نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) : أي أن يهلك امرؤ هلك ، كما تقدم في قوله : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) [النساء : ١٢٨].

(لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) : إما صفة لامرىء أو حال ، ولا وجه للمنع من كونه حالا ، والولد يطلق على الذكر والأنثى ، واقتصر على عدم الولد هنا ، مع أن عدم الوالد أيضا معتبر في الكلالة ، اتكالا على ظهور ذلك؟

قيل : والمراد هنا بالولد الابن ، وهو أحد معنيي المشترك ؛ لأن البنت لا تسقط الأخت.

(وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) عطف على قوله : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ، والمراد بالأخت هنا ؛ هي الأخت لأبوين أو لأب [لا] (١) لأم ، فإن فرضها السدس ، كما ذكر سابقا (٢).

وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم ، إلى أن الأخوات لأبوين أو أب عصبة للبنات ، وإن لم يكن معهن أخ.

وذهب ابن عباس إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات ، وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة ، وقالوا : إنه لا ميراث للأخت لأبوين ، أو لأب مع البنت ، واحتجوا بظاهر هذه الآية ؛ فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى ، قيدا في ميراث الأخت ؛ وهذا الاستدلال صحيح ، لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت ، وهو ما ثبت في «الصحيح» أن معاذا قضى على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بنت وأخت ، فجعل للبنت النصف ، وللأخت النصف (٣).

وثبت في «الصحيح» أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى في بنت ، وبنت ابن ، وأخت ، فجعل للبنت النصف ، ولبنت الابن السدس ، وللأخت الباقي (٤).

__________________

(١) ما بين [معقوفين] وقع (إلا) في المطبوعة وهو مخالف للصواب ، وانظر : فتح القدير (١ / ٥٤٣).

(٢) عند الآية (١٢) من سورة النساء.

(٣) حديث صحيح : رواه البخاري (١٢ / ١٥ ، ٢٤).

وانظر : مغني المحتاج (٣ / ١٠) ، والروضة (٥ / ١١) ، والإقناع (٣ / ٨٥) ، والمغني (٦ / ١٧٦) ، وبداية المجتهد (٢ / ٣٤٣) ، والاختيار للموصلي (٤ / ١٦٣) ، وحاشية البقري على المارديني (ص ١٩).

وشرح الرحبية للمارديني (ص ٦١) ط. قرطية ، ودار الكتب العلمية ـ كلاهما بتحقيقنا.

(٤) حديث صحيح : رواه البخاري (١٢ / ١٧ ، ٢٤) ، وأبو داود (٢٨٩٠) ، والترمذي (٢١٧٣) ، وأحمد.

٢٢١

فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت.

(وَهُوَ) أي الأخ (يَرِثُها) أي الأخت (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) ذكر ، وإن كان المراد بإرثه لها حيازته لجميع تركتها ، وإن كان المراد ثبوت ميراثه لها في الجملة ـ أعم من أن يكون كلا أو بعضا ـ صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى.

واقتصر سبحانه على نفي الولد فقط مع كون الأب يسقط الأخ أيضا ، لأن المراد بيان سقوط الأخ مع الولد فقط هنا ، وأما سقوطه مع الابن فقد تبين بالسنة ، كما ثبت في «الصحيح» من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فالأولى رجل ذكر» (١) والأب أولى من الأخ.

(فَإِنْ كانَتَا) أي فإن كان من يرث بالأخوة (اثْنَتَيْنِ) والعطف على الشرطية السابقة ، والتأنيث والتثنية ، وكذلك الجمع في قوله : (وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً) باعتبار الخبر ، (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) الأخ إن لم يكن له ولد كما سلف ، وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهن الثلثان بالأولى ؛ مع أن نزول الآية كان في جابر ـ وقد مات رضي الله عنه عن أخوات سبع أو تسع (٢).

(وَإِنْ كانُوا) : أي من يرث بالأخوة (إِخْوَةً) أي وأخوات ، فغلب الذكور ، أو فيه اكتفاء بدليل قوله : (رِجالاً وَنِساءً) أي مختلطين ذكورا وإناثا (فَلِلذَّكَرِ) : منهم ، (حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) : تعصيبا.

وقد وضحنا الكلام ـ خلافا واستدلال وترجيحا ـ في شأن الكلالة ، في أول هذه السورة ، فلا نعيد (٣).

__________________

(١ / ٣٨٩) ، وابن ماجة (٢٧٢١) ، عن ابن مسعود مرفوعا.

وانظر : إجماع ابن المنذر (ص ٦٨) ، والمغني (٦ / ١٧٤) ، والمبسوط (٢٩ / ١٥٢) ، ومراتب ابن حزم (ص ١٠٢) ، والإقناع (٣ / ٨٨) ، وشرح الرحبية (ص ٦٥) بتحقيقنا.

(١) صحيح : رواه البخاري (١٢ / ١١ ، ١٦ ، ١٨) ، ومسلم (١١ / ٥٢ ، ٥٣) ، وأبو داود (٢٨٩٥) ، والترمذي (٢٠٩٠) ، وابن ماجة (٢٧٤٠) ، وأحمد (١ / ٢١٣) عن ابن عباس مرفوعا.

وانظر : شرح الرحبية لسبط المارديني (ص ٧٣ ، ٧٤) ، بتحقيقنا ـ ط. قرطبة ، ودار الكتب العلمية.

(٢) حديث صحيح : رواه البخاري (١٢ / ٢٥) ، ومسلم (١١ / ٥٤ ، ٥٦) ، عن جابر بن عبد الله مرفوعا.

(٣) عند الآية (١٢).

٢٢٢

سورة المائدة

[مائة وعشرون آية]

قال القرطبي : هي مدنية بالإجماع (١).

فائدة : قال [أبو] (٢) ميسرة : إن الله سبحانه ، أنزل في هذه السورة ثمانية عشر حكما ، لم ينزلها في غيرها من سور القرآن ، وهي قوله تعالى : (وَالْمُنْخَنِقَةُ) إلى قوله :

(إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ). انتهى.

[الآية الأولى]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة ، إلى قوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)) فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية ، مع شمولها لأحكام عدة ، منها الوفاء بالعقود ، ومنها تحليل بهيمة الأنعام ، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحل ، ومنها تحريم الصيد على المحرم ، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.

