نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

بأعمال قلبه ؛ وارتفاع القلب على أنه فاعل أو مبتدأ وآثم خبره ـ على ما تقرر في علم النحو ـ ويجوز أن يكون قلبه بدلا من آثم بدل البعض من الكل. ويجوز أيضا أن يكون بدلا من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من. وقرىء قلبه بالنصب كما في قوله (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ).

وأخرج البخاري في «تاريخه» وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن ماجة وأبو نعيم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ) ـ حتى بلغ (أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) قال هذه نسخت ما قبله.

قال الشوكاني في «فتح القدير» (١) أقول : رضي الله عن هذا الصحابي الجليل ؛ ليس هذا من باب النسخ فهذا مقيد بالائتمان وما قبله مع عدمه. فعلى هذا هو ثابت محكم لم ينسخ. انتهى.

أقول : الأحق هو التطبيق والتأويل مهما أمكن دون القول بالنسخ وإلغاء أحد الحكمين كما حققت ذلك في «إفادة الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ». أخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين.

(تمت آيات البقرة الشرعية غير المنسوخة بالضرورة).

__________________

(١) فتح القدير [١ / ٣٠٥].

١٢١

سورة آل عمران

[مائتا آية]

(وهي مدنية. قال القرطبي (١) بالإجماع ، ووردت الأحاديث الدالة على فضلها مشتركة بينها وبين سورة البقرة).

[الآية الأولى]

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨)).

فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار بسبب من الأسباب ؛ ومثله قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) [آل عمران : ١١٨] ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١] ، وقوله : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [المجادلة : ٢٢] ، وقوله : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥١] ؛ وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١].

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) : أي الاتخاذ المدلول عليه بقوله (لا يَتَّخِذِ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي من ولايته في شيء من الأشياء ، بل هو منسلخ عنه بكل (٢) حال (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) على صيغة الخطاب بطريق الالتفات : إي إلا أن تخافوا منهم أمرا يجب اتقاؤه ، وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال. وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم ، ولكنها تكون ظاهرا لا باطنا ؛ وخالف في ذلك قوم من السلف فقالوا : لا

__________________

(١) تفسير القرطبي [٤ / ١].

(٢) جاء في المطبوع [عن كل] والتصحيح من فتح القدير [١ / ٣٣١].

١٢٢

تقية بعد أن أعز الله الإسلام.

[الآية الثانية]

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)).

اللام في قوله (وَلِلَّهِ) هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف (عَلَى) فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب كما قال القائل : لفلان عليّ كذا ؛ فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته. وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي والعبد. (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) : وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي؟ فقيل : الزاد والراحلة ، وبهما فسرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما رواه الحاكم وغيره (١). وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم ، وهو الحق.

وقال مالك : إن الرجل إذا وثق بقوّته لزمه الحج ، وإن لم يكن له زاد وراحلة إذا كان يقدر على التكسب ، وبه قال عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة.

وقال الضحاك : إن كان شابا قويا وليس له مال فعليه أن يؤجر نفسه حتى يقضي حجه.

ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولا أوليا أن تكون الطريق إلى الحج آمنة بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زادا غيره.

أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ؛ وهذا الخائف على نفسه أو ماله لم يستطع إليه سبيلا بلا شك ولا شبهة.

وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض المال على وجه [لا] (٢) يجحف بزاد الحاج؟ فقال الشافعي : لا يعطي حبة ، ويسقط عليه فرض

__________________

(١) [ضعيف] أخرجه الحاكم في المستدرك [١ / ٤٤٢] وابن ماجه في السنن ح [٢٨٩٧] والبيهقي في السنن الكبرى [٤ / ٣٣٠].

(٢) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع والمثبت من فتح القدير [١ / ٣٦٣].

١٢٣

الحج ؛ ووافقه جماعة وخالفه آخرون.

والظاهر أن من تمكن من الزاد والراحلة وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها ـ ولو بمصانعة بعض الظلمة بدفع شيء من المال يتمكن منه الحاج ولا ينقص من زاده ولا يجحف به ـ فالحج غير ساقط عنه ؛ بل واجب عليه لأنه قد استطاع السبيل إليه بدفع شيء من المال ؛ ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما يتوقف عليه الاستطاعة : فلو وجد الرجل زادا وراحلة ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلا ، وهذا لا بد منه ، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة ، فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون.

ولعل وجه قول الشافعي إنه يسقط الحج أن أخذ هذا المكس منكر ، فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر ، وأنه بذلك غير مستطيع.

ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب ، فلو كان زمنا بحيث لا يقدر على المشي ولا على الركوب فهذا ـ وإن وجد الزاد والراحلة ـ لم يستطع السبيل. وقد وردت أحاديث في تشديد الوعيد على من ملك زادا أو راحلة ولم يحج ذكرها الشوكاني في «فتح القدير» (١) وتكلم عليها.

[الآية الثالثة]

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)).

أي يأتي به حاملا له على ظهره ، كما صح ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيفضحه بين الخلائق (٢).

وهذه الجملة تتضمن تأكيد تحريم الغلول والتنفير منه بأنه ذنب يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الأشهاد ويطلع عليها أهل المحشر وهي مجيئه يوم القيامة بما غله حاملا له قبل أن يحاسب عليه ويعاقب.

__________________

(١) فتح القدير [١ / ٣٦٥].

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ح [١٨٣١].

١٢٤

سورة النساء

[مائة وست وسبعون آية]

وهي كلها مدنية. قال القرطبي (١) : إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها).

[الآية الأولى]

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (٣)).

وجه ارتباط الجزاء بالشرط أن الرجل كان يكفل اليتيمة لكونه وليا لها ويريد أن يتزوجها فلا يقسط لها في مهرها : أي لا يعدل فيه ولا يعطيها ما يعطيها غيره من الأزواج ، فنهاهم الله أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى ما هو لهنّ من الصداق وأمروا أن ينكحوا (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) سواهنّ. فهذا سبب نزول الآية. فهو نهي يخص هذه الصورة.

وقال جماعة من السلف : إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية وفي أوّل الإسلام من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء ، فقصرهم بهذه الآية على أربع ، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا أن لا يقسطوا في [اليتامى فكذك يخافون ألا يقسطوا في] (٢) النساء لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ولا يتحرجون في النساء. والخوف من الأضداد فإن المخوف [منه] قد يكون معلوما ، وقد يكون مظنونا ؛ ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية : فقال أبو عبيد : خفتم بمعنى أيقنتم.

__________________

(١) تفسير القرطبي [٥ / ١].

(٢) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع والتتمة من فتح القدير [١ / ١٤٩].

١٢٥

وقال آخرون : خفتم بمعنى ظننتم.

قال ابن عطية : والمعنى : من غلب على ظنه التقصير في العدل لليتيمة فليتركها وينكح غيرها و «ما» في قوله (ما طابَ) موصولة. فالمعنى : فانكحوا النوع الطيب من النساء : أي الحلال وما حرمه الله فليس بطيب.

وقيل : «ما» هنا ظرفية أي ما دمتم مستحسنين للنكاح وضعفه ابن عطية ، وقال الفراء : مصدرية ، قال النحاس : وهذا بعيد جدا.

وقد اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة ، و (مِنَ) في قوله : (مِنَ النِّساءِ) إما بيانية أو تبعيضية ، لأن المراد غير اليتامى.

(مَثْنى) أي اثنتين اثنتين.

(وَثُلاثَ) أي ثلاثا ثلاثا.

(وَرُباعَ) أي أربعا أربعا.

وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة ؛ وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد ، كما يقال لجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم ، أو هذا المال الذي في البدرة درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته أو عين مكانه.

أما لو كان مطلقا كما يقال : أقسموا الدراهم ويراد به ما كسبوه فليس المعنى هكذا. والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول. على أن من قال لقوم يقتسمون مالا معينا كثيرا اقتسموه مثنى مثنى وثلاث ورباع فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين وبعضه ثلاثة ثلاثة وبعضه أربعة أربعة كان هذا هو المعنى العربي.

ومعلوم أنه إذا قال القائل : جاءني القوم ثلاث ورباع. والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد كما في قوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] ، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣] ، ونحوها.

فقوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) : لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء إثنتين اثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ؛ هذا ما تقتضيه لغة العرب فالآية

١٢٦

تدل على خلاف ما استدلوا به عليه. ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) فإنه وإن كان خطابا للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد ، فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن.

وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال : انكحوا مجموع هذا العدد المذكور فهذا جهل بالمعنى العربي! ولو قال : انكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا لكان هذا القول له وجه. وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا ؛ وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون أو ؛ لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره وذلك ليس بمراد من النظم القرآني.

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) : أي فانكحوا واحدة ، كما يدل على ذلك قوله (فَانْكِحُوا ما طابَ). وقيل التقدير : فالزموا أو فاختاروا واحدة ، والأول أولى. والمعنى فإن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجات في القسم ونحوه فانكحوا واحدة ، وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك.

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من السراري وإن كثر عددهنّ كما يفيده الموصول إذ ليس لهنّ من الحقوق ما للزوجات الحرائر.

