نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإنكم تضعونها في غير مواضعها!! وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» (١).

وأخرج الترمذي ـ وصححه ـ وابن ماجه وابن جرير والبغوي في معجمه وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ والحاكم ـ وصححه ـ وابن مردويه والبيهقي في «الشعب» عن أبي أمية [الشعباني] قال : «أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية؟ قال : أية آية؟ قلت : قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أياما ؛ الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم» (٢).

وفي رواية عن عامر الأشعري في هذه الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أين ذهبتم؟! إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم» ، رواه أحمد والطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه (٣).

وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر

__________________

(١) حديث صحيح : رواه أحمد في «المسند» (١ / ١٦ ، ٢٩ ، ٣٠ ، ٥٣) ، وأبو داود (٤٣٣٨) ، والترمذي (٢١٦٨) ، (٣٠٥٧) ، وابن ماجة (٤٠٠٥) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٨ / ٦٦٧ ، ٦٦٨) ، والحميدي (٣) وابن جرير (١٢٨٧٦) ، (١٢٨٧٨) ، وابن حبان (٣٠٤) ، (٣٠٥) ، والطحاوي في «المشكل» (٢ / ٦٢ ، ٦٤) ، عن أبي بكر الصديق مرفوعا.

(٢) إسناده ضعيف : رواه أبو داود (٤٣٤١) ، والترمذي (٣٠٥٨) ، وابن ماجة (٤٠١٤) ، والبغوي في «شرح السنة» (١٤ / ٣٤٧ ، ٣٤٨) ، والطبراني في «الكبير» (٢٢ / ٢٢٠) ، (٥٨٧) ، وابن جرير (١٢٨٦٢) ، (١٢٨٦٣) ، وأبو نعيم (٢ / ٣٠) ، والطحاوي في «المشكل» (٢ / ٦٤ ، ٦٥) ، والبيهقي في «السنن» (١٠ / ٩٢) وقال أبو عيسى : حسن غريب.

والشعباني : حرّفت إلى الشيباني في «المطبوعة» وهو خطأ.

(٣) حديث صحيح : رواه أحمد (٤ / ١٢٩ ، ٢٠١ ، ٢٠٢) ، والطبراني في «الكبير» (٢٢ / ٣١٧) ، (٧٩٩) عن أبي عامر الأشعري مرفوعا.

وقد قال الهيثمي (٧ / ١٩) : «رجالهما ثقات إلا أني لم أجد لعليّ بن مدرك سماعا من أحد من الصحابة».

قلت : بل سمع من أبي مسعود البدري وعامر ومن غيرهما كما في «ثقات ابن حبان» (٣ / ١٨٠).

٢٨١

والطبراني وأبو الشيخ عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) قال : يا أيها الناس إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان ، تأمرون بالمعروف ، فيصنع بكم كذا وكذا ـ أو قال : فلا يقبل منكم ـ ، فحينئذ (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...) الآية (١).

وفي لفظ عنه قال : «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف ؛ فإذا كان كذلك فعليكم أنفسكم» (٢).

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر أنه قال : في هذه الآية : إنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم (٣).

وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال نبي الله : «لم يجىء تأويلها ؛ لا يجىء تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه‌السلام» (٤).

والروايات في هذا الباب كثيرة. وفيما ذكرنا كفاية ، ففيه ما يرشد إلى ما قدمناه من الجميع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[الآيات : الحادية والثانية والثالثة والعشرون]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) إسناده ضعيف : رواه الطبري في «تفسيره» (١٢٨٤٨) ، (١٢٨٤٩) ، (١٢٨٥٠) ، (١٢٨٥٥) ، والطبراني في «الكبير» (٩ / ٢٢١) ، (٩٠٧٢).

وقال الهيثمي (٧ / ١٩) : «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ، إلا أن الحسن البصري لم يسمع من ابن مسعود ، والله أعلم».

(٢) إسناده ضعيف جدا : رواه سعيد بن منصور في «سننه» (٤ / ١٦٥٦) ، عن ابن مسعود. وعلته :

جويبر بن سعد قال ابن حيان فيه : يروي عن الضحاك أشياء مقلوبة ، قد رواه عن الضحاك ، وهو كثير الإرسال.

(٣) إسناده ضعيف : رواه الطبري (١٢٨٥١). وعلته : الربيع بن صبيح السعدي ، ضعّفه النسائي وابن معين والحافظ ابن حجر.

(٤) أورده السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٢١٧) وعزاه لابن مردويه فقط.

٢٨٢

فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : قال مكيّ : هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا ، ومعنى ، وحكما.

قال ابن عطية : هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها ؛ وذلك بين من كتابه ـ رحمه‌الله ـ يعني من كتاب مكي.

قال القرطبي (١) : ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا.

قال السعد في حاشيته على «الكشاف» : واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابا ، ونظما ، وحكما.

(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) : إضافة الشهادة في البين توسعا ؛ لأنها جارية بينهم ؛ وقيل : أصله شهادة ما بينكم ، فحذفت (ما) أو أضيفت إلى الظرف كقوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] ، ومنه قوله تعالى : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨].

قيل : والشهادة هنا بمعنى الوصية ، وقيل : بمعنى الحضور للوصية.

