نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

قال ابن المنذر : وسئل أبو جعفر عن البازي هل يحل صيده؟ قال : لا! إلا أن تدرك ذكاته.

وقال الضحاك والسدي : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) : هي الكلاب خاصة (١). فإن كان الكلب الأسود بهيما ، كره صيده الحسن وقتادة والنخعي.

وقال أحمد : ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما ، وبه قال ابن راهويه (٢).

فأما عامة أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم (٣) ، واحتج من منع من صيد الكلب الأسود بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الكلب الأسود شيطان» أخرجه مسلم وغيره (٤).

والحق أنه يحل صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح من غير فرق بين الكلب وغيره ، وبين الأسود من الكلاب وغيره ، وبين الطير وغيره.

ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عدي بن حاتم عن صيد البازي (٥).

__________________

(١) روى هذين القولين الطبري في «تفسيره» (٦ / ٦٣) ، والبغوي في «معالم التنزيل (٢ / ١٢) ، وذكره ابن كثير نحوه عن ابن عباس (٢ / ١٥) أيضا.

(٢) قال في «المقنع» : إلا الكلب الأسود البهيم ، فلا يباح صيده. وقال ابن قدامة في «الشرح الكبير» والبهيم الذي لا يخالط لونه لون أسود.

قال أحمد : الذي ليس فيه بياض ، وقال المرداوي في «الإنصاف» : لو كان بين عينيه نكتتان تخالفان لونه ، لم يخرج بهما عن البهيم وأحكامه ، وانظر : المقنع ، الشرح الكبير ، الإنصاف (٢٧ / ٣٨٦ ، ٣٨٧) ط. دار هجر.

(٣) انظر : الذخيرة للقرافي (٤ / ١٧٢) ط. دار الغرب. والهداية للمرغيناني (٤ / ١٥٣٩) ، الوسيط للغزالي (٧ / ١٠٨ ، ١٠٩).

(٤) حديث صحيح : رواه مسلم (١٠ / ٢٣٦) ، وأبو داود (٢٨٤٦). وأحمد في «المسند» (٣ / ٣٣٣) عن جابر مرفوعا.

ورواه مسلم (٤ / ٢٢٦ ، ٢٢٧) ، وأبو داود (٧٠٢) والترمذي (٣٣٨) والنسائي (٢ / ٦٣ ، ٦٤) ، وابن ماجة (٩٥٢) ، وأحمد في «المسند» (٥ / ١٤٩ ، ١٦١) عن عبد الله بن الصامت مرفوعا نحوه.

ورواه البخاري (٦ / ٣٦٠) ، ومسلم (١٠ / ٢٣٤ ، ٢٣٦) بنحوه عن ابن عمر مرفوعا.

(٥) انظر : زاد المسير (٢ / ٢٩٢) ، ابن عطية (٤ / ٣٥٤ ، ٣٥٥).

ولفظ «البازي» لم يرد في هذا الحديث الذي في «الصحيحين» عن عدي بن حاتم.

وإنما ورد عند أبي داود (٢٨٥١) ، والترمذي (١٤٦٧) وأحمد في «المسند» (٤ / ٢٥٧) ، والبيهقي (٩ / ٢٣٨). وقال أبو عيسى : هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مجالد عن الشعبي.

٢٤١

(تُعَلِّمُونَهُنَ) : أي تؤدبونهن. والجملة في محل نصب على الحال.

(مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) : أي مما أدركتموه بما خلقه فيكم من العقل ، الذي تهتدون به إلى تعليمها وتدريبها ، حتى تصير قابلة لإمساك الصيد لكم عند إرسالكم له.

(فَكُلُوا) : الفاء للتفريع ، والجملة متفرعة على ما تقدم من تحليل صيد ما علّموه من الجوارح ، و (من) في قوله : (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) للتبعيض ، لأن بعض الصيد لا يؤكل ، كالجلد والعظم ، وما أكله الكلب ونحوه.

وفيه دليل على أنه لا بد أن يمسكه على صاحبه ، فإن أكل منه ؛ فإنما أمسكه على نفسه ، كما في الحديث الصحيح (١).

وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحل أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال.

وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي ـ وهو مروي عن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعبد الله بن عمر ، وروي عن علي وابن عباس والحسن البصري والزهري وربيعة ومالك والشافعي في القديم ـ إنه يؤكل صيده (٢).

ويرد عليهم قوله تعالى : (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعدي بن حاتم : «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك» ، وهو في الصحيحين وغيرهما (٣).

وفي لفظ لهما : «فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه» (٤).

وأما ما أخرجه أبو داود بإسناد جيد من حديث أبي ثعلبة قال : قال رسول

__________________

وقال البيهقي : ذكر البازي في هذه الرواية لم يأت به الحفّاظ الذين قدمنا ذكرهم عن الشعبي ، وإنما أتى به مجالد. والله أعلم.

ومجالد قال عنه الحافظ : «ليس بالقوي ، وقد تغيّر في آخر عمره».

(١) هو حديث عدي المتقدّم ذكره وتخريجه.

(٢) انظر : تفسير الطبري (٦ / ٦٣) ، وابن الجوزي (٢ / ٢٩٢) ، والمغني (١٣ / ٢٦٣) ، والمقنع والشرح الكبير ، والإنصاف معا (٢٧ / ٣٨٩ ، ٣٩١) ، والوسيط للغزالي (٧ / ١١٥) ، والروضة (٣ / ٢٤٩) ، والمنهاج (ص ١٤١).

(٣) سبق تخريجه.

(٤) حديث صحيح : رواه البخاري (٩ / ٦٠٣) ، ومسلم (١٣ / ٧٦) عن عدي بن حاتم ، وتقدّم.

٢٤٢

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه» (١).

وقد أخرجه أيضا بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأخرجه أيضا النسائي.

فقد جمع بعض الشافعية بين هذه الأحاديث : بأنه إن أكل عقب ما أمسك ، فإنه يحرم ، لحديث عدي بن حاتم ؛ وإن أمسكه ثم انتظر صاحبه ، فطال عليه الانتظار ، وجاع فأكل من الصيد لجوعه ـ لا لكونه أمسكه على نفسه ـ فإنه لا يؤثر ذلك ولا يحرم به الصيد. وهذا جمع حسن (٢).

