نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري

نيل المرام من تفسير آيات الأحكام

المؤلف:

أبي الطيّب صدّيق بن علي الحسيني القنوجي البخاري


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل وأحمد فريد المزيدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

جماع أو تحريض عليه لا يجوز. وقال أيضا : أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها وللأب في ابنته البكر وللسيد في أمته.

(إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) قيل : هو استثناء منقطع بمعنى : لكن. والقول المعروف : هو ما أبيح من التعريض ، ومنع صاحب «الكشاف» أن يكون منقطعا وقال : هو مستثنى من قوله : (لا تُواعِدُوهُنَ) أي مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة ؛ فجعله على هذا الاستثناء مفرغا ووجه كونه منقطعا أنه يؤدي إلى جعل التعريض موعودا وليس كذلك ؛ لأن التعريض طريق المواعدة لا أنه الموعود في نفسه.

(وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) أي على عقدة النكاح وحذف على. قال سيبويه في هذه الآية : لا يقاس عليه. وقال النحاس : أي لا تعقدوا عقدة النكاح لأن معنى تعزموا وتعقدوا واحد. وقيل : إن العزم على الفعل يتقدمه فيكون في هذا النهي مبالغة لأنه إذ نهى عن التقدم على الشيء كان النهي عن ذلك الشيء بالأولى. (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) : يريد حتى تنقضي العدّة ، والكتاب هنا : هو الحد والقدر الذي رسم من المدة ؛ سماه كتابا لكونه محدودا ومفروضا كقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٣٠)) [النساء : ١٠٣]. وهذا الحكم ـ أعني تحريم عقد النكاح في العدة ـ مجمع عليه.

[الآية الثامنة والأربعون]

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)).

المراد بالجناح هنا : التبعة من المهر ونحوه ، فرفعه رفع لذلك : أي لا تبعة عليكم بالمهر ونحوه (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) على الصفة المذكورة (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) ما مصدرية ظرفية بتقدير المضاف : أي مدة عدم مسيسكم. وقيل : شرطية من باب اعتراض الشرط على الشرط ليكون الثاني قيدا للأول ، والمعنى : إن طلقتموهنّ غير ماسين لهنّ. وقيل : موصولة : أي إن طلقتم النساء اللائي لم تمسوهن.

وهكذا اختلفوا في قوله (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) فقيل : «أو» بمعنى «إلا» أي : إلا أن تفرضوا.

١٠١

وقيل : «بمعنى إلا» : أي : إلا أن تفرضوا.

وقيل : بمعنى حتى : أي حتى تفرضوا.

وقيل : بمعنى الواو : أي وتفرضوا. ولست أرى لهذا التطويل وجها. ومعنى الآية أوضح من أن يلتبس فإن الله سبحانه رفع الجناح عن المطلقين ما لم يقع أحد الأمرين أي مدّة انتفاء ذلك الأحد ، ولا ينتفي الأحد المبهم إلا بانتفاء الأمرين معا ، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر المثل. وإن وجد الفرض وجب نصفه مع عدم المسيس ، وكل واحد منهما جناح أي المسمى أو مهر المثل أو نصفه.

واعلم أن المطلقات أربع : مطلقة مدخول بها مفروض لها ـ وهي التي تقدم ذكرها قبل هذه الآية ـ وفيها نهى الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهن شيئا وأن عدّتهنّ ثلاثة قروء.

ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها ـ وهي المذكورة هنا ـ فلا مهر لها بل المتعة ، وبين في سورة الأحزاب أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدّة لها.

ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها وهي المذكورة بقوله سبحانه هنا : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً).

ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها وهي المذكورة في قوله (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ). والمراد بقوله : (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) : ما لم تجامعوهن. والمراد بالفريضة هنا : تسمية المهر.

(وَمَتِّعُوهُنَ) : أي : أعطوهنّ شيئا يكون متاعا لهنّ ، وظاهر الأمر الوجوب وبه قال علي وابن عمر والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك.

ومن أدلة الوجوب قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩)) [الأحزاب : ٤٩].

وقال مالك وأبو عبيد والقاضي شريح وغيرهم : أن المتعة للمطلقة المذكورة مندوبة لا واجبة لقوله تعالى (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)) [البقرة : ٢٣٦] أي : أن الوفاء بذلك والقيام به شأن أهل التقوى ، وكل مسلم يجب عليه أن يتقي الله سبحانه.

١٠٢

وقد وقع الخلاف أيضا : هل المتعة مشروعة لغير هذه المطلقة قبل المسيس والفرض أو ليست بمشروعة إلا لها فقط؟

فقيل : إنها مشروعة لكل مطلقة ؛ وإليه ذهب ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وأبو العالية والحسن البصري والشافعي ـ في أحد قوليه ـ وأحمد وإسحاق.

ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء والفرض أم مندوبة فقط؟ واستدلوا بقوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)) وبقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨)) [الأحزاب : ٢٨]. والآية الأولى عامة لكل مطلقة ، والثانية في أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كنّ مفروضا لهنّ مدخولا بهن.

وقال سعيد بن المسيب : إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس ، وإن كانت مفروضا لها لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ (٤٩)) [الأحزاب : ٤٩] ... إلخ قال هذه الآية التي في الأحزاب نسخت بالتي في البقرة.

وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء والتسمية لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى أو مهر المثل. وغير المدخولة التي قد فرض لها زوجها فريضة : أي يسمى لها مهرا. وطلقها قبل الدخول المستحق نصف المسمى. ومن القائلين بهذا ابن عمر ومجاهد ؛ ووقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول والفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة ، وأما إذا كانت أمة فذهب الجمهور إلى أن لها المتعة. وقال الأوزاعي والثوري : لا متعة لها لأنها تكون لسيدها ، وهو لا يستحق مالا في مقابل تأذي مملوكته لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل الدخول والفرض لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك.

وقد اختلفوا في المتعة المشروعة : هل هي مقدورة بقدر أم لا؟

فقال مالك والشافعي : لا حدّ لها معروف ، بل ما يقع عليه اسم المتعة (١).

__________________

(١) اعلم أن أحد قولي الإمام الشافعي ، وإحدى روايات الإمام أحمد أنه موكل إلى اجتهاد الحاكم.

١٠٣

وقال أبو حنيفة : إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب لها نصف مهر (١) مثلها ؛ ولا ينقص عن خمسة دراهم ؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم وللسلف في ذلك أقوال.

(عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) وهذا يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج ؛ فالمتعة من الغني فوق المتعة من الفقير (٢) ؛ ولا ينظر إلى قدر الزوجة ؛ وقيل : هذا ضعيف في مذهب الشافعي ، بل ينظر الحاكم باجتهاد إلى حالهما جميعا على أظهر الوجوه (مَتاعاً) أي متعوهن متاعا (بِالْمَعْرُوفِ) : ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له. (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)) : وصف لقوله متاعا أو مصدر لفعل محذوف : أي حق ذلك حقا.

[الآية التاسعة والأربعون]

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)).

أي تجامعوهن ، وفيه دليل على أن المتعة لا تجب لمثل هذه المطلقة لوقوعها في مقابل المطلقة قبل البناء والفرض التي تستحق المتعة. (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) : أي فالواجب عليكم نصف ما سميتم لهنّ من المهر. وهذا مجمع عليه.

وقد وقع الاتفاق أيضا على أن المرأة التي لم يدخل بها زوجها ومات وقد فرض لها مهرا تستحقه كاملا بالموت ، ولها الميراث ، وعليها العدة.

واختلفوا في الخلوة : هل تقوم مقام الدخول وتستحق المرأة بها كمال المهر كما تستحقه بالدخول أم لا؟ فذهب إلى الأول مالك والشافعي ـ في القديم ـ والكوفيون

__________________

وعن الشافعي قول آخر : أنه بمقدار ما يقع الاسم عليه كالصداق ، ويصح بما قول وجل.

انظر : روضة الطالبين [٧ / ٣٢٢] ـ مغني المحتاج [٢ / ٢٤٢] ـ الكافي لموفق الدين المقدسي [٧٣١٣] ـ الإفصاح لابن هبيرة [١١٢١٢] ـ.

(١) جاء في المطبوع [من] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١ / ٢٥٣] وانظر الهداية [١ / ٢٢٢].

(٢) جاء في المطبوع [الأخير] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١ / ٢٥٣].

١٠٤

والخلفاء الراشدون وجمهور أهل العلم وتجب عندهم أيضا العدة. وقال الشافعي ـ في الجديد ـ لا يجب إلا نصف المهر وهو ظاهر الآية لما تقدم من أن المسيس هو الجماع. ولا تجب عنده العدة ، وإليه ذهب جماعة من السلف.

(إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) : أي المطلقات ؛ ومعناه يتركن ويصفحن ، وهو استثناء مفرغ من أعمّ العام. وقيل : العام ، وقيل : منقطع. ومعناه يتركن النصف الذي يجب لهنّ على الأزواج ؛ ولم يسقط النون لكونها ضميرا وليست بعلامة إعراب. وهذا ما عليه جمهور المفسرين. وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) ، الرجال ؛ وهو ضعيف لفظا ومعنى.

(أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) : قيل : هو الزوج ، وبه قال جبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وشريح وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعكرمة ونافع وابن سيرين والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وجابر بن زيد وأبو مجلز والربيع بن أنس وإياس بن معاوية ومكحول ومقاتل بن حيان. وهو الجديد من قولي الشافعي ؛ وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة والأوزاعي ورجحه ابن جرير.