والمراد نكاحهن بطرق الملك لا بطريق النكاح.

وفيه دليل على أن لا حق للمملوكات في القسم كما يدل على ذلك جعله قسيما للواحدة في الأمن من عدم العدل ، وإسناد الملك إلى اليمين لكونها المباشرة لقبض الأموال وإقباضها ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب (ذلِكَ) أي نكاح الأربع أو الواحدة أو التسري فقط (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (٣)) : أي أقرب إلى أن تجوروا : من عال الرجل يعول إذا مال وجار.

والمعنى إن خفتم عدم العدل بين الزوجات فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور.

وهو قول أكثر المفسرين. وقال الشافعي : (أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (٣)) أي لا يكثر عيالكم.

قال الثعلبي : وما قال هذا غيره!! وذكر ابن العربي أنه يقال أعال الرجل إذا كثر

١٢٧

عياله ؛ وأما عال بمعنى كثر فلا يصلح. ويجاب عنه بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم وجابر بن زيد وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية. وقد حكاه القرطبي عن الكسائي وأبي عمرو الدوري وابن الأعرابي. وقال أبو حاتم كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ولعله لغة.

قال الدوري : هي لغة حمير وأنشد :

وإن الموت يأخذ كل حيّ

بلا شكو إن أمشى وعالا

أي وإن كثرت ماشيته وعياله.

[الآية الثانية]

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)).

اختلف أهل العلم في هؤلاء السفهاء من هم؟ فقال سعيد بن جبير : هم اليتامى لا تؤتوهم أموالهم ؛ قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية.

وقال مالك : هم الأولاد الصغار : أي لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها ويبقوا بلا شيء.

وقال مجاهد : هم النساء.

قال النحاس وغيره : وهذا القول لا يصح إنما تقول العرب : سفائه أو سفيهات.

واختلفوا في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين وهي للسفهاء فقيل : أضافها إليهم لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها ؛ وقيل : لأنها من جنس أموالهم ، بأن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق في الأصل.

وقيل : المراد أموال المخاطبين حقيقة. وبه قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة. والمراد النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها كالنساء والصبيان ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تصلح (١) المال ولا يتجنب وجوه الضرر التي تهلكه وتذهب به.

__________________

(١) جاء في المطبوع [نصلح] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١ / ٤٢٥].

١٢٨

(وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) أي : اجعلوا لهم فيها رزقا وافرضوا لهم. وهذا فيمن يلزم نفقته وكسوته من الزوجات والأولاد ونحوهم. وأما على قول من قال إن الأموال هي أموال اليتامى ، فالمعنى : اتجروا فيها حتى تربحوا وتنفقوهم من الأرباح واجعلوا لهم من أموالهم رزقا ينفقونه على أنفسهم ويكسون به.

وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على السفهاء ، وبه قال الجمهور.

وقال أبو حنيفة : لا يحجر على من بلغ عاقلا ؛ واستدل بها أيضا على وجوب نفقة القرابة. والخلاف في ذلك معروف في مواطنه.

[الآية الثالثة]

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦)).

الابتلاء : الاختبار. واختلفوا في معنى الاختبار فقيل : هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ليعلم بنجابته وحسن تصرفه فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح وأنس منه الرشد.

وقيل : أن يدفع إليه شيئا من ماله ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله.

وقيل : أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعلم كيف تدبيره. وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها. (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) المراد بلوغ الحلم لقوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) [النور : ٥٩]. ومن علامات البلوغ الإنبات وبلوغ خمس عشرة سنة.

وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : لا يحكم لمن لا يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة.

وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى ، وتختص الأنثى بالحبل والحيض.

(فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) أي أبصرتم ورأيتم. ومنه قوله : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) [القصص : ٢٩]. وقيل : هو هنا بمعنى علم ووجد.

١٢٩

والرّشد : بضم الراء وسكون الشين ، والرشد بفتح الراء والشين قيل : هما لغتان.

واختلف أهل العلم في معنى الرشد هاهنا فقيل : الصلاح في العقل والدين ، وقيل : في العقل خاصة.

قال سعيد بن جبير والشعبي : إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده وإن كان شيخا ؛ قال الضحاك : وإن بلغ مائة سنة!!.

وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر.

وقال أبو حنيفة : لا يحجر على الحر البالغ وإن كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا ؛ وبه قال النخعي وزفر.

وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي بلوغ النكاح ـ مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد ـ فلا بد من مجموع الأمرين فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ ، وإن كانوا معروفين بالرشد ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم.

والمراد بالرشد نوعه وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله وعدم التبذير بها ووضعها في مواضعها.

(فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) من غير تأخير إلى حد البلوغ.

(وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) الإسراف في اللغة : الإفراط ومجاوزة الحد.

وقال النضر بن شميل : السرف التبذير.

والبدار : المبادرة ، أي لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف وأكل مبادرة لكبرهم ، أو لا تأكلوا لأجل السرف والمبادرة ، أو مسرفين ومبادرين لكبرهم وتقولوا : ننفق أموال اليتامى فيما نشتهي قبل أن يبلغوا فينتزعوها من أيدينا.

(وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى ، فأمر الغني بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه وعدم تناوله منه ؛ وسوغ للفقير أن يأكل بالمعروف.

واختلف أهل العلم [في الأكل بالمعروف] ما هو؟ فقال قوم : هو القرض إذا

١٣٠

احتاج إليه ويقضي متى أيسر الله عليه ؛ وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة السلماني وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية والأوزاعي.

وقال النخعي وعطاء والحسن وقتادة : لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف ؛ وبه قال جمهور الفقهاء ، وهذا بالنظم القرآني ألصق فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض.

والمراد بالمعروف : المتعارف به بين الناس فلا يترفه بأموال اليتامى ؛ ويبالغ في التنعم بالمأكول والمشروب والملبوس ولا يدع نفسه عن سد الفاقة وستر العورة.

والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم كالأب والجدّ ووصيهما. وقال بعض أهل العلم : المراد بالآية اليتيم إن كان غنيا وسّع عليه ، وإن كان فقيرا كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له ، وهذا القول في غاية السقوط.

(فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم ، وتأمنوا الدعاوى الصادرة منهم.

وقيل : إن الإشهاد المشروع هو على ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم ، وقيل : هو على رد ما استقرضه إلى أموالهم.

وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم وهو يعمّ الإنفاق قبل الرشد والدفع للجميع إليهم بعد الرشد. وفي سورة الأنعام : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) ، وفي الإسراء مثلها.

[الآية الرابعة]

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)).

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) يعني قسمة الميراث (أُولُوا الْقُرْبى) المراد بالقرابة هنا غير الوارثين وكذا (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) شرع الله سبحانه أنهم إذا حضروا قسمة التركة كان لهم منها رزق فيرضخ لهم المتقاسمون شيئا منها.

وقد ذهب قوم إلى أن الآية محكمة وأن الأمر للندب ، وذهب آخرون إلى أنها

١٣١

منسوخة بقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] والأول أرجح ، لأن المذكور في الآية للقرابة غير الوارثين ليس هو من جملة الميراث حتى يقال : إنها منسوخة بآية المواريث ، إلا أن يقال إن أولي القربى المذكورين هنا هم الوارثون كان للنسخ وجه ، وقالت طائفة : إن هذا الرضخ لغير الوارث من القرابة واجب بمقدار ما تطيب به أنفس (١) الورثة ؛ وهو معنى الأمر الحقيقي فلا يصار إلى الندب إلا بقرينة. والضمير في قوله : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) راجع إلى المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة.

وقيل : راجع إلى ما ترك. (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)) هو القول الجميل الذي ليس فيه منّ بما صار إليهم من الرضخ ولا أذى.

[الآية الخامسة]

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)).

تفصيل لما أجمل في قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) الآية ؛ وقد استدل بذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وهذه الآية ركن من أركان الدين وعمدة من عمد الأحكام وأم من أمهات الآيات لاشتمالها على ما يهم من علم الفرائض.

وقد كان هذا العلم من أجل علوم الصحابة رضي الله عنهم وأكثر مناظراتهم فيه.

وورد في الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها ما أخرجه الحاكم والبيهقي في «سننه» عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض ، وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان

__________________

(١) جاء في المطبوع [نفس] والتصحيح من فتح القدير [١ / ٤٢٩].

١٣٢

من يقضي بها» (١).

وأخرجاه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تعلموا الفرائض وعلموه فإنه نصف العلم فإنه ينسى وهو أوّل ما ينزع من أمتي» (٢). وقد روي عن عمر وابن مسعود وأنس آثار في الترغيب في الفرائض ، وكذلك روي عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.

والمعنى (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) : أي في شأن ميراثهم ؛ وقد اختلفوا : هل يدخل أولاد الأولاد أو لا؟

فقالت الشافعية : إنهم يدخلون مجازا لا حقيقة. وقالت الحنفية : إنه يتناولهم لفظ الأولاد حقيقة إذا لم يوجد أولاد الصلب.