وقال ابن جرير الطبري (٢) : هي هنا بمعنى اليمين ، فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان. واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكما يجب فيه على الشاهد يمين.

واختار هذا القول القفال ، وضعف ذلك ابن عطية ، واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود.

__________________

(١) انظره في تفسيره (٦ / ٣٤٦).

(٢) انظره في «جامع البيان» له (٧ / ١٠٢).

٢٨٣

و (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) : ظرف للشهادة ، والمراد إذا حضرت علاماته ، لأن من مات لا يمكنه الإشهاد ، وتقديم المفعول للاهتمام ، ولكمال تمكن الفاعل عند النفس.

(حِينَ الْوَصِيَّةِ) : ظرف لحضر ، أو للموت ، أو بدل من الظرف الأول.

(اثْنانِ) : خبر شهادة على تقدير محذوف ، أي شهادة اثنين ، أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف ، أي فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان ، على تقدير أن يشهد اثنان. ذكر الوجهين أبو علي الفارسي.

(ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) : صفة للاثنين ، وكذا منكم ، أي كائنان منكم ، أي من أقاربكم.

(أَوْ آخَرانِ) معطوف على اثنان.

و (مِنْ غَيْرِكُمْ) صفة له ، أي كائنان من الأجانب. وقيل : إن الضمير في (مِنْكُمْ) للمسلمين وفي (غَيْرِكُمْ) للكفار ، وهو الأنسب بسياق الآية ؛ وبه قال أبو موسى الأشعري وعبد الله بن عباس وغيرهما.

فيكون في الآية ، دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر ، في خصوص الوصايا ، كما يفيده النظم القرآني ؛ ويشهد له سبب النزول (١) ، فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين ، فليشهد رجلان من أهل الكفر ؛ فإذا قدما وأدّيا الشهادة على وصيته ، حلفا بعد العصر أنهما ما كذبا ولا بدّلا ، وأن ما شهدا به حق ، فيحكم به حينئذ بشهادتهما.

فإن [عثر] (٢) بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا ، حلف رجلان من أولياء الموصي وغرّم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوهما ، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره ، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر وسعيد بن جبير وأبو مجلز والنخعي وشريح وعبيد السلماني وابن سيرين ومجاهد وقتادة والسدي والثوري وأبو عبيد وأحمد بن حنبل.

__________________

(١) صحيح : رواه البخاري (٦ / ٣٣٩) ، والترمذي (٤ / ١٠١) ، وأبو داود (٣ / ٣٣٧) ، وابن جرير (٧ / ١٥) ، والبيهقي (١٠ / ١٦٥).

(٢) حرّف في «المطبوعة» إلى (عنته) وهو خطأ واضح ، وصوّبنا من «فتح القدير» (٢ / ٨٦).

٢٨٤

وذهب إلى الأول ـ أعني تفسير ضمير (منكم) بالقرابة أو العشيرة ، وتفسير من (غيركم) بالأجانب ـ الزهري والحسن وعكرمة.

وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء ، إلى أن الآية منسوخة! واحتجوا بقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) [البقرة : ٢٨٢] ، وقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول.

وخالفهم الجمهور فقالوا : الآية محكمة ؛ وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ.

وأما قوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) ، وقوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فهما عامّان في الأشخاص والأزمان والأحوال ، وهذه الآية خاصة بحال الضرب في الأرض ، وبالوصية ، وبحالة عدم الشهود المسلمين ؛ ولا تعارض بين عام وخاص.

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) : فاعل فعل محذوف يفسره (ضَرَبْتُمْ) ، أو مبتدأ وما بعده خبره. والأول مذهب الجمهور من النحاة ، والثاني مذهب الأخفش والكوفيين.

والضرب في الأرض : هو السفر.

(فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) : معطوف على ما قبله ، وجوابه محذوف ، أي إن ضربتم في الأرض ، فنزل بكم الموت ، وأردتم الوصية ، ولم تجدوا شهودا عليها مسلمين ، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم ، وبما تركتم ، فارتابوا في أمرهم ، أو ادّعوا عليهما خيانة ، فالحكم أن تحبسوهما.

ويجوز أن يكون استئنافا لجواب سؤال مقدر ، كأنهم قالوا : فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة؟ فقال :

(تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) : إن ارتبتم في شهادتهما. وخص بعد الصلاة ، أي صلاة العصر ـ قاله الأكثر ـ لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجرا كما في الحديث الصحيح (١) ، وقيل : لكونه وقت اجتماع الناس ، وقعود الحكام للحكومة ، وقيل : صلاة الظهر ، وقيل : أي صلاة كانت.

قال أبو علي الفارسي : يحبسونهما صفة لآخران ، واعترض بين الصفة والموصوف

__________________

(١) حديث صحيح : رواه البخاري (٥ / ٤٣) ، (١٣ / ٤٢٣ ، ٤٢٤) ، ومسلم (٢ / ١١٦ ، ١١٧).

٢٨٥

بقوله : (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ).

والمراد بالحبس : توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما ، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام ، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما.

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) : معطوف على يحبسونهما ، أي يقسم بالله الشاهدان على الوصية أو الوصيات.

وقد استدل بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقا إذا حصلت الريبة في شهادتهما ، وفيه نظر ؛ لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو بوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها.

