نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

إلى الأول الشافعي وغيره (١).

وإلى الثاني مالك وأبو حنيفة.

وإلى الثالث بعض أهل العلم ـ على تفصيل لهم في ذلك. فقالوا : إن خشي على نفسه الوقوع في المعصية وجب عليه وإلا فلا. والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع تلك الخشية.

وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح : «ومن رغب عن سنتي فليس مني» (٢) ، ولكن مع القدرة عليه وعلى مؤنه.

والمراد بالأيامى هنا : الأحرار والحرائر ، وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله :

(وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) : والصلاح : هو الإيمان. وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار لأن الغالب في الأحرار الصلاح بخلاف المماليك.

وفيه دليل على أن المملوك لا يزوج نفسه ، وإنما يزوجه مالكه.

وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح.

وقال مالك : لا يجوز. ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار فقال : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) : أي لا يمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل أو المرأة أو أحدهما ؛ فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك.

قال الزجاج : حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر ولا يلزم أن هذا يكون حاصلا لكل فقير إذا تزوج ، فإن ذلك مقيد بالمشيئة. وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا.

وقيل : المعنى أنه يغنيه بغنى النفس.

وقيل : المعنى إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا. والوجه الأول أولى.

__________________

(١) حديث صحيح : رواه البخاري (٩ / ١٠٤) ، ومسلم (٩ / ١٧٥ ، ١٧٦) عن أنس مرفوعا.

(٢) انظر : البحر المحيط (٦ / ٤٥١) ، والطبري (١٨ / ١٢٧) ، والقرطبي (١٢ / ٢٤٥) ، وابن الجوزي (٦ / ٣٧).

٤٠١

ويدل عليه قوله سبحانه : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) [التوبة : ٢٨] ، فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك.

وجملة : (وَاللهُ واسِعٌ) : مؤكدة لما قبلها مقررة لها ، والمراد أنه سبحانه ذو سعة لا ينقص من سعة ملكه من يغنيه من عباده.

(عَلِيمٌ (٣٢)) بمصالح خلقه ، يغني من يشاء ويفقر من يشاء (١).

[الآية الحادية عشرة]

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)).

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) : المكاتبة في الشرع : أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجما ، فإذا أداه فهو حر.

وظاهر قوله : (فَكاتِبُوهُمْ) أن العبد إذا طلب المكاتبة من سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعد ، وهو :

(إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) : والخير : هو القدرة على أداء ما كوتب عليه وإن لم يكن له مال.

وقيل : هو المال فقط ، كما ذهب إليه مجاهد والحسن وعطاء والضحاك وطاووس ومقاتل.

وذهب إلى الأول ابن عمر وابن زيد ، واختاره مالك والشافعي والفرّاء والزجاج.

قال الفراء : يقول إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال.

وقال الزجاج : لما قال فيهم كان الأظهر الاكتساب والوفاء وأداء الأمانة.

__________________

(١) انظر : الطبري (١٨ / ١٢٩) ، وابن كثير (٦ / ٥٦ ، ٥٧) ، والقرطبي (١٢ / ٢٥١) ، وزاد المسير (٦ / ٣٧).

٤٠٢

وقال النخعي : إن الخير : الدين والأمانة ، وروي مثل هذا عن الحسن.

وقال عبيدة السلماني : إقامة الصلاة.

قال الطحاوي : وقول من قال : إنه مال ، لا يصح عندنا لأن العبد مال لمولاه فكيف يكون له مال! قال : والمعنى عندنا إن علمتم فيهم خيرا أي الدين والصدق.

قال أبو عمرو بن عبد البر : من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال : إن علمتم فيهم مالا ، وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة ، ولا يقال : علمت فيه المال. هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم في الخير المذكور في الآية.

وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه قد ذهب إلى ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور من الوجوب عكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بن دينار والضحاك وأهل الظاهر فقالوا : يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك وعلم فيه خيرا.

وقال الجمهور من أهل العلم : لا يجب ذلك ، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك ولم يجبر عليه ؛ فكذا الكتابة لأنها معاوضة.

ولا يخفى عليك أن هذه حجة واهية وشبهة داحضة ، والحق ما قاله الأولون ، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس ، واختاره ابن جرير (١).

ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين فقال :

(وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) : ففي هذا أمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة : إما بأن يعطوهم شيئا من المال ، أو بأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه.

وظاهر الآية عدم تقرير ذلك بمقدار. وقيل : الثلث ؛ وقيل : الربع ، وقيل : العشر. ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم وسياق الكلام معهم فإنهم المأمورون بالكتابة.

وقال الحسن والنخعي وبريدة : إن الخطاب بقوله : (وَآتُوهُمْ) لجميع الناس.

__________________

(١) انظر الطبري (١٨ / ١٢٩) ، وابن كثير (٦ / ٥٦ ، ٥٧) ، والقرطبي (١٢ / ٢٥١) ، وزاد المسير (٦ / ٣٧).

٤٠٣

وقال زيد بن أسلم : إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم ، كما في قوله سبحانه : (وَفِي الرِّقابِ) [البقرة : ١٧٧].

وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة.

ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك ، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا فقال :

(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) : والمراد بالفتيات هنا الإماء ، وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر.

والبغاء : الزنا مصدر بغت المرأة تبغا بغاء إذا زنت. وهذا مختص بزنا النساء فلا يقال للرجل إذا زنا : إنه بغى.

وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) : لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادتهن للتحصن ، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها : مكروهة على الزنا.

والمراد بالتحصن هنا : التعفف والتزوج.

وقيل : إن هذا القيد راجع إلى الأيامى ، وفي الكلام تقديم وتأخير.

وقيل : هذا الشرط ملغى.

وقيل : هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه ، فإنهم كانوا يكرهونهن وهن يردن التعفف. وليس تخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف.

وقيل : إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب ، لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن ، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن. وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه ، فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال ولا للحرام ، كما فيمن لا رغبة لها في النكاح والصغيرة ، فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن ، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن ، إلا أن يقال : إن المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف ، وأنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن وهو بعيد! فقد قال الحبر ابن عباس : إن المراد بالتحصن التعفف والتزوج ، وتابعه على ذلك غيره (١).

__________________

(١) انظر أقوال أهل التفسير في : القرطبي (١٢ / ٢٥٥).

٤٠٤

ثم علل سبحانه هذه النهي بقوله : (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : وهو ما تكتسبه الأمة بفرجها ، وهذا التعليل خارج مخرج الغالب.

والمعنى أن هذا الغرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب ، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا فائدة له أصلا ولا يصدر مثله عن العقلاء. فلا يدل هذا التعليل على أنه لا يجوز له أن يكرهها إذا لم يكن مبتغيا بإكراهها عرض الحياة الدنيا.

وقيل : إن هذا التعليل للإكراه من اعتبار أن عادتهم كانت كذلك ؛ لا أنه مدار النهي عن الإكراه لهن ؛ وهذا يلاقي المعنى الأول ولا يخالفه.

(وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)) هذا مقرر لما قبله ومؤكد له (١).

والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات كما تدل عليه قراءة ابن مسعود وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير (٢) : فإن الله غفور رحيم (٣٣) لهن.

قيل : وفي هذا التفسير بعد ؛ لأن المكرهة على الزنا غير آثمة؟

وأجيب بأنها وإن كانت مكرهة فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة ، إما بحكم الجبلة البشرية ، أو يكون الإكراه قاصرا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار.

وقيل : إن المعنى فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم ، إما مطلقا أو بشرط التوبة.

[الآية الثانية عشرة]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ

__________________

(١) انظر الطبري (١٨ / ١٣٥).

(٢) انظر : المحتسب لابن جني (٢ / ١٠٨) ، وقد عدّ هذه القراءة لهنّ غفور رحيم من القراءات الشاذّة ، وإنما هي كتفسير للآية.

٤٠٥

بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : الخطاب للمؤمنين ويدخل المؤمنات فيه تغليبا كما في غيره من الخطابات.

قال العلماء : هذه الآية خاصة ببعض الأوقات.

واختلفوا في المراد بقوله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) : على أقوال :

الأول : أنها منسوخة. قاله سعيد بن المسيب.

وقال سعيد بن جبير : إن الأمر فيها للندب لا للوجوب.

