نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) : المراد بالصد هنا الاستمرار ، لا مجرد الاستقبال فصح بذلك عطفه على الماضي. ويجوز أن تكون الواو في : (وَيَصُدُّونَ) ، واو الحال ؛ أي كفروا والحال أنهم يصدون.

والمراد بالصد المنع.

(عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي دينه.

فالمعنى يمنعون من أراد الدخول في دين الله.

(وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : معطوف على سبيل الله.

قيل : المراد به المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني.

وقيل : الحرم كله ؛ لأن المشركين صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه عنه يوم الحديبية. وقيل : المراد به مكة ، بدليل قوله :

(الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً) : أي جعلناه للناس على العموم يصلون فيه ويطوفون به ، مستويا فيه (١).

(الْعاكِفُ) : هو المقيم فيه الملازم له.

(وَالْبادِ) أي الواصل من البادية ، والمراد به الطارئ عليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية ، أو من غيرهم.

قال القرطبي (٢) : وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه ، واختلفوا في مكة.

فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ.

وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد ؛

__________________

(١) حكى أبو حاتم أن بعضهم قرأ (سَواءً) بالنصب ، و «العاكف فيه والبادي» بالخفض .. والمعنى : الذي جعلناه للناس ، العاكف والبادي : معاني النحاس (٤ / ٣٩١) ، والنشر (٢ / ٣٢٦) ، ومعاني الفراء (٢ / ٢٢٢).

(٢) انظره في «تفسيره» (١٢ / ٣٢).

٣٨١

وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أم أبى.

وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام ؛ ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها.

والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين :

الأول : ما في هذه الآية ؛ هل المراد بالمسجد نفسه؟ أو جميع الحرم؟ أو مكة على الخصوص.

والثاني : هل كان فتح مكة صلحا؟ أو عنوة؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة ، فهل أقرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيدي أهلها على الخصوص؟ أو جعلها لمن نزل بها على العموم؟

وقد أوضح الشوكاني رحمه‌الله هذا في شرحه «نيل الأوطار على منتقى الأخبار» (١) بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة.

[الآية الرابعة]

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦)).

(وَالْبُدْنَ) : قرأ ابن أبي إسحاق بضم الباء والدال ، وقرأ الباقون بإسكان الدال ؛ وهما لغتان.

وهذا الاسم خاص بالإبل ؛ وسمّيت بدنة لأنها تبدن.

والبدانة : السمن (٢).

وقال أبو حنيفة ومالك : إنه يطلق على غير الإبل.

والأول للأوصاف التي هي ظاهرة في الإبل ولما تفيده كتب اللغة من اختصاص هذا الاسم بالإبل. وقال ابن كثير في «تفسيره» (٣) : واختلفوا في صحة إطلاق البدن على

__________________

(١) انظر : نيل الأوطار (٨ / ١٦٤ ، ١٧٥).

(٢) انظر : تفسير القرطبي (١٢ / ٦٠).

(٣) انظر في تفسيره : (٣ / ٢٣٢).

٣٨٢

البقرة على قولين ، أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا كما صح في الحديث (١).

(جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) : أي أعلام دينه.

(لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) : أي منافع دينية ودنيوية.

(اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) : أي على نحرها.

ومعنى (صَوافَ) : أنها قائمة قد صفنت قوائمها ؛ لأنها تنحر قائمة معقولة.

وأصل هذا الوصف في الخيل ، يقال : صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة.

وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري : صوافي : أي خوالص لله لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدا (٢).

وواحد صواف صافة وهي قراءة الجمهور ، وواحد صوافي صافية.

وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جفر محمد بن علي ، صوافن بالنون جمع صافنة : وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب ؛ ومنه قوله تعالى : (الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١)).

(فَإِذا وَجَبَتْ) : الوجوب السقوط ، أي فإذا سقطت بعد نحرها.

(جُنُوبُها) : وذلك عند خروج روحها.

(فَكُلُوا مِنْها) : ذهب الجمهور إلى أن هذا الأمر للندب. وكذا قوله : (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ). وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن شريح (٣).

وقال الشافعي وجماعة : هو للوجوب.

واختلف في القانع من هو؟ فقيل : هو السائل. وقيل : هو المتعفف عن السؤال المستغني ببلغة. ذكر معناه الخليل ، وبالأول قال زيد بن أسلم وابنه وسعيد بن جبير والحسن ، وروي عن ابن عباس. وبالثاني قال عكرمة وقتادة.

__________________

(١) الذي رواه مسلم (٩ / ٦٧ ، ٦٨).

(٢) وهذه قراءة شاذة كما في «المحتسب» (٢ / ٨١) ، والقرطبي (١٢ / ٦١) ، والألوسي (١٧ / ١٥٦).

وقرأ ابن مسعود أيضا : صوافن وهي قراءة شاذة أيضا ، جمع : صافنة ، وهي التي غطت إحدى قوائمها ووقفت على ثلاث ، وانظر : المحتسب (٢ / ٨١) ، والألوسي (١٧ / ١٥٦).