وفي هذا القول قوة وضعف : أما قوته فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج لأنه [هو] الذي إليه رفعه بالطلاق.

وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول ، وما قالوا به من أن المراد بعفوه أن يعطيها المهر كاملا غير ظاهر ؛ لأن العفو لا يطلق على الزيادة.

وقيل : المراد بقوله : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، هو الولي. وبه قال النخعي وعلقمة والحسن وطاووس وعطاء وأبو الزناد وزيد بن أسلم وربيعة والزهري والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في قوله القديم ؛ وفيه أيضا قوة وضعف : أما قوته فلكون معنى العفو فيه معقولا ، وأما ضعفه فلكون عقدة النكاح بيد الزوج لا بيده. ومما يزيد هذا القول ضعفا أنه ليس للوليّ أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه. وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الوليّ لا يملك شيئا من مالها ، والمهر مالها. فالراجح ما قاله الأولون لوجهين : الأول : أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة ، الثاني : أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن مالك مطلق التصرف بخلاف الولي. وتسميته الزيادة عفوا وإن كان خلاف الظاهر لكنف لما كان الغالب أنهم يسوقون

١٠٥

المهر كاملا عند العقد كان العفو معقولا لأنه تركه لها ولم يسترجع النصف منه. ولا يحتاج في هذا أن يقال إنه من باب المشاكلة ـ كما في الكشاف ـ لأنه عفو حقيقي : أي ترك ما تستحق المطالبة به ؛ إلا أن يقال إنه مشاكلة أو تغليب في توفيته المهر قبل أن يسوقه الزوج.

[الآية الخمسون]

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)).

المحافظة على الشيء : هي المداومة والمواظبة عليه. والأمر للوجوب. والمراد بالصلوات هي الخمس المكتوبات. فالمعنى واظبوا عليها برعاية شرائطها وأركانها.

(وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) : الأوسط وأوسط الشيء ووسطه خياره ؛ ومنه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣]. وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر بعد دخولها في عموم الصلوات تشريفا لها.

وقد اختلف أهل العلم في تعيينها على ثمانية عشر قولا أوردها الشوكاني في شرحه للمنتقى وذكر ما تمسكت به كل طائفة. وأرجح الأقوال وأصحها ما ذهب إليه الجمهور من أنها العصر ؛ لما ثبت عند البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم من حديث عليّ رضي الله عنه قال : كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم الأحزاب : «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا» (١).

وأخرج مسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم من حديث ابن مسعود مرفوعا مثله (٢).

وأخرجه أيضا ابن جرير وابن المنذر والطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا (٣).

__________________

(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٦ / ١٠٥] ح [٢٩٣١] و [٤١١١] و [٤٥٣٣] و [٦٣٩٦] ومسلم في الصحيح ح [٦٢٧].

انظر كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى [١٧ ـ ٢٧].

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ح [٦٢٨] وأحمد في المسند [١ / ٣٩٢] والترمذي في السنن ح [١٨١].

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير [١١ / ٣٢٩] ح [١١٩٠٥] وفي الأوسط كما في المجمع [١ / ٣٠٩]

١٠٦

وأخرجه البزار بإسناد صحيح من حديث جابر مرفوعا.

وأخرجه أيضا البزار بإسناد صحيح من حديث حذيفة مرفوعا.

وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث أم سلمة مرفوعا ، وورد من غير ذكر يوم الأحزاب أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسانيد صحيحة مصرحة بأنها القصر.

وقد روي عن الصحابة تعيين أنها العصر آثار كثيرة (١) وفي الثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لا يحتاج معه إلى غيره.

وأما ما ورد عن عليّ وابن عباس أنهما قالا : إنها صلاة الصبح ، كما أخرجه مالك في الموطأ عنهما وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس ، وكذلك غيره عن ابن عمر وأبي أمامة رضي الله عنهم. فكل ذلك من أقوالهم وليس فيها شيء من المرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا تقوم بمثل ذلك حجة ؛ لا سيما إذا عارض ما قد ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثبوتا يمكن أن يدعى فيه التواتر. وإذا لم تقم الحجة بأقوال الصحابة لم تقم بأقوال من بعدهم من التابعين وتابعيهم بالأولى.

وهكذا لا تقوم الحجة بما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس أنها صلاة المغرب.

وهكذا لا اعتبار بما ورد من أقوال جماعة من الصحابة أنها الظهر أو غيرها من الصلوات.

