نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم.

فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام ، وقيل : هما بمعنى الإسلام : أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام ، أي كلمته وهي الشهادة ، (لَسْتَ مُؤْمِناً) ، من أمنته إذا أجرته فهو مؤمن.

وقد استدل بهذه الآية على أن من قتل كافرا بعد أن قال : لا إله إلا الله قتل به ، لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله ، وإنما سقط القتل عن من وقع منه ذلك في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنهم تأولوا وظنوا أن من قالها خوفا من السلاح لا يكون مسلما ، ولا يصير دمه بها معصوما ، وأنه لا بد من أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف.

والحكمة في التكلم بكلمة الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول : أنا مسلم ، وأنا على دينكم ، لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد ، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو فعل ، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة ، وكلمة التسليم ، فالقولان الآخران في معنى الآخر داخلان تحت القول الأول (١).

(تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) : الجملة في محل نصب على الحال ، أي لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة ، على أن يكون النهي راجعا إلى القيد والمقيد لا إلى القيد فقط ، وسمي متاع الحياة عرضا ؛ لأنه عارض زائل غير ثابت.

قال أبو عبيدة : يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء ، وأما العرض بسكون الراء فهو ما سوى الدنانير والدراهم ، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح ، وليس كل عرض بالفتح عرض بالسكون.

وفي «كتاب العين» (٢) : العرض ما [نيل] (٣) من الدنيا ، ومنه قوله تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) وجمعه عروض.

وفي «المجمل» (٤) لابن فارس : والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه ، وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قلّ أو كثر ، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد.

__________________

(١) انظر ذلك : في «فتح القدير» (١ / ٥٠١).

(٢) هو لفريد عصره الخليل بن أحمد الفراهيدي شيخ النحاة ، وهو مطبوع بالعراق وبيروت.

(٣) ما بين [معقوفين] حرّف إلى (نيل) والتصويب من فتح القدير (١ / ٥٠١).

(٤) هو مجمل مقاييس اللغة لأبي الحسين ابن فارس الرازي ، وقد طبع في بيروت ، وغيرها.

٢٠١

(فَعِنْدَ اللهِ) : هو تعليل للنهي ، أي عند الله ما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور.

(مَغانِمُ كَثِيرَةٌ) : تغنمونها وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد واغتنام ماله.

(كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ) : أي كنتم كفارا فحقنت دماؤكم لمّا تكلمتم بكلمة الشهادة ، أو كذلك كنتم من قبل تخفون إيمانكم عن قومكم ، خوفا على أنفسكم ، حتى منّ الله عليكم بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم.

[الآية الخامسة والعشرون]

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥)).

(لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر ، ودرجات من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه ، وإن كان معلوما ضرورة ، لكن أراد الله سبحانه بهذا الأخبار ، تنشيط المجاهدين ليرغبوا ، وتبكيت القاعدين ليأنفوا.

(غَيْرُ) : قرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير بالرفع على أنه وصف للقاعدين ـ كما قال الأخفش ـ ، لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير ، وقرأ أبو حيوة بكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين ، وقرأ أهل الحرمين بفتح الراء على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين ، أي إلا :

(أُولِي الضَّرَرِ) فإنهم يستوون مع المجاهدين ، ويجوز أن يكون منتصبا على الحال من القاعدين : أي لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم ، وجازت الحال منهم لأن لفظهم لفظ المعرفة.

قال العلماء : أهل الضرر هم أهل الأعذار ؛ لأنها أضرت بهم حتى منعتهم عن الجهاد. وظاهر النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد ، وقيل : يعطى أجره من غير تضعيف ، فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة (١).

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٢ / ١٧٤) ، وابن قتيبة (١٣٤) ، والطبري (٥ / ١٤٤) ، والقرطبي (٥ / ٣٤٦).

٢٠٢

قال القرطبي : والأول أصح ـ إن شاء الله تعالى ـ للحديث الصحيح في ذلك : «إن بالمدينة رجالا ، ما قطعتم واديا ، ولا سرتم مسيرا ، إلا كانوا معكم ، أولئك قوم حبسهم العذر» (١).

قال وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر : «إذا مرض العبد ، قال الله تعالى : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة ، إلى أن يبرأ أو أقبضه إليّ» (٢).

(وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) : هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالا ، والمراد هنا غير أولي الضرر حملا للمطلق على المقيد ، وقال هنا درجة ، وقال فيما بعد درجات ، فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم الدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد.

وقال آخرون : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر بدرجات ، قاله ابن جريج والسدي وغيرهما (٣).

وقيل : إن معنى درجة علوّ ، أي أعلى ذكرهم ، ورفعهم بالثناء والمدح.