(إِنِ ارْتَبْتُمْ) : جواب هذا الشرط محذوف ، دل عليه ما تقدم كما سبق.

(لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) : جواب القسم ، والضمير في به راجع إلى الله تعالى ، والمعنى لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض النزر فنحلف به كاذبين ، لأجل المال الذي ادعيتموه علينا ، وقيل : يعود إلى القسم ، أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من أعراض الدنيا. وقيل : يعود إلى الشهادة ، وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول. أي لا نستبدل بشهادتنا ثمنا.

قال الكوفيون : المعنى ذا ثمن ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهذا مبني على أن العروض لا تسمى ثمنا ، وعند الأكثر أنها تسمى ثمنا كما تسمى مبيعا.

(وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) : أي ولو كان المقسم له ، أو المشهود له قريبا ، فإنا نؤثر الحق والصدق ، ولا نؤثر العرض الدنيوي ولا القرابة. وجواب (لو) محذوف لدلالة ما قبلها عليه ، أي ولو كان ذا قربى لا نشتري به ثمنا.

(وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) : معطوف على (لا نَشْتَرِي) داخل معه في حكم القسم ، وأضاف الشهادة إلى الله سبحانه ، لكونه الآمر بإقامتها ، والناهي عن كتمها.

(إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦)).

(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) : عثر على كذا : اطلع عليه. يقال : عثرت منه على خيانة ، أي اطلعت ، وأعثرت غيري عليه. ومنه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ)

٢٨٦

[الكهف : ٢١]. وأصل العثور : الوقوع والسقوط على الشيء.

والمعنى أنه إذا اطلع ، بعد التحليف ، على أن الشاهدين أو الوصيين استحقا إثما : أي استوجبا إثما ، إما لكذب في الشهادة ، أو اليمين ، أو لظهور خيانة.

قال أبو عليّ الفارسي : الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ ؛ لأن آخذه يأثم بأخذه.

يسمّى إثما كما سمّي ما يؤخذ بغير حق مظلمة.

وقال سيبويه : المظلمة اسم ما أخذ منك ؛ فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.

(فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) : أي فشاهدان آخران ، أو حالفان آخران ، فيقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثما ، فيشهدان أو يحلفان على ما هو الحق ، وليس المراد أنهما يقومان مقامهما في أداء الشهادة التي شهدها المستحقان للإثم.

(مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) : استحق مبني للمفعول في قراءة الجمهور.

وقرأ علي وأبيّ وابن عباس وحفص على البناء للفاعل. والأوليان ـ على القراءة الأولى ـ مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هما الأوليان. كأنه قيل : من هما؟ فقيل هما الأوليان. وقيل : هو بدل من الضمير في يقومان ، أو من آخران.

وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة : الأوّلين جمع أول على أنه بدل من الّذين ، أو من الهاء والميم في عليهم.

وقرأ الحسن : الأولان ، والمعنى على بناء الفعل للمفعول من الذين استحق عليهم الإثم : أي جنى عليهم ، وهم أهل الميت وعشيرته فإنهم أحق بالشهادة أو اليمين من غيرهم. فالأوليان تثنية أولى والمعنى ـ على قراءة البناء للفاعل ـ من الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ، ويظهروا بما كذب الكاذبين ، لكونهما الأقربين إلى الميت (١).

فالأوليان فاعل استحق ، ومفعوله أن تجردوهما للقيام بالشهادة. وقيل : المفعول محذوف ، والتقدير : من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها.

__________________

(١) انظر توجيه ابن جني للقراءات في هذه الآية من كتابه «المحتسب» (١ / ٢٢٠ ، ٢٢٢) ط. المجلس الأعلى ـ القاهرة.

٢٨٧

(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) : عطف على يقومان ، أي فيحلفان بالله.

(لَشَهادَتُنا) أي يميننا. فالمراد بالشهادة هنا اليمين ، كما في قوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) [النور : ٦] أي يحلفان : لشهادتنا على أنهما كاذبان خائنان.

(أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) أي من يمينهما على أنهما صادقان أمينان.

(وَمَا اعْتَدَيْنا) : أي تجاوزنا الحق في يميننا.

(إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧)) إن كنا حلفنا على باطل.

(ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) : أي ذلك البيان الذي قدمه الله سبحانه ، في هذه القصة وعرفنا كيف يصنع من أراد الوصية في السفر ، ولم يكن عنده أحد من أهله وعشيرته وعنده كفار.

و (أَدْنى) : أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود المتحملون للشهادة على الوصية بالشهادة على وجهها ، فلا تحرفوا ، ولا تبدلوا ، ولا تخونوا ، وهذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر المنفعة والفائدة في هذا الحكم الذي شرعه الله في هذا الموضع من كتابه ، فالضمير في يأتوا عائد إلى شهود الوصية من الكفار ، وقيل : إنه راجع إلى المسلمين المخاطبين بهذا الحكم.

والمراد تحذيرهم من الخيانة ، وأمرهم بأن يشهدوا بالحق.

(أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) : أي ترد على الورثة فيحلفون على خلاف ما يشهد به شهود الوصية ، فيفتضح حينئذ شهود الوصية. وهو معطوف على قوله : (أَنْ يَأْتُوا) ، فتكون الفائدة في شرع الله سبحانه لهذا الحكم في أحد الأمرين :

إما احتراز لشهود الوصية عن الكذب والخيانة ، فيأتون بالشهادة على وجهها.