وقد حكى النقاش : أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له : أيها الحكيم ، اعمل لنا مثل هذا القرآن. فقال : نعم أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياما كثيرة ، ثم خرج فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف ، فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلا عاما ، ثم استثنى بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته ، وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا (٣).

__________________

(١) انظر في «تفسيره» (٦ / ٣٠).

(٢) ما بين [معقوفين] سقط من المطبوعة.

(٣) انظر : تفسير القرطبي (٦ / ٣١ ، ٣٢) ، فتح القدير للشوكاني (٢ / ٤) ، تفسير ابن عطية (٤ / ٢١٩)

٢٢٣

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) : يقال : أوفى ووفى ، وقد جمع بينهما الشاعر فقال :

أمّا ابن طوف فقد أوفى بذمّته

كما وفى بقلاص النّجم حاديها

والعقود : العهود ، وأصل العقود الربط ، وأحدها عقد ، يقال : عقدت الحبل والعهد ، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني ، وإذا استعمل في المعاني ـ كما هنا ـ أفاد أنه شديد الإحكام ، وقوي التوثيق.

وقيل : المراد بالعقود هي التي عقدها الله على عباده ، وألزمهم بها من الأحكام.

وقيل : هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات ، والأولى شمول الآية للأمرين جميعا ، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض.

قال الزجاج : أوفوا بعقد الله عليكم ، أو بعقدكم بعضكم على بعض. انتهى.

والعقد الذي يجب الوفاء به ، ما وافق كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن خالفهما فهو رد ، لا يجب الوفاء به ، ولا يحل (١).

(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) البهيمة : اسم لكل ذي أربع ، سمّيت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها ، ومنه باب مبهم ، أي مغلق ، وليل بهيم ، وبهيمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى ، وحلقة مبهمة لا يدرى أين طرفاها.

والأنعام : اسم للإبل والبقر والغنم ، سمّيت بذلك لما في مشيها من اللين.

وقيل : بهيمة الأنعام وحشيّها كالظباء ، وبقر الوحش ، والحمير الوحشية ، وغير ذلك. حكاه ابن جرير الطبري عن قوم ، وحكاه غيره عن السدي والربيع وقتادة والضحاك (٢).

__________________

فقد ذكروا هذه الحكاية.

(١) قال الضحاك : العقود هنا : حلف الجاهلية ، وقال أيضا : هي العهود ، وقال : ما أحل الله وحرّم وما أخذ الله من الميثاق على من أقرّ بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام. وانظر الأقوال في هذه الآية في : زاد المسير (٢ / ٢٦٧) ، وأحكام القرآن للمعافري (٢ / ٥٢٤) ، وتفسير ابن كثير (٢ / ٣) ، وتفسير ابن عطية (٤ / ٣١٣ ، ٣١٥).

(٢) وقال الضحاك أيضا : هي الأنعام مطلقا وانظر أقوالهم في «الطبري» (٦ / ٣٤) ، وأحكام ابن العربي (٢ / ٥٢٩) ، وابن عطية (٤ / ٣١٦) ، والقرطبي (٦ / ٣٧) ، ابن كثير (٢ / ٥) ، وزاد المسير (٢ / ٢٦٨) ، والدر المنثور (٢ / ٢٥٣) ، والمغني (١١ / ٥١).

٢٢٤

قال ابن عطية : وهذا قول حسن! وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج ، وما يضاف إليها من سائر الحيوانات ، يقال له : أنعام مجموعة معها ، وكأن المفترس ـ كالأسد وكل ذي ناب ـ خارج عن حد الأنعام ، فبهيمة الأنعام هي الراعي ذوات الأربع.

وقيل : بهيمة الأنعام ما لم يكن صيدا ؛ لأن الصيد يسمى وحشيا لا بهيمة.

وقيل : بهيمة الأنعام الأجنّة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام ؛ فهي تؤكل من دون [ذكاة] (١).

وعلى القول الأول ـ أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم ـ تكون الإضافة بيانية ، ويلحق بها ما يحل مما هو خارج عنها بالقياس ، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة ، كقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ...) الآية ، [الأنعام : ١٤٥].

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يحرم كل ذي ناب من السبع ، ومخلب من الطير» (٢) ، فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال ؛ وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع ، كما في كتب السنة المطهرة.

(إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) : استثناء من قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) أي إلا مدلول ما يتلى عليكم ؛ فإنه ليس بحلال.

والمتلوّ : هو ما نص الله على تحريمه ، نحو قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ...) الآية [المائدة : ٣] ، وذلك عشرة أشياء ، أولها الميتة ، وآخرها المذبوح على النّصب ، ويلحق به ما صرحت السّنة بتحريمه ، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به ، إلا ما يتلى عليكم الآن ، ويحتمل أن يكون المراد به في مستقبل الزمان ، فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ويحتمل الأمرين جميعا.

(غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) : ذهب البصريون إلى أن قوله هذا استثناء آخر من قوله : (بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) والتقدير : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ، إلا الصيد وأنتم

__________________

(١) ما بين [معقوفين] صحّف إلى (زكاة) بالزّاي وهو خطأ واضح ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) حديث صحيح : رواه مسلم (١٣ / ٨٣). عن ابن عباس مرفوعا.

ورواه البخاري (٩ / ٦٥٧) ، (١٠ / ٢٤٩) ، ومسلم (١٣ / ٨١ ، ٨٣) عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا ، نحوه.

٢٢٥

محرمون ، وقيل الاستثناء الأول من بهيمة الأنعام ، والثاني من الاستثناء الأول.

وردّ بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام لأنه مستثنى من المحظور ، فيكون مباحا (١).

(وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) : في محل نصب على الحال ، ومعنى هذا التقييد ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية ، التي يحل أكلها ؛ كأنه قال : أحل لكم صيد البر ، إلا في حال الإحرام.

وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى : أحلت لكم بهيمة هي الأنعام ـ حل تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام ـ لكونكم محتاجين إلى ذلك. فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرم عليهم في تلك الحال.

والمراد بالحرم من هو محرم بالحج أو العمرة أو بهما ، ويسمى محرما لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء ، وهكذا وجه تسمية الحرام حراما ، والإحرام إحراما (٢).

[الآية الثانية]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) : جمع شعيرة ، على وزن فعلية.

