مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣)

قتال الأقرب فالأقرب : أشارت الآية في سياق أحكام الجهاد التي ذكرت لحد الآن في هذه السورة ـ إلى أمرين آخرين في هذا الموضوع الإسلامي المهم ، فوجهت الخطاب أوّلاً إلى المؤمنين وقالت : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ).

إنّ هذه الآية بالرغم من أنّها تتحدث عن العمل المسلح والبعد المكاني ، إلّاأنّه ليس من المستبعد أنّ روح الآية حاكمة في الأعمال المنطقية والفواصل المعنوية ، أي إنّ المسلمين عندما يعزمون على المجابهة المنطقية والإعلامية والتبليغية يجب أن يبدؤوا بمن يكون أقرب إلى المجتمع الإسلامي وأشدّ خطراً عليه ، فمثلاً في عصرنا الحاضر نرى أنّ خطر الإلحاد والمادية يهدد كل المجتمعات ، فيجب تقديم التصدّي لها على مواجهة المذاهب الباطلة الاخرى ، وهذا لا يعني نسيان هؤلاء ، بل يجب اعطاء الأهمية القصوى للهجوم نحو الفئة الأخطر ، وهكذا في مواجهة الاستعمار الفكري والسياسي والاقتصادي التي تحوز الدرجة الاولى من الأهمية.

والأمر الثاني فيما يتعلق بالجهاد في الآية ، هو اسلوب الحزم والشدّة ، فهي تقول : إنّ العدو يجب أن يلمس في المسلمين نوعاً من الخشونة والشدّة : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) وهي تشير إلى أنّ الشجاعة والشهامة الداخلية والإستعداد النفسي لمقابلة العدو ومحاربته ليست كافية بمفردها ، بل يجب اظهار هذا الحزم والصلابة للعدو ليعلم أنّكم على درجة عالية من المعنويات ، وهذا بنفسه سيؤدّي إلى هزيمتهم وانهيار معنوياتهم.

وبعبارة اخرى فإنّ امتلاك القدرة ليس كافياً ، بل يجب استعراض هذه القوة أمام العدو.

وفي النهاية تبشر الآية المسلمين بالنصر من خلال هذه العبارة : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ). ويمكن أن يشير هذا التعبير ـ إضافةً لما قيل ـ إلى أنّ استعمال الشدّة والخشونة يجب أن يقترن بالتقوى ، ولا يتعدى الحدود الإنسانية في أي حال.

(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (١٢٥)

٣٢١

تأثير آيات القرآن المتباين على القلوب : تشير هاتان الآيتان إلى واحدة من علامات المؤمنين والمنافقين البارزة ، تكملةً لما مرّ من البحوث حولهما. فتقول أوّلاً : (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إِيمنًا). وهم يريدون بكلامهم هذا أن يبينوا عدم تأثير سور القرآن فيهم ، وعدم اعتنائهم بها ، ويقولون : إنّ هذه الآيات لا تحتوي على الشيء المهم والمحتوى الغني ، بل هي كلمات عادية ومعروفة.

ولكن القرآن يجيبهم بلهجة قاطعة ، ويقول ضمن تقسيم الناس إلى طائفتين : (فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمنًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).

وهذا على خلاف المنافقين ومرضى القلوب من الجهل والحسد والعناد (وأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ).

وفي النهاية فإنّ هؤلاء بعنادهم يغادرون الدنيا على الكفر : (وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ).

إنّ القرآن الكريم يؤكّد من خلال هاتين الآيتين على حقيقة ، وهي أنّ وجود البرامج والقوانين الحياتية لا تكفي بمفردها لسعادة فرد أو جماعة ، بل يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار وجود الأرضية المهيئة والإستعداد للتلقي كشرط أساسي.

(أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) (١٢٧)

يستمر الكلام في هذه الآيات حول المنافقين ، وهي توبّخهم وتذمهم فتقول : (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ). والعجيب أنّهم رغم هذه الامتحانات المتلاحقة لا يعتبرون (ثُمَّ لَايَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ).

يظهر من تعبير الآية أنّ هذا الاختبار يختلف عن الاختبار العام الذي يواجهه كل الناس في حياتهم ، بل انّ هذا الاختبارات التي ينبغى أن تكون سبباً في توعية هذه المجموعة كإزاحة الستار عن أعمال هؤلاء السيئة وظهور باطنهم وحقيقتهم.