وقيل : كان ذلك واجبا حيث كانوا لا أبواب لهم ولو عاد الحال لعاد الوجوب ، حكاه المهدوي عن ابن عباس (١).

وقيل : إن الأمر هاهنا للوجوب ، وأن الآية محكمة غير منسوخة ، وأن حكمها ثابت على الرجال والنساء.

ولما سئل الشعبي عنها : أمنسوخة هي؟ قال : لا والله! فقال السائل : إن الناس لا يعملون بها؟ قال : الله المستعان.

وقال القرطبي (٢) : وهو قول أكثر العلماء ، وقال أبو عبد الرحمن السلمي : إنها خاصة بالنساء.

وقال ابن عمر : هي خاصة بالرجال دون النساء.

والمراد بقوله : (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) : العبيد والإماء.

(وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) : أي من الأحرار.

ومعنى (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) : ثلاثة أوقات في اليوم والليلة ، وعبّر بالمرات عن الأوقات لأن أصل وجوب الاستئذان هو سبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات. وانتصاب ثلاث على الظرفية الزمانية ، أي في ثلاث أوقات ، أو

__________________

(١) انظر : الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢ / ٣١٨).

(٢) انظر تفسيره : (١٢ / ٣٠٣).

٤٠٦

منصوب على المصدرية أي ثلاثة استئذانات.

ورجح هذا أبو حيان فقال : والظاهر من قوله ثلاث مرات ثلاث استئذانات ؛ لأنك إذا قلت ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات. ويرد بأن الظاهر هنا متروك لقرينة التفسير بالثلاثة الأوقات.

فقال : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) ، وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة ، وربما يبيت عريان أو على حالة لا يحب أن يراه غيره فيها.

(وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ). و (من) في قوله : (مِنَ الظَّهِيرَةِ) : للبيان ، أو بمعنى في ، أو بمعنى اللام ، والمعنى حين وضعكم ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حرّ الظهيرة ، وذلك عند انتصاف النهار فإنهم قد يتجردون عن الثياب لأجل القيلولة.

ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث فقال : (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) : وذلك لأنه وقت التجرد من الثياب والخلوة بالأهل (١).

ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل فقال : (ثَلاثُ عَوْراتٍ) : كائنة ، (لَكُمْ) ، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ) : يا أهل البيوت.

(وَلا عَلَيْهِمْ) : أي المماليك والصبيان.

(جُناحٌ) : أي إثم في الدخول بغير استئذان ، لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر والاطلاع على العورات.

ومعنى (بَعْدَهُنَ) بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث ، وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منها. وهذه الجملة مستأنفة مقررة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة.

(طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) الجملة مستأنفة مبينة للعذر المرخص في ترك الاستئذان.

قال الفراء : هذا كقولك في الكلام : هم خدمكم وطوافون عليكم ، أي هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم.

__________________

(١) انظر : ابن جرير (١٨ / ١٦٢) ، وابن كثير (٦ / ٨٩ ، ٩٠) ، والقرطبي (١٢ / ٣٠٣) ، والدر المنثور (٥ / ٥٦).

٤٠٧

(بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي بعضكم يطوف أو طائف على بعض (١).

والمعنى أن كلا منكم يطوف على صاحبه : العبيد على الموالي ، والموالي على العبيد ، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات الثلاثة بغير استئذان ؛ لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها. والإشارة بقوله :

(كَذلِكَ) ، إلى مصدر الفعل الذي بعده كما في سائر المواضع في الكتاب العزيز ، أي مثل ذلك التبيين.

(يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) : الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام.

(وَاللهُ عَلِيمٌ) كثير العلم بالمعلومات.

(حَكِيمٌ (٥٨)) : كثير الحكمة في أفعاله.

[الآية الثالثة عشرة]

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)).

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) : أي العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر ، واحدتها قاعد بلا هاء ، ليدل حذفها على أنه قعود الكبر.

(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) : التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب ونحوه ، لا الثياب التي على العورة الخاصة. وإنما جاز لهن ذلك لانصراف الأنفس عنهن ، إذ لا رغبة للرجال فيهن ، فأباح الله سبحانه لهن ما لم يبحه لغيرهن.

