مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

الصراط السوي المستقيم وينادونه : هلم إلينا ، ولكنه من الحيرة والتيه بحيث لا يسمع النداء ، أو إنّه غير قادر على اتخاذ القرار : (لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا).

وفي الختام يؤمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول : إنّ الهداية من الله وليس لنا إلّاأن نسلم لأمر الله ربّ العالمين : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ).

وهذا دليل آخر على رفض دين المشركين ، إذ التسليم لا يكون إلّالخالق الكون ومالكه وربّ عالم الوجود ، لا الأصنام التي لا دور لها في إيجاد هذا العالم وإدارته.

الآية التالية ، تواصل شرح الدعوة الإلهية قائلة : إنّنا فضلاً عن التوحيد ، فقد أمرنا بإقامة الصلاة وبتقوى الله : (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَاتَّقُوهُ).

وفي الختام يشار إلى المعاد وإلى أنّ الناس إلى الله يرجعون : (وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٧٣)

هذه الآية دليل على ما جاء في الآية السابقة ، وعلى ضرورة التسليم لله وإتّباع رسوله ، لذلك تقول : (وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ).

إنّ مبدأ عالم الوجود هو وحده الجدير بالعبادة ، وهو وحده الذي يجب الخضوع والتسليم له ، لأنّه خلق الأشياء لمقاصد حقّة.

ثم يقول : إنّه فضلاً عن كونه مبدع عالم الوجود ، فإنّ يوم القيامة أيضاً يقوم بأمره ، وإذا ما أصدر أمره بقيام ذلك اليوم فإنّه يتحقق فوراً : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ).

ثم يضيف : أنّ ما يقوله الله هو الحق ، أي إنّه مثلما كان مبدأ الخلق ذا أهداف ونتائج ومصالح ، كذلك سيكون يوم القيامة : (قَوْلُهُ الْحَقُّ).

وفي ذلك اليوم الذي ينفخ فيه في الصور ويبعث الناس يوم القيامة ، يكون الحكم والملك لله : (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ).

حكومة الله على عالم الوجود ومالكيته له قائمتان منذ بداية الخلق حتى نهايته وفي يوم

٤١

القيامة ، ولا يختص ذلك بيوم القيامة وحده ، لكن هناك عوامل وأسباباً تؤثّر في مسار هذه الدنيا وتقدّمها نحو أهدافها ، لذلك قد يغفل الإنسان أحياناً عن وجود الله وراء هذه الأسباب والعوامل ، أمّا في ذلك اليوم الذي تتعطل فيه جميع الأسباب والعوامل ، فإنّ حكومة الله ومالكيته تكونان أجلى وأوضح من أيّ وقت سابق.

وفي ختام الآية إشارة إلى ثلاث من صفات الله تعالى ، فهو : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ). أي إنّه بمقتضى صفة العلم المطلق عالم بأعمال عباده ، وبمقتضى قدرته وحكمته يجازي كلًّا بما يستحقه.

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (٧٤)

لمّا كانت هذه السورة تحارب الشرك وعبادة الأصنام تستخدم هنا حكاية إبراهيم. يقول : إنّ إبراهيم وبّخ أباه (عمّه) قائلاً : أتختار هذه الأصنام الحقيرة التي لا حياة فيها آلهة للعبادة : (وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ لِأَبِيهِءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًاءَالِهَةً إِنّى أَرَيكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَللٍ مُّبِينٍ). وأيّ ضلال أشدّ وأوضح من أن يجعل الإنسان ما يخلقه بيده إلهاً يعبده ، ويتخذ من كائن جامد لا روح فيه ولا إحساس ملجأ يفزع إليه ويبحث عن حلّ مشاكله عنده.

هل كان آزر أبا إبراهيم؟ تطلق كلمة «الأب» في العربية على الوالد غالباً ، ولكنها قد تطلق أيضاً على الجد من جهة الام وعلى العم ، وكذلك على المربي والمعلم والذين يساهمون بشكل ما في تربية الإنسان.

وقد وردت في القرآن كلمة «أب» بمعنى العم ، كما في الآية (١٣٣) من سورة البقرة : (قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَءَابَائِكَ إِبْرهِيمَ وَإِسْمعِيلَ وَإِسْحقَ إِلهًا وَاحِدًا).

والضمير في «قالوا» يعود على أبناء يعقوب وكان إسماعيل عم يعقوب لا أباه.

الطبري ينقل في تفسيره جامع البيان عن مجاهد قال : ليس آزر أبا إبراهيم.

وفي تفسير روح المعاني : أنّ آزر اسم عم إبراهيم ، والعم والجد يسميان أبا مجازاً.

٤٢

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبِّي هذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩)

أدلة التوحيد في السماوات : على أثر الكره الذي كان يحمله إبراهيم للأوثان وطلبه من آزر أن يترك عبادة الأصنام ، تشير هذه الآيات إلى نضال إبراهيم المنطقي مع مختلف عبدة الأصنام ، وتبين كيفية توصله إلى أصل التوحيد عن طريق الاستدلال العقلي الواضح. تبين أوّلاً أنّ الله كما عرّف إبراهيم على أضرار عبادة الأصنام عرّفه على مالكية الله وسلطته المطلقة على السماوات والأرض : (وَكَذلِكَ نُرِى إِبْرهِيمَ مَلَكُوتَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ). «الملكوت» : من «ملك» بمعنى المالكية والحكم ، فالمقصود من الكلمة هنا حكومة الله المطلقة على عالم الوجود برمّته.

وكما أنّه في الختام يقول : إنّ الهدف من ذلك هو أن يصبح إبراهيم من أهل اليقين (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ).

لا شك أنّ إبراهيم كان موقناً يقيناً استدلالياً وفطرياً بواحدانية الله ، ولكنه بدراسة أسرار الخلق بلغ يقينه حدّ الكمال.