ولا خلاف أن بني البنين كالبنين في الميراث مع عدمهم ؛ وإنما الخلاف في دلالة لفظ الأولاد على أولادهم مع عدمهم. ويدخل في لفظ الأولاد من كان منهم كافرا ، ويخرج بالسنة ، وكذلك يدخل القاتل عمدا ، ويخرج أيضا بالسنة والإجماع. ويدخل فيه الخنثى ، قال القرطبي : وأجمع العلماء أنه يورث من حيث يبول : فإن بال منهما فمن حيث سبق ؛ فإن خرج البول منهما من غير سبق أحدهما فله نصف نصيب الذكر ، ونصف نصيب الأنثى ، وقيل : يعطى أقلّ النصيبين ، وهو نصيب الأنثى ، قاله يحيى بن آدم وهو قول الشافعي.

وهذه الآية ناسخة لما كان في صدر الإسلام من الموارثة بالحلف والهجرة والمعاقدة.

وقد أجمع العلماء على أنه إذا كان مع الأولاد من له فرض مسمى أعطيه ، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين ، للحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ : «ألحقوا الفرائض بأهلها» (٣) فما أبقت الفرائض فالأولى رجل ذكر إلا إذا كان ساقطا

__________________

(١) [ضعيف] أخرجه الحاكم في المستدرك [٤ / ٣٣٣] والبيهقي في السنن الكبرى [٦ / ٢٠٨] وأخرجه الترمذي في السنن [٤ / ٣٦٠] ح [٢٠٩١] انظر التلخيص الحبير [٣ / ٧٩].

(٢) [ضعيف] أخرجه ابن ماجه في السنن ح [٢٧١٩] والدارقطني في السنن [٤ / ٦٧] والحاكم في المستدرك [٤ / ٣٣٢] والبيهقي في السنن الكبرى [٦ / ٢٠٩] انظر الميزان [١ / ٥٦٠] والتلخيص [٣ / ٧٩] وإرواء الغليل [٦ / ١٠٥].

(٣) [متفق عليه] أخرجه مسلم في الصحيح ح [١٢٣٣] و [١٢٣٤] والبخاري في الصحيح [١٢ / ١١] ح [٦٧٣٢] و [٦٧٣٥] و [٦٧٢٧] و [٦٧٤٦].

١٣٣

معهم كالأخوة لأم.

(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) جملة مستأنفة لبيان الوصية في الأولاد ؛ فلا بد من تقدير ضمير يرجع إليهم : أي للذكر منهم. والمراد حال اجتماع الذكور والإناث ، وأما حال الانفراد فللذكر جميع الميراث وللأنثى النصف ، وللأنثيين فصاعدا الثلثان. (فَإِنْ كُنَ) : أي الأولاد ، والتأنيث باعتبار الخبر أو البنات أو المولودات (نِساءً) ليس معهن ذكر (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) : أي زائدات على اثنتين ـ على أن فوق صفة لنساء أو يكون خبرا ثانيا لكان ـ (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) الميت المدلول عليه بقرينة المقام.

وظاهر النظم القرآني أن الثلثين فريضة الثلاثة من البنات فصاعدا ؛ ولم يسم للاثنتين فريضة. ولهذا اختلف أهل العلم في فريضتهما : فذهب الجمهور إلى أن لهما إذا انفردتا عن البنين الثلثين ، وذهب ابن عباس إلى أن فريضتهما النصف ، واحتج الجمهور بالقياس على الأختين فإن الله سبحانه قال في شأنهما (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ) فألحقوا البنتين بالأختين في استحقاقهما الثلثين ؛ كما ألحقوا الأخوات ـ إذا زدن على اثنتين ـ بالبنات في الاشتراك في الثلثين.

وقيل : في الآية ما يدل على أن للبنتين الثلثين ، وذلك أنه لما كان للواحدة مع أخيها الثلث كان للابنتين ـ إذا انفردتا ـ الثلثان ولهذا احتج بهذه الحجة إسماعيل بن عياش والمبرد.

قال النحاس : وهذا الاحتجاج عند أهل النظر غلط ؛ لأن الاختلاف في البنتين إذا انفردتا عن البنين. وأيضا للمخالف أن يقول : إذا ترك بنتين وابنا فللبنتين النصف. فهذا دليل على أن هذا فرضهما. ويمكن تأييد ما احتج به الجمهور بأن الله سبحانه لما فرض للبنت الواحدة النصف إذا انفردت بقوله (تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) كان فرض البنتين إذا انفردتا فوق فرض الواحدة وأوجب القياس [على] (١) الأختين الاقتصار على الثلثين.

وقيل : فوق زائدة والمعنى : وإن كنّ نساء اثنتين كقوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الأنفال : ١٢] أي الأعناق. وروى هذا النحاس وابن عطية فقالا : هو خطأ! لأن الظروف وجميع الأسماء لا تجوز في كلام العرب أن تزاد لغير معنى.