ثم استثنى حالة من حالاتهن فقال : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) : أي غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) [النور : ٣١] ، والمعنى من غير أن يردن بإظهار مواضع الجلابيب إظهار زينتهن ولا متعرضات بالتزين لينظر إليهن الرجال.

__________________

(١) انظر : معاني الفراء (٢ / ٢٩٠) ، والسبعة لابن مجاهد (ص ٤٥٩) ، والكشاف (٢ / ٨٧) ، والمجاز لأبي عبيدة (٢ / ٦٩) ، والقرطبي (١٢ / ٣٠٩) ، والدر المنثور للسيوطي (٥ / ٥٧).

٤٠٨

والتبرج : التكشف والظهور للعيون.

(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) : أي وأن يتركن وضع الثياب مطلقا فهو :

(خَيْرٌ لَهُنَ) : من وضعها (١).

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)) أي كثير السماع والعلم أو بليغهما (٢).

[الآية الرابعة عشرة]

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)).

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) : اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل هي محكمة؟ أو منسوخة؟ قال بالأول جماعة من العلماء ، وبالثاني جماعة.

وقيل : إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا ، وكانوا يحرجون من ذلك وقالوا : لا ندخلها وهم غيّب ، فنزلت هذه الآية رخصة لهم.

فمعنى الآية نفي الحرج عن الزمنى وفي أكلهم من بيوت أقاربهم وبيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو.

قال النحاس : وهذا القول من أجل ما روي في الآية لما فيه عن الصحابة والتابعين

__________________

(١) قال في «التسهيل» (٣ / ١٥٥) : «أباح الله لهذا الصنف من العجائز ، ما لم يبح لغيرهن من وضع الثياب ، قال ابن مسعود : إنما أبيح لهن وضع الجلباب الذي فوق الخمار والرداء ، وإنما أبيح لهن وضع الثياب بشرط ألا يقصدن إظهار الزينة ، تلتزمه الشابّات من الستر اه.

(٢) وانظر : الطبري (١٨ / ١٦٧) ، والقرطبي (١٢ / ٣٠٩).

٤٠٩

من التوقيف (١).

وقيل : إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرجون عن مواكلة الأصحاء حذرا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم فنزلت.

وقيل : إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على المشي على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج ، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه.

وقيل : المراد بهذا الحرج المرفوع عن هؤلاء هو الحرج في الغزو : أي لا حرج على هؤلاء في تأخرهم عن الغزو ، وقيل : كان الرجل إذا أدخل أحدا من هؤلاء الزمناء إلى بيته ، فلم يجد فيه شيئا يطعمهم إياه ، ذهب بهم إلى بيوت قرابته فيتحرج الزمناء من ذلك فنزلت الآية.

(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) : أي ولا حرج عليكم وعلى من يماثلكم من المؤمنين.

(أَنْ تَأْكُلُوا) : أنتم ومن معكم.

والحاصل أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض إن كان باعتبار مواكلة الأصحاء أو دخول بيوتهم فيكون (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) متصلا بما قبله ، وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر وعدم العرج وعدم المرض فقوله : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) ابتداء كلام غير متصل بما قبله.

ومعنى : (مِنْ بُيُوتِكُمْ) : البيوت التي فيها متاعهم وأهلهم ، فتدخل بيوت الأولاد ، كذا قال المفسرون. لأنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن الرجل بيته ، ولذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد وذكر غيرها فقال :

(أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) : قال النحاس : وعارض بعضهم هذا فقال : هذا تحكم على كتاب الله سبحانه!! بل الأولى ، في الظاهر ، أن يكون الابن مخالفا لهؤلاء (٢).

__________________

(١) انظر : الطبري (١٨ / ١٦٩) ، والفراء (٢ / ٢٩١) ، ومعاني النحاس (٤ / ٥٥٨) ، وابن كثير (٦ / ٩٣) ، والقرطبي (١٢ / ٣١٢) ، والبحر المحيط (٦ / ٤٧٤) ، والألوسي (١٨ / ١٢٨) ، والدر المنثور (٥ / ٥٨).

(٢) انظر : معاني النحاس (٤ / ٥٥٨ ، ٥٥٩).