الآيات التالية تشرح هذا المعنى ، وتبين استدلال إبراهيم من افول الكواكب والشمس على عدم الوهيتها ، فعندما غطّى ستار الليل المظلم العالم كله ، ظهر أمام بصره كوكب لامع ، فنادى إبراهيم : هذا ربي! ولكنه إذ رآه يغرب ، قال : لا أحب الذين يغربون : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَاأُحِبُّ الْأَفِلِينَ).

ومرّة اخرى رفع عينيه إلى السماء فلاح له قرص القمر الفضّي ذو الإشعاع واللمعان الجذاب على أديم السماء ، فصاح ثانية : هذا ربي : ولكن مصير القمر لم يكن بأفضل من مصير الكوكب قبله ، فقد أخفى وجهه خلف طيّات الافق.

٤٣

هنا قال إبراهيم : إذا لم يرشدني ربي إلى الطريق الموصل إليه فسأكون في عداد التائهين (فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ). عند ذاك كان الليل قد انقضى ، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هارباً من كبد السماء ، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتلقي بأشعتها الجميلة كنسيج ذهبي تنشره على الجبل والوادي والصحراء ، وما أن وقعت عين إبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع صاح : هذا ربّي فإنّه أكبر وأقوى ضوءاً ، ولكنه إذ رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم أعلن إبراهيم قراره النهائي قائلاً : يا قوم! لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة لله : (فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذَا رَبّى هذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنّى بَرِىءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

الآن بعد أن عرفت أنّ وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة لقوانين الطبيعة إلهاً قادراً وحاكماً على نظام الكائنات ، فانّي أتجه إلى الذي خلق السماوات والأرض ، وفي إيماني هذا لن أشرك به أحداً ، فإنّي موحد ولست مشركاً : (إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذى فَطَرَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

إنّ تفسير هذه الآية والآيات التالية بشأن ما دفع بإبراهيم الموحد العابد لله الواحد ، أن يشير إلى كوكب في السماء ويقول : هذا ربّي؟

فإنّه عندما يقول : (هذَا رَبّى) لا يقولها قاطعاً جازماً ، بل يقولها من باب الفرض والاحتمال حتى يفكّر في الأمر. أو أنّه قال (هذَا رَبّى) تعني : هذا ما تعتقدون أنّه ربي.

(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٨٣)

٤٤

تشير هذه الآيات إلى ما دار بين إبراهيم والأقوام المشركة من عبدة الأصنام ، الذين بدأوه بالمحاجة (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ).

فردّ عليهم إبراهيم عليه‌السلام قائلاً : لماذا تجادلونني في الله الواحد الأحد وتخالفونني فيه ، وهو الذي وهبني من الدلائل المنطقية الساطعة ما هداني به إلى طريق التوحيد (قَالَ أَتُحَاجُّونِّى فِى اللهِ وَقَدْ هَدَينِ).

يتّضح في هذه الآية بجلاء أنّ قوم إبراهيم المشركين من عبدة الأصنام كانوا يحاولون جهدهم وبأيّ ثمن أن يبعدوا إبراهيم عن عقيدته ، قد حذّروه وهددوه بغضب آلهتهم وعقابها في محاولة لإرعابه وإخافته ، لأنّنا على أثر ذلك نسمع إبراهيم يستهين بتهديدهم ويؤكد لهم أنّه لا يخشى أصنامهم التي لا حول لها ولا قوة في إيصال أيّ أذى إليه (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ ..). فما من أحد ولا من شيء بقادر على أن يلحق بي ضرراً إلّاإذا شاء الله : (إِلَّا أَن يَشَاءَ رَبّى شَيًا).

يظهر من هذه الآية أنّ إبراهيم عليه‌السلام سعى لإتخاذ إجراء وقائي تجاه حوادث محتملة ، فيؤكّد أنّه إذا أصابه في هذا الصراع شيء ـ فرضاً ـ فلن يكون لذلك أيّ علاقة بالأصنام ، بل يعود إلى إرادة الله.

ويضيف إلى ذلك مبيّناً أنّ ربّه على درجة من سعة العلم بحيث يسع علمه كل شيء : (وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا).

ثم يحرّك فيهم روح البحث والتفكير فيخاطبهم قائلاً : (أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ).

في الآية التالية ينهج إبراهيم منطقاً استدلالياً آخر ، فيقول لعبدة الأصنام : كيف يمكنني أن أخشى الأصنام ويستولي عليّ الخوف من تهديدكم ، مع إنّي لا أرى في أصنامكم أثراً للعقل والإدراك والشعور والقوة والعلم ، أمّا أنتم فعلى الرغم من إيمانكم بوجود الله وإقراركم له بالعلم والقدرة ، ومعرفتكم بأنّه لم يأمركم بعبادة هذه الأصنام ، فانّكم لا تخافون غضبه : (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) (١).

كونوا منصفين إذن وقولوا : (فَأَىُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

__________________

(١) «السلطان» : بمعنى التفوّق والإنتصار ، ولمّا كان الدليل والبرهان من أسباب الفوز والإنتصار ، فقد يوصفان بالسلطان أيضاً ، كما هو الحال هنا ، أي لا وجود لأيّ دليل على السماح.

٤٥

يستند منطق إبراهيم عليه‌السلام هنا إلى منطق العقل القائم على الواقع ، إنّكم تهددونني بغضب الأصنام ، مع أنّ تأثيرها وهمٌ من الأوهام ، ولكنّكم بعدم خشيتكم من الله العظيم الذي نؤمن به جميعاً ، ونعتقد بوجوب اتباع أمره تكونون قد تركتم أمراً ثابتاً ، وتمسكتم بأمر وهمي ، ولم يصدر الله تعالى إلينا أمراً بعبادة الأصنام.

