.

وقد اختلف العلماء في الدلوك المذكور في هذه الآية على قولين :

أحدهما : أنه زوال الشمس عن كبد السماء ، قاله عمر وابنه وأبو هريرة وأبو برزة وابن عباس والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو جعفر ، واختاره ابن جرير.

والقول الثاني : أنه غروب الشمس ، قاله عليّ وابن مسعود وأبي بن كعب وأبو عبيد ، وروي عن ابن عباس (١).

وقال الفراء : دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها (٢).

قال الأزهري : معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار : دلكة ؛ لأنها في الحالتين زائلة.

قال : والقول عندي أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس (٣).

__________________

(١) وروي عن أبي هريرة أيضا كما في «الطبري» (١٥ / ١٣٨).

(٢) ونصه : رأيت العرب تذهب في الدّلوك إلى غيبوبة الشمس ، وأنشدني بعضهم :

«ذبّب حتى دلكت براح»

يعني الساقي طرد الناس.

قال ابن الجوزي : وهذا اختيار ابن قتيبة ، لأن العرب تقول : دلك النجم : إذا غاب.

قال ذو الرمّة :

مصابيح ليست باللواتي تقودها

نجوم ولا بالأفلات الدّوالك

وتقول في الشمس : دلكت براح : يريدون : غربت ، والناظر قد وضع كفّه على حاجبه ينظر إليها.

(٣) وبقية كلامه : «وإذا جعلت الدّلوك : الغروب ، كان الأمر في هذا قاصرا على ثلاث صلوات.

وانظر : الطبري (١٥ / ١٣٧) ، والبحر المحيط (٦ / ٧٠). وزاد المسير (٥ / ٧١).

٣٧١

والمعنى أقم الصلاة من وقت دلوك الشمس إلى غسق الليل ، ويدخل فيه الظهر والعصر وصلاتا غسق الليل وهما العشاءان ، وقرآن الفجر : هي صلاة الصبح فهذه خمس صلوات.

(إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) : هو اجتماع الظلمة.

قال الفراء والزجاج : يقال : غسق الليل ، وأغسق إذا أقبل بظلامه (١).

قال أبو عبيد : الغسق سواد الليل ، وأصل الكلمة من السيلان ، يقال : أغسقت إذا سالت.

وقد استدل بهذه الغاية أعني قوله (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) من قال إن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب. روي ذلك عن الأوزاعي وأبي حنيفة ، وجوزه مالك والشافعي في حال الضرورة.

وقد وردت الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تعيين أوقات الصلاة ، فيجب أن تحمل هذه الآية على ما بينته السنة فلا نطيل بذكر ذلك.

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) : قال المفسرون المراد به صلاة الصبح.

قال الزجاج : وفي هذه فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة حتى سميت الصلاة قرآنا (٢).

وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب».

وفي بعض الأحاديث الخارجة من مخرج حسن «وقرآن معها».

وورد ما يدل على وجوب الفاتحة في كل ركعة ، ولو خلف الإمام ، وعليه عمل أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم ، وهو الحق. وقد حرره الشوكاني في مؤلفاته

__________________

(١) قال ابن عباس : أي اجتماع الليل وظلمته.

وقال قتادة : أوّله. وانظر : الطبري (١٥ / ١٣٨) ، والبحر المحيط (٦ / ٧٠).

وقال الجوهري في الصحاح (غسق) : أول ظلمة الليل ، غسق الليل يغسق : أظلم اه.

(٢) هذا من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ، فسمّى الصلاة «قرآنا» لأنها لا تكون إلا بالقرآن.

وقال الزمخشري : «يعني صلاة الفجر ، سمّيت قرآنا لأنها ركن ، كما سمّيت ركوعا ، وسجود أو قنوتا ، ويجوز أن يكون حثا على طول القراءة في صلاة الفجر ، ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب ، ولهذا كانت الفجر أطول الصلوات قراءة». اه. (الكشاف ٢ / ٣٧٢).

٣٧٢

تحريرا مجودا ، وغيره في غيره.

(قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨)) : أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح ، وبذلك قال جمهور المفسرين.

[الآية السادسة]

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠)).