__________________

(١) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١ / ٤٣٢].

١٣٤

قال ابن عطية : ولأن قوله : (فَوْقَ الْأَعْناقِ) هو الفصيح وليست «فوق» زائدة بل هي محكمة المعنى ، لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ ، وهكذا لو كان لفظ فوق زائدا ـ كما قالوا ـ لقال فلهما ثلثا ما ترك ولم يقل فلهن.

وأوضح ما يحتج به الجمهور ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي في «سننه» عن جابر قال : «جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال؟ فقال : يقضي الله في ذلك ؛ فنزلت آية الميراث (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عمهما فقال : «أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك» (١). أخرجوه ـ من طرق ـ عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن جابر. قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه.

(وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) والمراد بالأبوين الأب والأم ؛ والتثنية على لفظ الأب للتغليب.

وقد اختلف أهل العلم في الجد : هل هو بمنزلة الأب فيسقط بالأخوة أم لا؟ (٢) فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب ولم يخالف أحد من الصحابة أيام خلافته ، واختلفوا في ذلك بعد وفاته فقال يقول أبي بكر بن عباس وعبد الله بن الزبير وعائشة ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وأبو الدرداء وأبو هريرة وعطاء وطاووس والحسن وقتادة وأبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق ؛ واحتجوا بمثل قوله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج : ٧٨] ؛ وقوله : (يا بَنِي آدَمَ) [الأعراف : ٢٦]. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ارموا يا بني إسماعيل» (٣).

__________________

(١) [حسن] أخرجه أبو داود في السنن [٣ / ١٢٠ و ١٢١] ح [٢٨٩١] و [٢٨٩٢] والترمذي في السنن [٤ / ٣٦١] ح [٢٠٩٢] وابن ماجه في السنن ح [٩٠٨] والدارقطني في السنن [٤ / ٧٨ ـ ٧٩] والبيهقي في السنن الكبرى [٦ / ٢٢٩] والحاكم في المستدرك [٤ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤] انظر الإرواء [٦ / ١٢٢].

(٢) انظر فتح القدير [١ / ٤٣٢].

(٣) أخرجه البخاري في الصحيح [٦ / ٩١] ح [٢٨٩٩].

١٣٥

وذهب علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريث الجدّ مع الإخوة لأبوين أو لأب ، ولا ينقص معهم عن الثلث ولا ينقص مع ذوي الفروض عن السدس. في قول زيد ومالك والأوزاعي وأبي يوسف ومحمد والشافعي.

وقيل : يشرك بين الجد والإخوة إلى السدس [ولا ينقصه من السدس] (١) شيئا مع ذوي الفروض وغيرهم وهو قول ابن أبي ليلى وطائفة وذهب الجمهور إلى أن الجدّ يسقط بني الإخوة. وروى الشافعي عن علي عليه‌السلام أنه أجرى بني الأخوة في المقاسمة مجرى الأخوة.

وأجمع العلماء على أن الجد لا يرث مع الأب شيئا ؛ وعلى أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم ، وأجمعوا على أنها ساقطة مع وجود الأم ، وأجمعوا على أن الأب لا يسقط الجدّة أم الأمّ. واختلفوا في توريث الجدة وابنها حيّ فروي عن زيد بن ثابت وعثمان بن علي أنها لا ترث ؛ وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. وروي عن عمر وابن مسعود وأبي موسى أنها ترث معه ، [وروي] (٢) أيضا عن علي وعثمان ؛ وبه قال شريح وجابر بن زيد وعبيد الله بن الحسن وشريك وأحمد وإسحاق وابن المنذر.

(مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) الولد يقع على الذكر والأنثى ؛ لكنه إذا كان الموجود الذكر من الأولاد ـ ووحده أو مع الأنثى منهم ـ فليس للجد إلا السدس ، وإن كان الموجود أنثى كان للجد السدس بالفرض وهو عصبته فيما عدا السدس. وأولاد ابن الميت كأولاد الميت.

(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ) : أي ولا ولد ابن ـ لما تقدّم من الإجماع ـ (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) منفردين عن سائر الورثة كما ذهب إليه الجمهور من أن الأم لا تأخذ ثلث التركة إلا إذا لم يكن للميت وارث غير الأبوين ؛ أما لو كان معهما أحد الزوجين فليس للأم إلا ثلث الباقي بعد الموجود من الزوجين. (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) وروي عن ابن عباس أن للأم ثلث الأصل مع أحد الزوجين وهو مستلزم تفضيل الأمّ على الأب في مسألة زوج وأبوين مع الاتفاق على أنه أفضل منها عند انفرادهما عن أحد الزوجين (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ

__________________

(١) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع والتتمة من فتح القدير [١ / ٤٣٢].