في الآية التالية جواب يدلي به إبراهيم على سؤال كان هو قد ألقاه في الآية السابقة (وهذا أسلوب من أساليب الاستدلال العلمي ، فقد يسأل المتكلم سؤالاً عن لسان المخاطب ثم يبادر إلى الإجابة عليه مباشرة كدليل على أنّ الجواب من الوضوح بحيث ينبغي أن يعرفه كل شخص). يقول : إنّ المؤمنين الذين لم يمزجوا إيمانهم بظلم ، هم الآمنون وهم المهتدون (الَّذِينَءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ).

الآية التالية فيها إشارة إجمالية لما مضى من بحث بشأن التوحيد ومجابهة الشرك كما جاء على لسان إبراهيم ، فتقول : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَاءَاتَيْنهَا إِبْرهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ).

ثم تقول الآية : (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ). ولكيلا يخامر بعضهم الشك في أنّ الله يحابي في إعطاء الدرجات لمن يشاء ، تقول : إنّ الله متصف بالحكمة وبالعلم ، فلا يمكن أن يرفع درجة من لا يستحق ذلك : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).

(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٨٧)

في هذه الآيات إشارة إلى النعم التي اسبغها الله على إبراهيم ، وهي تتمثل في أبناء صالحين وذرية لائقة ، وهي من النعم الإلهية العظيمة. يقول سبحانه : (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحقَ وَيَعْقُوبَ).

ثم يبيّن أنّ مكانة هذين لم تكن لمجرد كونهما ولدي نبي ، بل لإشعاع نور الهداية في قلبيهما نتيجة التفكير السليم والعمل الصالح : (كُلًّا هَدَيْنَا).

٤٦

ثم لكيلا يتصور أحد أنّه لم يكن هناك من يحمل لواء التوحيد قبل إبراهيم ، وأنّ التوحيد بدأ بإبراهيم ، يقول : (وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ).

فالإشارة إلى مكانة نوح ، وهو من أجداد إبراهيم ، والإشارة إلى فريق من الأنبياء من أبنائه وقبيلته ، إنّما هي توكيد لمكانة إبراهيم المتميزة من حيث «الوراثة والأصل» و «الذرية».

وعلى أثر ذلك ترد أسماء عدد من الأنبياء من اسرة إبراهيم : (وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمنَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهرُونَ). ثم يبيّن أنّ منزلة هؤلاء ناشئة من أعمالهم الصالحة وهم لذلك ينالون جزاءهم : (وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ).

في الآية الثانية يرد ذكر زكريّا ويحيى وعيسى والياس على أنّهم جميعاً كانوا من الصالحين. أي إنّ مكانتهم المرموقة ليست من باب المجاملة الإجبارية ، بل هي بسبب أعمالهم الصالحة في سبيل الله : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ).

الآية الثالثة تذكر أربعة آخرين من الأنبياء والقادة الإلهيين ، وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط الذين رفعهم ربهم درجات على أهل زمانهم : (وَإِسْمعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ).

وفي الآية الأخيرة إشارة عامة إلى آباء الأنبياء المذكورين وأبنائهم وإخوانهم ممن لم ترد أسماؤهم بالتفصيل وهم جميعاً من الصالحين الذين هداهم الله : (وَمِنْءَابَائِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (٩٠)

ثلاثة إمتيازات مهمة : بعد ذكر مجموعات الأنبياء في الآيات السابقة ، تتناول هذه الآيات الخطوط العامة لحياتهم ، وتبدأ القول : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).

ولكيلا يحسب البعض أنّ هؤلاء قد أجبروا على السير في هذا الطريق ، أو يظن أنّ الله

٤٧

ينظر إلى هؤلاء نظرة خاصة وإستثنائية دونما سبب ، يقول القرآن عنهم : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

فهم إذن مشمولون بهذا القانون الإلهي الذي يسري على غيرهم بغير محاباة.

الآية التالية تشير إلى ثلاثة إمتيازات مهمة هي أساس جميع إمتيازات الأنبياء ، وهي قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ).

إنّ الحكم أصلاً هو المنع ، ومن ذلك العقل الذي يمنع من وقوع الأخطاء والمخالفات ، وكذلك القضاء الصحيح يمنع من وقوع الظلم ، والحكومة العادلة تقف بوجه الحكومات غير العادلة ، فهي قد استعملت في المعاني الثلاثة.

ثم يقول : لئن رفضت هذه الجماعة (أي المشركون وأهل مكة) تلك الحقائق ، فإنّ دعوتك لن تبقى بغير إستجابة ، إذ إنّنا قد أمرنا جمعاً آخر ، لا بقبولها فحسب ، بل وبالحفاظ عليها فهم لا يسلكون طريق الكفر أبداً ، بل يتبعون الحق : (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ).

جاء في تفسير المنار وتفسير روح المعاني عن بعض المفسرين أنّ المقصود بالقوم هم الفرس ، وقد أسرعوا في قبول الإسلام وجاهدوا في سبيل نشره ، وظهر فيهم العلماء في شتى العلوم والفنون الإسلامية وألّفوا الكثير من الكتب.

الآية الأخيرة تجعل من منهاج هؤلاء الأنبياء العظام قدوة رفيعة للهداية تعرض على رسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول له : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَيهُمُ اقْتَدِهْ).

تؤكد هذه الآية مرّة اخرى على أنّ اصول الدعوة التي قام بها الأنبياء واحدة.

إنّ للهداية معنى واسعاً يشمل التوحيد وسائر الاصول العقائدية ، كما يشمل الصبر والثبات وسائر الاصول الأخلاقية والتربوية.

ثم يؤمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول للناس إنّه مثل سائر الأنبياء لا يتقاضى أجراً لقاء عملية تبليغ الرسالة : (قُل لَّاأَسَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا).

ثم إنّ هذا القرآن وهذه الرسالة والهداية إن هي إلّاإيقاظ وتوعية للناس جميعاً : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ).