ثم تشير الآية إلى الموقف الإنكاري لهؤلاء في مقابل الآيات الإلهية ، فتقول : (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ).

٣٢٢

إنّ خوف هؤلاء وقلقهم ناشي من أنّ تلك السورة تتضمن فضيحة جديدة لهم ، أو لأنّهم لا يفهمون منها شيئاً لعمى قلوبهم ، والإنسان عدوّ ما يجهل.

وعلى كل حال ، فإنّهم كانوا يخرجون من المسجد حتى لا يسمعوا هذه الأنغام الإلهية ، إلّا أنّهم كانوا يخشون أن يراهم أحد حين خروجهم ، ولذلك كان أحدهم يهمس في أذن صاحبه ويسأله : (هَلْ يَرَيكُم مِّنْ أَحَدٍ)؟ وإذا ما أطمأنوا إلى أنّ الناس منشغلون بسماع كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغير ملتفتين إليهم خرجوا : (ثُمَّ انصَرَفُوا).

وتطرّقت الآية في الختام إلى ذكر علة هذا الموضوع فقالت : إنّ هؤلاء إنّما لا يريدون سماع كلمات الله سبحانه ولا يرتاحون لذلك لأنّ قلوبهم قد حاقت بها الظلمات لعنادهم ومعاصيهم فصرفها الله سبحانه عن الحق ، وأصبحوا أعداءً للحق لأنّهم أناس جاهلون لا فكر لهم : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَفْقَهُونَ).

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩)

آخر آيات القرآن المجيد : إنّ هذه الآيات برأي بعض المفسّرين ، هي آخر الآيات التي نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبها تنتهي سورة التوبة ، فهي في الواقع إشارة إلى كل المسائل التي مرّت في هذه السورة. ومن هنا فإنّ خطاب الآية الاولى موجّه للناس ، فهي تقول : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ). خاصة وأنّه قد وردت لفظة (مّنْ أَنفُسِكُمْ) وهي تشير إلى شدة إرتباط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالناس ، حتى كأنّ قطعة من روح الناس والمجتمع قد ظهرت بشكل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فبعد ذكر هذه الصفة (مّنْ أَنفُسِكُمْ) أشارت الآية إلى أربع صفات اخرى من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله السامية ، والتي لها الأثر العميق في إثارة عواطف الناس وجلب انتباههم وتحريك أحاسيسهم. ففي البداية تقول : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ). أي أنّ الأمر لا ينتهي في أنّه لا يفرح لأذاكم ومصاعبكم ، بل إنّه لا يقف موقف المتفرج تجاه هذا الأذى ، فهو يتألم لألمكم.

ثم تضيف أنّه : (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) ويتحمس لهدايتكم.

ثم تشير إلى الصفتين الثالثه والرابعة وتقول : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ). وعلى هذا فإنّ

٣٢٣

كل الأوامر الصعبة التي يصدرها ، (حتى المسير عبر الصحاري المحرقة في فصل الصيف المقرون بالجوع والعطش لمواجهة عدو قوي في غزوة تبوك) فإنّ ذلك نوع من محبته ولطفه ، لنجاتكم ولتخليصكم من قبضة الظلم والاستبداد والمعاصى والتعاسة.

وفي الآية التي تليها ، وهي آخر آية في هذه السورة ، وصف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه شجاع وصلب في طريق الحق ، ولا ييأس بسبب عصيان الناس وتمردهم ، بل يستمر في دعوتهم إلى دين الحق : (فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِىَ اللهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ). فهو حصنه الوحيد ... أجل لا حصن لي إلّا الله ، فإليه استندت و (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

إنّ الذي بيده العرش والعالم العلوي وما وراء الطبيعة بكلّ عظمتها ، وهي تحت حمايته ورعايته ، كيف يتركني وحيداً ولا يعينني على الأعداء؟ فهل توجد قدرة لها قابلية مقاومة قدرته؟ أم يمكن تصور رحمة وعطف أشد من رحمته وعطفه؟

نهاية تفسير سورة التوبة

* * *

٣٢٤

١٠

سورة يونس

محتوى وفضيلة السورة : هذه السورة ـ على قول بعض المفسّرين ـ نزلت بعد سورة الإسراء وقبل سورة هود ، وتؤكّد على عدة مسائل أساسية ، وأهمها مسألة المبدأ والمعاد. غاية ما في الأمر أنّها تتحدث أوّلاً عن مسألة الوحي ومقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ تتطرق إلى نماذج وعلامات الخلقة العظيمة التي تدل على عظمة الله عزوجل ، وبعد ذلك تدعو الناس إلى الإلتفات إلى عدم بقاء الحياة المادية في هذه الدنيا ، وحتمية زوالها ، ووجوب التوجه إلى الآخرة والتهيؤ لها عن طريق الإيمان والعمل الصالح.