ودرجة : منتصبة على التمييز أو المصدرية ، لوقوعها موقع المرة من التفضيل : أي فضل الله تفضيلة ، أو على نزع الخافض ، أو على الحالية من المجاهدين ، أي ذوي درجة.

(وَكُلًّا) : مفعول أول لقوله : (وَعَدَ) ، قدّم عليه لإفادة القصر ، أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين.

(وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي المثوبة ، وهي الجنة ، قاله قتادة (٤).

__________________

(١) حديث صحيح : رواه البخاري (٦ / ٤٦ ، ٤٧) ، (٨ / ١٢٦) ، ومسلم (١٣ / ٥٦ ، ٥٧) ، عن أنس وجابر مرفوعا بنحوه.

(٢) حديث صحيح : رواه البخاري (٦ / ١٣٦) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٣ / ١١٩) ، عن أبي موسى وعطاء بن يسار مرفوعا.

قلت : هذا حديث روي بألفاظ متقاربة عن عدة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانظر : الإرواء (٥٦٠).

(٣) انظر : الطبري (٥ / ١٤٤) ، وابن قتيبة (ص ١٣٤).

(٤) روى هذا الخبر الطبري في «تفسيره» (٢٥٣ ـ ١) بإسناد حسن.

٢٠٣

[الآية السادسة والعشرون]

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧)).

(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧)) قيل : المراد بهذه الأرض المدينة ، والأولى العموم ، اعتبارا بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب ، كما هو الحق ، فيراد بالأرض كل بقعة من بقاع الأرض تصلح للهجرة إليها ، ويراد بالأرض المذكورة في الآية الأولى ، كل أرض ينبغي الهجرة منها.

[الآية السابعة والعشرون]

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨)).

(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) : هو استثناء من الضمير في مأواهم ، وقيل : هو استثناء منقطع لعدم دخول المستضعفين في الموصول ، وضميره.

(مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) : متعلق بمحذوف ، أي كائنين منهم.

والمراد بالمستضعفين من الرجال : الزّمنى (١) ونحوهم ، والولدان كعياش ابن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام ، وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم ، لقصد المبالغة في أمر الهجرة ، وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف ، فكيف من كان مكلفا.

وقيل أراد بالولدان : المراهقين والمماليك.

(لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) : صفة للمستضعفين ، أو الرجال والنساء والولدان ، أو حال من الضمير في المستضعفين.

قيل : الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص ، أي : لا يجدون حيلة ولا طريقا إلى ذلك.

__________________

(١) هو صاحب الآفة والعاهة ، عافانا الله من كل أذى وداء.

٢٠٤

(وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨)) وقيل : السبيل سبيل المدينة.

وقد استدل بهذه الآية ، على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك ، أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهارا ، إذا كان قادرا على الهجرة ، ولم يكن من المستضعفين ، لما في هذه الآية من العموم ، وإن كان السبب خاصا كما تقدم ، وظاهرها عدم الفرق بين مكان ومكان ، وزمان وزمان.

وقد ورد في الهجرة أحاديث ذكرناها في جواب سؤال عن الهجرة اليوم من أرض الهند فليراجع.

وورد ما يدل على أنه لا هجرة بعد الفتح (١).

وقد أوضحنا ما هو الحق في شرحنا على «بلوغ المرام» فليرجع إليه.

[الآية الثامنة والعشرون]

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١)).

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) شروع في كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر ، ولقاء العدو ، والمطر ، والمرض.

وفيه تأكيد لعزيمة المهاجر على الهجرة ، وترغيب له فيها ، لما فيه من تخفيف المئونة ، أي إذا سافرتم أي مسافرة كانت كما يفيده الإطلاق.

(فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) : أي وزر وحرج في (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فيه دليل على أن القصر ليس بواجب ، وإليه ذهب الجمهور.

وذهب الأقلون إلى أنه واجب ومنهم عمر بن عبد العزيز ، والكوفيون ، والقاضي إسماعيل ، وحماد بن أبي سليمان ، وهو مروي عن مالك ، واستدلوا بحديث عائشة الثابت في «الصحيح» : «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر» (٢).

__________________

(١) حديث صحيح : رواه البخاري (٦ / ٣) ، ومسلم (٩ / ١٢٣) ، عن ابن عباس مرفوعا.

(٢) حديث صحيح : رواه البخاري (١ / ٤٦٤) ، ومسلم (٥ / ١٩٤) ، عن عائشة مرفوعا.

٢٠٥

ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ومثله حديث يعلى بن أمية قال : «سألت عمر بن الخطاب ، قلت : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد أمن الناس؟ فقال عمر : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك؟ فقال : «صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته».