وقال آخرون : إنه إذا أكل الكلب منه حرم ، لحديث عدي ، وإن أكل غيره لم يحرم للحديثين الآخرين.

وقيل يحمل حديث [أبي] (٣) ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه ثم عاد فأكل منه. وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح ، ولم يسلكوا طريق الجمع ، لما فيها من البعد.

قالوا : وحديث عدي بن حاتم أرجح لكونه في «الصحيحين». وقد قرر الشوكاني هذا المسلك في «شرح المنتقى» (٤) بما يزيد الناظر فيه بصيرة.

(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) الضمير في عليه يعود إلى (وَما عَلَّمْتُمْ) ، أي سموا عليه عند إرساله أو [لما] (٥) أمسكن عليكم : أي سموا عليه إذا أردتم ذكاته.

وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح ، واستدلوا بهذه الآية ، ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في «الصحيحين» وغيرهما بلفظ : «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله» (٦).

وقال بعض أهل العلم : إن المراد التسمية عند الأكل. قال

__________________

(١) إسناده ضعيف : رواه أبو داود (٢٨٥٢ ، ٢٨٥٧) ، والبيهقي (٩ / ٢٣٧ ، ٢٣٨) ، والدارقطني (٤ / ٢٩٣ ، ٢٩٤) ، عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعا بنحوه.

وضعّفه الألباني في «ضعيف أبي داود» (٦١١). فانظر كلامه فيه.

(٢) يردّ ذلك نكار الأحاديث التي وردت في ذكر أكل من الصيد والله أعلم.

(٣) صحف إلى (ابن) وهو خطأ ظاهر.

(٤) انظر : نيل الأوطار (٩ / ٧٢٦).

(٥) حرفت إلى «لم» والصواب ما أثبت وكما في فتح القدير (٢ / ١٤).

(٦) تقدّم تخريجه.

٢٤٣

القرطبي (١) : وهو الأظهر.

واستدلوا بالأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التسمية ، وهذا خطأ ؛ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وقّت التسمية بإرسال الكلب ، وإرسال السهم ، ومشروعية التسمية عند الأكل حكم آخر ، ومسألة غير هذه المسألة ، فلا وجه لحمل ما ورد في الكتاب والسنة هنا ، على ما ورد في التسمية عند الأكل ، ولا ملجىء إلى ذلك.

وفي لفظ في «الصحيحين» من حديث عدي : «إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل» (٢). وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط ، وذهب آخرون إلى أنها سنة فقط ، وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي. وهذا أقوى الأقوال وأرجحها (٣).

[الآية الخامسة]

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)).

(الْيَوْمَ) : المراد بهذا اليوم والمذكورين قبله وقت واحد ، وإنما كرّر للتأكيد ، ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره ، كذا قال أبو السعود. وقيل : أشار بذكر اليوم إلى وقت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كما تقول : هذه أيام فلان.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) : هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى وهي قوله : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ، وقد تقدم بيان الطيبات.

__________________

(١) انظره في «تفسيره» (٦ / ٧٤).

(٢) البخاري (٩ / ٦١٢) ، ومسلم (١٣ / ٧٦).

(٣) انظر : تفسير ابن عطية (٤ / ٣٥٦) ، القرطبي (٦ / ٧٤) ، الذخيرة للقرافي (٤ / ١٣٤) ، والهداية للمرغيناني (٤ / ١٤٤٦ ، ١٤٤٧) ، ونصب الراية للزيلعي (٤ / ١٨٢) ، إعلام الموقعين (٢ / ١٥٤ ، ١٥٥).

٢٤٤

(وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) : الطعام اسم لكل ما يؤكل ، ومنه الذبائح ، وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح (١) ، وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتاب ـ من غير فرق بين اللحم وغيره ـ حلال للمسلمين ، وإن كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم الله ، فتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١]. وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال ، وإن ذكر اليهودي على ذبيحته اسم عزيز ، وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح. وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول (٢).

وقال عليّ وعائشة وابن عمر : إذا سمعت الكتابي يسمي على الذبيحة اسم غير الله فلا تأكل.

وهو قول طاووس والحسن (٣) ، وتمسكوا بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١]. وقوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ) [المائدة : ٣].

وقال مالك : إنه يكره ولا يحرم (٤).

فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله ، وأما مع عدم العلم ، فقد حكى الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية (٥).

ولما ورد في السنة من أكله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية.

وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهما في «الصحيح» وغير ذلك.

والمراد بأهل الكتاب هنا : اليهودي والنصارى.

وأما المجوس فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم ، لأنهم ليسوا بأهل الكتاب على المشهور عند أهل العلم (٦).

__________________

(١) انظر : الطبري (٦ / ٦٦) ، وابن كثير (٢ / ١٩).

(٢) انظر : زاد المسير (٢ / ٢ / ٢٩٥) ، الطبري (٦ / ٦٦) ، ابن كثير (٢ / ١٩) ، المحرر الوجيز لابن عطية (٤ / ٣٥٧ ، ٣٥٩).

(٣) انظر : الطبري (٦ / ٦٦ ، ٦٧) ، ابن كثير (٢ / ٢١) ، ابن عطية (٤ / ٣٥٩) ط. الدّوحة.

(٤) انظر : الذخيرة للقرافي المالكي (٤ / ١٧٠).

(٥) انظر : المصادر السابقة.

(٦) انظر : الوسيط للغزالي (٧ / ١٠١) ، الروضة للنووي (٧ / ١٤٢) ، والذخيرة للقرافي (٤ / ١٦٩ ،

٢٤٥

وخالف في ذلك أبو ثور ، وأنكر عليه الفقهاء ذلك ، حتى قال أحمد بن حنبل : أبو ثور كاسمه! يعني في هذه المسألة (١).