(٣) انظر هذه الآثار في : الطبري (١٧ / ١٦٧) ، والدر المنثور (٤ / ٣٦٣).

٣٨٣

وأما المعتر ؛ فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن : إنه الذي يتعرض من غير سؤال ؛ وقيل : هو الذي يعتريك ويسألك.

وقال مالك : أحسن ما سمعت أن القانع الفقير ، والمعتر الزائر.

وروي عن ابن عباس أن كلاهما الذي لا يسأل ؛ ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل ؛ والمعتر الذي يعترض لك ولا يسألك.

(كَذلِكَ) : التسخير البديع.

(سَخَّرْناها لَكُمْ) : فصارت تنقاد لكم إلى موضع نحرها فتنحرونها وتنتفعون بها ، بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهورها والحلب لها ونحو ذلك.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦)) : هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم.

٣٨٤

سورة النور (١)

آياتها أربع وستون آية

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا : أنزلت سورة النور بالمدينة.

[الآية الأولى]

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)).

(الزَّانِيَةُ) : الزّنا : هو وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح.

وقيل : هو إيلاج في فرج مشتهي طبعا محرم شرعا.

والزانية : هي المرأة المطاوعة للزنا ، الممكنة منه كما تنبىء عنه الصيغة لا المكرهة. وكذلك (وَالزَّانِي).

(فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) (٢) : الجلد : الضرب ، يقال : جلده إذا ضرب جلده ، مثل

__________________

(١) قال القرطبي : مدنية بالإجماع ، والمقصود من هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر (١٢ / ١٥٨).

(٢) قال أكثر أهل التفسير : هذا عام يراد به خاص. والمعنى : الزانية والزاني من الأبكار ، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة.

وقال بعضهم : هو عام على كل من زنى ، من بكر ومحصن ، واحتجّ بحديث عبادة وبحديث عليّ ـ عليه‌السلام ـ أنه جلد شراحة يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة وقال : جلدتها بكتاب الله عزوجل ورجمتها بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اه.

وعلى هذا رأي أهل الظّاهر ، قال ابن كثير : وقد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجم هذه المرأة ـ وهي

٣٨٥

بطعنه إذا ضرب بطنه ؛ ورأسه إذا ضرب رأسه.

(مِائَةَ جَلْدَةٍ) : وهو حد الزاني الحر البالغ البكر ؛ وكذلك الزانية.

وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد وهو [تغريب] (١) عام (٢) ، وبه قال الشافعي ؛ واختصه مالك بالرجل دون المرأة ، وجعله أبو حنيفة إلى رأي الإمام.

وأما المملوك والمملوكة فجلد كل واحد منهما خمسون جلدة ؛ ولقوله سبحانه : (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء : ٢٥] ، وهذه نص في الإماء ، وألحق بهن العبيد لعدم الفارق.

وأما من كان محصنا من الأحرار فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة وبإجماع أهل العلم ، وبالقرآن المنسوخ لفظه الباقي حكمه وهو : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة (٣).

وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة (٤).

وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في ذلك في «شرحه للمنتقى» (٥).

وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء (٦).

ووجه تقديم الزانية على الزاني أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى

__________________

زوجة الرجل الذي استأجر الأجير فزنى بامرأته ـ ورجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عزا ، والغامديّة ، وكل هؤلاء لم ينقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه جلدهم قبل الرجم ، وإنها وردت الأحاديث الصحاح بالاقتصار على رجمهم ، وليس فيها ذكر الجلد ، وهذا مذهب جمهور العلماء اه. (ابن كثير ٦ / ٥) ، ومعاني القرآن (٣ / ٤٩٥).

(١) حرّف في المطبوع إلى (تعذيب) وهو خطأ ، وصوّبناه من فتح القدير (٤ / ٤).

(٢) حديث صحيح : رواه مسلم (١٦٩٠) : عن عبادة مرفوعا ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».

(٣) رواه البخاري (١٢ / ١٣٧) ، ومسلم (١١ / ١٩١ ، ١٩٢) عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب.

(٤) قد بينّا هذا القول المأخوذ من حديث عبادة المتقدّم وهو رأي أهل الظّاهر ، والصواب الراجح : قول الجمهور بأن هذا الحديث منسوخ لرجمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عزا والغامدية ولم يثبت أنه جمع لهما بين الجلد والرّجم.

قلت : وأما حديث علي فمحمول على أنه ظنّ أنها بكر فجلدها ، ثم أخبر بأنها متزوجة فرجمها ، فليس فيه حجة لأهل الظاهر.

(٥) انظر : نيل الأوطار (٧ / ٢٤٩ ، ٢٥٧).

(٦) هما الآيتان (١٥ ـ ١٦) من السورة.