أخرجه أحمد ومسلم وأهل السنن (٢).

وظاهر قوله : «فاقبلوا صدقته» أن القصر واجب.

(إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن ، ولكنه قد تقرر بالسنة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قصر مع الأمن كما عرفت ، فالقصر مع الخوف ثابت بالسنة ، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القصر مع الأمن.

وقد قيل إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار ، ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر ما قال كما تقدم.

وفي قراءة أبيّ : أن تقصروا من الصّلاة أن يفتنكم بسقوط (إِنْ خِفْتُمْ) ، والمعنى على هذه القراءة : كراهة أن يفتنكم الذين كفروا.

وذهب جماعة من أهل العلم ، إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدو ، فمن كان آمنا فلا قصر له.

وذهب آخرون إلى أن قوله : (إِنْ خِفْتُمْ) ليس متصلا بما قبله وأن الكلام تم عند قوله (مِنَ الصَّلاةِ) ، ثم افتتح فقال : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف.

__________________

(١) رواه البخاري (٢ / ٥٦٩) ، ومسلم (٥ / ١٩٤ ، ١٩٥) ، وروى البيهقي في «الكبرى» (٣ / ١٤٣) نحوه.

وانظر : فتح الباري (٢ / ٥٧١).

(٢) صحيح : رواه مسلم (٥ / ١٩٥ ، ١٩٦) ، وأبو داود (١١٩٩ ، ١٢٠٠) ، والترمذي (٣٠٣٤) ، والنسائي (٣ / ١١٦ ، ١١٧) ، وابن ماجة (١٠٦٥) ، وأحمد (١ / ٢٥) ، والدارمي (١ / ٣٥٤).

٢٠٦

وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة ، وهي حديث عمر الذي قدمنا ذكره ، وما ورد في معناه (١).

[الآية التاسعة والعشرون]

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢)).

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) : هذا خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولمن بعده من أهل الأمر ، حكمه كما هو معروف في الأصول ، ومثله قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] ونحوه.

وإلى هذا ذهب جمهور العلماء وشذّ أبو يوسف وإسماعيل بن عليّة فقالا : لا تصلّى صلاة الخوف بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قالا : ولا يلحق غيره به ، لما له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المزية العليا! (٢).

وهذا مدفوع فقد أمرنا الله باتباع رسوله والتأسي به ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلوا كما رأيتموني أصلي» (٣) ، والصحابة رضي الله عنهم أعرف بمعاني القرآن ، وقد صلّوها بعد

__________________

(١) انظر : الناسخ والمنسوخ لابن العربي (٢ / ١٨٧) ، والإحكام له (١ / ٤٩١) ، وفتح القدير (١ / ٥٠٧ ، ٥٠٨).

(٢) انظر : رحمة الأمة لابن عبد الرحمن العثماني (ص ٥٧) والرّوضة الندية للمصنف (١ / ١٤٧ ، ١٤٨) ، والمجموع للنووي (٤ / ٤٠٦).

(٣) حديث صحيح : رواه البخاري (٢ / ١١٠) ، (١٠ / ٤٣٧) ، ومسلم (٥ / ١٧٤ ، ١٧٥) ، عن مالك بن الحويرث مرفوعا.

٢٠٧

موته في غير مرة كما هو معروف (١).

ومعنى (فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) : أردت إقامتها ، كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] ، وقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨].

(فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) : يعني بعد أن تجعلهم طائفة تقف بإزاء العدو ، وطائفة منهم تقوم معك في الصلاة.

(وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ) أي الطائفة التي تصلي معه.

وقال ابن عباس : الضمير راجع إلى الطائفة الأولى بإزاء العدو ، لأن المصلية لا تحارب (٢). والأول أظهر ؛ لأن الطائفة القائمة بإزاء العدو ، لا بد أن تكون قائمة بأسلحتها ، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك ، من كان في الصلاة ؛ لأنه يظن أن ذلك ممنوع من حال الصلاة ، فأمره الله بأن يكون آخذا لسلاحه ، أي غير واضع له.

وليس المراد الأخذ باليد ، بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه ، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوهم من إمكان فرصة فيهم.

وجوّز الزجاج والنحاس أن يكون ذلك أمرا للطائفتين جميعا ، لأنه أرهب للعدو.

وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملا للأمر على الوجوب.

وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح ، وأن ذلك يبطل الصلاة ، وهو مدفوع بما في هذه الآية ، وبما في الأحاديث الصحيحة كما أوضحنا ذلك ، مع بيان كيفيات تلك الصلاة الثابتة في شرحي : «الدرر البهية» (٣) و «مسك الختام».