إنّ النعم العامة الشاملة مثل نور الشمس والهواء والأمطار هي امور عامة وعالمية ، لا تباع ولا تشترى ، ولا أجر يعطى لقاءها.

٤٨

(وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٩١)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس : إنّ اليهود قالت يا محمّد! أنزل الله عليك كتاباً؟ قال : «نعم». قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتاباً.

التّفسير

يبدو من سبب النزول وسياق الآية انّها بشأن اليهود لا المشركين ، لذلك يرى بعضهم أنّ هذه الآية قد نزلت في المدينة ، إلّاأنّها وضعت في هذه السورة المكية بأمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولهذا في القرآن ما يشابهه. في البداية تقول الآية : إنّهم لم يعرفوا الله معرفة صحيحة وأنكروا نزول كتاب سماوي على أحد : (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَىْءٍ). فيأمر الله رسوله أن (قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لّلنَّاسِ).

ذلك الكتاب الذي جعلتموه صحائف متناثرة ، تظهرون منه ما ينفعكم وتخفون ما تظنونه يضرّكم : (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا).

إنّكم تتعلمون من هذا الكتاب السماوي اموراً كثيرة لم تكونوا أنتم ولا أباؤكم تعلمون عنها شيئاً : (وَعُلّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَاءَابَاؤُكُمْ).

وفي ختام الآية يؤمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يذكر الله وأن يترك اولئك في أباطيلهم وعنادهم ولعبهم : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).

(وَهذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (٩٢)

تعقيباً على البحث الذي دار في الآيات السابقة حول كتاب اليهود السماوي ، تشير هذه الآية إلى القرآن باعتباره كتاباً سماوياً آخر ، والواقع أنّ ذكر التوراة مقدمة لذكر القرآن لإزالة كل عجب وتخوّف من نزول كتاب سماوي على فرد من البشر ، فتبدأ بالقول : (وَهذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ). وهو كتاب «مبارك» لأنّه مصدر كل خير وبركة وصلاح وتقدم ، ثم إنّه يؤكد

٤٩

الكتب التي نزلت قبله : (مُّصَدّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ).

والمقصود من أنّ القرآن يصدّق الكتب التي بين يديه ، هو أنّ جميع الإشارات والإمارات التي وردت فيها تنطبق عليه. وبناءاً على ذلك فصدق القرآن يتجلى في محتواه من جهة ، وفي المستندات التاريخية من جهة اخرى.

ثم يبيّن القرآن هدف نزوله وهو توجيه الإنذار والتحذير لُام القرى (مكة) والساكنين حولها وتنبيههم إلى مسؤولياتهم وواجباتهم : (وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا).

وفي الختام تقرر الآية أنّ الذين يعتقدون بيوم القيامة ، يوم الحساب والجزاء ، سيصدّقون بهذا الكتاب ، ويؤدّون فريضة الصلاة ولا يفرّطون فيها : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ).

إنّ اليابسة قد انتشرت من تحت الكعبة وهو ما أطلق عليه اسم «دحو الأرض».

«ومن حولها» أي جميع الناس الذين يسكنون الأرض برمّتها.

نلاحظ في هذه الآية أنّها تشير إلى الصلاة من بين جميع الفرائض الدينية ، ونعلم أنّ الصلاة هي مظهر الإرتباط بالله ، ولذلك كانت أرفع من جميع العبادات منزلة ، ويرى بعضهم أنّه عند نزول هذه الآية كانت العبادة الوحيدة المفروضة حتى ذلك الوقت هي الصلاة.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)(٩٣)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية ، فقيل : نزلت في مسيلمة ، حيث ادّعى النبوة إلى قوله (وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ) وقوله (سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللهُ) في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فإنّه كان يكتب الوحي للنبي عليه‌السلام فكان إذا قال له اكتب عليماً حكيماً ، كتب غفوراً رحيماً ، وإذا قال له اكتب غفوراً رحيماً كتب عليماً حكيماً ، وارتدّ ولحق بمكة ، وقال إنّي مثل ما أنزل الله.

هذه الآية ، مثل سائر آيات القرآن ، نزلت في ظروف خاصة ، وهي ذات محتوى عام يشمل كل من إدّعى النبوة وأمثالهم.

٥٠

التّفسير

في الآيات السابقة مرّت الإشارة إلى مزاعم اليهود الذين أنكروا نزول أي كتاب سماوي على أحد ، وفي هذه الآية يدور الكلام على اشخاص آخرين يقفون على الطرف المعاكس تماماً لأولئك ، فيزعمون كذباً أنّ الوحي ينزل عليهم.

وتتناول الآية ثلاث جماعات من هؤلاء بالبحث ، ففي البداية تقول : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا).

والجماعة الثانية هم الذين يدّعون النبوّة ونزول الوحي عليهم ، فلا هم أنبياء ، ولا نزل عليهم وحي : (أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْءٌ).

والجماعة الثالثة هم الذين أنكروا نبوّة نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو زعموا ساخرين أنّهم يستطيعون أن يأتوا بمثل آيات القرآن ، وهم في ذلك كاذبون ولا قدرة لهم على ذلك : (وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللهُ).

نعم ، هؤلاء كلهم ظالمون ، بل أظلم الظالمين ، فهم ضالون مضلون ، فمن أظلم ممن يدّعي لنفسه القيادة الإلهية وليست لديه صلاحية مثل هذا المقام.

ثم تبيّن العقاب الأليم الذي ينتظر أمثال هؤلاء فتقول : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ) (١). أي لو أنّك ـ أيّها النبي ـ رأيت هؤلاء الظالمين وهم يمرون بشدائد الموت والنزع الأخير ، وملائكة قبض الأرواح مادّين أيديهم نحوهم ويقولون لهم : هيّا أخرجوا أرواحكم ، لأدركت العذاب الذي ينزل بهم.