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) : أي بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم ، لأن الجهر والمخافتة من نعوت الصموت لا من نعوت أفعال الصلاة ، فهي من إطلاق الكل وإرادة الجزء. يقال : خفت صوته خفوفا إذا انقطع كلامه وضعف وسكن ، وخفت الزرع إذا ذبل ، وخافت الرجل بقراءته إذا لم يرفع بها صوته ، وقيل : معناه لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها ، والأول أولى (١).

(وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ) : أي الجهر والمخافتة المدلول عليهما في الفعلين.

(سَبِيلاً (١١٠)) أي طريقا مستويا بين الأمرين ، فلا تكن مجهورة ولا مخافتا بها. وعلى التفسير الثاني يكون معنى ذلك النهي عن الجهر بقراءة الصلوات كلها ، والنهي عن المخافتة بقراءة الصلوات كلها ، والأمر يجعل البعض منها مجهورا به وهو صلاة الليل ، والمخافتة بصلاة النهار.

وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) [الأعراف : ٥٥].

__________________

(١) قال النحاس : فيها وجهان : أحدهما : رواه الأعمش عن جعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلن إذا قرأ ، فيسبّ المشركون القرآن ومن أنزله ، ومن جاء به ، فصار يخفي القراءة فأنزل الله عزوجل هذه الآية.

والقول الآخر : رواه هشام بن عروة عن أبيه قال : قالت لي عائشة : يا ابن أختي أتدري فيم أنزل هذه الآية ـ قال : قلت : لا ، قالت : أنزل في الدعاء. وقال النحاس : والإسنادان حسنان ، والدعاء يسمّى صلاة ، ولا يكاد يقع ذلك للقراءة. ويقال : إنما قيل : صلاة ، لأنها لا تكون إلا بدعاء ، والدعاء صلاة فسمّيت باسمه (معاني القرآن ٣ / ٢٠٧ ، ٢٠٨).

٣٧٣

[الآية السابعة]

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)).

ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى ، نبه على كيفية الحمد له فقال : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) : كما يقوله اليهود والنصارى ومن قال من المشركين إن الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) : أي مشارك في ملكه وربوبيته كما يزعمه الثنوية ونحوهم من الفرق القائلين بتعدد الآلهة.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) : أي لم يحتج إلى موالاة أحد لذل يلحقه ، فهو مستغن عن الولي والنصير.

وقال الزجاج : أي لم يحتج إلى أن ينتصر بغيره. وفي التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بأن المستحق للحمد من له هذه الصفات لأنه القادر على الإيجاد وإفاضة النعم ، لكون «الولد مجبنة مبخلة» (١) ، ولأنه أيضا يستلزم حدوث الأب ؛ لأنه متولد من جزء من أجزائه ، والمحدث غير قادر على كمال الإنعام ، والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يقدر على الاستقلال به ، ومن لا يقدر على الاستقلال عاجز فضلا عن تمام ما هو له ، فضلا [عن نظام] (٢) ما هو عليه.

وأيضا الشركة موجبة للتنازع بين الشريكين ، وقد يمنعه الشريك من إفاضته الخير إلى أوليائه ويؤديه إلى الفساد ، (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢)) [الأنبياء : ٢٢] ، والمحتاج إلى ولي يمنعه من الذل وينصره على من أراد إذلاله ، ضعيف لا يقدر على ما يقدر عليه من هو مستغن بنفسه.

__________________

(١) حديث صحيح : رواه أحمد (٤ / ١٧٢) ، وابن ماجة (٣٦٦٦) ، والحاكم في «المستدرك» (٣ / ١٦٤). والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص ٤٦١).

وقال البوصيري : إسناده صحيح ، رجاله ثقات.

وقال الحاكم : صحيح ، ووافقه الذهبي.

(٢) ما بين [] وقع في المطبوعة (أن يضاع) وهو خطأ ، والتصويب من فتح القدير (٣ / ٢٦٦).

٣٧٤

(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)) : أي عظمه تعظيما ، وصفه بأنه أعظم من كل شيء.

أخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم أهله هذه الآية : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ...) إلخ ، الصغير من أهله والكبير (١).