ولكن المحتاج إلى إمعان نظر وفكر ما ورد مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما فيه دلالة على أنها الظهر ؛ كما أخرجه ابن جرير عن زيد بن ثابت مرفوعا أنها صلاة الظهر (٢) ـ ولا يصح رفعه ـ بل المروي ذلك عن زيد من قوله واستدل على ذلك بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلاة على أصحابه فلذا خصصها بالذكر.

وأين يقع هذا الاستدلال من تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ وهكذا لا اعتبار بما روي عن ابن عمر وعائشة وأبي سعيد الخدري من قولهم : إنها

__________________

وابن جرير في التفسير [٢ / ٥٧٤] ح [٥٤٣٦].

(١) انظرها في تفسير ابن جرير [٢ / ٥٦٩ ـ ٥٧٦].

(٢) أخرجه ابن جرير في التفسير [٢ / ٥٧٧] ح [٥٤٦٣].

١٠٧

الظهر ، وغيرهم. فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأما ما روي عن حفصة وعائشة وأم سلمة : في القرآن الصلاة الوسطى وصلاة العصر ـ مرفوعا ـ فغاية ما يدل عليه عطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى أنها غيرها.

وهذا الاستدلال لا يعارض ما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثبوتا لا يدفع أنها العصر. وهذه القراءة التي نقلتها أمهات المؤمنين الثلاثة بإثبات قوله : وصلاة العصر ، معارضة بما أخرجه ابن جرير عن عروة قال : كان في مصحف عائشة : وهي صلاة العصر ، وفي رواية : صلاة العصر ، بغير الواو ، وهكذا أخرج ابن جرير والطحاوي والبيهقي عن عمر بن رافع قال : كان مكتوبا في مصحف حفصة : وهي صلاة العصر ، فهذه الروايات تعارض تلك الروايات باعتبار التلاوة ونقل القراءة ، ويبقى ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التعيين صافيا عن شوب كدر المعارضة. على أنه قد ورد ما يدل على نسخ تلك القراءة التي نقلتها حفصة وعائشة وأم سلمة. وإذا عرفت ما سقناه تبين لك أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر.

وأما حجج بقية الأقوال فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به لأنه لم يثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك شيء ؛ وبعض القائلين عول على أمر لا يعول عليه فقال : إنها صلاة كذا لأنها وسطى بالنسبة إلى أن قبلها كذا من الصلوات وبعدها كذا من الصلوات. وهذا الرأس المحض والتخمين البحت لا ينبغي أن تسند إليه الأحكام الشرعية على فرض عدم وجود ما يعارضه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة والقوة والثبوت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ويا لله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة وإعراضهم عن خير العلوم وأنفعها حتى كلفوا أنفسهم التكلم على أحكام الله والتجرؤ على تفسير كتاب الله بغير علم ولا هدى فجاءوا بما يضحك منه تارة ويبكى منه أخرى!! ..

(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)) القنوت قيل : هو الطاعة ، قاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشافعي.

وقيل : هو الخشوع ، قاله ابن عمر ومجاهد.

وقيل : هو الدعاء ، وبه قال ابن عباس.

١٠٨

وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان (١).

وقال قوم القنوت : طول القيام ، وقيل معنى قانتين : ساكتين ، قاله السّدي. ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما قال : كان الرجل يكلم صاحبه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)) فأمرنا بالسكوت (٢).

وقيل : أصل القنوت في اللغة : الدوام على الشيء ، فكل معنى يناسب الدوام يصح إطلاق القنوت عليه. وقد ذكر أهل العلم أن للقنوت ثلاثة عشر معنى ، ذكر ذلك الشوكاني في «نيل الأوطار». والمتعين هنا حمل القنوت على السكوت للحديث المذكور.

وقد اختلفت الأحاديث في القنوت المصطلح عليه : هل هو قبل الركوع أو بعده؟ وهل هو في جميع الصلوات أو بعضها؟ وهل هو مختص بالنوازل أم لا؟ والراجح اختصاصه بالنوازل. أوضح الشوكاني ذلك في شرح المنتقى (٣). وقد أوردت جملة صالحة من ذلك في «الروضة الندية» و «مسك الختام».

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) : الخوف : هو الفزع .. والرجال : جمع رجل أو راجل من قولهم رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركوب ، ومشى على قدميه فهو رجل وراجل. يقول أهل الحجاز : مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا ؛ حكاه ابن جرير الطبري وغيره. لما ذكر الله سبحانه الأمر بالمحافظة على الصلوات ذكر حالة الخوف وأنهم يصنعون فيها ما يمكنهم ويدخل تحت طوقهم من المحافظة على الصلوات بفعلها حال الترجل والركوب كيف كانت.

وأبان لهم أن هذه العبادة لازمة في كل الأحوال بحسب الإمكان.