أو يخافوا الافتضاح إذا ردت الأيمان على قرابة الميت ، فحلفوا بما يتضمن كذبهم أو خيانتهم ؛ فيكون ذلك سببا لتأدية شهادة شهود الوصية على وجهها من غير كذب ولا خيانة. وقيل : أن يخافوا معطوف على مقدر بعد الجملة الأولى ، والتقدير : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة بسبب الكذب والخيانة ، أو يخافوا الافتضاح برد اليمين ، فأيّ الخوفين وقع حصل المقصود.

حاصل ما تضمنه هذا المقام من الكتاب العزيز : أن من حضرته علامات الموت

٢٨٨

أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين ، فإن لم يجد شهودا مسلمين ـ وكان في سفره ـ ووجد كفارا ، جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته ، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفا بالله على أنهما شهدا بالحق ، وما كتما من الشهادة شيئا ، ولا أخفيا مما تركه الميت شيئا ، فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه ، من خلل في الشهادة ، أو ظهور شيء من تركه الميت ، زعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه ، حلف رجلان من الورثة ، وعمل بذلك (١). والله أعلم.

__________________

(١) انظر في تفسير وتحقيق الأقوال في هذه الآية : التبيان للعكبري (١ / ٢٣١) ، الطبري (٧ / ٦٧) ، زاد المسير (٢ / ٤٤٣ ، ٤٥٣) ، والزجاج (٢٣٦) ، النكت (١ / ٤٩٥) ، القرطبي (٦ / ٣٤٦) ، وابن كثير (٢ / ١١١) ، اللباب (٩٩) ، الدر المنثور (٢ / ٣٤١) ، مفاتيح الغيب (٦ / ١٧٢ ، ١٨٢) ، الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢ / ٢٠٧ ، ٢٠٩) ، والأحكام له (٢ / ٧٠٥ ، ٧٢٥).

٢٨٩

سورة الأنعام

[مائة وخمس وستون آية]

مكيّة إلا ست آيات نزلت بالمدينة وهي (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إلى آخر ثلاث آيات مع اختلاف في العدد (١).

[الآية الأولى]

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)).

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الموصول عبارة عن الآلهة التي كانت تعبدها الكفار.

والمعنى : لا تسب يا محمد آلهة هؤلاء الكفار التي يدعونها من دون الله فيتسبب عن ذلك سبهم الله ، عدوانا وتجاوزا عن الحق ، وجهلا منهم.

وفي هذه الآية دليل على أن الداعي إلى الحق ، والناهي عن الباطل ، إذا خشي أن يتسبب عن ذلك ، ما هو أشد منه من انتهاك حرم ، ومخالفة حق ، ووقوع في باطل أشد ، كان الترك أولى به ، بل كان واجبا عليه.

__________________

(١) قال ابن العربي : مكية كلها إلا آيات تسعا نزلت بالمدينة.

قلت : وذلك على اختلاف الروايات ، والآيات التسع المدنيات هي على المشهور [٢٠ ، ٢٣ ، ٩١ ، ٩٣ ، ١١٤ ، ١٤١ ، ١٥١ ـ ١٥٣] وروي عن ابن عباس أنها مكية غير ست آيات منها ، فإنها مدنيات (١٥١ ـ ١٥٣) و (٩١) ... وذكر مقاتل نحو هذا وزاد آيتين (٢٠) وروي عن ابن عباس أيضا. وقتادة. وكذلك (١٤١) ، وانظر في ذلك : الأحكام لابن العربي (٢ / ٧٢٦) ، والناسخ والمنسوخ (٢ / ٢١٠) ومحاسن التأويل (٦ / ٢٢٣٠).

٢٩٠

قال الشوكاني في «فتح القدير» (١) : وما أنفع هذه الآية ، وأجل فائدتها لمن كان من الحاملين لحجج الله ، المتصدين لبيانها للناس ، إذا كان بين قوم من الصم البكم الذين إذا أمرهم بمعروف تركوه ، وتركوا غيره من المعروف ، وإذا نهاهم عن منكر فعلوه ، وفعلوا غيره من المنكرات ، عنادا للحق ، وبغضا لاتباع المحقين ، وجرأة على الله ، فإن هؤلاء لا يؤثر فيهم إلا السيف ، وهو الحكم العدل لمن عاند الشريعة المطهرة ، وجعل المخالفة لها ، والتجرؤ على أهلها ديدنه ، وهجيراه ؛ كما يشاهد ذلك في أهل البدع إذا دعوا إلى حق وقعوا في كثير من الباطل ، وإذا أرشدوا إلى السنة قابلوها بما لديهم من البدعة! فهؤلاء هم المتلاعبون بالدين ، المتهاونون بالشرائع ، وهم أشر من الزنادقة ، لأنهم يحتجون بالباطل ، وينتمون إلى البدع ، ويتظاهرون بذلك غير خائفين ولا وجلين.

والزنادقة قد ألجمتهم سيوف الإسلام ، وتحاماهم أهله ، وقد ينفق كيدهم ، ويتم باطلهم وكفرهم ، نادرا على ضعيف من ضعفاء المسلمين ، مع تكتم وتحرز وخيفة ووجل. انتهى.

وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة ثابتة ، غير منسوخة ، وهي أصل في سد الذرائع ، وقطع التطرق إلى الشبه.

وقوله : (عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)) منصوب على الحال ، أو على المصدر ، أو على أنه مفعول له.

[الآيتان : الثانية والثالثة]

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)).

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) : قيل إنها نزلت في سبب خاص ، كما أخرج أبو داود والترمذي وحسنه ، والبزار وغيرهم ، عن ابن عباس قال : جاءت اليهود إلى

__________________

(١) انظره في (٢ / ١٥٠).

٢٩١

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إنا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله ، فأنزل الله هذه الآية (١).

ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل ما ذكر الذبح عليه اسم الله حل ، إن كان مما أباح الله أكله.

وقال عطاء : في هذه الآية الأمر بذكر الله على الشراب والذبح ، وكل مطعوم (٢).

[......] (٣) إلى قوله : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) : أي بين لكم بيانا مفصلا يدفع الشك ويزيل الشبهة بقوله : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [الأنعام : ١٤٥] إلى آخر الآية.

ثم استثنى فقال : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) : أي من جميع ما حرمه الله عليكم فإن الضرورة تحلل الحرام. وقد تقدم تحقيقه في البقرة (٤).

[الآية الرابعة]

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١)).

(وَلا تَأْكُلُوا) : نهى الله سبحانه عن الأكل :

(مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، بعد أن أمر بالأكل مما ذكر اسم الله عليه ، وفيه دليل تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه (٥).

وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب ابن عمر ونافع مولاه ، والشعبي وابن

__________________

(١) إسناده ضعيف : رواه أبو داود (٢٨١٩) ، والطبري (١٣٨٢٥) ، والبيهقي في «الكبرى» (٩ / ٢٤٠) عن ابن عباس فذكره.

وأورده السيوطي في «الدر» (٨ / ٣٤٦ ، ٣٤٧) وزاد ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

وعلته في الضعف : عطاء بن السائب ، لا يحتج بحديثه إلا ما رواه الثقات عنه قبل اختلاطه.

وفيه أيضا : عمران بن عيينة وزياد البكائي ، ليسا من الثقات.

(٢) صحيح : رواه ابن جرير في «تفسيره» (١٣٧٩٠) بسند صحيح رجاله ثقات.

(٣) يبدو من السياق وجود سقط وهو شرح نهاية الآية (١١٨) مع أول الآية (١١٩).

(٤) انظر ما سبق من تفسير سورة البقرة آية رقم (١٧٣).

(٥) انظر التعليق السابق عند آية (٤) من سورة المائدة.

٢٩٢

سيرين ، وهو رواية عن مالك وعن أحمد بن حنبل ، وبه قال أبو ثور وأبو داود الظاهري ، إلى أن ما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح حرام من غير فرق بين العامد والناسي لهذه الآية ، ولقوله تعالى في آية الصيد : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) [المائدة : ٤].

ويزيد هذا الاستدلال تأكيدا قوله سبحانه في هذه الآية : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ).

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الأمر بالتسمية ، في الصيد وغيره.

وذهب الشافعي وأصحابه ـ وهو رواية عن مالك ورواية عن أحمد ـ إلى أن التسمية مستحبة لا واجبة ، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن أبي رباح.

وحمل الشافعي الآية على من ذبح لغير الله ؛ وهو تخصيص بالآية بغير مخصص.

وقد روى أبو داود في «المراسيل» (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ذبيحة المسلم حلال ؛ ذكر اسم الله عليه أو لم يذكر» ، وليس في هذا المرسل ما يصلح لتخصيص الآية ؛ نعم حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن قوما يأتوننا بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال : «سموا أنتم وكلوا» (٢) يفيد أن التسمية عند الأكل تجزىء مع التباس وقوعها عند الذبح.

وذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وأبو حنيفة وأصحابه ، وإسحاق بن راهوية أن التسمية إن تركت نسيانا لم تضر ، وإن تركت عمدا لم يحل أكل الذبيحة ، وهو مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاووس والحسن البصري وأبي مالك وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة بن أبي عبد الرحمن.

واستدلوا بما أخرجه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح ؛ فليذكر اسم الله وليأكله» (٣).

__________________

(١) إسناده ضعيف : رواه أبو داود في «المراسيل» (٣٧٨) ، والبيهقي في «الكبرى» (٩ / ٢٤٠). وأورده الزيلعي في «نصب الراية» (٤ / ١٨٣) ، وقال عن ابن القطان : وفيه مع الإرسال أن الصلت السدوسي لا يعرف له حال ، ولا يعرف بغير هذا ، ولا روى عنه غير ثور بن يزيد. اه ..

(٢) حديث صحيح : رواه البخاري (٩ / ٦٣٤).

(٣) صحيح موقوفا : رواه البيهقي في «الكبرى» (٩ / ٢٣٩) عن ابن عباس مرفوعا.

ورواه عبد الرزاق (٨٥٤٨) ، والبيهقي أيضا (٩ / ٢٣٩).

قلت : وعلة المرفوع ـ معقل بن عبيد الله الجزري ـ صدوق يخطىء.

٢٩٣

وهذا الحديث رفعه خطأ ؛ وإنّما هو من قول ابن عباس.