(٢) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع والتتمة من فتح القدير [١ / ٤٣٣].

١٣٦

السُّدُسُ) : إطلاق الاخوة لأبوين أو لأحدهما ، وقد أجمع أهل العلم على أن الاثنين من الإخوة يقومان مقام الثلاثة فصاعدا في حجب الأمّ إلى السدس إلا ما يروى عن ابن عباس من أنه جعل الاثنين كالواحد في عدم الحجب.

وأجمعوا أيضا على أن الأختين فصاعدا كالأخوين في حجب الأم (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) واختلف في وجه تقديم الوصية على الدين مع كونه مقدما عليها بالإجماع ، فقيل : المقصود تقديم الأمرين على الميراث من غير قصد إلى الترتيب بينهما ، وقيل : لما كانت الوصية أقل لزوما من الدين قدّمت اهتماما بها وقيل : قدّمت لكثرة وقوعها فصارت كالأمر اللازم لكل ميت. وقيل : قدمت لكونها حظ المساكين والفقراء وأخّر الدّين لكونه حظ غريم يطلب بقوة وسلطان. وقيل : لما كانت الوصية ناشئة من جهة الميت قدّمت ، بخلاف الدين فإنه ثابت مؤدى ذكر أم لم يذكر. وقيل : قدّمت لكونها تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض فربما يشق على الورثة إخراجها ، بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة بأدائه وهذه الوصية مقيدة بقوله تعالى (غَيْرَ مُضَارٍّ) كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) قيل : خبر قوله (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) مقدر : أي هم المقسوم عليهم ، وقيل : أن الخبر قوله (لا تَدْرُونَ) وما بعده و (أَقْرَبُ) خبر قوله (أَيُّهُمْ) و (نَفْعاً) تمييز : أي لا تدرون أيهم قريب لكم نفعه في الدعاء لكم والصدقة عنكم كما في الحديث الصحيح : «أو ولد صالح يدعو له» (١) وقال ابن عباس والحسن : «قد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه» وقال بعض المفسرين : إن الابن إذا كان أرفع درجة من أبيه في الآخرة سأل الله أن يرفع أباه ، وإذا كان الأب أرفع درجة من ابنه سأل الله أن يرفع ابنه إليه. وقيل : المراد النفع في الدنيا والآخرة قاله ابن زيد ، وقيل : المعنى أنكم لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم ، من أوصى منهم فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا أو من ترك الوصية ووفر عليكم عرض الدنيا؟ وقوى هذا صاحب «الكشاف» قال لأن الجملة اعتراضية ، ومن حق الاعتراض أن يؤكد ما اعترض بينه (٢) ويناسبه.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصحيح [١٦٣١] والنسائي في السنن [٦ / ٢٥١] والترمذي في السنن ح [١٣٧٦].

(٢) جاء في المطبوع [بنية] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١ / ٤٣٤].

١٣٧

قوله (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) نصب على المصدر المؤكد. وقال مكي وغيره هي حال مؤكدة ، والعامل يوصيكم والأوّل أولى.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بقسمة المواريث (حَكِيماً) حكم بقسمتها وبينها لأهلها.

وقال الزجاج : عليما بالأشياء قبل خلقها حكيما فيما يقدره ويمضيه.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) الخطاب هنا للرجال. والمراد بالولد ولد الصلب أو ولد الولد لما قدمنا من الإجماع (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) وهذا مجمع عليه لم يختلف أهل العلم في أن للزوج مع عدم الولد النصف ومع وجوده وإن سفل الربع.

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) الكلام فيه كما تقدم.

(وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ [فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ]) (١) (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) هذا النصيب مع الولد والنصيب مع عدمه تنفرد به الواحدة من الزوجات ويشترك فيه الأكثر من واحدة لا خلاف في ذلك ، والخلاف في الوصية والدين كما تقدّم.

(وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) المراد بالرجل الميت و (يُورَثُ) على البناء للمفعول من ورث لا من أورث وهو خبر كان ، و (كَلالَةً) حال من ضمير (يُورَثُ) ، وقيل : غير ذلك.

والكلالة مصدر من تكلله النسيب : أي أحاط به وبه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس. وهو الميت الذي لا ولد له ولا والد ؛ وهذا قول أبي بكر الصديق وعمر وعليّ وجمهور أهل العلم ، وبه قال صاحب كتاب «العين» وأبو منصور اللغوي وابن عرفة والقتيبي وأبو عبيد وابن الأنباري ، وقد قيل : إنه إجماع.