٣٨٦

كان لهن رايات تنصب على أبوابهن ليعرفهن من أراد الفاحشة منهن ؛ وقيل : وجه التقديم أن المرأة هي الأصل في الفعل ؛ وقيل : لأن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب ، وقيل : لأن العار فيهن أكثر إذ موضوعهن الحجبة والصيانة ؛ فقدم ذكرها تغليظا واهتماما.

والخطاب في هذه الآية للأئمة ومن قام مقامهم ، وقيل : للمسلمين أجمعين لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعا والإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامتها.

(وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) : هي الرقة والرحمة.

وقيل : هي أرق الرحمة.

ومعنى (فِي دِينِ اللهِ) : في طاعته وحكمه (١) ، كما في قوله تعالى : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) [يوسف : ٧٦].

ثم قال مثبتا للمأمورين ومهيجا لهم :

(إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) : كما يقول الرجل للرجل يحضه على أمر : إن كنت رجلا فافعل كذا ؛ أي إن كنتم تصدقون بالتوحيد والبعث الذي فيه جزاء الأعمال فلا تعطلوا الحدود.

(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)) أي ليحضره زيادة في التنكيل بهما وشيوع العار عليهما واشتهار فضيحتهما.

والطائفة : الفرقة التي تكون حافة حول الشيء من الطواف. وأقل الطائفة ثلاثة ، وقيل : اثنان ، وقيل : واحد ، وقيل : أربعة ، وقيل : عشرة.

[الآية الثانية]

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤)) (٢).

__________________

(١) قال مجاهد وعطاء والضحاك : أي في تعطيل الحدود. وانظر : الطبري (١٨ / ٦٧) ، وابن كثير (٦ / ٦) ، والدر المنثور (٥ / ١٨).

(٢) قال أبو جعفر النحاس : «في هذه الآية ثلاثة أحكام على القاذف : منها جلده ، وترك قبول شهادته ،

٣٨٧

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) : استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول ؛ ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة قذفا.

والمراد بالمحصنات النساء ، وخصهن بالذكر لأن قذفهن أشنع والعار فيهن أعظم.

ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة.

وقد جمع شيخ شيخنا الشوكاني في ذلك رسالة رد بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك.

وقيل : إن الآية تعم الرجال والنساء ، والتقدير الأنفس المحصنات ، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٢٤] ، فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء ؛ وإلا لم يكن للبيان كثير معنى.

وقيل : أراد بالمحصنات الفروج كما قال : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) [الأنبياء : ٩١] ، فتتناول الآية الرجال والنساء تغليبا.

وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب.

والمراد بالمحصنات هنا العفائف. وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني.

وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة في كتب الفقه منها ما هو مأخوذ من دليل ، ومنها ما هو مجرد رأي بحت.

وذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا حدّ على من قذف كافرا أو كافرة.

وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى : إنه يجب عليه الحد ؛ وكذا ذهبوا إلى أن العبد يجلد أربعين جلدة.

وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة : يجلد ثمانين جلدة.

قال القرطبي (١) : وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما.

__________________

وتفسيقه. (معاني القرآن ٤ / ٥١٠).

(١) انظر : التفسير (١٢ / ١٩٧).

٣٨٨

وقد ثبت في الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن من قذف مملوكة بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال».

ثم ذكر سبحانه شرطا لإقامة الحد على من قذف المحصنات ، فقال :

(ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) : يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن.

ولفظ (ثُمَ) يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف ، وبه قال الجمهور ؛ وخالف في ذلك مالك.

وظاهر الآية أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين ؛ وخالف في ذلك الحسن ومالك ، [وإذا] (١) لم يكمل الشهود أربعة وأبوا قذفه يحدون حد القذف.

وقال الحسن والشعبي : لا حد على الشهود ولا على المشهود عليه ، وبه قال أحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن. ويرد ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا ؛ ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة.

(فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) : الجلد : الضرب كما تقدم ، والمجالدة : المضاربة في الجلود أو بالجلود ؛ ثم استعير للضرب بالعصا والسيف وغيرهما.

(وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) : أي فأجمعوا لهم بين الأمرين الجلد وترك قبول الشهادة ، لأنهم قد صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به عليهم بقوله :

(وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤)) هذه جملة مستأنفة مقررة لما قبلها (٢).

__________________

(١) حرف ما بين [] في المطبوع إلى (ما إذا) والصواب ما أثبت من فتح القدير (٤ / ٨).

(٢) اختلف في ردّ شهادة القاذف ، فالجمهور على قبول شهادته إذا تاب ، وقال الحنفية : لا تقبل شهادته ولو تاب وصار أصلح الصالحين ، لقوله سبحانه : (أَبَداً) فإنها تفيد الدّوام والاستمرار.

وانظر : (القرطبي ١٢ / ١٧٩).

والقول الثاني : أن يكون الاستثناء من قوله تعالى : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) أي إلا من تاب ، فإنه تقبل شهادته.

وهذا قول مسروق وعطاء ومجاهد ، وطاووس.

ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكرة : إن تبت قبلت شهادتك ، وهذا قول أهل المدينة.