قال ابن الفارس : ويقال للواحدة شعارة وهو أحسن ، ومنه الإشعار للهدي (٣).

والمشاعر : المعالم ، واحدها مشعر ، وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات.

__________________

(١) انظر : توجيه ابن عطية في «المحرر» (٤ / ٢١٧) ، وتعقيب ابن حبان عليه في «البحر المحيط» ومناقشته له مناقشة طويلة.

(٢) انظر : تفسير ابن عطيّة (٤ / ٣١٨).

(٣) انظر : معجم مقاييس اللغة (شعر) ط. بيروت.

٢٢٦

قيل : المراد بها هنا جميع مناسك الحج ، وقيل : الصفا والمروة والهدي والبدن. والمعنى على هذين القولين لا تحلوا هذه الأمور ، بأن يقع الإخلال بشيء منها ، أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها. ذكر سبحانه النهي عن أن يحلوا شعائر الله عقب ذكره تحريم صيد المحرم.

وقيل : المراد بالشعائر هنا فرائض الله ، ومنه : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) [الحج : ٣٢] ، وقيل : هي حرمات الله. ولا مانع من حمل ذلك على الجميع ، اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولا بما يدل عليه السياق.

(وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) المراد به الجنس ، فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم ، وهي أربعة : ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب ، أي تحلوها بالقتال فيها ، وقيل المراد هنا شهر الحج فقط (١).

(وَلَا الْهَدْيَ) : هو ما يهدى إلى بيت الله ، من ناقة ، أو بقرة ، أو شاة ، الواحدة هدية ، نهاهم الله سبحانه عن أن يحلوا حرمة الهدي ، بأن يأخذوه على صاحبه ، أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدي إليه ، وعطف الهدي على الشعائر ـ مع دخوله تحتها ـ لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته ، والتشديد في شأنه.

(وَلَا الْقَلائِدَ) : جمع قلادة ، وهي ما يقلّد به الهدي من نعل أو نحوه ، وإحلالها أن تؤخذ غصبا ، وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي ، وقيل : المراد بالقلائد ، المقلدات به ، فيكون عطفه على الهدي لزيادة التوصية بالهدي ، والأول أولى ، وقيل : المراد بالقلائد ما كان الناس يتقلدونه ، فهو على حذف مضاف ، أي ولا أصحاب القلائد.

(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) : أي قاصديه ، من قولهم أممت كذا أي قصدته. وقرأ الأعمش : ولا آمّي البيت الحرام بالإضافة ، والمعنى : لا تمنعوا من قصد البيت الحرام ، بحج أو عمرة ، أو ليسكن فيه. وقيل : إن سبب نزول هذه الآية ، أن المشركين كانوا يحتجون ويعتمرون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنزل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ

__________________

(١) قال القاضي أبو محمد : «والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتهر أمره ، لأنه كان مختصا بقريش ، ثم فشا في مضر. اه. وهذا قول الطبري أيضا ، وانظر : المحرر الوجيز (٤ / ٣٢١).

٢٢٧

آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) إلى آخر الآية (١) ، فيكون ذلك منسوخا بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] وقوله : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحجن بعد العام مشرك» (٢).

وقال قوم الآية محكمة وهي في المسلمين (٣).

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) : جملة حالية من الضمير المستتر في (آمِّينَ) قال جمهور المفسرين : معناه يبغون الفضل والرزق والأرباح في التجارة ، ويبتغون ـ مع ذلك ـ رضوان الله ، وقيل : كان منهم من يطلب التجارة ، ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله ، ويكون هذا الابتغاء للرضوان ـ بحسب اعتقادهم وفي ظنهم ـ عند من جعل الآية في المشركين ، وقيل : المراد بالفضل هنا الثواب ، لا الأرباح في التجارة (٤).

(وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) : هذا تصريح لما أفاده مفهوم : (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ، أباح لهم الصيد ، بعد أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرّم لأجله ، وهو الإحرام (٥).

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) (٦) : قال ابن فارس : جرم وأجرم ولا جرم ، بمعنى قولك : ولا بد ولا محالة ، وأصلها من جرم أي كسب ، وقيل : المعنى ولا يحملنكم.

قاله الكسائي وثعلب. وهو يتعدى إلى مفعولين ، يقال : جرمني كذا على بغضك ، أي حملني عليه.

وقال أبو عبيدة والفراء : معنى (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) لا يكسبنكم بغض قوم أن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري .. (٦ / ٣٤) ، والدر المنثور (٣ / ٧).

(٢) حديث صحيح : رواه البخاري (١ / ٤٧٧ ، ٤٧٨) ، (٣ / ٤٨٣) ، ومسلم (٩ / ١١٥ ، ١١٦) عن أبي هريرة مرفوعا.

قال ابن عطية : «فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو محكم ، وكل ما كان منها في الكفّار فهو منسوخ وقرأ ابن مسعود وأصحابه : [ولا آمّي البيت] بالإضافة إلى البيت» وانظر : المحرر (٤ / ٣٢٥) ، والقرطبي (٦ / ٤٣ ، ٤٤).

(٣) قال ابن عطية : «فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو محكم ، وكل ما كان منها في الكفّار فهو منسوخ وقرأ ابن مسعود وأصحابه : [ولا آمّي البيت] بالإضافة إلى البيت» وانظر : المحرر (٤ / ٣٢٥) ، والقرطبي (٦ / ٤٣ ، ٤٤).

(٤) انظر : تفسير ابن عطية (٥ / ٣٢٥).

(٥) فصل المصنف هذا الموضع عن سابقه ، وقد وصلناه لتمام السياق ووضوح اتصاله.

(٦) انظر : الهداية للمرغيناني (٤ / ١٥٣٩) ، وتفسير ابن عطية (٤ / ٣٢٦) ، البحر المديد لابن عجيبة (٢ / ٥).

٢٢٨

تعتدوا الحق إلى الباطل ، [والعدل] (١) إلى الجور.

والجريمة والجارم : بمعنى الكاسب ، والمعنى : لا يحملنكم يغض قوم على الاعتداء عليهم ، أو لا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم على الحق إلى الباطل. ويقال : جرم يجرم جرما إذا قطع ، قال علي بن عيسى الرماني : وهو الأصل.

فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه ، ولا جرم بمعنى حق ؛ لأن الحق يقطع عليه.