وقال ابن كثير : وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة وهو قول القضاة السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم ، وقد حكى الإجماع غير واحد وورد فيه حديث مرفوع انتهى (٢).

__________________

(١) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع.

(٢) تفسير ابن كثير [١ / ٤٣٦].

١٣٨

وروى أبو حاتم والأثرم عن أبي عبيدة أنه قال ؛ الكلالة كل من لم يرثه أب أو ابن أو أخ فهو عند العرب كلالة.

قال أبو عمر وابن عبد البر : ذكر أبي عبيدة الأخ هنا مع الأب والابن في شرط الكلالة غلط لا وجه له ، ولم يذكره غيره ، وما يروى عن أبي بكر وعمر من أن الكلالة من لا ولد له خاصة ، فقد رجعا عنه.

وقال ابن زيد : الكلالة : الحيّ والميت جميعا ، وإنما سموا القرابة كلالة لأنهم أطافوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم ، بخلاف الابن والأب فإنهما طرفان له ، فإذا ذهبا تكلله النسب.

وقيل : إن الكلالة مأخوذة من الكلال وهو الإعياء ، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بعد وإعياء.

قال ابن الأعرابي : إن الكلالة بنو العم الأباعد.

وبالجملة من قرأ (يورّث كلالة) بكسر الراء مشددة ـ وهو بعض الكوفيين : أو مخففة وهو الحسن وأيوب ـ جعل الكلالة القرابة ، ومن قرأ (يُورَثُ) بفتح الراء ـ وهم الجمهور ـ احتمل أن يكون الكلالة الميت واحتمل أن يكون القرابة.

وقد روي عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس والشعبي أن الكلالة : ما كان سوى الولد والوالد من الورثة.

قال الطبري (١) : الصواب أن الكلالة هم الذين يرثون الميت من عدا ولد ووالد ، لصحة خبر جابر : «قلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة ؛ أفأقضي بمالي كله؟ قال : لا» (٢) انتهى.

وروي عن عطاء أنه قال : الكلالة المال.

قال ابن العربي : وهذا قول ضعيف لا وجه له.

وقال صاحب «الكشاف» : إن الكلالة تنطبق على ثلاثة : على من لم يخلف ولدا ولا والدا ، وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين ، وعلى القرابة من غير جهة الولد

__________________

(١) تفسير الطبري [٣ / ١ / ٦٢].

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح بنحوه ح [١٦١٦].

١٣٩

والوالد. انتهى.

(أَوِ امْرَأَةٌ) معطوف على رجل مقيد بما قيد به ، أي وامرأة تورث كلالة.

(وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) : قرأ سعد بن أبي وقاص من أمّ. وسيأتي ذكر من أخرج ذلك عنه.

(فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) قال القرطبي : أجمع العلماء أن الأخوة هاهنا هم الأخوة لأم ، قال : ولا خلاف بين أهل العلم أن الأخوة للأب والأم أو للأب ليس ميراثهم هكذا ، فدل إجماعهم على أن الإخوة المذكورين في قوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) رجالا ونساء ف (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) : هم الاخوة لأبوين أو لأب ، وأفرد الضمير في قوله : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) ، لأن المراد كالواحد منهما ، كما جرت بذلك عادة العرب إذا ذكروا اسمين مستويين في الحكم فإنهم قد يذكرون الضمير الراجع إليهما مفردا كما في قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) [البقرة : ٤٥]. وقوله : (يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٣٤]. وقد يذكرون مثنى كما في قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما).

(فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) والإشارة بقوله : من ذلك إلى قوله (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) : أي أكثر من الأخ المنفرد والأخت المفردة بواحد : وذلك بأن يكون الموجود اثنين فصاعدا ذكرين أو أنثيين أو ذكرا وأنثى.

وقد استدل بذلك على أن الذكر كالأنثى من الإخوة لأم ، لأن الله شرّك بينهم في الثلث ولم يذكر فضل الذكر على الأنثى كما ذكره في البنين والإخوة لأبوين أو لأب. قال القرطبي : وهذا إجماع. ودلت الآية على أن الإخوة لأم إذا استكملت بهم المسألة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين أو لأب ؛ وذلك في المسألة المسماة ب «الحمارية» وهي إذا تركت الميتة زوجا وأما وأخوين لأمّ وإخوة لأبوين [فإن للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث ولا شيء للإخوة لأبوين] (١) ، ووجه ذلك أنه قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم ، وهو كون الميت كلالة. ويؤيد هذا الحديث : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر» ... وهو في الصحيحين وغيرهما.

__________________

(١) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع والتتمة من فتح القدير [١ / ٤٣٥].

١٤٠