والقول الثالث : يروى عن الشعبي أنه قال : الاستثناء من الأحكام الثلاثة.

فإذا تاب وظهرت توبته لم يحدّ ، وقبلت شهادته ، وزال عنه التفسيق ، لأنه قد صار ممّن يرض من الشهداء ، وقد قال عزوجل : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)

٣٨٩

والفسق : هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة الحد بالمعصية.

[الآيات : الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة]

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)).

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) يشهدون بما رموهن به من الزنا (١).

(إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) : التي تزيل عنه حد القذف.

(أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦)) : في ما رماها به من الزنا.

(وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧)) : في ذلك.

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) : الدنيوي ، وهو الحد.

(أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ) : أي الزوج ، (لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨)).

(وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ) : الزوج ، (مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)) فيما رماها به من الزنا.

وتخصيص الغضب بالمرأة للتغليظ عليها لكونه أصل الفجور ومادته ، ولأن النساء يكثرن اللعنة في العادة ، ومع استكثارهن منها لا يكون له في قلوبهن كبير موقع بخلاف الغضب.

__________________

[طه : ٨٢].

وبالجملة قال الفقهاء أن الحدّ لا يسقط عمّن قذف محصنا عفيفا باتفاق حتى ولو تاب ، لأن التوبة لا تسقط عنه الحد ، وإنما يسقط عنه الفسق وردّ الشهادة على خلاف بينهم في ذلك. وانظر : البحر (٦ / ٤٣٢) وروح المعاني (١٨ / ١٠٢) ، ومعاني القرآن للنحاس (٣ / ٥٠١ ، ٥٠٤) ، وزاد المسير (٦ / ١٧) ، واللباب (١٥٤) ، والنكت للماوردي (٣ / ١١٣).

(١) ينظر خبر الإفك في : صحيح البخاري (٤٧٤٩) (٨ / ٣٠٦) ، والفتح الرباني للساعاتي (١٨ / ٢١٨) ، وجامع الأصول لابن الأثير (٢ / ٢٥٠) ، والطبري (١٨ / ٦٨) ، والنكت والعيون (٣ / ١١٣) ، وزاد المسير (٦ / ١٧) ، والقرطبي (١٢ / ١٩٧) ، وابن كثير (٣ / ٢٦٨) ، واللباب (١٥٤) ، والدر المنثور (٥ / ٢٤) ، والتفسير المأثور عن عمر بن الخطاب (ص ٥٦٦).

٣٩٠

وفي الملاعنة أحاديث كثيرة (١).

وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب (٢) وعلي (٣) وابن مسعود (٤) قالوا : لا يجتمع المتلاعنان أبدا.

وقد بسطنا الكلام على ذلك في «شرحنا لبلوغ المرام» فليرجع إليه.

[الآية السابعة]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) زجر الله سبحانه عن دخول البيوت بغير استئذان ، لما في ذلك من مخالطة الرجال للنساء ؛ فربما يؤدي إلى الزنا أو القذف ، فإن الإنسان يكون في بيته ومكان خلوته على حالة قد لا يجب أن يراه عليها غيره ؛ فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير إلى غاية هي قوله :

(حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) : الاستئناس : الاستعلام والاستخبار ؛ أي حتى تستعلموا من في البيت.

والمعنى : حتى تعلموا أن صاحب البيت قد علم بكم وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم ، فإذا علمتم ذلك دخلتم.

وقيل : الاستئناس الاستئذان (٥).

__________________

(١) صحيح : رواه البخاري (٤٧٤٨) ، (٣ / ١٤٨٤) ، ومسلم (١٠ / ١٢٧) من حديث عبد الله بن عمر.

وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٤) ، والتفسير المأثور عن عمر بن الخطاب (٥٦٤).

(٢) إسناده ضعيف : علته : انقطاع بين إبراهيم النخعي وعمر.

ورواه عن الرزاق في «المصنف» (١٢٤٣٣) ، والبيهقي في «الكبرى» (٧ / ٤١٠).

(٣) إسناده ضعيف : علته قيس بن الرّبيع : صدوق تغيّر عند كبره ، وأدخل عليه ما ليس من حديثه. وعاصم بن أبي النّجود القارئ : حسن الحديث.

رواه عبد الرزاق (١٢٤٣٦) ، والبيهقي (٧ / ٤١٠).

(٤) إسناده ضعيف : رواه عبد الرزاق في «المصنف» (١٢٤٣٤) ، والبيهقي في «الكبرى» (٧ / ٤١٠) ، وعلته في الضعف كسابقه.

(٥) قال مجاهد : هو التنحنح ، والتّنخّم.

وقال الطبري : قال آخرون معنى الآية : حتى تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح والتنخم وما أشبهه ،

٣٩١

(وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) : قد بينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يقول : السلام عليكم أأدخل؟ مرة أو ثلاثا (١).

واختلفوا هل يقدم الاستئذان على السلام أو العكس؟ فقيل : يقدم الاستئذان فيقول : أأدخل سلام عليكم ، لتقديم الاستئناس في الآية على السلام.