عندئذٍ تخبرهم ملائكة العذاب بأنّهم سينالون اليوم عذاباً مذلّاً لأمرين : الأوّل : إنّهم كذبوا على الله ، والآخر ، إنّهم لم ينصاعوا لآياته : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ).

(أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ) تعني في الواقع ضرباً من التحقير تبديه الملائكة نحو هؤلاء الظالمين ، وإلّا فإنّ إخراج الروح ليس من عمل هؤلاء ، بل هو من واجب الملائكة.

__________________

(١) «الغمرات» : جمع غمرة (على وزن ضربة) ، وأصل الغمر إزالة أثر الشىء ، ثم استعملت للماء الكثير الذى يستر وجه الشىء تماماً ، كما تطلق على الشدائد والصعاب التى تغمر المرء.

٥١

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : نزلت في النضر بن الحرث بن كلدة ، حين قال : سوف يشفع لي اللات والعزى.

التّفسير

الضّالون : أشارت الآية السابقة إلى أحوال الظالمين وهم على شفا الموت ، وتنطلق هذه الآية لتتحدث عن خطاب الله لهم عند الموت أو عند الورود إلى ساحة يوم القيامة ، فتبدأ الآية بالقول بأنّهم يأتون يوم القيامة منفردين كما خلقوا منفردين : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

والأموال التي وهبناها لكم وكنتم تستندون إليها في حياتكم ، قد خلّفتموها وراءكم ، وجئتم صفر الأيدي : (وَتَرَكْتُم مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) (١).

ولا نرى معكم تلك الأصنام التي قلتم إنّها سوف تشفع لكم وظننتم أنّها شريكة في تعيين مصائركم (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكؤُا).

ولكن الواقع أنّ جمعكم قد تبدد ، وتقطعت جميع الروابط بينكم : (لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ).

وكل ما ظننتموه وما كنتم تستندون إليه قد تلاشى وضاع : (وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ).

كان المشركون العرب يستندون في حياتهم إلى أشياء ثلاثة : القبيلة أو العشيرة التي كانوا ينتمون إليها ، والأموال التي جمعوها لأنفسهم ، والأصنام التي اعتبروها شريكة لله في تقرير مصير الإنسان وشفيعة لهم عند الله ، والآية في كل جملة من جملها الثلاث تشير إلى واحدة من هذه الامور ، وإلى أنّها عند الموت تودعه وتتركه وحيداً فريداً.

__________________

(١) «خوّلناكم» : من «الخول» وهو إعطاء ما يحتاج إلى التعهد والتدبير والإدارة ، وهو النعم التي يسبغها الله تعالى على عباده.

٥٢

ففي ذلك اليوم تنفصم العرى وتنفصل عن البشر كل الإنشدادات المادية والمعبودات الخيالية المصطنعة وجميع ما اصطنعوه لأنفسهم في الحياة الدنيا ليكون سنداً لهم يستعينون به في يوم بؤسهم حيث لا يبقى سوى الشخص وعمله ، ويزول كل ما عدا ذلك ، أو يضل عنهم بحسب تعبير القرآن ، وهو تعبير جميل يوحي بأنّ الشركاء سيكونون إلى درجة من الصغر والحقارة والضياع بحيث إنّهم لا يُروا بالعين.

(إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(٩٦)

مرّة اخرى يوجّه القرآن الخطاب إلى المشركين ، ويشرح لهم دلائل التوحيد في عبارات جذّابة وفي نماذج حيّة من أسرار الكون ونظام الخلق وعجائبه.

في الآية الاولى يشير إلى ثلاثة أنواع من عجائب الأرض ، وفي الآية الثانية يشير إلى ثلاثة من الظواهر السماوية. يقول القرآن الكريم أوّلاً : (إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى).

«الفلق» : شقّ الشيء وإبانة بعضه عن بعض. و «الحب» و «الحبة» : تقال لأنواع الحبوب الغذائية كالحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات التي تحصد ، كما يقال ذلك لبروز الرياحين أيضاً. و «النوى» : من النّواة.

وممّا يلفت الإنتباه أنّ الحبّة والنّواة غالباً ما تكونان صلبتين ، فنظرة إلى نوى التمر والخوخ وأمثالهما ، وإلى بعض الحبوب الصلبة ، تكشف لنا أنّ تلك النطفة الحياتية التي هي في الواقع صغيرة ، محصنة بقلعة مستحكمة تحيط بها من كل جانب ، وأنّ يد الخالق قد أعطت لهذه القلعة العصية على الإختراق خاصية التسليم والليونة أمام إختراق نطفة النبات ، كما منحت النطفة قوة إندفاع تُمكّنها من فلق جدران قلعتها فتطلع النبتة بقامتها المديدة ، هذه حقّاً حادثة عجيبة في عالم النبات لذلك يشير إليها القرآن على أنّها من دلائل التوحيد.

ثم يقول : (يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَىّ).

إنّ موضوع الحياة والموت بالنسبة للكائنات الحيّة من أعقد المسائل التي لم تستطيع العلوم البشرية الوصول إلى كنه حقيقتها ورفع الستار عن أسرارها لتخطو إلى أعماق

٥٣

مجهولاتها ، ولتعرف كيف يمكن لعناصر الطبيعة وموادها الجامدة أن تطفر طفرة عظيمة فتتحوّل إلى كائنات حيّة.

لذلك نجد القرآن ـ وفي معرض إثبات وجود الله ـ كثيراً ما يكرر هذا الموضوع ، كما يستدل أنبياء عظام كإبراهيم وموسى ، على وجود مبدأ قادر حكيم بمسألة الحياة والموت لإقناع جبابرة طغاة مثل نمرود وفرعون.

وفي ختام الآية توكيد للموضوع : (ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ). أي هذا هو ربّكم وهذه هي قدرته وعلمه اللامتناهي ، فكيف بعد هذا تنحرفون عن الحق وتميلون إلى الباطل.