وقد ذكرت السورة ـ كدلائل وشواهد على هذه المسائل ـ أقساماً مختلفة من حياة كبار الأنبياء ، ومن جملتهم نوح وموسى ويونس عليهم‌السلام ولهذا سمّيت بسورة يونس.

وأخيراً فإنّها تستغل كل فرصة للبشارة والإنذار ، البشارة بالنعم الإلهية التي لا حدود لها للصالحين ، والإنذار والإرعاب للطاغين والعاصين ، لتكملة ما ورد فيها من بحوث.

في كتاب ثواب الأعمال عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ سورة يونس في كل شهرين أو ثلاثة ، لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين ، وكان يوم القيامة من المقربين». وذلك لأنّ آيات التحذير والوعيد وآيات التوعية كثيرة في هذه السورة.

ربّما لا نحتاج أن نذكّر بأنّ فضائل السور لا يمكن تحصيله بمجرد تلاوة الآيات من دون

٣٢٥

إدراك معناها ، ومن دون العمل بمحتواها ، لأنّ التلاوة مقدمة للفهم ، والفهم مقدمة للعمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) (٢)

رسالة النبي : في هذه السورة نواجه ـ مرّة اخرى ـ الحروف المقطعة في القرآن ، والتي ذكرت بصورة (الر). بعد هذه الحروف تشير الآية أوّلاً إلى عظمة آيات القرآن وتقول : (تِلْكَءَايتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ). إنّ التعبير ب «تلك» وهي إسم إشارة للبعيد ، بدل (هذه) التي تشير للقريب ، والذي جاء نظيره في بداية سورة البقرة ، يعتبر من التعبيرات الجميلة واللطيفة في القرآن ، وهو كناية عن عظمة ورفعة مفاهيم القرآن.

إنّ توصيف الكتاب السماوي ـ أي القرآن ـ بأنّه «حكيم» هو إشارة إلى أنّ آيات القرآن محكمة ومنظمة ودقيقة ، بحيث لا يمكن أن يأتيها أو يخالطها أيّ شكل من أشكال الباطل والخرافة ، فهي لا تقول إلّاالحق ، ولا تدعو إلّاإلى طريق الحق.

أمّا الآية الثانية فإنّها تبيّن ـ ولمناسبة تلك الإشارة التي مرّت إلى القرآن والوحي الإلهي في الآية السابقة ـ واحداً من إشكالات المشركين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو نفس الإشكال الذي جاء في القرآن بصورة متكررة ، وهذا التكرار يبيّن أنّ هذا الإشكال من إشكالات المشركين المتكررة ، وهو : لماذا نزل الوحي الإلهي من الله على إنسان مثلهم؟ ولماذا لم تتعهد الملائكة بمسؤولية هذه الرسالة الكبيرة؟ فيجيب القرآن عن هذه الأسئلة فيقول : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ).

إنّ كلمة «منهم» تضمنت الجواب على سؤالهم ، أي إنّ القائد والمرشد إذا كان من جنس أتباعه ، ويعلم أمراضهم ، ومطلع على احتياجاتهم ، فلا مجال للتعجب ، بل العجب أن يكون القائد من غير جنسهم ، بحيث يعجز عن قيادتهم نتيجة عدم اطلاعه على وضعهم.

ثم تشير إلى محتوى الوحي الإلهي وتلخصه في أمرين :

الأوّل : إنّ الوحي الذي أرسلناه ، مهمته إنذار الناس وتحذيرهم من عواقب الكفر

٣٢٦

والمعاصى : (أَن أَنذِرِ النَّاسَ).

والثاني : هو (وَبَشِّرِ الَّذِينَءَامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ).