وقال الأكثرون : إنه يقدم السلام على الاستئذان فيقول : السلام عليكم أأدخل؟ وهو الحق ، لأن البيان منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية كان هكذا.

وقيل : إن وقع بصره على إنسان قدم السلام وإلا قدّم الاستئذان.

(ذلِكُمْ) : أي الاستئناس والتسليم ، أي دخولكم معهما.

(خَيْرٌ لَكُمْ) : من الدخول بغتة.

(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)) : أن الاستئذان خير لكم ، والمراد بالتذكر الاتعاظ والعمل بما أمروا به.

[الآية الثامنة]

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠)).

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) : خصّ للمؤمنين مع تحريمه على غيرهم ، لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر بهم أحق بها من غيرهم وأولى بذلك ممن سواهم.

وقيل : إن في الآية دليلا على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات. كما يقول بعض أهل العلم.

(يَغُضُّوا) معنى غض البصر : إطباق الجفن على العين بحيث يمنع الرؤية.

__________________

حتى يعلموا أنكم تريدون الدخول عليهم (الطبري ١٨ / ١١١).

(١) حديث صحيح : رواه أبو داود (٥١٧٦) ، والترمذي (٢٧١٠) ، وأحمد في «المسند» (٣ / ٤١٤) ، من حديث صفوان بن أمية مرفوعا.

وقال أبو عيسى : حسن غريب.

قلت : إن كان ابن جريج مدلسا ، فقد صرّح بالسماع في روايته لهذا الحديث فزالت الشبهة في تدليسه.

٣٩٢

(مِنْ أَبْصارِهِمْ) : هي التبعيضية ؛ وإليه ذهب الأكثرون وبينوه بأن المعنى غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل.

وقيل : وجه التبعيض أنه يعفى للناظر أول نظرة تقع من غير قصد ، وقيل غير ذلك (١).

وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحل النظر إليه.

(و) : معنى : (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) : أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم.

وقيل : المراد ستر فروجهم عن أن يراها من لا يحل له رؤيتها. ولا مانع من إرادة المعنيين ، فالكل يدخل تحت حفظ الفرج.

وقيل : وجه المجيء بمن في الأبصار دون الفروج أنه موسع في النظر ، فإنه لا يحرم منه إلا ما استثنى ، بخلاف حفظ الفرج فإنه مضيق فيه ، فإنه لا يحل منه إلا ما استثنى.

وقيل : الوجه أن غض البصر كله كالمتعذر بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق. والإشارة بقوله :

(ذلِكَ) ؛ إلى ما ذكر من الغض والحفظ وهو مبتدأ وخبره.

(أَزْكى لَهُمْ) : أي أطهر لهم من دنس الريبة وأطيب من التلبس بهذه الدنية.

(إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠)) : لا يخفى عليه شيء من صنيعهم ، وفي ذلك وعيد لمن لم يغض بصره ويحفظ فرجه.

[الآية التاسعة]

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ

__________________

(١) قال جرير بن عبد الله : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن نظرة الفجأة فقال : «اصرف بصرك» رواه مسلم (٦ / ١٨١) ، وأبو داود (٨ / ٦١) ، والترمذي (٢٩١٦) وأحمد (٤ / ٣٦١) وانظر : الطبري (١٨ / ١١٧) ، والسيوطي في الدر (٥ / ٤٠) وكذلك المشكل لمكي (٢ / ١٢٠) ، والتبيان (٢ / ١٥٥) ، وزاد المسير (٦ / ٣٠).

٣٩٣

لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)).

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) : خص الله سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد ، لدخولهن تحت خطاب المؤمنين تغليبا ، كما في سائر الخطابات القرآنية. وظهر التضعيف في (يغضضن) ولم يظهر في (يَغُضُّوا) لأن لام الفعل من الأول متحركة ، ومن الثاني ساكنة ، وهما في موضع جزم جوابا للأمر.

وبدأ سبحانه بالغض في الموضعين قبل حفظ الفرج ؛ لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج ، والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه.

ومعنى يغضضن كمعنى يغضوا ؛ فيستدل به على تحريم نظر النساء إلى ما يحرم عليهن ، وكذلك يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم.

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) : أي ما يتزيّن به من الحلية وغيرها ، وفي النهي عن إبداء الزينة نهي عن إبداء مواضعها من أبدانهن بالأولى ، ثم استثنى سبحانه من هذا النهي فقال :

(إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) : واختلف الناس في ظاهر الزينة ما هو؟

فقال ابن مسعود وسعيد بن جبير : وهو الثياب ، وزاد سعيد الوجه.

وقال عطاء والأوزاعي : الوجه والكفان.

وقال ابن عباس وقتادة والمسوّر بن مخرمة : ظاهر الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الساق ونحو ذلك ؛ فإنه يجوز للمرأة أن تبديه.