وكذا أخرجه من قوله عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.

نعم يمكن الاستدلال لهذا المذهب بمثل قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» (١).

وأما حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن عدي : «أن رجلا جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت الرجل ذبح ونسي أن يسمي؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اسم الله على كل مسلم» ، فهو حديث ضعيف قد ضعفه البيهقي وغيره (٢).

والضمير في قوله : إنه (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) يرجع إلى (ما) بتقدير مضاف ، أي وإن أكل ما لم يذكر لفسق ، ويجوز أن يرجع إلى مصدر تأكلوا ، أي فإن الأكل لفسق.

وقد تقدم تحقيق الفسق (٣).

وقد استدل من حمل هذه الآية على ما ذبح لغير الله بقوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ، ووجه الاستدلال أن الترك لا يكون فسقا ، بل الفسق الذبح لغير الله.

ويجاب عنه بأن إطلاق اسم الفسق على تارك ما فرضه الله عليه غير ممتنع شرعا (٤).

__________________

أما الموقوف فرجاله ثقات.

(١) حديث صحيح : رواه الطبراني في «الصغير» (١٠ / ٢٧٠) ، والدارقطني في «سننه» (٤ / ١٧٠ ، ١٧١) ، والحاكم في «المستدرك» (٢ / ١٩٨) ، والبيهقي في «الكبرى» (٧ / ٣٥٦) ، وابن حبان في «صحيحه» (٧٢١٩) ، والطحاوي في «شرح المعاني» (٣ / ٩٥) عن ابن عباس مرفوعا بنحوه.

(٢) حديث ضعيف : رواه ابن عدي في «الكامل في الضعفاء» (٦ / ٣٨٥) ، والبيهقي في «الكبرى» (٩ / ٢٤٠) عن أبي هريرة مرفوعا.

قلت : وضعفه ابن عدي وكذا البيهقي.

(٣) وذلك عند تفسير الآية (٣) من سورة المائدة.

(٤) انظر في تفسير هذه الآية : الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢ / ٢١٤ ، ٢١٦) ، والأحكام له (٢ / ٧٤٠) ، الزجاج (٢ / ٣١٦) ، ابن قتيبة (١٦١) ، النكت (١ / ٥٥٨) ، زاد المسير (٣ / ١١٥) ، اللباب (١٠٤) ، القرطبي (٧ / ٧٧).

٢٩٤

[الآية الخامسة]

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)).

(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) قد اختلف أهل العلم : هل هذه محكمة؟ أو منسوخة؟ أو محمولة على الندب؟ فذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير إلى أن الآية محكمة ، وأنه يجب على المالك يوم الحصاد أن يعطي من حضر من المساكين القبضة والضّغث (١) ونحوهما.

وذهب ابن عباس ومحمد بن الحنفية والحسن والنخعي وطاووس وأبو الشعثاء ، وقتادة والضحاك وابن جريج إلى أن هذه الآية منسوخة بالزكاة ، واختاره ابن جرير (٢).

ويؤيده أن هذه الآية مكية وآية الزكاة مدنية في السنة الثانية بعد الهجرة ، وإلى هذا ذهب جمهور أهل العلم من السلف والخلف.

وقالت طائفة من العلماء : إن الآية محمولة على الندب لا على الوجوب.

(وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)) : ومثلها في الأعراف (٣) ، أي لا تسرفوا في التصدق.

وأصل الإسراف في اللغة : الخطأ.

وفي الفقه : التبذير.

وقال سفيان : ما أنفقت في غير طاعة الله تعالى فهو إسراف ، وإن كان قليلا. وقيل : هو خطاب للولاة يقال لهم : لا تأخذوا فوق حقكم ، وقيل : المعنى : لا تأخذوا الشيء بغير حقه ، ولا تضعوه في غير مستحقه.

__________________

(١) الضغث : القبضة من الحشيش مختلطة الرطب باليابس [اللسان! ضغث].

(٢) انظر : تفسير الطبري (٨ / ٥٩).

(٣) عند الآية (٣١).

٢٩٥

[الآية السادسة]

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)).

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ) : أمره الله سبحانه بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحى إليه أي القرآن ، وفيه إيذان بأن مناط الحل والحرمة هو الوحي لا مجرد العقل.

(مُحَرَّماً) : غير هذه المذكورات ، فدل ذلك على انحصار المحرمات فيها لو لا أنها مكية ؛ وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة ، وزيد فيها على هذه المحرمات المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة (١).

وصحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير (٢).

وتحريم الحمر الأهلية (٣) ، والكلاب (٤) ، ونحو ذلك.

وبالجملة فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات ، كما يدل عليه السياق ، ويفيده الاستثناء ، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب والسنة ، مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات ، وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره ، فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء.

وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية ، وروي ذلك عن مالك ؛ وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه إهمال غيرها مما نزل بعدها من القرآن ، وإهمال ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال بحرمة شيء مثلا ، بعد نزول هذه الآية بلا سبب يقتضي ذلك ، ولا موجب يوجبه ، مع أن

__________________

(١) تقدّم الكلام عليها في تفسير سورة المائدة آية (٣).

(٢) حديث صحيح : رواه البخاري (٩ / ٦٥٧) ، (١٠ / ٢٤٩) ، ومسلم (١٣ / ٨١ ، ٨٣) ، عن أبي ثعلبة الخشني نحوه.