(فَإِذا سَجَدُوا) : أي القائمون في الصلاة ، (فَلْيَكُونُوا) ، أي الطائفة القائمة بإزاء العدو ، (مِنْ وَرائِكُمْ) : من وراء المصلين.

ويحتمل أن يكون المعنى فإذا سجد المصلون معك أتمّوا الركعة تعبيرا بالسجود عن جميع الركعة أو عن جميع الصلاة ، فليكونوا من ورائكم ، أي : فلينصرفوا بعد الفراغ

__________________

(١) حديث صحيح : ما رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٢ / ٣٥١) ، والطبري (١٠٣٦١ ، ١٣٠٦٢) ، والبيهقي (٣ / ٣٥٢) بنحوه.

(٢) انظر : تفسير الطبري (٥ / ٢٥٠ ، ٢٥١).

(٣) انظر الروضة الندية (١ / ١٤٧ ، ١٤٩).

٢٠٨

إلى [مقابلة] (١) العدو للحراسة.

(وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) : وهي القائمة في مقابلة العدو والتي لم تصل.

(فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) : على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى.

(وَلْيَأْخُذُوا) أي هذه الطائفة الأخرى (حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) : زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح.

قيل : وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شغل شاغل ، وأما في المرة الأولى ؛ فربما يظنونهم قائمين للحرب.

وقيل : لأن العدو لا يؤخر قصده عن هذا الوقت ؛ لأنه آخر الصلاة ، والسلاح ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب ، ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين.

وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة ، وصفات متعددة ، وكلها صحيحة مجزية ، من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به ، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها ، فقد أبعد عن الصواب.

وأوضح هذا الشوكاني في «شرحه للمنتقى» وغيره (٢).

(وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً) : هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله سبحانه بالحذر ، وأخذ السلاح ، أي ودوا غفلتكم عن أخذ السلاح ، وعن الحذر ليصلوا إلى مقصودهم ، وينالوا فرصتهم ، فيشدون عليكم شدة واحدة.

والأمتعة : ما يتمتع به في الحرب ، ومنه الزاد والراحلة (٣).

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) : رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من المطر ، وفي حال

__________________

(١) وقع في المطبوعة إلى (مقاتلة) والمثبت من فتح القدير (١ / ٥٠٨) وهو الموافق للسياق.

(٢) انظر : نيل الأوطار (٤ / ١٠٢٢) ، وكذلك السّيل الجرار (١ / ٣١٢ ، ٣١٣).

(٣) انظر : تفسير القرطبي (٥ / ٣٧٢) ، فتح القدير (١ / ٥٠٩).

٢٠٩

المرض ، لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح.

(وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢)) : أمر بأخذ الحذر لئلا يأتيهم العدو على غرة وهم غافلون.

[الآية الثلاثون]

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣)).

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) : أي فرغتم من صلاة الخوف ، وهو أحد معاني القضاء ، ومثله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠] وقوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١٠].

(فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) : أي في جميع الأحوال ، حتى في حال القتال.

وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به إنما هو أثر صلاة الخوف ، أي إذا فرغتم من الصلاة فاذكروا الله في هذه الأحوال ، وقيل : معنى قوله : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ) إلخ إذا صليتم فصلوا قياما وقعودا وعلى جنوبكم حسبما تقتضيه الحال عند ملاحمة القتال ، فهي مثل قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) [البقرة : ٢٣٩].

(فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) : أي إذا أمنتم وسكنت قلوبكم.

والطمأنينة : سكون النفس من الخوف.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي فأتوا بالصلاة التي دخل وقتها على الصفة المشروعة من الأذكار والأركان ، ولا تغفلوا ما أمكن ؛ فإن ذلك إنما هو في حال الخوف.

وقيل : المعنى في الآية أنهم يقضون ما صلوه في حال المسابقة ، لأنها حالة قلق وانزعاج وتقصير في الأذكار والأركان ، وهو مروي عن الشافعي ، والأول أرجح.

(إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣)) : أي محدودا معينا ، يقال :

٢١٠

وقته فهو موقوت ووقته فهو موقت (١).

والمعنى أن الله افترض على عباده الصلوات وكتبها عليهم في أوقاتها المحددة ، لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا بعذر شرعي ؛ من نوم وسهو أو نحوهما.

[الآية الحادية والثلاثون]

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)).

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) المشاققة : [المعاداة] (٢) والمخالفة.

وتبيّن الهدى : ظهوره بأن يعلم صحة الرسالة ، بالبراهين الدالة على ذلك ، ثم يفعل المشاققة.

(وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) : أي غير طريقهم ، وهو ما هم عليه من دين الإسلام ، والتمسك بأحكام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قال تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) الآية [النور : ٥١] ، وقال تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ) الآية [النساء : ٥٩].