وأخرج عبد الرزاق في «المصنف» عن [عبد الكريم أبي أمية] قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم الغلام من بني هاشم ، إذا أفصح ، سبع مرات : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) إلى آخر السورة (٢).

وأخرج أحمد والطبراني عن معاذ بن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «آية العز : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية كلها (٣).

__________________

(١) أثر ضعيف : رواه الطبري (١٥ / ١٨٩) ، وهو إسناد معضل لأن فيه قتادة بن دعامة ، وهو ليس له رواية مرفوعة.

(٢) إسناده ضعيف : رواه عبد الرزاق (٧٩٧٦) ، وابن أبي شيبة (٧ / ٢٠٢) ، وابن السني (٤٢٦). وعبد الكريم بن أبي أمية : ضعّفوه.

(٣) إسناده ضعيف : رواه أحمد (٣ / ٤٣٩ ، ٤٤٠) ، والطبراني (٢٠ / ١٩٢) ، (٤٣٠).

وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٥٢) : «رواه أحمد من طريقين في أحدهما رشدين بن سعد وهو ضعيف ، وفي الأخرى ابن لهيعة وهو أصلح منه ، وكذلك الطبراني».

٣٧٥

سورة طه

آياتها مائة وخمس وثلاثون آية

وهي مكيّة ، قال القرطبي (١) : في قول الجميع.

وكان ذلك سبب إسلام عمر رضي الله عنه ، والقصة مشهورة في كتب السير (٢).

[الآية الأولى]

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١)).

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) : مدّ النظر تطويله ، وأن لا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به.

وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه ، وذلك بأن يبادر الشيء بالنظر ثم يغض الطرف.

(إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) : أي لا تطمح بنظرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة فيها وتمنّ لها ، ولا تطل نظر عينيك إلى ذلك.

و (أَزْواجاً مِنْهُمْ) : مفعول متعنا.

والأزواج : الأصناف. قاله ابن قتيبة.

وقال الجوهري : الأزواج : القرناء (٣).

__________________

(١) في «تفسيره» (١١ / ١٦٣).

وانظر أيضا : الفراء (٢ / ١٧٤) ، الأخفش (٤٠٦) ، والمجاز (٢ / ١٥) ، والطبري (١٦ / ١٠٢) ، والنكت (٣ / ٧) ، والزاد (٥ / ٢٦٩) ، والمشكل لمكي (ص ١٥١).

(٢) انظر : سيرة ابن هشام (١ / ٢٧٠ ، ٢٧٦).

(٣) انظر : الصحاح (زوج).

٣٧٦

قال الواحدي : إنما يكون مادا عينيه إلى الشيء إذا داوم النظر نحوه ، وإدامته النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه.

وقال بعضهم : معنى الآية ولا تحسدن أحدا على ما أوتي من الدنيا ، وردّ بأن الحسد منهي عنه مطلقا.

(زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي زينتها وبهجتها ، بالنبات وغيره.

٣٧٧

سورة الحج

هي مكيّة ، أو مدنيّة. والجمهور على أنها مختلطة : منها مكيّة ، ومنها مدنيّة.

وآياتها ثمان وسبعون آية

قال الجمهور : إن السورة مختلطة : منها مكي ومنها مدني.

قال القرطبي (١) : وهذا هو الصحيح.

قال العزرمي : وهي من أعاجيب السور ؛ نزلت ليلا ونهارا ، سفرا وحضرا ، مكيا ومدنيا ، سلميا وحربيا ، ناسخا ومنسوخا ، محكما ومتشابها.

وقد وردت في فضلها الأحاديث (٢).

[الآية الأولى]

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥)).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) : أي الإعادة بعد الموت فانظروا في مبدإ خلقكم.

__________________

(١) في «تفسيره» (١٢ / ١).

(٢) انظر هذه الأحاديث في : «ضعيف أبي داود (٣٠٣) ، (١٤٠٢) ، وكذلك الترمذي (٨٩ / ٥٨٣) ، وضعيف الجامع الصغير» (٣٩٨٢) ، (٣٩٨٣) ، والمشكاة (١٠٣٠) للألباني.