٤١٠

ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الأولاد ، بالنسبة إلى الآباء ، لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد ؛ بل للآباء مزيد خصوصية في أموال الأولاد لحديث : «أنت ومالك لأبيك» (١) ، وحديث : «ولد الرجل من كسبه» (٢).

ثم قد ذكر الله سبحانه هنا بيوت الإخوة والأخوات ، بل الأعمام والعمات ، بل الأخوال والخالات ، فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء ولا ينفيه عن بيوت الأولاد؟!

وقيد بعضهم جواز الأكل من بيوتهم كلهم بالإذن منهم.

وقال آخرون : ولا يشترط الإذن. قيل : وهذا إذا كان الطعام مبذولا وإن كان محرزا دونهم لهم أكله.

ثم قال سبحانه : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) : أي البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أربابها ؛ وذلك كالوكلاء والعبيد والخزان فإنهم يملكون التصرف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته وأعطاهم مفتاحه. وقيل : المراد بها بيوت المماليك.

والمفاتح : جميع مفتح (٣).

(أَوْ صَدِيقِكُمْ) : وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة ؛ فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك وتطيب به نفسه ، والصديق يطلق على الواحد والجمع.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) : جمع شتّ بمعنى التفرق ؛ يقال : شت القوم أي تفرقوا. وهذه الجملة كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله ، أي ليس عليكم جناح أن تأكلوا مجتمعين أو مفترقين.

__________________

(١) حديث صحيح : رواه ابن ماجة (٢٢٩١) ، والطحاوي في «الشرح» (٤ / ١٥٨) ، (٦١٥٠) ، وفي «المشكل» (٢ / ٢٣٠) وانظر : تخريجنا له في «بر الوالدين» للطرطوشي ـ ط ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(٢) حديث صحيح : رواه أحمد (٦ / ٣١ ، ٤١ ، ١٢٧ ، ١٩٣ ، ٢٠١) وأبو داود (٣٥٢٨) ، والترمذي (١٣٥٨) ، وابن ماجة (٢٢٩٠) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (١ / ٤٠٦ ، ٤٠٧) والدارمي (٢ / ٢٤٧) ، والحاكم (٢ / ٤٦) ، وقال أبو عيسى : حسن صحيح. وقال الحاكم : صحيح ، ووافقه الذهبي.

(٣) انظر : ابن كثير (٦ / ٦٣) ، والبحر المحيط (٦ / ٤٧٤) ، وروح المعاني (١٨ / ٢١٩) ، والقرطبي (١٢ / ٣١٣) ، والتسهيل (٣ / ١٥٥).

٤١١

وقد كان بعض العرب يتحرج أن يأكل وحده حتى يجد له أكيلا يؤاكله فيأكل معه ، وبعض العرب كان لا يأكل إلا مع الضيف فنزل : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) أي غير البيوت التي تقدم ذكرها ، وهذا بيان أدب آخر أدّب به عباده.

(فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) : أي على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم.

وقيل : المراد البيوت المذكورة سابقا.

وعلى القول الأول فقال الحسن والنخعي : هي المساجد ، والمراد سلموا على من فيها من صنفكم ، فإذا لم يكن في المساجد أحد فقيل : يقول : السلام على رسول الله ، وقيل : يقول : السلام عليكم مريدا للملائكة ؛ وقيل : يقول : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

وقال بالقول الثاني ـ أعني أنها البيوت المذكورة سابقا ـ جماعة من الصحابة والتابعين. وقيل : المراد بالبيوت هنا هي جميع البيوت المسكونة وغيرها ، فيسلم على أهل المسكونة. وأما غير المسكونة فيسلم على نفسه.

قال ابن العربي : القول بالعموم في البيوت هو الصحيح (١).

(تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) : أي تطيب بها نفس المستمع.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)) : تعليل لذلك التبيين برجاء تعقل آيات الله سبحانه وفهم معانيها.

[الآية الخامسة عشرة]

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)).

(فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ) : أي المؤمنين يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) انظر : الطبري (١٨ / ١٧٤) ، والبحر (٦ / ٤٧٤) ، والقرطبي (١٢ / ٣١٨) ، وزاد المسير (٦ / ٦٧).

٤١٢

(لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) : أي الأمور التي تهمهم.

(فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ؛ وامنع من تشاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها.