وكأنه تمسك بما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلا ، أنه قال في المجوس : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ولم يثبت بهذا اللفظ (٢).

وعلى فرض أن له أصلا ففيه زيادة تدفع ما قاله. وهي قوله : «غير آكلي ذبائحهم ولا ناكحي نسائهم» (٣) ورواه بهذه الزيادة جماعة ، ممن لا خبرة لهم بفن الحديث من المفسرين والفقهاء ، ولا يثبت الأصل ولا الزيادة ، بل الذي ثبت في «الصحيح» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر (٤).

وأما بنو تغلب (٥) فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينهى عن ذبائحهم لأنهم عرب وكان يقول : إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر (٦)!.

__________________

١٧٠) ، والملل والنحل للشهرستاني في حديثه عن المجوس (١ / ٢٣٠ ، ٢٤٤).

(١) انظر ردّ الإمام أحمد عليه في «أحكام أهل الملل» لأبي بكر الخلّال (٤٥١ ، ٤٥٣). وتلخيص الحبير (٣ / ٣٥٤).

(٢) رواه مالك في «الموطأ» (٢ / ٢٣٢) ، والشافعي في «الأم» (٤ / ١٨٣) ، وابن أبي شيبة (٧ / ٥٨٤) ، وعبد الرزاق (١٠٠٢٥) ، وأبو عبيد في «الأموال» (٧٧) ، والبيهقي (٩ / ١٨٩ ، ١٩٠) عن عمر مرفوعا.

وفي إسناده انقطاع محمد بن عليّ بن الحسين أبو جعفر الباقر رضي الله عنهم ، لم يلق عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب.

ولكن له شاهد عند الطبراني (٦٦٦٠) عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعا.

قال الحافظ : هو منقطع إلا أن يكون الضمير في جده يعود على محمد ، فجده حسين سمع منهما ، لكن في سماع محمد من حسين نظر كبير ، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب النكاح بسند حسن .. عن زيد بن وهب قال : كنت عند عمر فذكر من عنده المجوس ، فوثب عبد الرحمن بن عوف فقال : أشهد بالله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسمعه يقول : «إنما المجوس طائفة من أهل الكتاب ، فاحملوهم على ما تحملون عليه أهل الكتاب». (التلخيص ٣ / ٣٥٣) ط. قرطبة ـ القاهرة.

وقال الزرقاني عن هذا الحديث : «هو عام أريد به الخصوص» (شرح المنتقى ٢ / ١٣٩).

(٣) إسناده ضعيف : ورواه ابن أبي شيبة (١٢ / ٢٤٢) ، (٩١ / ١٢٦) ، (١٢ / ٢٤٩) ، (١٢٧٠٦) والبيهقي (٩ / ١٩٢ ، ٢٨٥).

وأورده الحافظ في «التلخيص» (٣ / ٣٥٤) وقال : وهو مرسل ، وفي إسناده قيس بن الربيع وهو ضعيف ، قال البيهقي : وإجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده.

(٤) حديث صحيح : رواه البخاري (٦ / ٢٥٧) ، عن عبد الرحمن بن عوف.

(٥) تسكن بلاد تغلب بالجزيرة الفراتية ، وتعرف بديار ربيعة (معجم قبائل العرب) لكحالة (١ / ١٢٠).

(٦) حديث صحيح : رواه الشافعي في «الأم» (٢ / ٢٥٤) ، (٤ / ٣٠٠) ، وعبد الرزاق في «المصنف»

٢٤٦

وهكذا سائر العرب المتنصرة كتنوخ ، وجذام ، ولخم ، وعاملة ، ومن أشبههم (١).

قال ابن كثير (٢) : وهو قول غير واحد من السلف والخلف.

وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب (٣).

وقال القرطبي (٤) : قال جمهور الأمة : إن ذبيحة كل نصراني حلال ، سواء كان من بني تغلب أو من غيرهم ، وكذلك اليهود.

وقال (٥) : ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة ، كالطعام يجوز أكله مطلقا.

(وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) : أي وطعام المسلمين حلال لأهل الكتاب. وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من ذبائحهم ، وهذا من باب المكافأة والمجازاة ، وإخبار للمسلمين بأن ما يأخذونه من أعواض الطعام حلال لهم بطريق الدلالة الالتزامية.

(وَالْمُحْصَناتُ) : مبتدأ ، واختلف في تفسيرهن هنا : فقيل : العفائف ، وقيل الحرائر (٦).

وقرأ الشعبي بكسر الصاد ، وبه قرأ الكسائي. وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في البقرة والنساء (٧).

__________________

(٨٥٧٠) ، والبيهقي في «الكبرى» (٩ / ٢٨٤).

وصححه الحافظ في «فتح الباري» (٩ / ٦٣٧).

(١) انظر : أحكام أهل الذمة (١ / ١٣٦).

(٢) انظره في «تفسيره» (٢ / ٢١).

(٣) انظر : الطبري (٦ / ٦٦) ، وزاد المسير (٢ / ٢٩٦).

(٤) انظره في «تفسيره» (٦ / ٧٦ ، ٧٨).

(٥) أي القرطبي (٦ / ٧٨).

(٦) انظر : الطبري (٦ / ٦٦) ، النكت (١ / ٤٤٩).

(٧) انظر : معاني القراءات للأزهري (ص ١٢٣) ، وقال : «وأجمع القراء على فتح الصّاد من قوله جل وعز : «والمحصنات من النساء لأن معناهن أنهن أحصنّ بالأزواج».

وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة (١٧٣) ، والنساء (٢٤).

٢٤٧

وقوله : (مِنَ الْمُؤْمِناتِ) : وصف له ، والخبر محذوف ، أي حل لكم ، وذكرهن هنا توطئة وتمهيدا لقوله :

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) : المراد بهن الحرائر دون الإماء ، هكذا قال الجمهور.

وحكى ابن جرير (١) عن طائفة من السلف : أن هذه الآية تعم كل كتابية حرة أو أمة.

وقيل : المراد بأهل الكتاب الإسرائيليات وبه قال الشافعي ؛ وهذا تخصيص بغير مخصص.