وقد اختلف أهل العلم في حد الخوف المبيح لذلك والبحث مستوفى في كتب الفروع.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح [٢ / ٤٨٩] ح [١٠٠٢] ومسلم في الصحيح ح [٢٩٧] و [٥٣٩] وأحمد في المسند [٤ / ٣٦٨] وأبو داود في السنن ح [٩٤٩] والترمذي في السنن ح [٤٠٥].

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ح [٥٣٩] والبخاري في الصحيح [٨ / ١٩٨] ح [٤٥٣٤].

(٣) شرح المنتقى [٢ / ٣٩٣].

١٠٩

(فَإِذا أَمِنْتُمْ) : أي زال خوفكم فارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الصلاة مستقبلين القبلة قائمين بجميع شروطها وأركانها ، وهو قوله (فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ) : أي مثل ما علمكم من الشرائع (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)) والكاف صفة لمصدر محذوف : أي ذكرا كائنا كتعليمه إياكم ومثل تعليمه إياكم ، وفيه إشارة إلى إنعام الله تعالى علينا بالعلم ، ولو لا تعليمه إيانا لم نعلم شيئا ، فله الحمد كما يليق.

[الآية الحادية والخمسون]

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)).

قد اختلف المفسرون في هذه الآية : فقيل : هي المتعة وإنها واجبة لكل مطلقة ، وقيل : إن هذه الآية خاصة بالثيبات اللواتي قد جومعن ، لأنه قد تقدم قبل هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهنّ الأزواج ؛ وقد قدمنا الكلام على هذه المتعة والخلاف في كونها خاصة بمن طلقت قبل البناء والفرض أو عامة للمطلقات.

وقيل : إن هذه الآية شاملة للمتعة الواجبة وهي متعة المطلقة قبل البناء والفرض ، وغير الواجبة وهي متعة سائر المطلقات فإنها مستحبة فقط. وقيل : المراد بالمتعة هنا النفقة.

[الآية الثانية والخمسون]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)).

أي من جيد ما كسبتم ومختاره ، كذا قال الجمهور.

وقال جماعة : إن معنى الطيبات هنا الحلال ، ولا مانع من اعتبار الأمرين جميعا لأن جيد الكسب ومختاره إنما يطلق على الحلال عند أهل الشرع وإن أطلقه أهل اللغة على ما هو جيد في نفسه حلالا كان أو حراما ، فالحقيقة الشرعية مقدّمة على اللغوية.

قيل : وفيه دليل على إباحة الكسب.

١١٠

وأخرج البخاري عن المقدام مرفوعا : «ما أكل أحد طعاما [قطّ] خيرا من أن يأكل من عمل يده» (١).

(وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي من طيباتها ، وحذف لدلالة ما قبله عليه ؛ وهي النباتات والمعادن والركاز. وظهر الآية وجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض وخصه الشافعي بما يزرعه الآدميون ويقتات اختيارا وقد بلغ نصابا. وثمر النخل وثمر العنب. وتفصيل المذاهب في كتب الفروع.

(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) أي لا تقصدوا المال الرديء. وفي الآية أمر بإنفاق الطيب والنهي عن إنفاق الخبيث. وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن الآية في الصدقة المفروضة ، وذهب آخرون إلى أنها تعمّ صدقة الفرض والتطوع ، وهو الظاهر. وتقدم الظرف (٢) في قوله : (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) يفيد التخصيص : أي لا تخصصوا الخبيث بالإنفاق قاصرين له عليه.

(وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ) : أي والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات. هكذا بيّن معناه الجمهور ؛ وقيل : معناه لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع.

(إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل ورضي ببعض حقه وتجاوز وغمض بصره عنه.

[الآية الرابعة والخمسون]

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥)).

الربا في اللغة : الزيادة مطلقا ، وفي الشرع يطلق على شيئين : على ربا الفضل وربا النسيئة حسب ما هو مفصل في كتب الفروع.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصحيح [٤ / ٣٠٣] ح [٢٠٧٢].

(٢) جاء في المطبوع [الظروف] والتصحيح من فتح القدير [١ / ٢٨٩].

١١١

وغالب ما كانت تفعله الجاهلية إذا حلّ أجل الدين قال من هو له ، لمن هو عليه : أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقض زاد مقدارا في المال الذي عليه وأخر له الأجل إلى حين. وهذا حرام بالاتفاق. ومعنى الآية أن الله أحل البيع وحرّم نوعا من أنواعه وهو المشتمل على الربا.

والبيع مصدر باع يبيع : أي دفع عوضا وأخذ معوّضا ، وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا منها حديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم ـ وصححه ـ والبيهقي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه! وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» (١). وورد هذا المعنى ـ مع اختلاف العدد ـ عن جمع من الصحابة منهم عبد الله بن سلام وكعب وابن عباس. وتمام الكلام في هذا المرام في شرحنا لبلوغ المرام فليرجع إليه.