وقال ابن عطية : إن المرأة لا تبدي شيئا من الزينة وتخفي كل شيء من زينتها ، ووقع الاستثناء فيما يظهر منها بحكم الضرورة ، ولا يخفى عليك أن ظاهر النظم القرآني

٣٩٤

النهي عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها كالجلباب والخمار ونحوهما مما على الكف والقدمين من الحلية ونحوها ، وإن كان المراد بالزينة مواضعها كان الاستثناء راجعا إلى ما يشق على المرأة ستره كالكفين والقدمين ونحو ذلك.

وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها لفحوى الخطاب ، فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين ، وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة وما تتزين به النساء فالأمر واضح والاستثناء يكون من الجمع (١).

__________________

(١) فائدة : نذكر تحقيقا مختصرا في تفسير هذه الآيات من كلام بعض أهل التفسير فنقول :

١ ـ قال الحافظ ابن الجوزي في زاد المسير : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) أي لا يظهر منها لغير محرّم ، وزينتهنّ على ضربين ؛ خفية كالسوارين والقرطين والقلائد ونحو ذلك.

وظاهرة : وهي المشار إليها بقوله تعالى : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) وفيه سبعة أقوال :

أحدها : أنها الثياب ، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وفي لفظ آخر هو الرّداء.

الثاني : أنها الكف والخاتم والوجه.

الثالث : الكحل والخاتم ، ورواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس.

وأخذ ابن الجوزي في سرد الأقوال الواردة والمروية في ذلك إلى أن قال : الوجه والكفان ، قاله الضحاك.

قال القاضي أبو يعلى : والقول الأول أشبه ، يعني ما ورد عن ابن مسعود أنها الثياب ، وفي لفظ الرداء.

وقد نصّ عليه أحمد فقال : الزّينة الظاهرة الثياب ، وكل شيء منها عورة حتى الظّفر ، ويقيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر مثل أن يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها ، فإنه ينظر في الحالتين إلى وجهها خاصّة ، فأما النظر إليها لغير عذر فلا يجوز ، لا لشهوة ولا لغيرها ، وسواء في ذلك الوجه والكفّان وغيرهما من البدن.

فإن قيل : فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟

فالجواب : إن في تغطيته مشقة فعفى عنه.

وانظر : زاد المسير (٦ / ٣٢ ، ٢٣٦).

٢ ـ الحافظ ابن كثير صدّر كلامه بقول ابن مسعود بأن تفسير (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) هو الرداء والثياب ، لأنهما لا يمكن إخفاؤهما حسب عادات العرب مما سلف ، ونقل عن الحسن البصري وابن سيرين وأبي الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم أنهم قالوا بقول ابن مسعود ، وذكر في رواية عن ابن مسعود أن الزّينة زينتان : زينة لا يراها إلا الزّوج وهي الخاتم والسوار ، وزينة يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب.

وقال ابن كثير : ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين ، وهذا هو المشهور عند الجمهور .. وانظر : تفسير ابن كثير (٣ / ٢٨٢ ، ٢٨٥).

٣ ـ الحافظ شيخ الإسلام ابن جرير الطبري : ابن جرير هو شيخ المفسرين ومع ذلك فهو من أشهر القائلين بجواز كشف الوجه والكفين ، فقد نقل عدة روايات عن ابن مسعود وعن الحسن

٣٩٥

قال القرطبي في «تفسيره» (١) : الزينة على قسمين : خلقية ومكتسبة ، فالخلقية وجهها ؛ فإنه أصل الزينة ، والمكتسبة ما تحاوله المرأة من تحسين خلقها كالثياب والحلي والكحل والخضاب. ومنه قوله تعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣١] ، وقول الشاعر :

يأخذن زينتهن أحسن ما ترى

وإذا عطلن فهن خير عواطل

(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) : الخمر : جمع خمار ، وهو ما تغطي به المرأة رأسها.

والجيوب : جمع جيب ، وهو موضع القطع من الدرع والقميص ، مأخوذ من الجوب وهو القطع.

قال المفسرون : إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام واسعة ، فكانت تنكشف نحورهن وقلائدهن ، فأمرن أن يضربن مقانعهن على

__________________

وابن عباس وغيرهم تفيد الجواز في كشف الوجه والكفين ، واختار هذا القول.

فقد قال رحمه‌الله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) ولا يظهرن للناس الذين ليسوا لهن بمحرم زينتهن وهما زينتان : إحداهما ما خفي ، وذلك كالخلخال والسوارين ، والأخرى : ما ظهر منها ، وذلك مختلف في المعنى منه.

ثم أسرد قول القائلين بأن المراد بالزينة الثياب الظاهرة كما روى عن ابن مسعود من عدة روايات ، وقول الحسن بأنها الثياب ، وعبد الرحمن بن زيد عن ابن مسعود أنه قال : الرداء.

ثم قال رحمه‌الله وقال آخرون : الظاهر من الزينة التي أبيح لها أن تبديه الكحل والخاتم والسواران والوجه.

وذكر قول سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وكذلك رواية عبد الله بن هرمز عن سعيد بن جبير أنه فسّر (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) بالوجه والكف.