وقال عبد الله بن عمر : لا تحل النصرانية ؛ قال : ولا أعلم شركا أكبر من أن تقول : ربها عيسى! وقد قال الله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ...) الآية [البقرة : ٢٢١].

ويجاب عنه بأن هذه الآية مخصصة للكتابيات من عموم المشركات ، فيبنى العام على الخاص ، وقد استدل من حرم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية ، لأنه حملها على الحرائر ، ولقوله تعالى : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) [النساء : ٢٥]. وقد ذهب إلى هذه كثير من أهل العلم ، وخالفهم من قال : إن الآية تعم أو تخص العفائف ، كما تقدم.

والحاصل : أنه يدخل تحت هذه الآية الحرة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال ، إلا على قول ابن عمر في النصرانية ، ويدخل تحتها الحرة التي ليست بعفيفة ، والأمة العفيفة ، على قول من يقول إنه يجوز استعمال المشرك في كلا معنييه.

وأما من لم يجوّز ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر ، لم يقل بجواز نكاح الأمة عفيفة كانت أو غير عفيفة إلا بدليل آخر ، ويقول بجواز نكاح الحرة عفيفة كانت أو غير عفيفة ، وإن حمل المحصنات هنا على العفائف ، قال بجواز نكاح الحرة العفيفة والأمة العفيفة دون غير العفيفة منها. ومذهب الإمام أبي حنيفة جواز نكاح الأمة الكتابية أخذا بعموم الآية (٢).

__________________

(١) انظر : الطبري (٦ / ١٠٥ ، ١٠٧).

(٢) قال الرازي : «وعلى هذا البحث وقع الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة. فعند الشافعي لا يجوز التزوج بالأمة الكتابية : قال : لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان : الكفر والرّق.

٢٤٨

(إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) : أي مهورهن ، وجواب إذا محذوف ، أي : فهي حلال ، أو هي ظرف لخبر المحصنات المقدر ، أي : حل لكم.

(مُحْصِنِينَ) : منصوب على الحال ، أي حال كونكم أعفاء بالنكاح.

وكذا قوله : (غَيْرَ مُسافِحِينَ) : منصوب على الحال من الضمير في محصنين ، أو صفة لمحصنين ، والمعنى غير مجاهرين بالزنا.

(وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) : معطوف على غير مسافحين ، أو على مسافحين ، ولا مزيدة للتأكيد.

والخدن : الصديق في السر يقع على الذكر والأنثى ، أي ولم تتخذوا معشوقات ، فقد شرط الله في الرجال العفة ، وعدم المجاهرة بالزنا ، وعدم اتخاذ أخدان ، كما شرط في النساء أن يكن محصنات.

[الآية السادسة]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) : إذا أردتم القيام تعبيرا بالمسبب عن السبب ، كما في قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨].

وقد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة ، فقالت طائفة : هو علم في كل قيام إليها ، سواء كان القائم متطهرا أو محدثا ؛ فإنه ينبغي له إذا قام إلى

__________________

وعند أبي حنيفة يجوز ، وتمسّك بهذه الآية بناء على أن المراد بالمحصنات العفائف (مفاتيح الغيب ٥ / ٥٧٧)

٢٤٩

الصلاة أن يتوضأ ، وهو مروي عن علي وعكرمة (١) ؛ وقال بوجوبه داود الظاهري (٢).

وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة (٣).

وقالت طائفة أخرى : إن هذا الأمر خاص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو ضعيف! فإن الخطاب للمؤمنين والأمر لهم (٤).

وقالت طائفة : الأمر للندب طلبا للفضل.

وقال آخرون : الوضوء لكل صلاة كان فرضا عليهم بهذه الآية ، ثم نسخ في فتح مكة (٥).

وقال جماعة : هذا الأمر خاص بمن كان محدثا.

وقال آخرون : المراد إذا قمتم من النوم إلى الصلاة ، فيعم الخطاب كل قائم من النوم (٦).

وقد أخرج مسلم وأحمد وأهل «السنن» (٧) عن بريدة. قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح ، توضأ ومسح على خفيه ، وصلى الصلوات بوضوء واحد ، فقال له عمر : يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله؟. قال : عمدا فعلته

__________________

(١) إسناده ضعيف : رواه الدارمي في «سننه» (١ / ١٦٨) ، وابن جرير في «تفسيره» (١١٣٢٣) ، من طريق مسعود بن عليّ الشيباني قال : سمعت عكرمة يقول : «كان عليّ رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة ..» فذكر الحديث. وعلته : الانقطاع بين الشيباني وعكرمة.

(٢) قال داود : يجب الوضوء لكل صلاة ، وقال أكثر الفقهاء : لا يجب. (مفاتيح الغيب ٥ / ٥٨٠).

(٣) إسناده ضعيف : رواه الطبري (٦ / ١١٣) ، وعلته : أن محمد بن سيرين لم يرو عن أحد من الخلفاء الأربعة ولم يدركهم.

(٤) انظر : الطبري (٦ / ١١٣) ، والقرطبي (٤ / ٢٠٧٧ ، ٢٠٧٩) ط دار الشعب.

ومما يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة ، فلما شق الأمر أمر بالسواك عند كل صلاة. رواه أبو داود (٤٨) ، وأحمد (٥ / ٢٢٥) ، والدارمي (١ / ١٦٨ ، ١٦٩) والحاكم (١ / ١٥٥ ، ١٥٦) ، عن ابن عمر مرفوعا. وصححه ووافقه الذهبي.

قلت : في إسناده محمد ابن إسحاق ، وقد صرّح بالتحديث ، فحديثه حينئذ حسن.

(٥) انظر : مفاتيح الغيب (٥ / ٥٨٢) ، القرطبي (٤ / ٢٠٧٨) ط دار الشعب ، والطبري (٦ / ١١٢).

(٦) انظر : المصادر السابقة.