(٣) حديث صحيح : رواه البخاري (٧ / ٤٨١) ، ومسلم (١٣ / ٩٠ ، ٩١) ، ابن عمر مرفوعا ، وذلك النهي كان في يوم خيبر ، وروي عن جمع من الصحابة أيضا.

(٤) تدخل ضمن تحريم كل ذي ناب من السباع.

٢٩٦

التمسك بقول أحد ، ولو كان صحابيا ، في مقابلة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف.

وقوله (مُحَرَّماً) : صفة لموصوف محذوف ، أي طعاما محرما.

(عَلى) أي (طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) : من المطاعم ، وفي (يَطْعَمُهُ) زيادة تأكيد وتقرير لما قبله.

(إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) : أي ذلك الشيء ، أو ذلك الطعام ، أو العين ، أو الجثة ، أو النفس ، قرىء بالتحتية والفوقية ؛ وقرىء : ميتة ، بالرفع على أن يكون تامة.

(أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) وهو الجاري ، وغير المسفوح معفو عنه ، كالدم الذي يبقى في العروق بعد الذبح ، ومنه الكبد والطحال ، وهكذا ما يتلطخ به اللحم من الدم.

وقد حكى القرطبي الإجماع على هذا (١).

(أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ) : ظاهر تخصيص اللحم أنه لا يحرم الانتفاع منه بما عدا اللحم ، والضمير في : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) ، راجع إلى اللحم أو إلى الخنزير.

والرجس : النجس ، وقد تقدم تحقيقه.

(أَوْ فِسْقاً) عطف على (لَحْمَ خِنزِيرٍ).

و (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) : صفة فسق ، أي ذبح على الأصنام وغيرها ، وسمي فسقا لتوغله في باب الفسق ، ويجوز أن يكون فسقا مفعولا له لأهلّ ، أي أهلّ به لغير الله فسق على عطف أهلّ على يكون ، وهو تكلف لا حاجة إليه.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) : قد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة فلا نعيده (٢).

(فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ) : أي كثير المغفرة.

(رَحِيمٌ (١٤٥)) : أي كثير الرحمة ، فلا يؤاخذ المضطر لما دعت إليه ضرورته.

__________________

(١) انظر تفسيره (٧ / ١٢٤) ، ومراتب الإجماع لابن حزم (ص ١٧٢ ، ١٧٣).

(٢) وذلك عند تفسير الآية (١٧٣) من سورة البقرة.

وانظر في تفسير هذه الآية : المشكل لمكي بن أبي طالب (١ / ٢٩٧) ، والزجاج (٢ / ٣٣٠) ، والتبيان (١ / ٢٦٤) ، والفراء (١ / ٢٦٠) ، وزاد المسير (٣ / ١٣٨).

٢٩٧

سورة الأعراف

هي مكيّة إلا ثمان آيات ، وهي قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) إلى قوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ). [قاله] (١) ابن عباس وابن الزبير ، وبه قال الحسن ومجاهد وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد (٢).

وقال قتادة : آية من الأعراف مدنية : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) وسائرها مكية.

وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأ بها في المغرب ، يفرقها في الركعتين (٣).

[الآية الأولى]

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)).

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) هذا خطاب لجميع بني آدم ؛ وإن كان واردا على سبب خاص ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (٤).

والزينة : ما يتزين به الناس من الملبوس ، أمروا بالتزيين عند الحضور إلى المساجد للصلاة والطواف (٥).

__________________

(١) ما بين [المعقوفين] قال بدون الهاء في «المطبوعة» وهو غير مناسب للسياق ، والصواب ما أثبتناه.

(٢) انظر : الطبري (٨ / ٨٥) ، وزاد المسير (٣ / ١٦٤) ، الدر المنثور (٣ / ٦٧).

(٣) حديث صحيح : رواه البخاري (٢ / ٢٤٦) ، وأبو داود (٨١٢) ، والنسائي (٢ / ١٦٩ ، ١٧٠) ، وأحمد في «المسند» (٥ / ٤١٨) ، والطبراني (٣٨٩٣) ، (٤٨٢٣) عن زيد بن ثابت مرفوعا.

(٤) فائدة : في سبب نزول هذه الآية انظر : مسلم (١ / ١٦٢) ، والطبري (٨ / ١٦٠) ، والحاكم (٢ / ٣١٩ ، ٣٢٠) ، وتفسير ابن كثير (٢ / ٢١٠).

(٥) انظر : زاد المسير لابن الجوزي (٣ / ١٨٧) ، والطبري (٨ / ١٦٠) ، وابن كثير (٢ / ٢١٠) ، والدر المنثور (٣ / ٧٨).

٢٩٨

وقد استدل بالآية على ستر العورة في الصلاة ، وإليه ذهب جمهور أهل العلم ، بل سترها واجب في كل حال من الأحوال ، وإن كان الرجل خاليا ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة (١) ، والكلام على العورة وما يجب ستره منها مفصل في كتب الفروع (٢).

[الآية الثانية]

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)).