قال الخليل : معنى لا جرم أن لهم النار : لقد حق أن لهم النار.

وقال الكسائي : جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي اكتسب.

وقرأ ابن مسعود : ولا يجرمنكم بضم الياء ، والمعنى لا يكسبنكم ، ولا يعرف البصريون أجرم ، وإنما يقولون : جرم لا غير (٢).

والشنآن : البغض ، وقريء بفتح النون وإسكانها ، يقال شنيت الرجل أشنوه شنا ومشنا وشنآنا ، كل ذلك إذا أبغضته. وشنآن هنا مضاف إلى المفعول ، أي بغض قوم منكم لا بغض قوم لكم (٣).

(أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) بفتح الهمزة مفعول لأجله ، أي لأن صدوكم. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة على الشرطية ، وهو اختيار أبو عبيد. وقرأ الأعمش أن يصدّوكم ، والمعنى على قراءة الشرطية لا يحملنكم بغضهم أن وقع منهم الصد لكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم (٤).

__________________

(١) في المطبوع (فالعدل) وهو خطأ واضح ، والصواب ما أثبت كما في «فتح القدير» (٢ / ٦).

(٢) انظره في : تفسير ابن عطية (٤ / ٣٣٢) وقال : وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير اه.

(٣) قال الفسوي : (شنئان) بفتح النون مصدر لا محالة ، والمصدر يكثر على فعلان نحو النزوان والنقران ، وقال سيبويه : هذا الضرب من المصادر تأتي أفعاله لازمة إلا أن يشذّ شيء ... الموضح (١ / ٤٣٦) ، الكتاب (٤ / ١٤) ، النشر (٢ / ٢٥٣ ، ٢٥٤).

(٤) قال الفسوي : إن صدوكم بكسر الألف ، قرأها ابن كثير وأبو عمرو على أن إن للشرط ، وجوابه قد أغنى عنه ما قبله من قوله (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) والتقدير : إن صدّوكم عن المسجد الحرام ، فلا تكتسبوا الاعتداء.

وقرأ الباقون (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح الألف.

وهو ظاهر ، والمعنى : لا يكسبنّكم بغض قوم الاعتداء لأن صدّوكم عن المسجد الحرام ، أي لصدّهم إياكم عن المسجد ، فهو مفعول له ، فقوله (أَنْ تَعْتَدُوا) مفعول ثان (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) (أَنْ

٢٢٩

قال النحاس : وأما : إن صدوكم بكسر (إن) فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ـ وكان المشركون صدوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست ـ فالصد كان قبل الآية ؛ وإذا قرىء بالكسر لم يجز إلا أن يكون بعده كما تقول : لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك ، فهذا لا يكون إلا للمستقبل ، وإن فتحت كان للماضي. وما أحسن هذا الكلام.

وقد أنكر أبو حاتم وأبو عبيد شنآن بسكون النون ، لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة ، وخالفهما غيرهما فقال : ليس هذا مصدر ، ولكنه اسم فاعل على وزن كسلان وغضبان (١).

أقول : تأمل هذا النهي ، فإن الذين صدوا المسلمين عن دخول مكة ، كانوا أنفارا حربيين ، فكيف ينهى عن التعرض لهم ، وعن مقاتلتهم ، فلا يظهر إلا أن هذا النهي منسوخ ، أو يقال : إن النهي عن ذلك من حيث عقد الصلح الواقع في الحديبية ، فبسببه صاروا مؤمنين مأمونين ، ولم أر من نبه على هذين الوجهين. ولما نهاهم عن الاعتداء أمرهم بقوله :

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي ليعن بعضكم بعضا على ذلك ، وهو يشمل كل أمر يصدق عليه أنه من البر والتقوى ، كائنا ما كان.

قيل إن البر والتقوى لفظان بمعنى واحد ، وكرر للتأكيد.

وقال ابن عطية : إن البر يتناول الواجب [والمندوب] (٢) ، والتقوى تختص بالواجب (٣). وقال الماوردي : إن في البر رضى الناس ، وفي التقوى رضى الله ، فمن جمع بينهما ، فقد تمت سعادته. ثم نهاهم سبحانه بقوله :

__________________

صَدُّوكُمْ) مفعول به.

وانظر : الموضح (١ / ٤٣٦) ، ومعاني الفراء (١ / ٣٠١) ، والسبعة لابن مجاهد (٢٤٢) ، والنشر (٢ / ٢٥٤) ، والحجة لأبي زرعة (٢١٩ ـ ٢٢٠) ، ولابن خالويه ، ومعاني القراءات ، والإقناع ، والمفتاح أربعتهم بتحقيقنا ـ ط دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(١) قال أبو عليّ الفارسي : من زعم أن فعلان إذا سكنّت عينه لم يكن مصدرا فقد أخطأ ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن تكون وصفا .. (المحرر الوجيز ٤ / ٣٣).

(٢) في «المطبوعة» «المندب» وهو خطأ واضح والصواب ما أثبت كما في «المحرر الوجيز» (٤ / ٣٣٢).

(٣) وعبارة ابن عطية : والتقوى رعاية الواجب. (٤ / ٣٣٢).

٢٣٠

(وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) : فالإثم كل فعل وقول يوجب إثم فاعله أو قائله ، والعدوان التعدي على الناس ، بما فيه ظلم ، فلا يبقى نوع من أنواع الموجبات للإثم ، ولا نوع من أنواع الظلم للناس ، إلا وهو داخل تحت هذا النهي ، لصدق هذين النوعين على كل ما يوجد فيه معناهما. ثم أمر عباده بالتقوى ، وتوعد من خالف ما أمر به ، فتركه ، أو خالف ما نهى عنه بفعله ، بقوله :

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)) وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في «تاريخه» عن وابصة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «البر ما اطمأن إليه القلب ، واطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في القلب ، وتردد في الصدر ؛ وإن أفتاك الناس وأفتوك!» (١).

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في «الأدب» ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي عن النواس بن سمعان قال : «سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن البر والإثم فقال : «البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك ، وكرهت أن يطّلع عليه الناس» (٢).

وأخرج أحمد وعبد بن حميد والطبراني والحاكم ـ وصححه ـ والبيهقي عن أبي أمامة : «أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الإثم؟ فقال : «ما حاك في نفسك فدعه ؛ قال فما الإيمان؟ قال : من ساءته سيئة ، وسرته حسنة ، فهو مؤمن» (٣).