وقال عز من قائل : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) [النساء : ٦٥] الآية ، إلى غير ذلك.

(نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) : أي نجعله واليا لما تولاه من الضلال ، (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)).

وقد استدل جماعة من أهل العلم ، بهذه الآية على حجية الإجماع ، لقوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) ، ولا حجة في ذلك عندي ؛ لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره ، كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب ، فلا يصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية ، اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام ، فأدّاه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين ، فإنما رام السلوك في سبيل

__________________

(١) انظر : تفسير القرطبي (٥ / ٣٧٤).

(٢) ما بين [معقوفين] صحّف إلى (المعاورة) وهو خطأ ، والصواب المثبت من «فتح القدير» (١ / ٥١٥).

٢١١

المؤمنين ، وهو الدين القويم ، والملة الحنفية ، ولم يتبع غير سبيلهم (١).

وأخرج الترمذي والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبدا ، ويد الله على الجماعة ، فمن شذ شذ في النار» (٢).

وأخرجه الترمذي والبيهقي أيضا عن ابن عباس مرفوعا (٣).

[الآية الثانية والثلاثون]

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)).

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) سبب نزول هذه الآية سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في الميراث وغيره ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم : (اللهُ يُفْتِيكُمْ) أي يبيّن لكم حكم ما سألتم عنه (٤).

وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء ، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها فسألوا فقيل لهم : (اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ).

(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) معطوف على قوله : (اللهُ يُفْتِيكُمْ).

والمعنى : والقرآن الذي يتلى عليكم يفتيكم فيهن ، والمتلو في الكتاب في معنى

__________________

(١) انظر : فتح القدير للشوكاني (١ / ٥١٥) والقرطبي (٥ / ٣٨٦).

(٢) إسناده ضعيف : رواه الترمذي (٢١٦٧) ، والبيهقي في «الأسماء» (ص ٣٢٢) ، والحاكم (١ / ١١٥) وقال أبو عيسى : غريب من هذا الوجه.

(٣) حديث صحيح : رواه الترمذي (٢١٦٦) ، والبيهقي في «الأسماء» (ص ٣٢٢) ، وقال أبو عيسى : حسن صحيح.

قلت : قد وثق جماعة : «إبراهيم بن ميمون منهم الحافظ ابن حجر» وللحديث شواهد صحيحة.

(٤) انظر : في سبب نزول هذه الآية «البخاري» (٨ / ٢٣٩ ، ٢٩٥) ، ومسلم (١٨ / ١٥٤ ، ١٥٥) ، والطبري (٥ / ١٩٣).

٢١٢

اليتامى قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) [النساء : ٣].

ويجوز أن يكون قوله : (وَما يُتْلى) معطوفا على الضمير في قوله (يُفْتِيكُمْ) الراجع إلى المبتدأ ، لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمفعول والجار والمجرور.

ويجوز أن يكون مبتدأ ، وفي الكتاب خبره ، على أن المراد به اللوح المحفوظ ، وقد قيل في إعرابه غير ما ذكرنا ولم نذكره لضعفه.

وقوله : (فِي يَتامَى النِّساءِ) على الوجه الأول والثاني صلة ، لقوله : (يُتْلى) ، وعلى الوجه الثالث ، بدل من قوله (فِيهِنَ).

(اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ) وفرض (لَهُنَ) من الميراث وغيره.

(وَتَرْغَبُونَ) معطوف على قوله : (لا تُؤْتُونَهُنَ) عطف جملة مثبتة على جملة منفية ، وقيل : حال من فاعل (تُؤْتُونَهُنَ).

وقوله : (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) يحتمل أن يكون التقدير ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن ، ويحتمل أن يكون التقدير وترغبون في أن تنكحوهن لعدم جمالهن.

وقوله : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) معطوف على (يَتامَى النِّساءِ) ، أي وما يتلى عليكم في المستضعفين (مِنَ الْوِلْدانِ) وهو قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] وقد كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ، ولا من كان مستضعفا من الولدان ، وإنما يورّثون الرجال القائمين بالقتال وسائر الأمور (١).

(وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) معطوف على قوله : (فِي يَتامَى النِّساءِ) كالمستضعفين ، أي وما يتلى عليكم في يتامى النساء ، وفي المستضعفين ، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط : أي العدل. ويجوز أن يكون في محل نصب ، أي : ويأمركم أن تقوموا.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) في حقوق المذكورين أو من شرّ فيه ففيه اكتفاء.

__________________

(١) انظر : معاني الفرّاء (١ / ٢٩٠) ، والزّجاج (٢ / ١٢٥) ، والطبري (٥ / ١٩٥) ، وزاد المسير (٢ / ٢١٦) ، والمشكل (١ / ٢٠٨) ، والتبيان (١ / ١٩٦) ، والنكت (١ / ٤٢٥) ، والقرطبي (٥ / ٤٠٢).