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) الزينة : ما يتزين به الإنسان ، من ملبوس أو غيره من الأشياء المباحة ، كالمعادن التي لم يرو نهي عن التزين بها ، والجواهر ونحوها ، وما قيل لها الملبوس خاصة فلا وجه له ؛ بل هو من جملة ما تشمله الآية ، فلا حرج على من لبس الثياب الجيدة ، الغالية القيمة ، إذا لم يكن مما حرّمه الله ، ولا حرج على من تزين بشيء من الأشياء التي لها مدخل في الزينة ، ولا يمنع منها مانع شرعي ، ومن زعم أن ذلك يخالف الزهد فقد غلط غلطا بينا.

وهكذا الطيبات من المطاعم والمشارب ونحوهما مما يأكله الناس ، فإنه لا زهد في ترك الطيّب منها ، ولهذا جاءت الآية هذه معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرّم ذلك على نفسه ، أو حرمه على غيره.

__________________

(١) حديث حسن : رواه أبو داود (٤٠١٧) ، والترمذي (٢٧٦٩) ، وابن ماجة (١٩٢٠) ، وأحمد (٥ / ٤٠٣) ، والحاكم (٤ / ١٧٩ ، ١٨٠) ، عن بهز بن حكيم عن أبيه مرفوعا ، وبهز وأبوه صدوقان. وحسنه الترمذي ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(٢) قال ابن حزم : «واتفقوا أن ستر العورة في الصلاة لمن قدر على ثوب مباح لباسه له فرض. (مراتب الإجماع ص ٣٤).

قال ابن الحاجب : في ستر العورة في الرجل ثلاثة أقوال : السوأتان خاصة ، ومن السرّة إلى الركبة ، والسرة حتى الركبة ، وقيل : ستر جميع البدن واجب. (جامع الأمهات ص ٨٩).

قال الحصني : السرة والركبة ليستا من العورة وهو ذلك على الصحيح الذي نصّ عليه الشافعي ، انظر : كفاية الأخيار (ص ١١٩). وكلام المصنف في «الروضة النّدية (ص ٨١ ، ٨٢)». ونيل الأوطار للشوكاني (٢ / ٦١ ، ٧٠).

٢٩٩

وما أحسن ما قاله ابن جرير الطبري : لقد أخطأ من آثر لباس الصوف والشعر على لباس القطن ، والكتّان مع وجود السبيل إليه من حله ، ومن أكل البقول والعدس واختاره على خبز البر ، ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض الشهوة (١).

(وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) : أي المستلذات من الطعام ، وقيل : هو اسم عام كسيا ومطعما.

(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي أنها لهم بالأصالة والاستحقاق وإن شاركهم الكفار فيها ما داموا في الحياة.

(خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي مختصة بهم يوم القيامة ، لا يشاركهم فيها الكفار (٢).

قرأ نافع خالصة بالرفع ، وهي قراءة ابن عباس على أنها خبر بعد خبر ، وقرأ الباقون بالنصب على الحال (٣).

قال أبو علي الفارسي : ولا يجوز الوقف على الدنيا ؛ لأن ما بعدها متعلق بقوله (لِلَّذِينَ آمَنُوا) حال بتقدير (قُلْ هِيَ) ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها لهم يوم القيامة (٤).

__________________

(١) انظر : الطبري (٨ / ١١٣) ، وزاد المسير (٣ / ١٨٩) ، والنكت والعيون (٢ / ١٩) ، ومعاني الفراء (١ / ٣٧٧) ، والقرطبي (٧ / ٢٠٠) ، والبحر المحيط (٤ / ٢٨٣).

(٢) قال ابن الأنباري : هي للذين آمنوا في الدنيا مشتركة ، وهي لهم في الآخرة خالصة (النكت ٢ / ٥٢ ، الزاد ٣ / ١٨٩).

(٣) قال الأزهري : «من رفع فقال : (خالصة) فهي على أنه خبر بعد خبر ، كما تقول : زيد عاقل لبيب ، المعنى : قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ، أراد جلّ وعزّ أنها حلال للمؤمنين ، يعني : الطيبات من الرّزق ويشركهم فيها الكافر ، واعلم أنها تخلص للمؤمنين في الآخرة لا يشركهم فيها كافر.

ومن قرأ (خالصة) بالنصب نصبها على الحال ، على أن العامل في قوله (في الحياة الدنيا) في تأويل الحال ، كأنك قلت : هي ثابتة للمؤمنين مستقرة في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة (معاني القراءات ص ١٧٨) بتحقيقنا ـ المزيدي ـ وكذلك الحجة لابن خالويه (ص ٨٤) والإقناع لابن الباذش ، والمفتاح للمغربي ـ بتحقيقنا ـ أيضا ـ دار الكتب ـ بيروت.

(٤) قال النحاس : «قال الأخفش (قل هي للذين آمنوا لأن المعنى : هي خالصة يوم القيامة) هاهنا تمّ الكلام لأن المعنى : هي خالصة يوم القيامة للذين آمنوا في الحياة الدنيا ، قال أبو جعفر : وهذا شرح حسن ، وفي المعنى قول آخر ، قال الضحاك وغيره من أهل التأويل أن المعنى : قل هي للذين آمنوا يشاركهم فيها غيرهم في الحياة الدنيا وتخلص يوم القيامة للذين آمنوا ، والتمام ـ كما قال الأخفش ـ على المعنيين جميعا (القطع والائتناف) بتحقيقنا ـ دار الكتب العلميّة ـ بيروت.

٣٠٠