في الآية الثانية يشير القرآن إلى ثلاث نعم سماوية : فيقول أوّلاً : (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ).

كثيراً ما يشير القرآن إلى نعمتي النّور والظلام والليل والنهار ، ولكنّه هنا يتناول «طلوع الصبح» كنعمة من نعم الله الكبرى ، فنحن نعرف أنّ هذه الظاهرة تحدث لوجود جوّ الأرض ، ذلك الغلاف الضخم من الهواء الذي يحيط بالأرض ، فلو كانت الأرض ـ مثل القمر ـ عديمة الجو ، لما كان هناك «طلوعان» ولا «فلق» ولا «إصباح» ولا «غسق» ولا «شفق» غير أنّ الجو الموجود حول الأرض والمؤدّي إلى حصول فترة فاصلة بين ظلام الليل وضياء النهار عند طلوع الشمس وغروبها يهيّىء الإنسان تدريجياً لتقبّل هذين الاختلافين المتضادين والإنتقال من الظلمة إلى النور ، ومن النور إلى الظلمة ، شيئاً فشيئاً ، بحيث إنّه يستطيع أن يتحمّل كل منهما.

ولكيلا يظن أحد أنّ فلق الصبح دليل على أنّ ظلال الليل أمر غير مطلوب وأنّه عقاب أو سلب نعمة ، يبادر القرآن إلى القول : (وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا).

من الامور المسلم بها أنّ الإنسان يميل خلال انتشار النور والضياء إلى العمل وبذل الجهد ، ويتّجه الدم نحو سطح الجسم وتتهيّأ العضلات للفعالية والنشاط ، ولذلك لا يكون النوم في الضوء مريحاً ، بل يكون أعمق وأكثر راحة كلّما كان الظلام أشد ، حيث يتّجه الدم فيه نحو الداخل ، وتدخل الخلايا عموماً في نوع من السكون والراحة ، لذلك نجد في الطبيعة أنّ النوم في الليل لا يقتصر على الحيوانات فقط ، بل إنّ النباتات تنام في الليل أيضاً ، وعند بزوغ خيوط الصباح الأولى تشرع بفعاليتها ونشاطها ، بعكس الإنسان في هذا العصر الآلي ، فهو يبقى مستيقظاً إلى ما بعد منتصف الليل ، ثم يظل نائماً حتى بعد ساعات من طلوع الشمس ، فيفقد بذلك نشاطه وسلامته.

٥٤

ثم يشير الله تعالى إلى الثالثة من نعمه ودلائل عظمته بجعل الشمس والقمر وسيلة للحساب : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا).

إنّه لموضوع مهم جدّاً أن تكون الأرض منذ ملايين السنين تدور حول الشمس ، والقمر يدور حول الأرض ، أنّ حساب هذا الدوران من الدقّة والضبط بحيث إنّه لا يتقدّم ولا يتأخر لحظة واحدة.

وهذا ما لا يمكن أن يكون إلّافي ظل علم وقدرة لا نهائيتين يضعان تخطيطه وينفذانه بدقة ، لذلك تنتهي الآية بقولها : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٩٧)

بعد شرح نظام دوران الشمس والقمر في الآية السابقة ، تشير هذه الآية إلى نعمة اخرى من نعم الله على البشر ، فجعل النجوم ليهتدي بها الانسان في ليالي البر والبحر : (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ).

وتختتم الآية بالقول بأنّ الله قد بيّن آياته لأهل الفكر والفهم والإدراك : (قَدْ فَصَّلْنَا الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

منذ آلاف السنين والإنسان يعرف النجوم في السماء ونظامها ، بحيث كانت له هذه النجوم خير وسيلة لمعرفة الإتجاه في الأسفار البرية والبحرية ، وعلى الأخص في المحيطات الواسعة التي كانت تخلو من كل إمارة تشير إلى الإتجاه قبل إختراع الإسطرلاب.

إنّ النجوم هي التي هدت ملايين البشر وأنقذتهم من الغرق وأوصلتهم إلى برّ السلامة.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٩٩)

٥٥

هاتان الآيتان تتابعان دلائل التوحيد ومعرفة الله ، وللوصول إلى هذا الهدف يأخذ القرآن بيد الإنسان ويسيح به في آفاق العالم البعيدة وقد يسير به في داخل ذاته ويبيّن له آثار الله في جسمه وروحه ، فيتيح له أن يرى الله في كل مكان. فيبدأ بالقول : (وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ). أي إنّكم ، على اختلاف ملامحكم وأذواقكم وأفكاركم والتباين الكبير في مختلف جوانب حياتكم ، قد خلقتم من فرد واحد ، وهذا دليل على منتهى عظمة الخالق وقدرته التي أوجدت من المثال الأوّل كل هذه الوجوه المتباينة.

ثم يقول : إنّ فريقاً من البشر «مستقر» وفريقاً آخر «مستودع» (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ).

«المستقر» : أصله من «القُر» (بضم القاف) بمعنى البرد ، ويقتضي السكون والتوقف عن الحركة ، فمعنى «مستقر» هو الثابت المكين.

و «مستودع» : من «ودع» بمعنى ترك ، كما تستعمل بمعنى غير المستقر ، والوديعة هي التي يجب أن تترك عند من أودعت عنده لتعود إلى صاحبها.

يتّضح من هذا الكلام أنّ الآية تعني أنّ الناس بعض «مستقر» أي ثابت ، وبعض «مستودع» أي غير ثابت. يحتمل أن يكون هذان التعبيران إشارة إلى الجزئين الأولين في تركيب نطفة الإنسان ، إنّ النطفة تتركب من جزئين : الأوّل هو «البويضة» من الانثى ، والثاني هو «الحيمن» أو «المني» من الذكر ، فالبويضة في رحم الانثى تكاد تكون مستقر ولكن حيمن الذكر حيوان حي يتحرك بسرعة نحوها ، وما أن يصل أوّل حيمن إلى البويضة حتى يمتزج بها و «يخصبها» ويصد (الحيامن) الاخرى ، ومن هذين الجزئين تتكون بذرة الإنسان الأولى.