٢١٣

(فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧)) يجازيكم بحسب فعلكم.

[الآية الثالثة والثلاثون]

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨)).

(وَإِنِ امْرَأَةٌ) : مرفوعة بفعل مقدّر يفسره ما بعده ، أي وإن خافت امرأة ، بمعنى توقعت ما يخاف من زوجها.

وقيل : معناه تيقنت ، وهو خطأ.

(مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) أي دوام النشوز والترفع عليها بترك المضاجعة ، والتقصير في النفقة ، (أَوْ إِعْراضاً) عنها بوجهه.

وقال النحاس : الفرق بين النشوز والإعراض : أن النشوز التباعد ، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها (١).

وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة نشوز أو إعراض ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والظاهر أنه يجوز التصالح بأي نوع من أنواعه ، إما بإسقاط النوبة ، أو بعضها ، أو بعض النفقة ، أو بعض المهر.

(فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما) هكذا قرأ الكوفيون : (أَنْ يُصْلِحا) ، وقراءة الجمهور أولى ؛ لأن قاعدة العرب أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعدا قيل : تصالح الرجلان ، أو القوم ، لا أصلح ، و (صُلْحاً) منصوب على أنه اسم مصدر ، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد ، أو منصوب بفعل محذوف ، أي فيصلح حالهما صلحا ، وقيل :

هو منصوب على المفعولية (٢).

__________________

(١) انظر : الطبري (٥ / ١٩٦) ، والنكت (١ / ٤٢٦) ، وزاد المسير (٢ / ٢١٨).

(٢) قال الأزهري : «قرأ الكوفيون : «يصلحا» بالضم والتخفيف ، وقرأ الباقون : «يصّالحا» أي يتصالحا ، فأدغمت التاء في الصاد ، وشدّدت ، ومن قرأ «يصلحا» فمعناه : إصلاحهما الأمر بينهما.

يقال : أصلحت ما بين القوم ، والمعنى فيهما : أن الزوجين يجتمعان على صلح يتفقان عليه ، وذلك أن المرأة تكره الفراق ، فتدع بعض حقها من الفراش للزوج فيؤثر به غيرها من نسائه ،

٢١٤

(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) لفظ عام ، يقتضي أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس ، ويزول به الخلاف ، خير على الإطلاق ، أو خير من الفرقة ، أو الخصومة ، أو النشوز والإعراض ، وهذه الجملة اعتراضية.

[الآية الرابعة والثلاثون]

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩)).

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا) : أخبر سبحانه وتعالى بنفي استطاعتهم للعدل.

(بَيْنَ النِّساءِ) على الوجه الذي لا ميل فيه البتة ، لما جبلت عليه الطباع البشرية ، من ميل النفس إلى هذه دون هذه ، وزيادة هذه في المحبة ونقصان هذه ، وذلك بحكم الخلقة ، بحيث لا يملكون قلوبهم ، ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية.

ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك».

رواه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر عن عائشة ، وإسناده صحيح (١).

(وَلَوْ حَرَصْتُمْ) على العدل بينهنّ في الحبّ.

(فَلا تَمِيلُوا) إلى التي تحبونها في القسم والنفقة.

__________________

كما فعلت سودة في تركها ليلتها لعائشة. (معاني القراءات ص ١٣٣) بتحقيقنا ـ ط دار الكتب العلمية ـ بيروت.

(١) حديث ضعيف : رواه أبو داود (٢١٣٤) ، والترمذي (١١٤٠) ، والنسائي (٧ / ٦٤٢٦٣) ، وابن ماجة (١٩٧١) ، وأحمد (٦ / ١٤٤) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٣ / ٤٤٦ ، ٤٤٧) ، والحاكم (٢ / ١٨٧) ، والبيهقي (٧ / ٢٦٣ ، ٦٤٢) ، والدارمي (٢ / ١٤٤) ، وابن أبي حاتم في علله» (١ / ٤٢٥) ، وابن حبان (١٠ / ٥) ، (٤٢٠٥).

قلت : فقد صححه كلا من الحاكم والذهبي وابن كثير والأمير الصنعاني.

ولكن أهل الجرح والتعديل من أئمة المحققين المتقدمين قد أعلّوه ، وعليه أنه حديث مرسل. وتفصيل ذلك في «الإرواء» (٧ / ٨٢) (٢٠١٨).