__________________

(١) حديث صحيح :

رواه أحمد في «المسند» (٤ / ٢٢٨) ، والدارمي في «سننه» (٢ / ٢٤٥ ، ٢٤٦) ، والبخاري في «الكبير» (١ / ١٤٤ ، ١٤٥) ، والطبراني (٢٢ / ١٤٨ ، ١٤٩) ، وأبو يعلى في «مسنده» (٣ / ١٦٠ ، ١٦١ ، ١٦٢).

ومن طريق آخر رواه أحمد في «المسند» (٤ / ٢٢٧) ، والبخاري في «تاريخه» (١ / ١٤٤) ، والطبراني (٢٢ / ١٤٨) عن وابصة مرفوعا.

وحسّنه النووي رضي الله عنه في «الأذكار» (٢ / ٩٩٢).

(٢) حديث صحيح : رواه مسلم (١٦ / ١١٠ ، ١١١) ، وأحمد في «المسند» (٤ / ١٨٢) ، والترمذي (٢٣٨٩) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (٢٩٥) ، والحاكم في «المستدرك» (٢ / ١٤).

(٣) حديث صحيح : رواه أحمد في «مسنده» (٥ / ٢٥١ ، ٢٥٢ ، ٢٥٥ ، ٢٥٦) ، وابن المبارك في «الزهد» (٨٢٥) ، والطبراني (٨ / ١١٧) ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ١٤) ، وصححه ووافقه الذهبي.

وله شاهد من حديث أبي موسى عند أحمد (٤ / ٣٩٨) ، والبزار (٧٩) ، والطبراني كما في «المجمع» (١ / ٨٦).

وقال الهيثمي : «ورجاله رجاله الصحيح ما خلا المطلب بن عبد الله فإنه ثقة ، ولكنه يدلّس ،

٢٣١

[الآية الثالثة]

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)).

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ) : هذا شروع في تفصيل المحرمات التي أشار إليها سبحانه بقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [المائدة : ١].

(الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) تقدم الكلام على ذلك في البقرة (١) ، وما هنا من تحريم مطلق الدم ، مقيد بكونه مسفوحا ـ لما تقدم حملا للمطلق على المقيد (٢).

وقد ورد في السنة تخصيص الميتة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان ؛ فالحوت والجراد ، وأما الدمان : الكبد والطحال».

أخرجه الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي ، وفي إسناده مقال (٣).

__________________

ولم يسمع من أبي موسى ، فهو منقطع.

(١) وذلك عند تفسيره آية (١٧٣).

(٢) انظر الطبري (٦ / ٤٤) ، وابن كثير (٢ / ٨) ، وزاد المسير (٢ / ٢٧٩).

(٣) حديث صحيح : رواه الشافعي في «الأم» (٢ / ٢٥٦) ، وأحمد في «المسند» (٢ / ٩٧) ، وابن ماجة (٤ / ٣٣) ، والدارقطني في «سننه» (٤ / ٢٧١ ، ٢٧٢) ، والبيهقي في «الكبرى» (١ / ٢٥٤) وعبد بن حميد في «المنتخب» (٨٢٠) ، والبغوي في «شرح السنة» (٢٨٣).

ورواه أيضا العقيلي في «الضعفاء» (٩٢٦) ، وابن عديّ في «الكامل» (١١٠٥) عن ابن عمر مرفوعا.

وقال ابن عدي : (٤ / ٢٧١) : «وهذا يدور رفعه على الإخوة الثلاثة : عبد الله بن زيد وعبد الرحمن وأسامة ، وأما ابن وهب فإنه يرويه عن سليمان بن بلال موقوفا».

وقال البيهقي (١ / ٢٥٤) بعد روايته له موقوفا : «هذا إسناد صحيح ، وهو في معنى المسند ، وقد رفعه أولاد زيد عن أبيهم».

٢٣٢

ويقويه الحديث : «هو الطهور ماؤه ، والحل ميتته» ، وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم ، وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان (١).

وقد أطال الشوكاني الكلام عليه في «شرحه للمنتقى» وغيره في غيره (٢).

(وَالْمُنْخَنِقَةُ) هي التي تموت بالخنق ، وهو حبس النّفس ، سواء كان ذلك بفعلها ؛ كأن تدخل رأسها في حبل ، أو بين عودين ، أو بفعل آدمي ، أو غيره. وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة ، فإذا ماتت أكلوها (٣).

(وَالْمَوْقُوذَةُ) هي التي تضرب بحجر أو عصا حتى تموت ، من غير تذكية. يقال : وقذه يقذه وقذا فهو وقيذ.

والوقذ : شدة الضرب. وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ، فيضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها (٤).

قال ابن عبد البر : واختلف العلماء قديما وحديثا في الصيد بالبندق والحجر والمعراض.

ويعني بالبندق : قوس البندقة.

وبالمعراض : السهم الذي لا ريش له ، أو العصا التي رأسها محدد ، قال : فمن ذهب إلى أنه وقيذ ، لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته ، على ما روي عن ابن عمر ، وهو قول

__________________

(١) حديث صحيح : رواه أبو داود (٨٣) ، والترمذي (٦٩) ، والنسائي (١ / ٥٠ ، ١٧٦) ، وابن ماجة (٣٨٦ ، ٣٢٤٦) ، ومالك في «موطأه» (١ / ٢٢) ، وأحمد في «مسنده» (٢ / ٢٣٧ ، ٣٦١) ، والشافعي في «مسنده» (١ / ١٦) ، والبخاري في «التاريخ» (٣ / ٤٧٨) ، والدارمي (١ / ١٨٦) ، وابن الجارود في «المنتقى» (٤٣) ، وابن أبي شيبة في «المنصف» (١ / ١٥٥) ، والدارقطني في «سننه» (١ / ٣٦) ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ١٤٠) ، وابن خزيمة في «صحيحه» (١١١) ، والبغوي في «شرح السنة» (٢ / ٥٥) ، (٢٨١) ، والبيهقي في «الكبرى» (١ / ٣) ، وابن حبان في «صحيحه» (٤ / ٤٩) ، (١٢٤٤) عن أبي هريرة مرفوعا.