(٧) حديث صحيح : رواه مسلم (٧٧) ، وأبو داود (١٧٢) ، والترمذي (٦١) ، والنسائي (١ / ١٦) ، وابن ماجة (٥١٠) ، وأحمد (٥ / ٣٥٠ ، ٣٥١ ، ٣٥٨) ، والدارمي (١ / ١٦٩) ، وابن حبان (١٧٠٦ ، ١٧٠٧ ، ١٧٠٨).

٢٥٠

يا عمر». وهو مروي من طرق كثيرة بألفاظ متفقة في المعنى (١).

وأخرج البخاري وأحمد وأهل «السنن» (٢) عن عمرو بن عامر الأنصاري : سمعت أنس بن مالك يقول : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوضأ عند كل صلاة. قال : قلت : فأنتم كيف تصنعون؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث».

فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث ، وبه قال جمهور أهل العلم ، وهو الحق.

(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) الوجه في اللغة : مأخوذة من المواجهة ، وهو عضو مشتمل على أعضاء ، وله طول وعرض ، فحده في الطول : من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين ، وفي العرض : من الأذن إلى الأذن.

وقد ورد الدليل بتخليل اللحية (٣).

واختلف العلماء في غسل ما استرسل ، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه (٤).

وقد اختلف أهل العلم أيضا هل يعتبر في الغسل الدلك باليد ، أم يكفي إمرار الماء؟ والخلاف في ذلك معروف ؛ والمرجع اللغة العربية ؛ فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل كان معتبرا ، وإلا فلا.

قال في «شمس العلوم» : غسل الشيء غسلا ، إذا أجرى عليه الماء ودلكه. انتهى.

وأما المضمضة والاستنشاق فإذا لم يكن لفظ الوجه يشتمل باطن الفم والأنف ،

__________________

(١) انظر بعضها عند ابن حبان (١٧٠٦ ، ١٧٠٧ ، ١٧٠٨).

(٢) حديث صحيح : رواه البخاري (١ / ٣١٥) ، وأبو داود (١٧١) ، والترمذي (٦٠) ، والنسائي (١ / ٨٥) ، وابن ماجة (٥٠٩) ، وأحمد في «المسند» (٣ / ١٣٢ ، ١٣٣ ، ١٥٤).

(٣) حديث صحيح : رواه أبو داود (١٤٥) ، والبيهقي في «الكبرى» (١ / ٥٤) عن أنس مرفوعا.

وروي نحوه عن عمار بن ياسر في «مسند ابن أبي شيبة ـ بتحقيقنا ـ وأحمد في «العلل» (١٠٣٥) والترمذي (٢٩) ، وابن ماجة (٤٢٩) ، والطيالسي (٦٤٥) ، والطبري (٦ / ١٢١) ، والحاكم (١ / ١٤٩).

وانظر : المحلى لابن حزم (٢ / ٣٦).

وانظر : ما رواه أبو عبيد في «الطهور» في مسألة تخليل اللحية والمذاهب التي فيها (ص ٣٤٣ ، ٣٥٢) تحقيق الأستاذ المحقق مشهور حسن سلمان.

(٤) راجع نيل الأوطار (١ / ١٨١).

٢٥١

فقد ثبت غسلهما بالسنة الصحيحة (١) ، والخلاف في الوجوب وعدمه معروف. وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في مؤلفاته ك «المختصر» و «شرحه» و «نيل الأوطار» (٢).

(وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) : إلى الغاية. وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف ، وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما بعدها إن كان من نوع ما قبلها دخل وإلا فلا. وقيل : إنها هنا بمعنى مع. وذهب قوم إلى أنها تفيد الغاية مطلقا ، وأما الدخول وعدمه فأمر يدور مع الدليل.

وقد ذهب الجمهور أن المرافق تغسل ، واستدلوا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جده عن جابر بن عبد الله قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه». ولكن القاسم هذا متروك ، وجده ضعيف (٣).

(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) : قيل الباء زائدة ، والمعنى امسحوا رؤوسكم ؛ وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس ، وقيل : هي للتبعيض ، وذلك يقتضي أنه يجزىء مسح بعضه.

واستدل القائلون بالتبعيض بقوله تعالى في التيمم (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) [النساء : ٤٣] ولا يجزىء مسح بعض الوجه اتفاقا ، وقيل : إنها للإلصاق ، أي ألصقوا أيديكم برؤوسكم ، وعلى كل حال فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس ، كما أوضح الشوكاني ذلك في مؤلفاته (٤) ، فكان هذا دليلا على المطلوب غير محتمل كاحتمال الآية ، على فرض أنها محتملة ، ولا شك أن من أمر غيره أن يمسح

__________________

(١) منها : ما رواه أبو داود (١٤٤) ، عن لقيط بن صبرة.

وما رواه البخاري (١ / ٢٦٣) ومسلم ، (٢٣٧) عن أبي هريرة مرفوعا.

وانظر : فتح الباري للحافظ (١ / ٢٦٢) فإن فيه فوائد.

(٢) انظره في (١ / ١٧١ ، ١٨١) ، وكذلك السيل الجرّار (١ / ٨١ ، ٨٢).

(٣) رواه الدارقطني في «سننه» (١ / ٨٣) ، والبيهقي في «الكبرى» (١ / ٥٦).

(٤) ذكر الشوكاني الاختلاف في المسألة ثم قال : وبعد هذا فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديث ولكن دون الجزم بالوجوب مفاوز وعقبات اه. وانظر : نيل الأوطار (١ / ١٥٥ ، ١٥٧).

وقال المصنف في «الروضة الندية» : «والسنة الصحيحة وردت بالبيان ، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات». (١ / ٣٧ ، ٣٨).

٢٥٢

رأسه كان ممتثلا بفعل ما يصدق عليه مسمى المسح ؛ وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لا بد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس ، وهكذا سائر الأفعال المتعدية نحو : اضرب زيدا أو أطعنه. فإنه يؤخذ المعنى العربي بوقوع الضرب أو الطعن على عضو من أعضائه ؛ ولا يقول قائل من أهل اللغة ومن هو عالم بها ، إنه لا يكون ضاربا إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد ، وكذلك الطعن وسائر الأفعال. فاعرف هذا المعنى يتبين لك ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس.