[الآية الخامسة والخمسون]

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)).

(وَإِنْ تُبْتُمْ) أي من الربا (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) تأخذونها (لا تَظْلِمُونَ) غرماءكم بأخذ الزيادة (وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)) أنتم من قبلهم بالمطل والنقص. وفي هذا دليل على أن أموالهم ـ مع عدم التوبة ـ حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ، وقد دلت الآية التي قبلها أعني قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر. ولا خلاف في ذلك.

[الآية السادسة والخمسون]

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)).

لما حكم سبحانه لأهل الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال ، حكم في ذوي العسرة بالنظرة إلى اليسار.

__________________

(١) [صحيح] أخرجه الحاكم في المستدرك [٢ / ٣٦] انظر صحيح الجامع ح [٩٥٣٩].

١١٢

والعسرة : ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه جيش العسرة.

والنظرة : التأخير.

والميسرة : مصدر بمعنى اليسر ، وارتفع «ذو» بكان التامة التي بمعنى وجد. وهذا قول سيبويه وأبي علي الفارسي وغيرهما ، وفي مصحف أبيّ : إن كان ذا عسرة على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة ، وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين. وإليه ذهب الجمهور.

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا) على معسري غرمائكم بالإبراء (خَيْرٌ لَكُمْ) وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤوس أموالهم كلها أو بعض منها على من أعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره. قاله السّدي وابن زيد والضحاك.

وقال آخرون : معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم ، والصحيح الأول. وليس في الآية مدخل للغني.

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)) ، جوابه محذوف : أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به. وقد وردت أحاديث صحيحه في «الصحيحين» وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره.

[الآية السابعة والخمسون]

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ

١١٣

عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)).

هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا : أي إذا داين بعضكم بعضا وعامله بذلك سواء كان معطيا أو آخذا.

والدين : عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة.

وإن العين : عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان غائبا.

وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز ، وخصوصا أجل السلم.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم» (١). وقد قال بذلك الجمهور واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين.

قالوا : ولا يجوز إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع القافلة أو نحو ذلك ، وجوزه مالك.

(فَاكْتُبُوهُ) : أي الدين بأجله بيعا كان أو سلما أو قرضا ، لأنه أرفع للنزاع وأقطع للخلاف.

(وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ) هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها. وظاهر الأمر الوجوب وبه قال عطاء والشعبي وغيرهما ، وأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك ، ولم يوجد كاتب سواه ، وقيل : الأمر للندب. وبه قال الجمهور.

(بِالْعَدْلِ) صفة لكاتب أي كاتب كائن بالعدل : أي يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص ولا يميل إلى أحد الجانين ، وهو أمر للمداينين باختيار كاتب متصد بهذه الصفة لا يكون في قلبه ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر بل يتحرى الحق بينهم والمعدلة فيهم.

__________________

(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٤ / ٤٢٨] ح [٢٢٣٩] و [٢٢٤٠] و [٢٢٤١] و [٢٢٥٣] ومسلم في الصحيح ح [١٦٠٤].

١١٤

(وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم : أي لا يمتنع أحد من الكتاب (أَنْ يَكْتُبَ) كتاب التداين (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) : أي على الطريقة التي علمه الله من الكتابة أو كما علمه الله بقوله العدل.

(فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ) : الإملال والإملاء لغتان : الأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد ، والثانية لغة بني تميم. فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى. وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥)) [الفرقان : ٥].

(الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) : هو من عليه الدين أمره الله تعالى بالإملاء ، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته ، وأمره الله بالتقوى فيما يمليه على الكاتب ، وبالغ في ذلك بالجمع بين الاسم والوصف في قوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) ، ونهاه عن البخس وهو النقص بقوله : (يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) وقيل : إنه نهي للكاتب ، والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص ولو كان نهيا للكاتب لم يقتصر في نهيه عن النقص لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص.

(فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) إظهار في مقام الإضمار لزيادة الكشف والبيان.

(سَفِيهاً) هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء ؛ شبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج. وبالجملة فالسفيه هنا هو المبذر إما بجهله بالتصرف أو لتلاعبه بالمال عبثا مع كونه لا يجهل الصواب. وقيل : هو الطفل الجاهل بالإملاء.

(أَوْ ضَعِيفاً) وهو الشيخ الكبير أو الصبي. قال أهل اللغة : الضعف بضم الضاد في البدن ، وبفتحها في الرأي أو الذي (لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) ؛ أي لخرس أو لعيّ أو حبس أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكتب ؛ فالمراد الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي.

وقيل : إن الضعيف هو المذهول (١) العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء ، والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير.

(فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) : الضمير عائد إلى الذي عليه الحق : فيمل عن السفيه وليه

__________________

(١) جاء في المطبوع [المدخول] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١ / ٣٠٠].

١١٥

المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله ، ويمل عن الصبي وصيه أو وليه ؛ وكذلك يمل عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعفه وليّه لأنه في حكم الصبي أو المنصوب عنه من الإمام أو القاضي. ويمل عن الذي لا يستطيع وكيله إذا كان صحيح العقل وعرضت له آفة في لسانه ، أو لم تعرض ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي.

وقال الطبري (١) الضمير في قوله : (وَلِيُّهُ) يعود إلى الحق ؛ وهو ضعيف جدا.

قال القرطبي في «تفسيره» (٢) وتصرف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعا مفسوخ (٣) أبدا لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا ، فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه الخلاف.

(وَاسْتَشْهِدُوا) والاستشهاد : طلب الشهادة ، وتسمية الكاتبين (شَهِيدَيْنِ) قبل الشهادة من المجاز : الأول أي باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة. و (مِنْ رِجالِكُمْ) متعلق بقوله : (وَاسْتَشْهِدُوا) أي من المسلمين ، فيخرج الكفار. ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية فهم ـ إذا كانوا مسلمين ـ من رجال المسلمين. وبه قال شريح وعثمان البتي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور.

وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور العلماء لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق.

وقال الشعبي والنخعي : تصح في الشيء اليسير دون الكثير.

واستدل الجمهور على عدم جوازها بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة والعبيد لا يملكون شيئا تجري فيه المعاملة. ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأيضا العبد تصح منه المداينة وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك.

وقد اختلف الناس : هل الإشهاد واجب أو مندوب؟ فقال أبو موسى الأشعري

__________________

(١) تفسير الطبري [٣ / ١٢٢].

(٢) تفسير القرطبي [٣ / ٣٨٩].

(٣) جاء في المطبوع [منسوخ] بدلا من [مفسوخ] وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من تفسير القرطبي [٣ / ٣٨٩].

١١٦

وابن عمر والضحاك وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي الظاهري وابنه : إنه واجب ، ورجحه ابن جرير الطبري (١).

وذهب الشعبي والحسن ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه مندوب ، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع ، واستدل الموجبون بقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله : (وَأَشْهِدُوا) فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) : أي الشهيدان (رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ) : أي فليشهد رجل (وَامْرَأَتانِ) أو فرجل وامرأتان يكفون (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) : أي دينهم وعدالتهم.

وفيه أن المرأتين في الشهادة برجل ، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهن ، إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة.

واختلفوا : هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدعي؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز ذلك لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك. وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدعي.

والحق أنه جائز لورود الدليل عليه وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب العزيز فيتعين قبولها. وقد أوضح ذلك الشوكاني رحمه‌الله في شرحه للمنتقى وغيره من مؤلفاته.

ومعلوم عند كل من يفهم أنه ليس في هذه الآية ما يردّ به قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشاهد واليمين ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبنية على شفا جرف هار هي قولهم : إن الزيادة على النص نسخ! وهذه دعوى باطلة بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها. وأيضا كان يلزمهم ألا يحكموا بنكول المطلوب ولا بيمين الرد على الطالب ؛ وقد حكموا بها ، والجواب الجواب.

وقد أوضحنا حكم الزيادة على النص في رسالتنا المسماة ب «حصول المأمول من علم الأصول» وبسطنا الكلام على مسئلة القضاء بالشاهد واليمين في «مسك الختام»

__________________

(١) تفسير الطبري [٣ / ١٣٤].

١١٧

فليرجع إليهما.

(أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) : قال أبو عبيد معنى تضل تنسى : أي لنقص العقل والضبط.

والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. وقرأ حمزة : (أَنْ تَضِلَ) بكسر الهمزة وقوله : (فَتُذَكِّرَ) جوابه على هذه القراءة وعلى قراءة الجمهور هو منصوب بالعطف على تضل ، ومن رفعه فعلى الاستئناف.

وقراءة ابن كثير وأبو عمرو (١) (فتذكر) بتخفيف الذال والكاف ومعناه تزيدها ذكرا. وقراءة الجماعة بالتشديد : أي تنبيها إذا غفلت ونسيت.

وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء ، أي فليشهد رجل ولتشهد امرأتان عوضا عن الرجل الآخر لأجل أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت. وعلى هذا فيكون في الكلام حذف وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضا عن الرجل الواحد فقيل :

وجهه أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى ، العلة في الحقيقة هي التذكير ، ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته ، [وأبهم] (٢) الفاعل في تضل وتذكر لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان. فالمعنى إن ضلت هذه ذكرتها هذه وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين.

وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال.