وقال أبو عيسى : حسن صحيح ، ومثله البغوي. وصححه ابن خزيمة وابن حبان ، والحاكم ووافقه الذهبي.

(٢) راجع نيل الأوطار (١ / ١٧ ، ١٩) ، وكذلك تلخيص الحبير للحافظ (١ / ٩ ، ١٢). ونصب الرّاية للزيلعي (١ / ٩٥ ، ٩٩).

(٣) انظر : الطبري (٦ / ٤٥) ، ابن كثير (٢ / ٨).

(٤) انظر : الطبري (٦ / ٤٥) ، ابن كثير (٢ / ٨) ، وابن عطية (٤ / ٣٣٦) ، وزاد المسير (٢ / ٢٧٩).

٢٣٣

مالك وأبي حنيفة وأصحابه ، والثوري والشافعي. وخالفهم الشاميون في ذلك ، قال الأوزاعي في المعراض : كلّه ؛ خرق أو لم يخرق ؛ فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا.

قال ابن عبد البر : هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر. والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع (١) ، قال : والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة حديث عدي بن حاتم وفيه : «ما أصاب بعرضه فلا يأكل ؛ فإنه وقيذ» (٢). انتهى.

قلت : والحديث في «الصحيحين» وغيرهما عن عدي قال : «قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال : إذا رميت المعراض فخرق فكله ، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله» (٣).

فقد اعتبر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخرق وعدمه ، فالحق أنه لا يحل إلا ما خرق لا ما صدم ، فلا بد من التذكية قبل الموت ، وإلا كان وقيذا.

قال الشوكاني في «فتح القدير» (٤) : وأما البنادق المعروفة الآن ، وهي بنادق

__________________

(١) قال مالك في «موطأه» (١ / ٤٢٢) عن نافع أنه قال : «رميت طائرين بحجر وأنا بالجرف ، فأصبتهما ، فأما أحدهما فمات ، فطرحه عبد الله بن عمر ، وأما الآخر فذهب عبد الله بن عمر يذكيه بقدم» فمات قبل أن يذكّيه ، فطرحه عبد الله أيضا.

(٢) قال القرافي : «وفي الكتاب : المصيد بحجر أو بندق لا يؤكل ولو بلغ مقاتله ، لأنه رضّ ، وكذلك المعراض إذا أصاب بعرضه ، وقال أبو حنيفة والشافعي ، وكل ما جرح بحدّه أكل ، كان عودا أو عصا أو رمحا ، والمعراض : خشبة في رأسها زج ، قال صاحب الإكمال : وقيل : سهم دون ريش ، وقيل : عود رقيق الطرفين غليظ الوسط ، والخذف لا يباح الرّمي به ، لأن مصيدة وقيذ كالبندقية.

وعند الجمهور : لا يؤكل ما أصاب المعراض بعرضه خلافا لأهل الشام ، ولا مصيد البندقية خلافا للشافعية وجماعة ، فظاهر كلامه : تحريم الرّمي بالبندق ابتداء وإن ذكى مرميه ، وبه قال الشافعي خلافا لابن حنبل ، ولا ينبغي خلاف في إباحة الرّمي به السباع الصوائل والعدو المحارب .. (الذخيرة ٤ / ١٧٤ ، ١٧٥) ط دار الغرب الإسلامي ـ بيروت.

وانظر القرطبي (٦ / ٤٩ ، ٥٠) ، والروضة (٣ / ٢٤٣). والقوانين الفقهية (١٨٨) ، والهداية (٤ / ١٥٥٠) ، تكملة فتح القدير (٩ / ٤٩٥) والوسيط للغزالي (٧ / ١١٢ ، ١١٣).

والبندقة هي : طينة مدوّرة يرمى بها ويقال لها : الجلامق.

(٣) حديث صحيح : رواه البخاري (٩ / ٥٩٩) (١٣ / ٣٧٩) ، ومسلم (١٣ / ٧٦ ، ٧٧) ، والترمذي (١٤٦٥) ، والنسائي (٧ / ١٨٠ ، ١٨١) ، وابن ماجة (٥ / ٣٢) ، وأحمد في «المسند» (٤ / ٢٥٨ ، ٣٧٧ ، ٣٨٠) عن عدي بن حاتم مرفوعا.

(٤) انظره في (٢ / ٩).

٢٣٤

الحديد ، التي يجعل فيها [البارود] (١) والرصاص ، ويرمى بها ، فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها ، فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية ، إلا في المائة العاشرة من الهجرة ، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ، ولم يتمكن الصائد من تذكيته حيا؟ والذي يظهر لي أنه حلال ، لأنها تخرق وتدخل ـ في الغالب ـ من جانب منه ، وتخرج من الجانب الآخر.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الصحيح السابق : «إذا رميت بالمعراض فخرق فكله» (٢) ، فاعتبر الخرق في تحليل الصيد. انتهى.

قلت : وقد سبقه إلى ذلك السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير حيث قال في «سبل السلام شرح بلوغ المرام» (٣) : قلت : وأما البنادق [المعروفة] (٤) الآن فإنها ترمي بالرصاص ، فيخرج وقد صهرته نار البارود كالميل ، فيقتل بحده لا بصدمه ، فالظاهر حل ما قتله. انتهى.

وتعقبه ولده العلامة السيد عبد الله محمد الأمير وقال : هذا وهم من والدي ـ قدس الله تعالى روحه ـ ؛ فإن الرصاص لا يذوب أصلا ، إنما تدفعه نار البارود ، فيصيب بصدمة ، يعرف هذا كل من يعرف البنادق المذكورة ، والله أعلم. انتهى.

أقول : التحقيق أن النار تدفع الرصاص أولا ، فيصيب الصيد ، ثم يخرق الرصاص الصيد ، فيموت الصيد بخرقه. فيكون حلالا كما احتج به الشوكاني. والله أعلم.

(وَالْمُتَرَدِّيَةُ) : هي التي [تتردى] (٥) من علو إلى أسفل ، فتموت من غير فرق ، بين أن تتردى من جبل ، أو بئر ، أو مدفن ، أو غيرها.

والتردي مأخوذ من الردى وهو الهلاك ، وسواء تردت بنفسها أو ردّاها غيرها (٦).