٣٧٨

(فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) : في ضمن خلق أبيكم آدم عليه‌السلام.

(مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) : أي من مني ، سمي نطفة لقلته. والنطفة : القليل من الماء قد يقع على الكثير منه ، والنطفة : القطرة.

(ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) : هي الدّم الجامد (١).

والعلق الدم العبيط ، أي الطري المتجمد.

وقيل : الشديد الحمرة. والمراد الدم المتكون من المني.

(ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) : هي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ ، تتكون من العلقة.

(مُخَلَّقَةٍ) بالجر صفة لمضغة ، أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير.

(وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) : أي لم يتبين خلقها ولا ظهر تصويرها.

قال ابن الأعرابي : مخلقة يريد قد بدا خلقها ؛ وغير مخلقة لم تصور.

قال الأكثر : ما أكمل خلقه بنفخ الروح فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام ، وما سقط كان غير مخلقة ، أي غير حي بإكمال خلقته بالروح.

قال الفراء : مخلقة تامة الخلق ، وغير مخلقة السقط. ومنه قول الشاعر :

أفي غير المخلقة البكاء

فأين الحزم ويحك والحياء؟

والمعنى إنا خلقناكم على هذا النمط البديع (٢).

(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) كمال قدرتنا على ما أردنا ؛ كإحياء الأموات وبعثهم ، فآمنوا بذلك وتيقنوا ، والآية من شواهد البعث بعد الموت.

__________________

(١) قال الخليل : العلق : الدّم قبل أن ييبس ، الواحدة علقة ، وهكذا تصير النطفة.

وقال أبو عبيد : العلق من الدم ؛ ما اشتدت حمرته.

وقال الأزهري : العلقة : الدم الجامد الغليظ ، ومنه قيل للدابة التي تكون في الماء : علقة ، لأنها حمراء كالدّم ، وكل دم غليظ علق. وانظر : تهذيب اللغة (١ / ٢٤٣) ، ومعاني النحاس (٤ / ٣٧٧).

(٢) انظر : الطبري (١٧ / ١١٧) ، والدر (٤ / ٣٤٥) ، والزجاج (٣ / ٤١٢) ، والفراء (٢ / ٢١٥) ، وابن كثير (٥ / ٣٩١).

٣٧٩

[الآية الثانية]

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩)).

(هذانِ خَصْمانِ) : أحدهما : أنجس الفرق ؛ اليهود والنصارى والصابئون والمجوس والذين أشركوا.

والخصم الآخر : المسلمون ، فهما فريقان مختصمان. قاله الفراء وغيره.

وقيل : المراد بالخصمين الجنة والنار : قالت الجنة : خلقني لرحمة ، وقالت النار : خلقني لعقوبة.

وقيل : المراد بالخصمين هم الذين برزوا يوم بدر : فمن المؤمنين حمزة وعلي وعبيدة ، ومن الكافرين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة. وقد كان أبو ذر يقسم أن هذه الآية نزلت في هؤلاء المتبارزين ؛ وقال بمثل هذا جماعة من الصحابة وهم أعرف من غيرهم بأسباب النزول (١).

وقد ثبت في «الصحيح» أيضا عن عليّ عليه‌السلام أنه قال : فينا نزلت هذه الآية (٢).

وقال سبحانه : (اخْتَصَمُوا) ولم يقل اختصما؟

قال الفراء : لأنهم جمع ؛ ولو قال اختصما لجاز.

ومعنى (فِي رَبِّهِمْ) : أي في شأن ربهم ، أي في دينه ، أو في ذاته ، أو في صفاته ، أو في شريعته لعباده ؛ أو في جميع ذلك.

[الآية الثالثة]

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي

__________________

(١) انظر : معاني النحاس (٤ / ٣٧١) ، والطبري (١٧ / ١٠٩) ، والقرطبي (١٢ / ٢٦).

وحديث النزول رواه البخاري (١٣ / ٤٣٤) ومسلم (١٨ / ١٦٦ ، ١٦٧) عن قيس بن عباد عن أبي ذر فذكره.

(٢) حديث صحيح : رواه البخاري (٧ / ٢٩٧).

٣٨٠