وقد يكون الوجه في الإبهام أن ذلك ـ يعني الضلال والتذكير ـ يقع بينهما متناوبا حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر ، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها.

وقال سفيان بن عيينة معنى قوله : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) تصيرها ذكرا يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد. وروي نحوه عن أبي عمرو بن العلاء ، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع (٣) ولا لغة ولا عقل.

(وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) : أي لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل وقيل : إذا ما دعوا لتحمل الشهادة. وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم ، وحملها الحسن على

__________________

(١) جاء في المطبوع [عمر] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١ / ٣٠٢].

(٢) جاء في المطبوع [اسم] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١ / ٣٠٢].

(٣) جاء في المطبوع [شرح] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١ / ٣٠٢].

١١٨

المعنيين. وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام.

(وَلا تَسْئَمُوا) : أي لا تملوا أيها المؤمنون أو المتعاملون أو الشهود (أَنْ تَكْتُبُوهُ) : أي الذي تداينتم به. وقيل : الحق ، وقيل : الشاهد ، وقيل : الكتاب. نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا ثم بالغ في ذلك فقال : (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) : أي لا تملوا من الكتابة في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيرا أو قليلا. وقدم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به ولدفع ما عساه أن يقال إن هذا مال صغير : أي قليل لا احتياج إلى كتبه. (إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ) : أي المكتوب المذكور في ضمير قوله : (أَنْ تَكْتُبُوهُ).

(أَقْسَطُ) : أي أعدل وأحفظ وأصح (عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي أعون على إقامة الشهادة وأثبت لها وهو مبني من أقام وكذلك أقسط مبني من فعله أقسط. وقد صرح سيبويه بأنه قياسي أي بني أفعل التفضيل (وَأَدْنى) : أي أقرب إلى (أَلَّا تَرْتابُوا) : أي لنفي الريب والشك في معاملتكم. وذلك أن الكتاب الذي تكتبونه يدفع ما يعرض لهم (١) من الريب كائنا ما كان (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) : أن في موضع نصب على الاستثناء ، قاله الأخفش. وكان تامة : أي إلا أن يقع أو يوجد (تِجارَةً) والاستثناء منقطع أي لكن وقت تبايعكم وكون تجارتكم (حاضِرَةً) بحضور المدلين (تُدِيرُونَها) الإدارة : التعاطي والتقابض فالمراد والتبايع الناجز يدا بيد (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) : أي فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته. (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) هذا التبايع المذكور هنا وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي ـ كذا قيل ، وقيل : معناه إذا تبايعتم أي تبايع كان ـ حاضرا أو كماليا ـ لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار من غيره وقد تقدم قريبا ذكر الخلاف في كون هذا الإشهاد واجبا أو مندوبا.

(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل أو للمفعول ، فعلى الأول معناه : لا يضار كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما ، إما بعدم الإجابة أو بالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في كتابته. ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق. ولا يضارر بكسر الراء الأولى ، وعلى الثاني المعنى لا يضار كاتب ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهمّ لهما ويضيق عليهما في

__________________

(١) جاء في المطبوع [بالعرض لكم] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١ / ٣٠٢].

١١٩

الإجابة ويؤذيا إن حصل منهما التراخي (١) أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد. ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود ولا يضارر بفتح الراء الأولى ، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعا (وَإِنْ تَفْعَلُوا) ما نهيتم عنه من المضارة (فَإِنَّهُ) : أي فعلكم هذا (فُسُوقٌ) : أي خروج عن الطاعة إلى المعصية متلبس (بِكُمْ).

[الآية الثامنة والخمسون]

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)).

لما ذكر سبحانه مشروعية الكتاب والإشهاد لحفظ الأموال ودفع الريب عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب ونص على حالة السفر فإنها من جملة أصحاب العذر ؛ ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر وجعل البرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة : أي فإن كنتم مسافرين (وَلَمْ تَجِدُوا) كاتبا في سفركم (فَرِهانٌ) : قال أهل العلم : الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل ، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ثبت في الصحيحين أنه رهن درعا له عند يهودي (٢) ؛ وذهب الجمهور إلى اعتبار القبض ، كما أفاده قوله (مَقْبُوضَةٌ). وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون قبض.

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) : نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة إذا دعوا لإقامتها وهو في حكم التفسير لقوله : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ) أي لا يضار بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدمين (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله ، ولكونه رئيس الأعضاء وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد كله.

وإسناد الفعل إلى الجارحة التي تعمله أبلغ ، وهو صريح في مؤاخذة الشخص

__________________

(١) جاء في المطبوع [التراض] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١ / ٣٠٣].

(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ح [١٦٠٣] والبخاري في الصحيح [٥ / ١٤٢]. ح [٢٥٠٩].

١٢٠