(وَالنَّطِيحَةُ) هي فعلية بمعنى مفعولة ، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية. وقال قوم إنها فعلية بمعنى فاعلة ؛ لأن الدابتين تتناطحان فتموتان. وقال :

__________________

(١) ما بين [] البارد وهو خطأ والصواب ما أثبت كما في «فتح القدير» (٢ / ٩).

(٢) تقدّم آنفا.

(٣) انظره في (٤ / ٨٥) للصنعاني.

(٤) في «المطبوعة (المعرفة) وهو خطأ والتصويب من سبل السّلام (٤ / ٨٥).

(٥) ما بين [] حرّف في «المطبوعة» إلى تردى وهو خطأ والتصويب من فتح القدير (٢ / ٩).

(٦) انظر : الطبري (٦ / ٤٥) ، وابن كثير (٢ / ١٠) ، وزاد المسير (٢ / ٢٨٠).

٢٣٥

نطيحة ولم يقل نطيح ، مع أنه قياس فعيل ؛ لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب ، صفة لموصوف مذكور ، فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلا الاسمية.

وقرأ أبو ميسرة : والمنطوحة (١).

(وَما أَكَلَ السَّبُعُ) : أي وحرم ما افترسه ذو ناب ، كالأسد والنمر والذئب والضبع ونحوها. والمراد هنا ما أكل منه السبع ، لأن ما أكله السبع كله قد فني ، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد ، وكانت العرب إذا أكل السبع الشاة ، ثم خلصوها منه أكلوها ، وإن ماتت ولم يذكوها.

(إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور ، وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقا وفيه حياة.

وقال المدنيون : وهو المشهور من مذهب مالك ، وهو أحد قولي الشافعي : إنه إذا بلغ السّبع منها إلى ما لا حياة معه ، فإنها لا تؤكل. وحكاه في «الموطأ» (٢) عن زيد بن ثابت ، وإليه ذهب إسماعيل القاضي ، فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعا ؛ أي حرمت عليكم هذه الأشياء ، لكن ما ذكيتم فهو الذي يحل ولا يحرم. والأول أولى.

والذكاة في كلام العرب : الذبح. قاله قطرب وغيره. وأصل الذكاة في اللغة : التمام ، أي تمام استكمال القوة.

والذكاء : حدة القلب ، وسرعة الفطنة.

__________________

(١) انظر : الطبري (٦ / ٤٦) ، زاد المسير (٢ / ٢٨٠) ، ابن كثير (٢ / ١٠) ، ابن عطية (٤ / ٣٣٧).

(٢) انظر : الموطأ (١ / ٣٩٩) وما بعدها.

وقال اللخمي : المنخنقة والموقوذة ، بالذّال المعجمة ، وهي التي تضرب حتى تموت ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، ما مات منها فحام ، وما لو ترك لعاش يذكى ، وغير المرجو ، والذي حدث به في مواضع الذكاة لم تؤكل ، وفي غيره يذكى ويؤكل عند مالك.

قال ابن القاسم : ولو انتثرت الحشوة ، لأن قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) بعد ذكر هذه الأقسام ، استثناء متصل ، لأنه الأصل ، وقيل : لا يؤكل لأنه منقطع أي من غيرهن ، لأنه لو لا ذلك لكان قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) يغني عنه.

وفي الجواهر : منع أبو الوليد جريان الخلاف الذي ذكره اللخمي إذا كان المقتل في غير محل الذكاة ، وقال : المذهب كله على المنع ، وإنما الخلاف إذا بلغت الناس بغير إصابة مقتل ... وانظر : الذخيرة للقرافي (٤ / ١٢٨ ، ١٢٩) ، والوسيط في مذهب الشافعية للغزالي (٧ / ١٠٧ ، ١٠٨ ، ١١٣).

٢٣٦

والذكاة : ما تذكى به النار ، ومنه أذكيت الحرب والنار أوقدتهما.

وذكاء : اسم الشمس.

والمراد هنا ؛ إلا ما أدركتم ذكاته على التمام.

والتذكية في الشرع : عبارة عن انهمار الدم ، وفري الأوداج في المذبوح ، والنحر في المنحور ، والعقر في غير المقدور ، مقرونا بالقصد لله ، وذكر اسمه عليه.

وأما الآلة التي تقع بها الذكاة ، فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم ، وفرى الأوداج ، فهو آلة للذكاة ، ما خلا السن والعظم ، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة (١).

(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) : قال ابن فارس : النصب : حجر كان ينصب فيعبد ، وتصب عليه دماء الذبائح.

والنصائب : حجارة تنصب حوالي شفير البئر [فتجعل] (٢) عضائد (٣) ، وقيل :

النصب جمع واحده نصاب ، كحمار وحمر ، قرأ طلحة [ابن مصرف] : بضم النون وسكون الصاد. وروي عن أبي عمرو : بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ الجحدري : بفتح النون والصاد ، جعله اسما موحدا كالجبل والجمل ، والجمع أنصاب كالأجبال والأجمال.

قال مجاهد : هي حجارة كانت حوالي مكة ، يذبحون عليها (٤).

قال ابن جرير : كانت العرب تذبح بمكة ، وتنضح بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرحون اللحم ، ويضعونه على الحجارة ، فلما جاء الإسلام ، قال المسلمون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ؛ فأنزل الله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) (٥).

والمعنى : والنية بذلك تعظيم النصب ؛ لأن الذبح عليها غير جائز. ولهذا قيل : إن

__________________

(١) حديث صحيح : رواه البخاري (٩ / ٦٢٣ ، ٦٢٤ ، ٦٣٣) ، ومسلم (١٣ / ١٢٢ ، ١٢٥) ، عن رافع بن خديج مرفوعا.

(٢) حرف في «المطبوعة» إلى (فتجد) وهو خطأ والتصويب من مجمل اللغة لابن فارس [نصب] ، وكذلك فتح القدير (٢ / ١٠).

(٣) جمع عضد وهو الحوض والطريق [اللسان].

(٤) انظر : الطبري (٦ / ٤٦). وابن عطية (٤ / ٣٤٠).

(٥) وهذا قول ابن جرير كما في «جامعه» (٦ / ٤٦ ، ٤٧).