وبالجملة فترى الروايات التي ذكر ابن جرير تفسر (ما ظَهَرَ مِنْها) بالزينة الظاهرة من الكحل والخاتم والقرط والسوار ، أو بالثياب والرداء كابن مسعود ، وبالوجه والكفين كسعيد بن جبير وابن عباس.

ثم اختار ابن جرير قائلا :

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال ، عني بذلك الوجه والكفّين ، يدخل في ذلك إذا كان كذلك الكحل والخاتم والسوار والخضاب.

وعلل الطبري ذلك بقوله : لو كان الوجه عورة لما كشفته في الصلاة. وانظر : الطبري (١٨ / ٩٢ ، ٩٦).

(١) انظره في (١٢ / ٢٢٩).

٣٩٦

الجيوب ليسترن بذلك ما كان يبدو ، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو الإلصاق ، وقد فسّر الجمهور الجيوب بما ذكرنا وهو المعنى الحقيقي.

وقال مقاتل : إن معنى (عَلى جُيُوبِهِنَ) : على صدورهن ؛ فيكون في الآية مضاف محذوف ، أي على مواضع جيوبهن (١).

(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) : البعل : هو الزوج والسيد في كلام العرب ، وقدم البعولة لأنهم المقصودون بالزينة ولأن كل بدن الزوجة والسرية حلال لهم ، ومثله قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦)) [المؤمنون : ٥ ـ ٦].

(أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) فجوز للنساء أن يبدين الزينة لهؤلاء لكثرة المخالطة وعدم خشية الفتنة ، لما في الطباع من النفرة عن القرائب.

وقد روي عن الحسن والحسين رضي الله عنهما : أنهما كانا لا ينظران إلى أمهات المؤمنين ، ذهابا منهما إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي قوله : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ) [الأحزاب : ٥٥] ، والمراد بأبناء بعولتهن ذكور أولاد الأزواج ، ويدخل في قوله : (أَبْنائِهِنَ) أولاد الأولاد ـ وإن سفلوا ـ وأولاد بناتهن ـ وإن سفلوا ـ وكذلك آباء البعولة وآباء الآباء وآباء الأمهات ـ وإن علوا ـ وكذلك أبناء أبناء البعولة ـ وإن سفلوا ـ وكذلك الإخوة والأخوات.

وذهب الجمهور إلى أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم ، وليس في الآية ذكر الرضاع وهو كالنسب ، وقال الشعبي وعكرمة : ليس العم والخال من المحارم.

(أَوْ نِسائِهِنَ) : هي المختصات بهن الملابسات لهن بالخدمة أو الصحبة ، ويدخل في ذلك الإماء ، ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل الذمة وغيرهم ، فلا يحل لهن أن يبدين زينتهن لهن لأنهن لا يتحرجن من وصفهن للرجال ، وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم ، وإضافة النساء إليهن تدل على اختصاص ذلك بالمؤمنات.

__________________

(١) انظر : الطبري (١٨ / ٩٢) ، وزاد المسير (٦ / ٣٦) ، والنكت (٣ / ١٢٢) ، ومعاني النحاس (٤ / ٥٢٥ ، ٥٢٧).

٣٩٧

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) : ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء من غير فرق بين أن يكونوا مسلمين أو كافرين ، وبه قال جماعة من أهل العلم ، وإليه ذهبت عائشة وأم سلمة وابن عباس ومالك.

وقال سعيد بن المسيب : لا تغرنكم هذه الآية (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) إنما عني بها الإماء ولم يعن بها العبيد.

وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته. وهو قول عطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين ، وروي عن ابن مسعود ، وبه قال أبو حنيفة وابن جريج.

(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) : المراد بهم الذين يتبعون القوم فيصيبوا من طعامهم لا همة لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم في النساء. قاله مجاهد وعكرمة والشعبي.

وأصل الإربة والأرب والمأربة : الحاجة ؛ والجمع مآرب.

قيل : المراد بغير أولي الإربة الحمقاء الذين لا حاجة لهم في النساء.

وقيل : البله ، وقيل : العنّين.

وقيل : الخصي. وقيل : المخنث (١).

وقيل : الشيخ الكبير. ولا وجه لهذا التخصيص ؛ بل المراد بالآية ظاهرها وهم من يتبع أهل البيت ولا حاجة له في النساء ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال ، فيدخل في هؤلاء من هو بهذه الصفة ويخرج من عداه.

(أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) : الطفل : يطلق على المفرد والمثنى والمجموع ؛ والمراد به هنا الجنس الموضوع موضع الجمع بدلالة وصفه بوصف الجمع.

وفي مصحف أبيّ (أَوِ الطِّفْلِ) على الجمع ، يقال للإنسان : طفل ما لم يراهق الحلم.

__________________

(١) قال في «المصباح» : الإرب والإربة بالكسر : الحاجة ، والإرب بالكسر يستعمل في الحاجة ، وفي العضو ، والجمع : آراب مثل حمل وأحمال ، وفي الحديث : «كان أملككم لإربه» أي لنفسه عن الوقوع في الشهوة. اه.