فإن قلت : يلزم مثل هذا في غسل الوجه واليدين والرجلين؟ قلت : تلزم لو لا البيان من السنة في الوجه ، والتحديد بالغاية في اليدين والرجلين ، بخلاف الرأس ، فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض (١).

(وَأَرْجُلَكُمْ) : قرأ نافع بنصب الأرجل ، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجر ، فقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين ، لأنها معطوفة على الوجوه والأيدي ، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء ، والفصل بالممسوح بين المغسولات يفيد وجوب الترتيب في تطهير هذه الأعضاء ، وعليه الشافعي.

وقراءة الجر تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الأرجل ، لأنها معطوفة على الرؤوس ، وإليه ذهب ابن جرير الطبري ، وهو مروي عن ابن عباس (٢).

__________________

(١) حديث صحيح : رواه مسلم (٢٧٤) ، عن المغيرة مرفوعا قوله : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه».

(٢) قال الأزهري : «من قرأ (وأرجلكم) نصبا عطفه على قوله «اغسلوا وجوهكم وأيديكم» أخر ومعناه التقديم : وقد رويت هذه القراءة عن ابن عباس ، وبها قرأ الشافعي ، ورويت عن ابن مسعود ، وهي أجود القراءتين : لموافقتها الأخبار الصحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غسل الرجلين».

ومن قرأ (وأرجلكم) عطفها على قوله «وامسحوا برؤوسكم» وبيّنت السنة أن المراد بمسح الأرجل غسلها ، وذلك أن المسح في كلام العرب يكون غسلا ، ويكون مسحا باليد ، والأخبار جاءت بغسل الأرجل ومسح الرؤوس ، ومن جعل مسح الأرجل كمسح الرؤوس خطوطا بالأصابع فقد خالف ما صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ويل للعراقيب من النار» و «ويل للأعقاب من النار». وأخبرني أبو بكر بن عثمان عن أبي حاتم عن أبي زيد الأنصاري أنه قال : المسح عند العرب يكون غسلا ، فلا بدّ من غسل الرجلين إلى الكعبين. (معاني القراءات ص ١٣٩ ، ١٤٠) ومادة مسح من تهذيب اللغة للأزهري.

وانظر : كفاية الأخبار للحصني رضي الله عنه (ص ٢٥) ـ.

٢٥٣

قال داود الظاهري : يجب الجمع بين الأمرين على اقتضاء القراءتين.

وقال ابن العربي : اتفقت الأمة على وجوب غسلهما ، وما علمت من ردّ ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين ، والرافضة من غيرهم! وتعلق الطبري بقراءة الجر! (١).

قال القرطبي (٢) : قد روي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان (٣).

قال : وكان عكرمة يمسح رجليه ، وقال : ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح (٤).

وقال عامر الشعبيّ : نزل جبرئيل بالمسح (٥).

قال : وقال قتادة : افترض الله مسحتين وغسلتين (٦).

قال (٧) : وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح ، وجعل القراءتين كالروايتين ، وقوّاه النحاس ، ولكنه قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة من فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله غسل الرجلين فقط (٨).

وثبت عنه أنه قال : «ويل للأعقاب من النار» وهو في «الصحيحين» (٩) وغيرهما ، فأفاد وجوب غسل الرجلين ، وأنه لا يجزىء مسحهما ؛ لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ، ويخطىء ما أخطأ ، فلو كان مجزيا لما قال : «ويل للأعقاب من النار».

__________________

(١) انظر الطبري (٦ / ١٣٠).

(٢) انظره في تفسيره (٦ / ٩٢).

(٣) إسناده ضعيف : رواه ابن جرير (١١٤٧٤) ، عن ابن جريح عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس فذكره ، وأورده القرطبي في «تفسيره» (٦ / ٩٢).

(٤) رواه الطبري (١١٤٧٨). وأورده القرطبي (٦ / ٩٢).

(٥) إسناده حسن : رواه الطبري (١١٤٨٥).

(٦) أثر صحيح : رواه الطبري (١١٤٨٧).

(٧) أي القرطبي (٦ / ٩٢).

(٨) رواه البخاري (١ / ٢٨٩ ، ٢٩٤ ، ٢٩٧) ، ومسلم (٣ / ١٢١ ، ١٢٣) ، (٢٣٥) عن عبد الله بن زيد مرفوعا.

وفي الباب عن الإمام عليّ وابن عباس.

(٩) رواه البخاري (١ / ٢٦٥) ، ومسلم (٣ / ١٢٨) ، وأبو داود (٩٧) ، والنسائي (١ / ٧٧) ، وابن ماجة (٤٥٠) ، وأحمد (٢ / ١٩٣) عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا.

٢٥٤

وقد ثبت أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» (١).

وقد ثبت في «صحيح مسلم» (٢) وغيره أن رجلا توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له : «ارجع فأحسن وضوءك».

وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة (٣).

وقوله : (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) : معناه معهما ، كما بينت السنة ، والكلام فيه كالكلام في قوله : (إِلَى الْمَرافِقِ) ، وقد قيل في وجه جمع المرافق وتثنية الكعاب إنه لما كان في كل رجل كعبان ولم يكن في كل يد إلّا مرفق واحد لم يتوهم وجود غيره ـ ذكر معنى هذا ابن عطية.

وقال الكواشي (٤) : ثنى الكعبين وجمع المرافق ، لنفي توهم أن في كل واحد من الرجلين كعبين ، وإنما في كل واحدة كعب واحد ، له طرفان من جانبي الرجل ، بخلاف المرافق فهي أبعد عن الوهم. انتهى.

فهذه الفروض الأربعة في الوضوء ، وبقي من فرائضه النية والتسمية ، ولم يذكرا في هذه الآية ، بل وردت بهما السنة (٥).