٢٣٧

على بمعنى اللام ، أي : لأجلها. قاله قطرب ، وهو على هذا داخل في غير ما أهلّ به لغير الله ، وخص بالذكر لتأكيد تحريمه ، ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذلك لتشريف البيت وتعظيمه ، وقيل : معناه ما قصد بذبحه تعظيم النصب ، وإن لم يذكر اسمها عنده ، فليس مكررا مع ما سبق ، إذ ذاك فيما ذكر عند ذبحه اسم الصنم مثلا. فتأمل.

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا) : معطوف على ما قبله ، أي وحرم عليكم الاستقسام.

(بِالْأَزْلامِ) وهي : قداح الميسر ، واحدها زلم.

والأزلام للعرب ثلاثة أنواع :

أحدها : مكتوب فيه أفعل.

والآخر : مكتوب لا تفعل.

والثالث : مهمل لا شيء عليه ، فيجعلها في خريطة معه ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده ـ وهي متشابهة ـ فأخرج واحدا منها ، فإن خرج الأول فعل ما عزم عليه ، وإن خرج الثاني تركه ، وإن خرج الثالث ، أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين.

قال الزجاج : لا فرق بين هذا وبين قول المنجمين : لا تخرج من أجل نجم كذا ؛ واخرج لطلوع نجم كذا ، وإنما قيل لهذا الفعل : استقسام ؛ لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق وما يريدون فعله ، كما يقال استسقى أي استدعى السقيا.

فالاستقسام : طلب القسم والنصيب.

وجملة قداح الميسر عشرة ، وكانوا يضربون بها في المقامرة.

وقيل : إن الأزلام : كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقيل : هي الشطرنج.

وإنما حرم الله الاستقسام بالأزلام ؛ لأنه تعرض لدعوى علم الغيب ، وضرب من الكهانة (١).

(ذلِكُمْ فِسْقٌ) : إشارة إلى الاستقسام بالأزلام ، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا.

والفسق : الخروج عن الحد ، وهذا وعيد شديد ؛ لأن الفسق هو أشد الكفر! لا ما

__________________

(١) انظر أقوال أهل التفسير في «الطبري» (٦ / ٥٠) ، وابن كثير (٢ / ١١) ، والقرطبي (٦ / ٦٣) ، وابن عطية (٤ / ٣٤٥) ، وزاد المسير (٢ / ٢٩١).

٢٣٨

وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة بين الإيمان والكفر (١).

قوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) : هذا متصل بذكر المحرمات ، وما بينهما اعتراض وقع بين الكلامين للتأكيد ، فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل ، أي من دعته الضرورة.

(فِي مَخْمَصَةٍ) : أي مجاعة ، إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرمات.

والخمص : ضمور البطن ، ورجل خميص وخمصان ، وامرأة خميصة وخمصانة ، ومنه أخمص القدم. ويستعمل كثيرا في الجوع.

(غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) الجنف : الميل.

والإثم : الحرام ، أي حال كون المضطر في مخمصة غير مائل لإثم ، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد. وكل مائل فهو متجانف وجنف.

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) له (رَحِيمٌ (٣)) به ، لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع ، مع عدم ميله بأكل ما حرم عليه إلى الإثم بأن يكون باغيا على غيره ، أو متعديا لما دعت إليه الضرورة (٢).

[الآية الرابعة]

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)).

(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) : هي ما يستلذ أكله ، ويستطيبه أصحاب الطبائع السليمة ، مما أحله الله لعباده ، أو لم يرد نصّ بتحريمه. وقيل : هي الحلال ، وقيل : الطيبات الذبائح ؛ لأنها طابت بالتذكية ، وهو تخصيص للعام بغير مخصص ، والسبب والسياق لا يصلحان لذلك.

(وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) : معطوف على الطيبات ، بتقدير مضاف لتصحيح

__________________

(١) أرباب هذا القول هم المعتزلة وانظر : «التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع» ، للملطي (ص ٥٠) وما بعدها.

(٢) انظر : المحرر الوجيز (٤ / ٣٤٩) ، والقرطبي (٦ / ٦٤ ، ٦٥) ، فتح القدير (٢ / ١١).

٢٣٩

المعنى ، أي أحل لكم صيد ما علّمتم من أمر الجوارح والصيد بها.

قال القرطبي (١) : قد ذكر بعض من صنف في أحكام [القرآن] (٢) : أن الآية تدل على أن الإباحة تناولت ما علّمنا من الجوارح ، وهو [ينتظم] (٣) الكلب وسائر جوارح الطير ، وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع ، فدل على جواز بيع الكلب ، والجوارح ، والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع ، إلا ما خصه الدليل ، وهو الأكل من الجوارح : أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير.

قال (٤) : وأجمعت الأمة ، على أن الكلب ـ إذا لم يكن أسود ، وعلّمه مسلم ، ولم يأكل من صيده الذي صاده ، أو أثّر فيه بجرح ، أو تنييب ، وصاد به مسلم ، وذكر الله عند إرساله ـ صيده صحيح ، يؤكل بلا خلاف. فإن انخرم ، شرط من هذه الشروط دخل الخلاف ، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه ، وكالبازي والصقر ونحوهما في الطير ، فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب. يقال : جرح فلان واجترح ، إذا اكتسب ، ومنه الجارحة ؛ لأنه يكتسب بها ، ومنه قوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام : ٦٠] ، وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) [الجاثية : ٢١].

(مُكَلِّبِينَ) : حال ، والمكلب : معلّم الكلاب كيفية الاصطياد. وخص معلم الكلاب ، وإن كان معلم سائر الجوارح مثله ، لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب. ولم يكتف بقوله : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) ـ مع أن [التكليب] (٥) هو التعليم ـ لقصد التأكيد لما لا بد منه من التعليم. وقيل إن السبع يسمى كلبا ، فيدخل كل سبع يصاد به ، وقيل : إن هذه الآية خاصة بالكلاب.

وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال : ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير ، فما أدركت ذكاته فهو حلال ، وإلا فلا تطعمه (٦).

__________________

(١) انظر في «تفسيره» (٦ / ٦٦).

(٢) حرّف إلى بقرآن وهو خطأ واضح.

(٣) حرّفت إلى «انخرم» والتصويب من القرطبي.

(٤) أي القرطبي كما تقدّم.

(٥) حرّفت إلى (التكليف) وهو خطأ ، والتصويب من فتح القدير (٢ / ١٣).

(٦) رواه الطبري في «جامعه» (٦ / ٦٣).

٢٤٠