٢١٥

ولمّا كانوا لا يستطيعون ذلك ، ولو حرصوا عليه وبالغوا فيه ، نهاهم الله عزوجل أن يميلوا (كُلَّ الْمَيْلِ) لأن ترك ذلك ، وتجنب الجور كل الجور في وسعهم ، وداخل تحت طاقتهم ، فلا يجوز لهم أن يميلوا إلى إحداهن عن الأخرى كل الميل ، كما قال : (فَتَذَرُوها) : أي الأخرى ، (كَالْمُعَلَّقَةِ) التي ليست ذات زوج ، ولا مطلقة ؛ يشبهها بالشيء الذي هو معلق غير مستقر على شيء ، لا في الأرض ولا في السماء (١).

[الآية الخامسة والثلاثون]

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠)).

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) : الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق ؛ لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزل الله.

وقيل : إنه خطاب للمنافقين فقط ، كما يفيده التشديد والتوبيخ.

(أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) : أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله تعالى.

(فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ) : أي مع المستهزئين ما داموا كذلك.

(حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي غير حديث الكفر والاستهزاء بها ، والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام : ٦٨].

وقد كان جماعة بمكة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود ، حال سخريتهم بالقرآن ، واستهزائهم به ، فنهوا عن ذلك (٢).

قال ابن عباس : دخل في هذه الآية كل محدث ومبتدع في الدين إلى يوم القيامة.

__________________

(١) انظر : الزجاج (٢ / ١٢٩) ، والطبري (٥ / ٢٠١) ، والنكت (١ / ٤٢٧) ، وزاد المسير (٢ / ٢٢٠) ، والقرطبي (٥ / ٤١٣) ، وفتح القدير (١ / ٥٢١ ، ٥٢٣).

(٢) انظر : الطبري (٥ / ٣٢٩ ، ٣٣٠) ، والقرطبي (٥ / ٤١٧ ، ٤١٨) ، والدرر للسيوطي (٢ / ٧١٨).

٢١٦

وكذا قال الشوكاني في «فتح القدير» (١) : إن في هذه الآية ـ باعتبار عموم لفظها ، الذي هو المعتبر ، دون خصوص السبب ـ دليلا على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله ، بما يفيد النقص والاستهزاء للأدلة الشرعية ، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد ، الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ، ولم يبق في أيديهم سوى : قال إمام مذهبنا كذا! وقال فلان من أتباعه بكذا! وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية ، أو بحديث نبوي ، سخروا منه ، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا ، ولا بالوا به أي مبالاة ، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع ، وخطب شنيع ، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع! بل بالغوا في ذلك ، حتى جعلوا رأيه الفائل (٢) واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل ، مقدّما على الله تعالى ، وعلى كتابه وعلى رسوله ، فإنّا لله وإنا إليه راجعون ، مما صنعت هذه المذاهب بأهلها ، والذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم ؛ فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم ، بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة ب «القول المفيد في حكم التقليد» ، وفي مؤلفنا المسمى ب «أدب الطلب ومنتهى الأرب» ، اللهم انفعنا بما علمتنا ، واجعلنا من [المتقيدين] (٣) بالكتاب والسنة ، وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار ، يا مجيب السائلين. انتهى.

(إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) تعليل للنهي ، أي إنكم إذا فعلتم ذلك ، ولم تنتهوا ، فأنتم مثلهم في الكفر ، واستتباع العذاب ، وقيل : هذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل :

وكل قرين بالمقارن يقتدي

وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم ، إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال : هي منسوخة بقوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، وهو مردود (٤) ، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ، ويستهزؤون بها ، وفي الأنعام نحوها (٥).

__________________

(١) انظر : فتح القدير (١ / ٥٢٦).

(٢) أي الضعيف. [الصحاح : فأل].

(٣) في المطبوعة (المقتدين) والمثبت من فتح القدير (١ / ٥٢٦).

(٤) قال ابن أبي حاتم في «الجرح» (٧ / ٢٧١) : «تفسير الكلبي باطل».

(٥) آية رقم (٦٨).

٢١٧

قال أهل العلم : وهذا يدل على أن الرضى بالكفر كفر ، وكذا من رضي بمنكر ، أو خالط أهله ، كان في الإثم بمنزلتهم إذا رضي به ، وإن لم يباشره ولو جلس خوفا وتقية ، مع كمال سخطه لذلك ، كان الأمر أهون من الأول (١).

[الآية السادسة والثلاثون]

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)).

(وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)) هذا في يوم القيامة ، إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب ، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة.

قال ابن عطية : قال جميع أهل التأويل : إن المراد بذلك يوم القيامة.

قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه ، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله ، يعني قوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وذلك يسقط فائدته ، أو يكون تكرار هذا معنى كلامه.

وقيل : المعنى أن الله لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ، يمحو به دولتهم بالكلية ، ويذهب آثرهم ، ويستبيح بيضتهم ، كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح (٢).