وانظر : نهاية ابن الأثير (١ / ٣٦).

٣٩٨

ومعنى لم يظهروا : لم يطلعوا ، من الظهور بمعنى الاطلاع. كذا قال ابن قتيبة.

وقيل : معناه لم يبلغوا حد الشهوة. قاله الفراء والزجاج (١).

واختلف العلماء في وجوب ستر ما عدى الوجه والكفين من الأطفال؟

فقيل : لا يلزم لأنه لا تكليف عليه وهو الصحيح.

وقيل : يلزم لأنه قد يشتهي المرأة.

وهكذا اختلف في عورة الشيخ الكبير الذي قد سقطت شهوته ، والأولى بقاء الحرمة كما كانت ، فلا يحل النظر إلى عورته ولا يحل له أن يكشفها.

وقد اختلف العلماء في حد العورة؟

قال القرطبي (٢) : أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجال والمرأة ، وأن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها ـ على خلاف في ذلك.

وقال الأكثر : إن عورة الرجل من سرته إلى ركبتيه.

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) : أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من يسمعه من الرجال ، فيعلمون أنها ذات خلخال.

قال الزجاج : وسمع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها.

[ثم] (٣) أرشد عباده إلى التوبة من المعاصي فقال سبحانه : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) : فيه الأمر بالتوبة ؛ ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها وأنها فرض من فرائض الدين.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)) أي تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة.

وقيل : إن المراد بالتوبة التناهي عما كانوا يعملونه في الجاهلية. والأول أولى لما تقرر في السنة من : «أن الإسلام يجب ما قبله».

__________________

(١) قال القرطبي (١٢ / ٢٣٦) : (لَمْ يَظْهَرُوا) أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهن ، وقيل : لم يبلغوا أن يطيقوا النساء ، يقال : ظهرت على كذا أي علمته ، وظهرت على كذا أي قهرته اه.

(٢) في «تفسيره» (١٢ / ٢٣٧).

(٣) ما بين [المعقوفين] زيادة لتمام السياق.

٣٩٩

[الآية العاشرة]

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)).

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) : الأيّم : التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا ، والجمع أيامى (١).

والأيّم : بتشديد الياء ، ويشمل الرجل والمرأة.

قال أبو عبيد : يقال رجل أيّم وامرأة أيّم ، وأكثر ما يكون في النساء ، وهو كالمستعار في الرجال ، والخطاب في الآية للأولياء.

وقيل : للأزواج. والأول أرجح.

وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها ، وقد خالف في ذلك أبو حنيفة (٢).

واختلف أهل العلم في النكاح : هل هو مباح؟ أو مستحب؟ أو واجب؟ فذهب

__________________

(١) قال الضحاك : هنّ اللّواتي لا أزواج لهن ، يقال : رجل أيّم ، وامرأة أيّم.

(٢) قال القنوجي المصنف في «الروضة الندية» (٢ / ٣ ، ٤)! بعد أن سرد أدلة مشروعية النكاح أقول :

الحاصل أن من كان محتاجا إلى النكاح أو كان فعله له أولى من تركه من دون احتياج فلا ريب أن أقل الأحوال أن يكون في حقه مندوبا للأدلة الواردة فيه.

ومن لم يكن محتاجا إليه ولا كان فعله أولى له كالحصور والعنين فقد يكون مكروها ، إذا كان يخشى الاشتغال عن الطاعات من طلب العلم أو غيره مما يحتاج إليه أهله. أو كانت المرأة تتضرر بترك الجماع من دون أن تقدم على المعصية ، وأما إذا كان في غنية بحيث لا يشتغل عن الطاعات ، وكانت المرأة لا تتضرر بترك الجماع ، ولا يحصل له بالنكاح نفع فيما يرجع إلى الباءة ، فالظاهر أنه مباح ، وإن لم يأت من الأدلة ما يقتضي هذه التفاصيل فثمّ أدلة أخرى تقتضيها وقواعد كلية ، ولو قيل : أنه لا يكون في تلك الصورة مباحا ، بل مكروها لما ورد في العزبة والعزلة آخر الزمان لم يكن بعيدا من الصواب اه.

وقال تقي الدين الحصني رحمه‌الله : «وفي الحديث الأمر بالنكاح لمن له استطاعة وتاقت نفسه إليه وهو أمر ندب عند الشافعية وكافة العلماء ، قاله النووي.

وعند أحمد يلزمه الزواج أو التسري إذا خاف العنت وهو الزنا ، وهو وجه لنا ، وحجة من قال بعدم الوجوب قوله عزوجل : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] أناط الحكم باحتبارنا واستطابتنا ، والواجب ليس كذلك .. (كفاية الأخيار ص ٣٤٦) ط. دار الخير دمشق.

وانظر : مغني المحتاج للشربيني (٣ / ١٢٥ ، ١٢٦).

٤٠٠