إنّ «قدم الصدق» هذا إشارة إلى أنّ الإيمان له «سابقة فطرية» أو إشارة إلى مسألة المعاد ونعيم الآخرة ، أو أنّ القدم بمعنى القدوة والزعيم والقائد ، أي إنّنا أرسلنا للمؤمنين قائداً ومرشداً صادقاً.

وأن تكون البشارة بكل هذه الامور هي المرادة من التعبير أعلاه.

وتنهي الآية حديثها بذكر إتهام طالما كرّره المشركون واتهموا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ).

إنّ أمثال هذه التعبيرات التي كانت تصدر من ناحية الأعداء ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دليل بنفسها على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقوم بأعمال خارقة للعادة ، بحيث تجذب القلوب والأفكار نحوها ، خاصه وأنّ التأكيد على السحر في شأن القرآن المجيد هو بنفسه دليل قاطع وقوي على الجاذبية الخارقة الموجودة في هذا الكتاب السماوي ، ولأجل خداع الناس فإنّهم كانوا يجعلونه في إطار السحر.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)

معرفة الله والمعاد : بعد أن أشار القرآن الكريم إلى مسألة الوحي والنبوة في بداية هذه السورة ، انتقل في حديثه إلى أصلين أساسيين في تعليمات وتشريعات جميع الأنبياء ، ألا وهما المبدأ والمعاد ، وبيّن هذين الأصلين ضمن عبارات قصيرة في هاتين الآيتين.

فيقول أوّلاً : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ). أي إنّ الله سبحانه قد خلق السماء والأرض في ستة مراحل.

ثم تضيف الآية : (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبّرُ الْأَمْرَ).

٣٢٧

«العرش» : تأتي أحياناً بمعنى السقف ، وأحياناً بمعنى الشيء الذي له سقف ، وتارةً بمعنى الأسرّة المرتفعة ، هذا هو المعنى الأصلي لها ، أمّا معناها المجازي فهو القدرة.

وبعد أن تبيّن أنّ الخالق والموجد هو الله سبحانه ، اتّضح أنّ الأصنام ، ـ هذه الموجودات الميتة والعاجزة ـ لا يمكن أن يكون لها أيّ تأثير في مصير البشر ، ولهذا قالت الآية في الجملة التالية : (مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ).

وتتحدث الآية التالية ـ كما أشرنا ـ عن المعاد ، وتبيّن في جمل قصار أصل مسألة المعاد ، والدليل عليها ، والهدف منها. فتقول أوّلاً : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا). وبعد الإستناد إلى هذه المسألة المهمة والتأكيد عليها تضيف : (وَعْدَ اللهُ حَقًّا). ثم تشير إلى الدليل على ذلك بقولها : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ).

إنّ الآيات المرتبطة بالمعاد في القرآن توضح أنّ العلة الأساسية في تشكيك وتردد المشركين والمخالفين ، هي أنّهم كانوا يشكّون في إمكان حدوث مثل هذا الشيء ، وكانوا يسألون بتعجب بأنّ هذه العظام النخرة التي تحولت إلى تراب ، كيف يمكن أن تعود لها الحياة وترجع إلى حالتها الاولى؟ ولهذا نرى أنّ القرآن يقول : فإنّ من أوجد العالم في البداية يستطيع أن يعيد ذلك الايجاد.

ثم تبيّن الهدف من المعاد بأنّه لمكافأة المؤمنين على جميع أعمالهم الصالحة حيث لا تخفى على الله سبحانه مهما صغرت : (لِيَجْزِىَ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصلِحتِ بِالْقِسْطِ). أمّا اولئك الذين اختاروا طريق الكفر والإنكار ، ولم تكن لديهم أعمال صالحة ـ لأنّ الإعتقاد الصالح أساس العمل الصالح ـ فإنّ العذاب الأليم وأنواع العقوبات بانتظارهم : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ).

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦)

جانب من آيات عظمة الله : لقد مرّت في الآيات السابقة إشارة عابرة إلى مسألة المبدأ

٣٢٨

والمعاد ، إلّاأنّ هذه الآيات وما بعدها تبحث بصورة مفصلة هذين الأصلين الأساسيين اللذين يمثلان أهم دعامة لدعوة الأنبياء. لقد أشارت الآية الاولى التي نبحثها إلى جوانب من آيات عظمة الله سبحانه في عالم الخلقة فقالت : (هُوَ الَّذِى جَعَلَ الْشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا).