وفي ختام الآية يعود فيقول : (قَدْ فَصَّلْنَا الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ).

الآية الثانية هي آخر آية في هذه المجموعة التي تكشف لنا عن عجائب عالم الخلق وتهدينا إلى معرفة الله بمعرفة مخلوقاته. في البداية تشير الآية إلى واحدة من أهم نعم الله التي يمكن أن تعتبر النعمة الام وأصل النعم الاخرى ، وهي ظهور النباتات ونموها بفضل النعمة التي نزلت من السماء : (وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً).

وإنّما قال (من السماء) لأنّ سماء كل شيء أعلاه ، فكل ما في الأرض من مياه العيون والآبار والأنهار والقنوات وغيرها منشؤها الأمطار من السماء ، وقلّة الأمطار تؤثّر في كمية المياه في تلك المصادر كلها ، وإذا استمر الجفاف جفّت تلك المنابع ، أيضاً.

٥٦

ثم تشير إلى أثر نزول الأمطار البارز : (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْءٍ).

المقصود من (نَبَاتَ كُلّ شَىْءٍ) هو كل أنواع النباتات وأصنافها التي تسقى من ماء واحد ، وتنبت في أرض واحدة وتتغذّى من تربة واحدة ، وأنّه لمن العجيب أنّ الله تعالى يخرج من أرض واحدة وماء واحد الغذاء الذي يحتاجه كل هؤلاء.

والأعجب من كل هذا أنّ نباتات الصحراء واليابسة ليست وحدها التي تنمو ببركة ماء المطر ، بل إنّ النباتات المائية الصغيرة التي تطفو على سطح البحر وتكون غذاء للأسماك تنمو بأشعة الشمس وقطرات المطر.

ثم تشرح الآية ذلك وتضرب مثلاً ببعض النباتات التي تنمو بفضل الماء ، فتذكر أنّ الله يخرج بالماء سيقان النباتات الخضر من الأرض ، ومن تلك الحبّة الصلبة يخلق الساق الأخضر الطري اللطيف الجميل بشكل يعجب الناظرين : (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا) (١).

ومن ذلك الساق الأخضر أخرجناالحبّ متراصفاً منظماً : (نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا) (٢).

وكذلك بالماء نخرج من النخل طلعاً مغلقاً ، ثم يتشقق فتخرج الاعذاق بخيوطها الرفيعة الجميلة تحمل حبّات التمر ، فتتدلى من ثقلها : (وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ).

«الطلع» : هو عذق التمر قبل أن ينفتح غلافه الأخضر ، وإذ ينفتح الطلع تخرج منه أغصان العذق الرفيعة ، وهي القنوان ومفردها قنو. و «دانية» : أي قريبة ، وقد يكون ذلك إشارة إلى قرب أغصان العذق من بعضها ، أو إلى أنّها تميل نحو الأرض لثقلها.

وكذلك بساتين فيها أنواع الأثمار والفواكه : (وَجَنَّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ).

ثم تشير الآية إلى واحدة اخرى من روائع الخلق في هذه الأشجار والأثمار ، فتقول : (مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ).

إنّ شجرتي الرمان والزيتون متشابهتان من حيث الشكل الخارجي وتكوين الأغصان وهيئة الأوراق تشابهاً كبيراً ، مع أنّهما من حيث الثمر وطعمه وفوائده مختلفتان ، ففي الزيتون مادة زيتية قوية الأثر ، وفي الرمان مادة حامضية أو سكرية ، فهما متباينان تماماً ، ومع ذلك فقد تزرع الشجرتان في أرض واحدة ، وتشربان من ماء واحد ، فهما متشابهتان وغير متشابهتين في آن واحد.

__________________

(١) كلمة «أخضر» تشمل كل أخضر في النبات ، حتّى براعم الأشجار ، ولكن بما إنّها متبوعة مباشرة بالحب المتراكب فالمقصود في الآية هو زراعة الحبوب.

(٢) «المتراكب» : من الركوب وما ركب بعضه بعضاً ، وأكثر الحبوب بهذا الشكل.

٥٧

ثم تركّز الآية من بين مجموع اجزاء الشجرة ، على ثمرة الشجرة وعلى تركيب الثمرة إذا أثمرت ، وكذلك على نضج الثمرة إذا نضجت ، ففيها دلائل واضحة على قدرة الله وحكمته للمؤمنين من الناس : (انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذلِكُمْ لَأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

ما نقرؤه اليوم في علم النبات عن كيفية طلوع الثمرة ونضجها يكشف لنا عن الأهمية الخاصة التي يوليها القرآن للأثمار ، إذ إنّ ظهور الثمرة في عالم النبات أشبه بولادة الأبناء في عالم الحيوان ، فنطفة الذكر في النبات تخرج من أكياس خاصة بطرق مختلفة (كالرياح أو الحيوانات) وتحط على القسم الانثوي في النبات ، وبعد التلقيح والتركيب تتشكل البيضة الملقحة الاولى ، وتحيط بها مواد غذائية مشابهة لتركيبها ، وهذه المواد الغذائية تختلف من حيث التركيب وكذلك من حيث الطعم والخواص الغذائية والطبّية. فقد تكون ثمرة (مثل العنب والرمان) فيها مئات من الحبّ ، كل حبّة منها تعتبر جنيناً وبذرة لشجرة اخرى ، ولها تركيب معقّد عجيب.

هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ المراحل المتعددة التي تمرّ بها الثمرة منذ تولدها حتى نضجها تثير الإنتباه ، لأنّ «المختبرات» الداخلية في الثمرة لا تنفك عن العمل في تغيير تركيبها الكيمياوي إلى أن تصل إلى المرحلة النهائية ويثبت تركيبها الكيمياوي النهائي ، فكل مرحلة من هذه المراحل دليل على عظمة الخالق وقدرته.