وقيل : إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ، ما داموا عاملين بالحق ، غير راضين بالباطل ، ولا تاركين للنهي عن المنكر ، كما قال تعالى : (وَما

__________________

(١) انظر : القرطبي (٥ / ٤١٨) ، وابن كثير (١ / ٥٨٠).

(٢) الحديث الصحيح الذي قصده المصنف هو ما رواه مسلم (١٨ / ١٣ ، ١٤) عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما روي لي منها ، وأعطيت الكنزين : الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي : أن لا يهلكها بسنة بعامّة ، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ، وأن أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ...» الحديث.

٢١٨

أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا.

وقيل : لا يجعل الله تعالى لهم عليهم سبيلا شرعا ، فإن وجد فبخلاف الشرع ، فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة. هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية (١).

وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل ، كعدم إرث الكافر من المسلم ، وعدم تملكه مال المسلم إذا استولى عليه ، وعدم قتل المسلم بالذمي.

[الآية السابعة والثلاثون]

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨)).

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) : نفي الحب كناية عن البغض.

قرأ الجمهور : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للمجهول ، وقرأ زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب على البناء للمعلوم. وهو على القراءة الأولى استثناء متصل بتقدير مضاف محذوف ، أي إلا جهر من ظلم.

وقيل : إنه على القراءة الأولى أيضا منقطع : أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان مثلا (٢).

واختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم ، فقيل : هو أن يدعو على من ظلمه ، وقيل : لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه ، بأن يقول : فلان ظلمني ، أو هو ظالم ، أو نحو ذلك. وقيل معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح.

والآية على هذا في الإكراه ، وكذا قال قطرب ، قال : ويجوز أن يكون على البدل ،

__________________

(١) انظر هذه الأقوال في : فتح القدير (١ / ٥٢٧ ، ٥٢٨).

(٢) قراءة العشر بفتح الظاء بمعنى : ما يفعل الله بعذابكم إلا من ظلم ، والمعنى على قراءة الجمهور : إلا أنه يدعو المظلوم على من ظلمه ، أو أن ينتصر المظلوم من ظالمه ، أو أن يخبر بظلم من ظلمه ، واختلف في الاستثناء هنا : أهو منقطع! وهو الأرجح أم متصل ؛ أما على قراءة الفتح فالاستثناء منقطع. ينظر : الفراء (١ / ٢٩٣) ، والزجاج (٢ / ١٣٧) ، والمشكل (١ / ٢١٠) ، والتبيان (١ / ٢٠٠).

٢١٩

كأنه قال : لا يحب الله إلا من ظلم : أي لا يحب الظالم ، بل يحب المظلوم.

والظاهر من الآية : أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه ، ويؤيده الحديث الثابت في «الصحيح» بلفظ : «ليّ الواجد ظلم ، يحل عرضه وعقوبته» (١).

وأما على القراءة الثانية ، فالاستثناء منقطع ، أي إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول ، في معنى النهي عن فعله ، والتوبيخ له.

وقال قوم : معنى الكلام لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول ، لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك ، وهذا شأن كثير من الظلمة فإنهم ـ مع ظلمهم ـ يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه ، وينالون من عرضه.

وقال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى ، إلا من ظلم فقال سوءا فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه (٢).

[الآية الثامنة والثلاثون]

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)).

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) : قد تقدم الكلام في الكلالة.

__________________

(١) حديث صحيح : رواه أبو داود (٣٦٢٨) ، والنسائي (٧ / ٣١٦ ، ٣١٧) ، وابن ماجة وأحمد (٤ / ٢٢٢ ، ٣٨٨ ، ٣٨٩) ، والحاكم (٤ / ١٠٢) ، والطبراني (٧٢٤٩) ، (٧٢٥٠) ، وابن حبان (١١ / ٤٨٦) (٥٠٨٩) ، وقال الحاكم : صحيح ، ووافقه الذهبي. ورواه البخاري معلقا (٥ / ٦٢) ، وقال الحافظ : وصله أحمد وإسحاق في «مسنديهما» وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن الشريد بن أوس الثقفي عن أبيه بلفظه ، وإسناده حسن ، وذكر الطبراني : «أنه لا يروى إلا بهذا الإسناد».

(٢) لحديث أبي بكر الصحيح الذي رواه أبو داود (٤٣٣٨) ، والترمذي (٢١٦٨ ، ٣٠٥٧) ، وابن ماجة (٤٠٠٥) ، وأحمد (١ ، ١٦ ، ٢٩ ، ٣٠ ، ٥٣) عن أبي بكر مرفوعا. وسيأتي تخريجه عند تفسير آية (١٠٥) من المائدة.

٢٢٠