إنّ الشمس التي تعم العالم بنورها لا تعطي النور الحرارة للموجودات فحسب ، بل هي العامل الأساس في نمو النباتات وتربية الحيوانات ، وإذا ما انقطعت هذه الأشعة الحياتية عن كرتنا الأرضية يوماً فإنّ السكون والظلمة والموت سيخيّم على كل شيء في فاصلة زمنية قصيرة.

والقمر بنوره الجميل هو مصباح ليالينا المظلمة ، ولا تقتصر مهمّته على هداية المسافرين ليلاً وإرشادهم إلى مقاصدهم ، بل هو بنوره المناسب يبعث الهدوء والنشاط لكل سكان الأرض.

ثمّ أشارت الآية إلى فائدة اخرى لوجود القمر فقالت : (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ). بل إنّه تقويم طبيعي دقيق جدّاً يستطيع الجاهل والعالم قراءته ، ويقرأ فيه تأريخ أعماله وامور حياته.

ثمّ تضيف الآية : إنّ هذا الخلق والدوران ليس عملاً غير هادف ، أو هو من باب اللعب ، بل (مَا خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقّ).

وفي النهاية تؤكّد الآية : (يُفَصّلُ الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) إلّاأنّ هؤلاء الغافلين وفاقدي البصيرة بالرغم من أنّهم يمرون كثيراً على هذه الآيات والدلائل ، إلّاأنّهم لا يدركون أدنى شيء منها.

وتتطرق الآية الثانية إلى قسم آخر من العلامات والدلائل السماوية والأرضية الدالّة على وجوده سبحانه ، فتقول : (إِنَّ فِى اخْتِلفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ لَأَيتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ). أي إنّ الذين يدركون تلك الآيات هم الذين سمت أرواحهم وصفت نتيجة لتقواهم وبعدهم عن المعاصي.

لقد عدت الآيات أعلاه اختلاف الليل والنهار من آيات الله سبحانه ، وذلك لأنّ نور الشمس إذا استمر في إشعاعه على الأرض ، فإنّ من المسلّم أن درجة الحرارة سترتفع إلى الحد الذي تستحيل معه الحياة على وجه الأرض.

٣٢٩

وكذلك الليل إذا استمر فإنّ كل شيء سينجمد لشدّة البرودة.

إلّا أنّ الله سبحانه قد جعل هذين الكوكبين يتبع أحدهما الآخر لتهيئة أسباب الحياة والمعيشة على وجه الكرة الأرضية.

(إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (١٠)

أهل الجنّة والنار : هذه الآيات تفصيل حول المعاد ومصير الناس في العالم الآخر. ففي البداية يقول : (إِنَّ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا). فهم لا يعتقدون بالمعاد وتجاهلوا الآيات البينات فلم يتدبروا فيها كيما تستيقظ قلوبهم ويتحرك فيهم روح الاحساس بالمسؤولية (وَالَّذِينَ هُمْ عَنءَايتِنَا غَافِلُونَ). فكلتا هاتين الطائفتين مصيرهم إلى النار : (أُولئِكَ مَأْوَيهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).

إنّ النتيجة الطبيعية والحتمية لعدم الإيمان بالمعاد هي الإرتباط بهذه الحياة المحدودة والعلائق المادية ، والاطمئنان بها والإعتماد عليها.

وكذلك فإنّ الغفلة عن الآيات الإلهية هي أساس البعد عن الله سبحانه ، والإبتعاد عن الله هو العلّة لعدم الإحساس بالمسؤولية والتلوّث بالظلم والفساد والمعصية ، وعاقبة ذلك لا تكون إلّاالنار.

إنّ هاتين الآيتين تؤكّدان مرّة اخرى هذه الحقيقة ، وهي أنّ إصلاح مجتمع ما وإنقاذه من نار الظلم والفساد ، يتطلب تقوية رُكني الإيمان بالله والمعاد اللذين هما شرطان ضروريان وأساسيان ، فإنّ عدم الإيمان بالله سبحانه سيقتلع الإحساس بالمسؤولية من وجود الإنسان ، والغفلة عن المعاد يذهب بالخوف من العقاب ، وعلى هذا فإنّ هذين الأساسين العقائديين هما أساس كل الإصلاحات الاجتماعية.