ثم أرشده الله سبحانه إلى الاستغفار لهم بقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) : فيه إشارة إلى أن الاستئذان ، وإن كان بقدر مسوغ ، فلا يخلو عن شائبة تأثير أمر الدنيا على الآخرة.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)) : أي كثير الرحمة والمغفرة بالغ فيهما إلى الغاية التي ليس وراءها غاية.

قال المفسرون : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر ، لم يخرج حتى يقوم بحيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يراه ، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن شاء منهم.

قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده.

قال الزجاج : أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه ، وكذلك أن يكونوا مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه في جمع من جموعهم إلا بإذنه ؛ وللإمام أن يأذن وله أن لا يأذن على ما يرى ، لقوله : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ).

قال العلماء : كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن (١).

__________________

(١) انظر : الطبري (١٨ / ١٧٧) ، وابن الجوزي (٦ / ٦٨) ، وابن كثير (٦ / ٩٦) ، والفراء (٢ / ٢٦٢) ، وابن عطية (١٠ / ٥٥٦).

٤١٣

سورة الفرقان

وهي سبع وسبعون آية

هي مكية ، في قول الجمهور (١).

قال القرطبي (٢) : قال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) الآيات.

[الآية الأولى]

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨)).

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨)) : أي يتطهر به ، كما يقول : وضوء للماء الذي يتوضى به.

قال الأزهري : الطهور في اللغة : الطاهر المطهر.

قال ابن الأنباري : الطهور بفتح الطاء الاسم ، وكذلك الوصف ، وبالضم المصدر ، هذا هو المعروف في اللغة.

وقد ذهب الجمهور إلى أن الطهور هو الطاهر المطهر ؛ ويؤيد ذلك كونه بناء مبالغة.

وروي عن أبي حنيفة أنه قال : الطهور هو الطاهر ، واستدل لذلك بقوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١)) [الإنسان : ٢١] ؛ يعني طاهرا ، ومنه قول الشاعر :

__________________

(١) قال في «البحر» (٦ / ٤٨٠) : «هذه السورة مكية في قول الجمهور ، وقال ابن عباس : إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)).

(٢) انظره في تفسيره (١٣ / ١).

٤١٤

خليلي هل في نظرة بعد توبة

[أداوي] (١) بها قلبي عليّ فجور

إلى رجّح الأكفال غيد من الظّبا

عذاب الثنايا ريقهنّ طهور

فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر. ورجح القول الأول ثعلب وهو راجح لما تقدم من حكاية الأزهري لذلك عن أهل اللغة (٢).

وأما وصف الشاعر للريق بأنه طهور فإنه على طريق المبالغة.

وعلى كل حال فقد ورد الشرع بأن الماء في [نفسه] (٣) طاهر ومطهر لغيره (٤).

قال الله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) [الأنفال : ١١].

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خلق الماء طهورا» (٥).

[الآية الثانية]

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤)).

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ) : البيتوتة : هي أن يدركك الليل نمت أم لم تنم.

قال الزجاج : من أدركه الليل فقد بات نام أو لم ينم ؛ كما يقال : بات فلان قلقا. والمعنى يبيتون.

(لِرَبِّهِمْ سُجَّداً) : على وجوههم.

(وَقِياماً (٦٤)) : على أقدامهم ، ومنه قول امرئ القيس (٦) :

فبتنا قياما عند رأس جوادنا

يزاولنا عن نفسه ونزاوله

__________________

(١) حرّف في المطبوع إلى (أوادي) وهو خطأ والتصويب من فتح القدير (٤ / ٨٠).

(٢) وانظر : تهذيب اللغة (طهر) ، نيل الأوطار (١ / ١٤).

(٣) ما بين [] بياض في «المطبوعة» واستدرك من فتح القدير (٤ / ٨٠).

(٤) انظر : الروضة الندية للمصنف (١ / ٤) ، ونيل الأوطار للشوكاني (١ / ٧ ، ١٦) ، القرطبي (١٣ / ٥٥).

(٥) الذي وقفنا عليه هو حديث «إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ..» رواه أبو داود (٦٦) ، والترمذي (٦٧) ، والنسائي (١ / ١٧٤) ، وابن أبي شيبة (١ / ١١٦ ، ١٦٧) ، وأحمد في «المسند» (٣ / ٣١) عن أبي سعيد مرفوعا. وحسّنه الترمذي وصححه البغوي وانظر : التلخيص (١ / ١٣).