وقيل : إن في هذه الآية ما يدل على النية لأنه لما قال : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) كان تقدير الكلام فاغسلوا وجوهكم لها ، وذلك هو النية المعتبرة ، لا ما تعارف اليوم بين الناس ، من التلفظ بعبارات مبتدعة! فقد صرح غير واحد بإنكار ذلك ، وعدم وروده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل ولا عن أحد من الصحابة وتابعيهم ومن بعدهم

__________________

(١) إسناده ضعيف : رواه ابن ماجة (٤١٩) ، والدارقطني كما في «التلخيص» (١ / ٨٢ ، ٨٣).

(٢) حديث صحيح : رواه مسلم (٣ / ١٣١ ، ١٣٢) ، عن جابر مرفوعا.

(٣) انظر : صحيح البخاري (١ / ٣٠٥) ، ومسلم (٣ / ١٧٣).

(٤) في تفسيره وهو مخطوط بدار الكتب المصرية ، ومعهد المخطوط العربية بالقاهرة ، وهو تفسير جيد عظيم الفوائد البيانية ، وكذا مختصره للمنصف أيضا.

(٥) أولا النية : ما رواه البخاري (١ / ٩ ، ١٣٥) ، ومسلم (١٩٠٧) عن عمر مرفوعا.

ثانيا التسمية : رواه أحمد (٢ / ٤١٨) ، وأبو داود (١٠١) ، وابن ماجة (٣٩٩) عن أبي هريرة مرفوعا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه».

وانظر : فتح القدير (٢ / ١٧ ، ١٨).

٢٥٥

من الأئمة المعتبرين رضوان الله عليهم أجمعين (١).

(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) : المراد بالجنابة هي الحاصلة بدخول حشفة ، أو نزول مني الاحتلام ، ونحو ذلك.

(فَاطَّهَّرُوا) : أي فاغتسلوا بالماء.

وقد ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم البتة ، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء ، استدلالا بهذه الآية.

وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء. وهذه الآية هي للواجد ، على أن التطهر هم أعمل من الحاصل بالماء ، أو بما هو عوض عنه مع عدمه وهو التراب.

[وقد] (٢) صح عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور ، للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء (٣).

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) : قد قدم تفسير المرض والسفر والمجيء من الغائط في سورة النساء مستوفى ، وكذلك تقدم الكلام على ملامسة النساء ، وعلى التيمم وعلى الصعيد.

ومن قوله (مِنْكُمْ) لابتداء الغاية ، وقيل : للتبعيض.

قيل : وجه تكرير هذا هو استيفاء الكلام في أنواع الطهارة.

(ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) : أي ما يريد بأمركم بالطهارة بالماء ، أو بالتراب التضييق عليكم في الدّين ، ومنه قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ

__________________

(١) وانظر في بدعيّة الجهر بالنية : زاد المعاد (١ / ٢١ ، ٥٧) ، والإنصاف للمرداوي (١ / ٤٢١) وفتح القدير (١ / ١٨٦) ، والأمر بالاتباع للسيوطي (٢٩٥).

(٢) حرّف في «المطبوعة» إلى (وقال) وهو خطأ واضح والتصويب من فتح القدير (٢ / ١٨).

(٣) منها : ما رواه البخاري (١ / ٤٤٧ ، ٤٤٨) ، ومسلم (٥ / ١٨٩ ، ١٩٢) عن عمران بن حصين مرفوعا.

وانظر : القرطبي (٤ / ٢١٠٠ ، ٢١٠١) ، ط. دار الشعب ـ ومفاتيح الغيب (٥ / ٥٩٨ ، ٥٩٩) ط. دار الغد العربي.

وانظر ما تقدم من تفسير سورة النساء عند الآية (٤٣).

٢٥٦

حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) من الذنوب والخطايا ؛ لأن الوضوء من كفارتها ؛ كما في الحديث (١).

وقيل : من الأصغر والأكبر (٢).

[الآية السابعة]

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)).

(فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ) قيل : إنه لما قتل أخاه لم يدر كيف يواريه ، لكونه أول ميت مات من بني آدم ، فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم [حثا] (٣) عليه ، فلما رآه قابيل قال :

(يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) ؛ فواراه (٤).

[الآيتان : الثامنة والتاسعة]

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)).

(إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) قد اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية ،

__________________

(١) حديث صحيح : وهو عن أبي سعيد الخدري عند أحمد في «المسند» (٣ / ٣) ، وابن ماجة (٤٢٧) ، والدارمي (١ / ١٧٨) ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ١٩١ ، ١٩٢) ، وصححه ووافقه الذهبي.

وبنحوه عند مسلم (٣ / ١٤١) عن أبي هريرة مرفوعا.

(٢) يقصد بذلك الذنوب منها الصغائر ، ومنها الكبائر.

(٣) وقع في «المطبوعة» حتى ، وهو خطأ ظاهر ، والصواب ما أثبت وكما في «فتح القدير» (٢ / ٣٢).

(٤) انظر : الطبري (٦ / ١٢٠) ، والنكت للماوردي (١ / ٤٥٦) ، وزاد المسير (٢ / ٢٣١) ، وابن كثير (٢ / ٤١) ، والقرطبي (٦ / ١٣٣) ، والدر المنثور (٢ / ٢٧٣).

٢٥٧

فذهب الجمهور : إلى أنها نزلت في [العرنيين] (١).

وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : إنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع الطريق ، ويسعى في الأرض بالفساد.

قال ابن المنذر : قول مالك صحيح.

قال أبو ثور محتجا لهذا القول : إن قوله في هذه الآية : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٣٤] يدل على أنها نزلت في غير أهل الشرك ، لأنهم قد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وفقوا في الدنيا ، فأسلموا ؛ فإن دماءهم تحرم ، فدلّ ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام. انتهى (٢).

وهكذا يدل على هذا قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإسلام يهدم ما قبله» أخرجه مسلم (٣) وغيره.

وحكى ابن جرير الطبري في «تفسيره» (٤) عن بعض أهل العلم : أن هذه الآية ـ أعني آية المحاربة ـ نسخت فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في [العرنيين] ووقف الأمر على هذه الحدود.