ثم يشير القرآن إلى وضع فئة اخرى في مقابل هذه الفئة ، فيقول : (إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا

٣٣٠

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ). فإنّ نور الهداية الإلهية الذي ينبعث من نور إيمانهم يضيء كل آفاق حياتهم ، وقد اتّضحت لهم الحقائق باشراقات هذا النور بحيث لم تعد شراك المذاهب المادية وزبارجها ، ولا الوساوس الشيطانية وبريق المطامع الدنيوية قادرة على التعتيم على افكارهم ودفعهم في طريق الانحراف عن الصواب والحق.

إنّ وضع هؤلاء في الحياة الاخرى أنّهم (تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

إنّ هؤلاء يرفلون في محيط مملوء بالصلح والصفاء وعشق الله وأنواع النعم ، ففي كل وقت تنير وجودهم نفحة ورشحة من ذات الله وصفاته ، فإنّ (دَعْوَيهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ). وكلما التقى بعضهم بالآخر فإنّهم يتحدثون عن الصفاء والسلام (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلمٌ). وأخيراً فإنّهم كلما إلتذوا بنعم الله المختلفة شكروا ذلك (وَءَاخِرُ دَعْوَيهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ).

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢)

الهمج الرّعاع : الكلام في هذه الآيات يدور كذلك حول عقاب المسيئين ، فتقول الآية الاولى بأنّ الله سبحانه إذا جازى المسيئين على أعمالهم بنفس العجلة التي يحب بها هؤلاء تحصيل النعم والخير ، فستنتهي أعمار الجميع ولا يبقى لهم أثر : (وَلَوْ يُعَجّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ). إلّاأنّ لطف الله سبحانه لما كان شاملاً لجميع العباد ، حتى المسيئين والكافرين والمشركين ، فلا يمكن أن يعجل بعذابهم وجزائهم لعلهم يعون ويتوبون ، ويرجعون عن الضلال إلى الحق والهدى.

وفي الختام تقول الآية : يكفي عقاباً لهؤلاء أن نتركهم وشأنهم ليبقوا في حيرتهم ، فلا هم يميزون الحق من الباطل ، ولا هم يجدون سبيل النجاة من متاهاتهم : (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

عند ذلك تشير الآية إلى وجود نور التوحيد في فطرة الإنسان وأعماق روحه وتقول :

٣٣١

(وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانِ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا).

نعم ... إنّ خاصية المشاكل والشدائد الخطيرة ، أنّها تزيل الحجب عن فطرة الإنسان الطاهرة ، ويسطع عندها ـ ولو لمدّة قصيرة ـ نور التوحيد.

ثم تقول الآية : إنّ هؤلاء الأفراد إلى درجة من الجهل وضيق الافق بحيث إنّهم يعرضون بمجرد كشف الضرّ عنهم ، حتى كأنّهم لم يدعونا ولم نساعدهم : (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَّسَّهُ كَذلِكَ زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

إنّ الله سبحانه هو الذي يزين الأعمال ، وذلك بجعل هذه الخاصية في الأعمال القبيحة والمحرّمة ، بحيث أن الإنسان كلما تلوّث بها أكثر ، فإنّه سيتطبع عليها ، وبمرور الزمن يزول قبحها تدريجياً ، بل وتصل الحال إلى أن يراها حسنة وجميلة.

وأمّا لماذا سمّت الآية أمثال هؤلاء «مسرفين» فلأنّه لا إسراف أكثر من أن يهدر الإنسان أهم رأس مال في وجوده ، ألا وهو العمر والسلامة والشباب والقوى ، ويصرفه في طريق الفساد والمعصية أو في طريق تحصيل متاع الدنيا التافه الفاني ولا يربح من ذلك شيئاً.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٤)

الإعتبار بالظالمين السابقين : تشير هذه الآيات أيضاً إلى معاقبة الأفراد الظالمين والمجرمين في هذه الدنيا ، وقد نبّهت المسلمين ـ بعد أن أطلعتهم على تاريخ من قبلهم ـ إلى أنّهم إذا سلكوا نفس طريق هؤلاء ، فسينتظرهم نفس المصير. فالآية الاولى تقول : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا). ثمّ تضيف : (كَذلِكَ نَجْزِى الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ).