ولكن لابدّ من القول ـ بحسب تعبير القرآن ـ إنّ المؤمنين الذين يمعنون النظر في هذه الامور هم الذين يرون هذه الحقائق ، وإلّا فعين العناد والمكابرة والإهمال والتساهل لا يمكن أن ترى أدنى حقيقة.

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣)

٥٨

خالق كل شيء : هذه الآيات تشير إلى جانب من العقائد السقيمة والخرافات التي يؤمن بها المشركون وأصحاب المذاهب الباطلة ، وتردّ عليهم بالمنطق. فأوّلاً : قالوا : إنّ لله شركاء من الجن (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ).

فينكر الإسلام عليهم ذلك ، إذ كيف يمكن ذلك وهو الذي خلق الجن : (وَخَلَقَهُمْ). أي كيف يمكن أن يكون المخلوق شريكاً للخالق ، لأنّ الشركة دليل التماثل والتساوي ، مع أنّ المخلوق لا يمكن أن يكون في مصاف خالقه أبداً!

الخرافة الاخرى هي قولهم ـ جهلاً ـ إنّ لله بنين وبنات : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

أفضل دليل على أنّ هذه العقائد ليست سوى خرافة ، هو أنّها تصدر عنهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ). أي إنّهم لا يملكون أيّ دليل على هذه الأوهام.

من الملاحظ أنّ القرآن استعمل لفظة «خرقوا» : من الخرق ، وهو تمزيق الشيء بغير روية ولا حساب ، وهي في النقطة المقابلة تماماً «للخلق» القائم على الحساب ، هاتان اللفظتان : «الخلق والخرق» قد تستعملان في حالات الكذب والاختلاق ، مع اختلاف بينهما ، هو أنّ (الخلق والإختلاق) تستعمل في الأكاذيب المدروسة و (الخرق والإختراق) فيما لا حساب فيه من الكذب. أي إنّهم اختلقوا تلك الأكاذيب دون أن يدرسوا جوانب الموضوع وبدون أن يعدّوا له ما يلزم من الامور.

أمّا الطوائف التي كانت تنسب لله البنين ، فإنّ القرآن يذكر في آيات اخرى اسم طائفتين من هؤلاء :

الاولى : هم المسيحيون الذين قالوا : إنّ عيسى ابن الله.

والاخرى : هم اليهود الذين قالوا : عزير ابن الله.

يستفاد من الآية (٣٠) من سورة التوبة أنّ المسيحيين واليهود ليسوا وحدهم الذين نسبوا إبناً لله ، بل كان هذا موجوداً في المعتقدات الخرافية القديمة.

أمّا بشأن نسبة بنات لله ، فالقرآن نفسه يوضّح ذلك في آيات اخرى : (وَجَعَلُوا الْمَلِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثًا) (١).

والقرآن يرفض تماماً في نهاية الآية كل هذه الخرافات التي لا أساس لها ، وبعبارة حاسمة قاطعة : (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ).

__________________

(١) سورة الزخرف / ١٩.

٥٩

والآية التالية تردّ على تلك العقائد الخرافية فتؤكد أنّ الله هو ذلك الذي أبدع خلق السموات والأرض : (بَدِيعُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ).

«البديع» : تعني موجد الشيء بغير سابق وجود ، أى انّ الله أوجد السماوات والأرض بغير أن يسبق ذلك وجود مادة أو خطة سابقة.

ثم كيف يمكن أن يكون له أبناء دون أن تكون له زوجة؟! (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ). وما حاجته إلى زوجة؟ ثم من التي تكون زوجته وهم جميعاً مخلوقاته؟

ومرّة اخرى تؤكد الآية مقامه باعتباره خالقاً لكل شيء ، ومحيطاً بكل شيء : (وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ وَهُوَ بِكُلّ شىْءٍ عَلِيمٌ).

الآية الثالثة تؤكد على سبيل الاستنتاج من كل ما سبق ، من ذكر خالقية الله لكل شيء ، وإبداعه السماوات والأرض وإيجادها ، وكونه منزّهاً عن الصفات والعوارض الجسمية وعن الحاجة إلى الزوجة والأبناء وإحاطته العلمية بكل شيء : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلّ شَىْءٍ فَاعْبُدُوهُ) فلا يستحق العبودية غيره.

ولكي ينقطع كل أمل بغير الله ، وتنقلع كل جذور الشرك والإعتماد على غير الله ، تختتم الآية بالقول : (وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْءٍ وَكِيلٌ).

الآية الاخيرة من الآيات مورد البحث ، ومن أجل إثبات حاكمية الله وإحاطته بكل شيء وحفاظه على كل شيء ، وكذلك لإثبات أنّه يختلف عن كل شيء ، تقول : (لَاتُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). أي : إنّه الخبير بمصالح عبيده وبحاجاتهم ، ويتعامل معهم بمقتضى لطفه.

في الحقيقة أنّ من يريد أن يكون حافظ كل شيء ومربيه وملجأه لابد أن يتّصف بهذه الصفات.

لا تدركه الأبصار : تثبت الأدلة العقلية أنّ الله لا يمكن أن يرى بالعين ، لأنّ العين لا تستطيع أن ترى إلّاالأجسام ، أو على الأصح بعضاً من كيفيات الأجسام ، فإذا لم يكن الشيء جسماً ولا كيفية من كيفيات الجسم ، لا يمكن أن تراه العين ، وبتعبير آخر ، إذا أمكنت رؤية شيء بالعين ، فلأنّ لهذا الشيء حيّزاً واتجاهاً وكتلة ، في حين أنّ الله أرفع من أن يتصف بهذه الصفات ، فهو وجود غير محدود وهو أسمى من عالم المادة المحدود في كل شيء.

٦٠