(٦) نسبه القرطبي لزهير بن أبي سلمى (١٣ / ٧١) ، وهو في «ديوانه» (ص ١٣٢).

٤١٥

والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل كله أو أكثره.

[الآية الثالثة]

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)).

(وَالَّذِينَ [إِذا]) (١) (أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) : من قتر يقتر ، أو أقتر يقتر. ومعنى الجميع التضييق في الإنفاق.

قال النحاس : أحسن ما قيل في معنى الآية : أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف ؛ ومن أمسك عن طاعة الله فهو الإقتار ؛ ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام (٢).

وقال إبراهيم النخعي : هو الذي لا يجوع ولا يعرى ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف.

وقال يزيد بن حبيب : أولئك أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوبا للجمال ، ولكن كانوا فريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة الله ، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويقيهم الحر والبرد (٣).

وقال أبو عبيدة : لم يزيدوا على المعروف ولم يبخلوا ، كقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩].

(وَكانَ) : أي إنفاقهم.

(بَيْنَ ذلِكَ) : الإفراط أو التفريط.

(قَواماً (٦٧)) بكسر القاف : ما يدوم عليه الشيء ويستقر ؛ وبالفتح العدل والاستقامة ، قاله ثعلب.

وقيل : بالفتح العدل بين الشيئين ، وبالكسر ما يقام به الشيء لا يفضل عنه ولا

__________________

(١) ما بين [المعقوفين] سقط من المطبوعة.

(٢) انظر كلام النحاس في «معاني القرآن» له (٥ / ٤٨ ، ٤٩).

(٣) انظر : الطبري (١٩ / ٢٦) ، وزاد المسير (٦ / ١٠٥) ، وابن قتيبة (٣١٥) ، والنكت (٣ / ١٦٥) ، والبحر المحيط (٦ / ٥١٥) ، ومجاز أبي عبيدة (٢ / ٨١) ، والقرطبي (١٣ / ٧٦) ، الدر المنثور (٥ / ٧٧).

٤١٦

ينقص. وقيل : بالكسر السداد والمبلغ (١).

[الآية الرابعة]

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤)).

(وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤)) أي قدوة يقتدى بنا في الخير.

وإنما قال إماما ولم يقل أئمة ؛ لأنه أريد به الجنس كقوله : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [الحج : ٥] ، وقيل : إنه من الكلام المقلوب ، وأن المعنى : واجعل المتقين لنا إماما ، وبه قال مجاهد. وقيل : إن هذا الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد وإن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء : واجعلني للمتقين إماما ، ولكنها حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير لقصد الإيجاز.

وقال الأخفش : الإمام جمع آمّ من أمّ يؤم جمع على فعال كصاحب وصحاب وقائم وقيام ؛ وقيل : إنه مصدر كالقيام والصيام. وقيل غير ذلك.

قال النيسابوري : قيل : في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية مما يجب أن يطلب ويرغب فيها ، والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي به يشار إليه ويقتدى بهم (٢).

__________________

(١) القوام في اللغة : الوسط والعدل ، قال القرطبي : وهذا أدب الشرع ألا يفرط الإنسان حتى يضيّع حقا أو عيالا ، وألا يضيّق ويقتر حتى يجيع العيال ، ويفرط في الشح. اه ـ (١٣ / ٧٣) ، وانظر : الطبري (١٩ / ٣٧) ، ابن كثير (٦ / ١٣٤) ، ومعاني الفراء (٢ / ٢٧٣) ، الدر المنثور (٥ / ٧٧).

(٢) انظر : الطبري (١٩ / ٥٣) ، الدر المنثور (٥ / ٨١).

٤١٧

سورة القصص

وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء.

[الآية الأولى]

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)).

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) : فيه مشروعية عرض ولي المرأة لها على الرجل ، وهذا سنة ثابتة في الإسلام كما ثبت من عرض عمر لابنته على أبي بكر وعثمان ـ والقصة معروفة (١) ـ وغير ذلك ، كما وقع في أيام الصحابة وأيام النبوة.

وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

(عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) : أي على أن تكون أجيرا لي ثمان سنين ترعى غنمي.

(فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) : أي تفضلا منك لا إلزاما مني لك ، جعل ما زاد على الثمانية الأعوام إلى تمام العشرة أعوام موكولا إلى المروءة.

(وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) : بإلزامك إتمام العشرة الأعوام ؛ واشتقاق المشقة من الشق أي شق بطنه نصفين ، فتارة يقول : أطيق ، وتارة يقول : لا أطيق.

ثم رغبه في قبول الإجارة فقال :

(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)) : في حسن الصحبة والوفاء. وقيل :

أراد الصلاح على العموم ، فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجارة تحت الآية دخولا أولياء ، وقيد ذلك بالمشيئة تفويضا للأمر إلى توفيق الله ومعونته.

__________________

(١) صحيح : رواه البخاري (٩ / ١٧٥ ، ١٧٦ ، ٢٠١) ، عن عبد الله بن عمر مرفوعا.

(٢) صحيح : رواه البخاري (٩ / ١٧٤) عن أنس مرفوعا.

٤١٨

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وتسمى سورة القتال ، وسورة الذين كفروا.

آياتها تسع وثلاثون ، وقيل : ثمان وثلاثون آية

وهي مدنيّة. قال الماوردي : في قول الجميع إلا ابن عباس وقتادة فإنهما قالا : إلا آية نزلت منها بعد حجة الوداع حيث خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنا فنزل قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) [محمد : ١٣].

وقال الثعلبي : إنها مكية. وهو غلط من القول ، فالسورة مدنيّة كما لا يخفى (١).

[الآية الأولى]

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤)).

(فَشُدُّوا الْوَثاقَ) : بالفتح ، وتجيء بالكسر ، اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط.

والمعنى إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم واحفظوهم بالوثاق.

(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) أي فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر منا أو تفدوا فداء.

والمن : الإطلاق بغير عوض.

والفداء : ما يفدي به الأسير نفسه من الأسر. ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم ، وإنما قدم المن على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق ، ولهذا كانت العرب تفتخر به :

__________________

(١) قول الثعلبي في تفسيره «الكشف والبيان» مخطوط بأماكن متفرقة بمصر والظاهرية وتركيا والسعودية والهند وغيرها ، وهو قيد التحقيق.

٤١٩

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم

إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك فقال : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها).

أوزار الحرب : آلاتها التي لا تقوم إلا بها من السلاح والكراع ، أسند الوضع إليها وهو لأهلها على طريق المجاز.

والمعنى أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور إلى غاية ، هي أن لا يكون حرب مع الكفار.

وقال مجاهد : المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام ، وبه قال الحسن والكلبي.

وقال الكسائي : حتى يسلم الخلق.

قال الفراء : حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقيل : المعنى حتى يضع الأعداء المحاربون أوزارهم وهو سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة.

وروي عن الحسن وعطاء أنهما قالا : في الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها ، فإذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق (١).

وقد اختلف العلماء في هذه الآية : هل هي محكمة؟ أو منسوخة؟

فقيل : إنها منسوخة في أهل الأوثان ، وأنه لا يجوز أن يفادوا ولا يمن عليهم ، والناسخ لها قوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] وقوله : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) [الأنفال : ٥٧] ، وقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ، وبهذا قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وكثير من الكوفيين (٢).

قالوا : والمائدة آخر ما نزل ، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على

__________________

(١) انظر : الطبري (٢٦ / ٤٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦) ، والقرطبي في «تفسيره» (١٦ / ٢٢٦ ، ٢٢٨). ومعاني الفراء (٣ / ٥٧) ، وزاد المسير لابن الجوزي (٧ / ٣٩٧) ، والنكت والعيون للماوردي (٤ / ٤٤).

(٢) وممن قال بدعوى النسخ أيضا : شعبة عن الحكم ومغيرة بن شعبة والحسن البصري ومجاهد وهو مذهب أبي حنيفة وانظر : القرطبي (١٦ / ٢٢٧) ، الدر المنثور (٦ / ٤٦ ، ٤٧) ، والناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢ / ٣٧٢).

٤٢٠