ثمّ تبيّن الآية التالية هذا الأمر بصورة أكثر صراحة وتقول : (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلِفَ فِى الْأَرْضِ مِن بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

يستفاد من جملة : (وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) أنّ الله سبحانه يهلك فقط اولئك الذين لا أمل في إيمانهم حتى في المستقبل ، وعلى هذا فإنّ الأقوام التي يمكن أن تؤمن في المستقبل لا يشملها مثل هذا العقاب.

٣٣٢

(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) (١٧)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان : قيل : نزلت في خمسة نفر (من عبدة الأوثان) ، قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزّى ومناة وهبل ، وليس فيه عيبها ، أو بدّله تكلّم به من تلقاء نفسك.

التّفسير

كتعقيب للآيات السابقة التي كانت تتحدث عن المبدأ والمعاد ، تبحث هذه الآيات نفس الموضوع والمسائل المتعلقة به. في البداية تشير إلى واحد من الإشتباهات الكبيرة لعباد الأصنام ، وتقول : (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرءَانٍ غَيْرِ هذَا أَوْ بَدّلْهُ).

إنّ هؤلاء الجهلة العاجزين لم يرضوا بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائداً ومرشداً لهم ، بل كانوا يدعون لاتباع خرافاتهم وأباطيلهم.

إنّ القرآن الكريم يلفت نظر هؤلاء إلى هذا الإشتباه الكبير ، ويأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقول لهم : (قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاىِ نَفْسِى). ثم يضيف للتأكيد : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ). ولست عاجزاً عن تغيير أو تبديل هذا الوحي الإلهي ـ فحسب ـ بل : (إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

ثم تتطرق الآية التالية إلى دليل هذا الموضوع وتقول : قل لهم بأنّي لست مختاراً في هذا الكتاب السماوي : (قُلْ لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَيكُم بِهِ). والدليل على ذلك :

٣٣٣

(فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ). لكنكم لم تسمعوا منّي مثل هذا الكلام مطلقاً ، ولو كانت هذه الآيات من عندي لتحدثت بها لكم خلال هذه الأربعين سنة ، فهل لا تدركون أمراً بهذه الدرجة من الوضوح : (أَفَلَا تَعْقِلُونَ).

كذلك ، ومن أجل التأكيد يضيف : بأنّي أعلم أنّ أقبح أنواع الظلم هو أن يفتري الإنسان على الله الكذب : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا). وعلى هذا فكيف يمكن أن أرتكب مثل هذا الذنب الكبير.

وكذلك فإنّ التكذيب بآيات الله سبحانه من أشدّ الكبائر وأعظمها : (أَوْ كَذَّبَ بَايَاتِهِ). فإذا كنتم جاهلين بعظمة ما ترتكبونه من الاثم في تكذيب وإنكار آيات الحق ، فإنّي لست بجاهل بها ، وعلى كل حال فإنّ عملكم هذا جرم كبير ، و (إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ).

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٨)

(آلهة بدون خاصية :) واصلت الآية الحديث عن التوحيد أيضاً ، وذلك عن طريق نفي الوهية الأصنام ، وذكرت عدم أهلية الأصنام للعبادة وإنتفاء قيمتها وأهميتها : (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَايَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ).

ثمّ تتطرق إلى إدعاءات عبدة الأوثان الواهية ، (وَيَقُولُونَ هؤُلَاءِ شُفَعؤُنَا عِندَ اللهِ). أي إنّ هذه الأصنام والآلهة تستطيع بشفاعتها أن تكون سبباً للضر والنفع رغم عجزها عن أي عمل بصورة مستقلة.

لقد كان الإعتقاد بشفاعة الأصنام أحد أسباب عبادتها.

إنّ القرآن يقول في دفع هذا الوهم : (قُلْ أَتُنَبُونَ اللهَ بِمَا لَايَعْلَمُ فِى السَّموَاتِ وَلَا فِى الْأَرْضِ). وهو كناية عن أنّ الله سبحانه لو كان له مثل هؤلاء الشفعاء. فإنّه يعلم بوجودهم في أيّ نقطة كانوا من السماء والأرض ، لأنّ سعة علم الله لا تدع أصغر ذرة في السماء والأرض إلّاوتحيط بها علماً.