وروي عن محمد بن سيرين أنه قال : كان هذا قبل أن تنزل الحدود ، يعني فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [العرنيين] (٥).

وبهذا قال جماعة من أهل العلم.

وذهب جماعة آخرون إلى أن فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعرنيين منسوخ ؛ فنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المثلة. والقائل بهذا مطالب ببيان تأخر الناسخ. والحق أن هذه الآية تعم المشرك وغيره ، ممن ارتكب ما تضمنته ؛ ولا اعتبار بخصوص السبب ، بل الاعتبار بعموم اللفظ (٦).

__________________

(١) صحفت في «المطبوعة» إلى (العرينين) ، والتصويب من البخاري (٢ / ٣٣٥) ، (٨ / ٢٧٣) ، ومسلم (١١ / ١٥٣ ، ١٥٥).

(٢) وانظر : الطبري (٦ / ١٣٢) ، النكت (١ / ٤٦١) ، وزاد المسير (٢ / ٣٤٥) ، القرطبي (٦ / ١٥٠) ، ابن كثير (٢ / ٤٨).

(٣) حديث صحيح : رواه مسلم (٢ / ١٣٦ ، ١٣٩) عن عمرو بن العاص مرفوعا.

(٤) انظره في (٦ / ٢٠٩).

(٥) أثر ضعيف : رواه أبو داود (٤٣٧١) ، وضعّفه الألباني كما في «ضعيف أبي داود» (٩٣٩).

(٦) انظر كلام القاضي ابن العربي في هذه المسألة (٢ / ١٨٩ ، ١٩١).

٢٥٨

قال القرطبي في «تفسيره» (١) : ولا خلاف بين أهل العلم في أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام ؛ وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود. انتهى. ومعنى قوله مترتب أي ثابت.

وقيل : المراد بمحاربة الله المذكورة في الآية : هي محاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومحاربة المسلمين في عصره ، ومن بعد عصره بطريق العبارة ، دون الدلالة ودون القياس ، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص حكمه بالمكلفين عند النزول ، فيحتاج في تعميم الخطاب لغيرهم إلى الدليل.

وقيل : إنها جعلت محاربة الله ولرسوله ، إكبارا لحربهم وتعظيما لأذيتهم ؛ لأن الله سبحانه لا يحارب ولا يغالب.

والأولى : أن تفسر محاربة الله سبحانه بمعاصيه ، ومخالفة شرائعه ؛ ومحاربة الرسول تحمل على معناها الحقيقي ، وحكم أمته حكمه وهم السوية.

والسعي في الأرض فسادا : يطلق على أنواع من الشر كما قدمنا قريبا.

قال ابن كثير في «تفسيره» (٢) : قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب : إن فرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض ، وقد قال تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥)) [البقرة : ٢٠٥]. انتهى.

إذا تقرر لك ما قررناه من عموم الآية ، ومن معنى المحاربة ، والسعي في الأرض فسادا ، فاعلم أن ذلك يصدق على كل من وقع منه ذلك ، سواء كان مسلما أو كافرا ، في مصر أو غير مصر ، في كل قليل وكثير وجليل وحقير ، وإن حكم الله في ذلك هو ما ورد في هذه الآية من القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، أو النفي من الأرض ، ولكن لا يكون هذا حكم من فعل أي ذنب من الذنوب ، بل من كان ذنبه هو التعدي على دماء العباد وأموالهم فيما عدا ما قد ورد له حكم غير هذا الحكم ، من كتاب الله ، أو سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كالسرقة وما يجب فيه القصاص ، لأنا نعلم أنه قد كان في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يقع منه ذنوب ومعاصي غير ذلك ، ولا يجري عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الحكم المذكور في هذه الآية ، وبهذا يعرف ضعف ما روي عن مجاهد ، في تفسير المحاربة

__________________

(١) انظره في (٦ / ١٥٠).

(٢) انظره في (٢ / ٥٠).

٢٥٩

المذكورة ، وفي هذه الآية : أنها الزنا والسرقة (١).

ووجه ذلك ، أن هذين الذنبين قد ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهما حكم غير هذا الحكم.

وإذا عرفت ما هو الظاهر من معنى هذه الآية ـ على مقتضى لغة العرب ، التي أمرنا بأن نفسر كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها ـ فإياك أن تغترّ بشيء من التفاصيل المروية ، والمذاهب المحكية ، إلا أن يأتيك الدليل الموجب لتخصيص هذا العموم ، أو تقييد هذا المعنى المفهوم من لغة العرب ، فأنت وذاك ، اعمل به وضعه في موضعه ، وأما ما عداه :

فدع عنك نهبا صيح في حجراته

وهات حديثا ما حديث الرواحل

على أنا سنذكر من هذه المذاهب ما تسمعه (٢) :

اعلم أنه قد اختلف العلماء في من يستحق اسم المحاربة ، فقال ابن عباس وسعيد ابن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وأبو ثور : إن من شهر السلاح في قبة الإسلام وأخاف السبيل ، ثم ظفر به ، وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله.

وبهذا قال مالك ، وصرح : بأن المحارب عنده من حمل على الناس في مصر ، أو برية ، أو كابرهم على أنفسهم وأموالهم ، دون نائرة (٣) ، ولا [ذحل] (٤) ، ولا عداوة.

قال ابن المنذر : اختلف عن مالك في هذه المسألة ، فأثبت المحاربة في المصر مرة ، ونفى ذلك مرة.

وروي عن ابن عباس غير ما تقدم ، فقال في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا المال ، قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال ، قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا ، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا

__________________

(١) رواه الطبري (١١٨٢٧) ، (١١٨٢٨).

(٢) انظر : تفسير الطبري (٦ / ٢٠٦ ، ٢٠٧) ، والقرطبي (٦ / ١٥١) ، والشوكاني (٢ / ٣٥) ، مفاتيح الغيب (٥ / ٦٦٥).

(٣) أي من غير هائجة.

(٤) صحفت إلى (دخل) في المطبوعة ، والتصويب من فتح القدير (٢ / ٣٠) ، والذحل : الثأر.

٢٦٠