وفي آخر الآية تأكيد لهذا الموضوع حيث تقول : (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

٣٣٤

(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩)

إنّ هذه الآية ـ تتمة للبحث الذي مرّ في الآية السابقة حول نفي الشرك وعبادة الأصنام ـ تشير إلى فطرة التوحيد لكل البشر ، وتقول : (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً).

إنّ فطرة التوحيد هذه ، والتي كانت سالمة في البداية ، إلّاأنّها قد اختلفت وتلوّثت بمرور الزمن نتيجة الأفكار الضيقة ، والميول الشيطانية والضعف ، فانحرف جماعة عن جادة التوحيد وتوجهوا إلى الشرك ، وقد انقسم المجتمع الإنساني إلى قسمين مختلفين : قسم موحّد ، وقسم مشرك : (فَاخْتَلَفُوا). بناءً على هذا فإنّ الشرك في الواقع نوع من البدعة والانحراف عن الفطرة ، الانحراف المترشح من الأوهام والخرافات التي لا أساس لها.

وقد يطرح هنا هذا السؤال ، وهو : لماذا لا يرفع الله هذا الاختلاف بواسطة عقاب المشركين السريع ، ليرجع المجتمع الإنساني جميعه موحّداً؟

ويجيب القرآن الكريم مباشرة عن هذا السؤال بأنّ الحكمة الإلهية تقتضي حرية البشر في مسير الهداية ، فهي رمز التكامل والرقي ، ولو لم يكن أمره كذلك فإنّ الله سبحانه كان سيقضي بينهم في اختلافاتهم : (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

(وَيَقُولُونَ لَوْ لَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٢٠)

المعجزات المقترحة : مرّة اخرى يتطرق القرآن الكريم إلى اختلاق المشركين للحجج عند امتناعهم عن الإيمان والإسلام : (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِءَايَةٌ مّن رَّبّهِ).

إنّ هؤلاء كانوا يظنون أنّ الإعجاز أمر بيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يستطيع أن يقوم به في أي وقت وبأية كيفية يريد ، ولهذا فإنّ القرآن الكريم يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة : (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ). وبناء على هذا ، فإنّ المعجزة ليست بيدي لآتيكم كل يوم بمعجزة جديدة إرضاءً لأهوائكم وحسب ميولكم ورغباتكم ثمّ لا تؤمنون بعد ذلك بأعذار واهية وحجج ضعيفة.

وفي النهاية تقول الآية بلهجة التهديد : (فَانتَظِرُوا إِنّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ). فانتظروا العقاب الإلهي ، وأنا أنتظر النصر!

٣٣٥

(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣)

يدور الكلام في هذه الآيات ـ أيضاً ـ حول عقائد وأعمال المشركين ، ثم دعوتهم إلى التوحيد ونفي كل أنواع الشرك. فالآية الاولى تشير إلى بعض سلوكيات المشركين الحمقاء ، وتقول : إنّنا عندما نبتلي الناس بالمشاكل والنكبات من أجل إيقاظهم وتنبيههم ، ثم نرفع هذا البلاء عنهم ونذيقهم طعم الراحة والهدوء بعد تلك الضراء ، فإنّهم بدلاً من أن ينتبهوا لهذه الآيات ويرجعوا إلى الصواب ، يسخرون بها ، أو يفسرونها بتفسيرات غير صحيحة ، فمثلاً يفسرون الإبتلاءات والمشاكل بأنّها نتيجة غضب الأصنام ، والنعم والطمأنينة بأنّها دليل على شفقتها ، أو أنّهم يعدون كل هذه الامور صدفة محضة : (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِىءَايَاتِنَا).

إنّ كلمة «مكر» في الآية أعلاه ، والتي تعني بشكل عام إعمال الفكر ، تشير إلى التوجيهات الخاطئة وطرق التهرّب التي يفكر بها المشركون عند مواجهة الآيات الإلهية ، وظهور أنواع البلايا والنعم. إلّاأنّ الله سبحانه حذر هؤلاء بواسطة نبيّه ، وأمره أن (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا).

و «المكر» : في الأصل هو كل نوع من التخطيط المقترن بالعمل المخفي ، وعلى هذا فإنّه يصدق على الله سبحانه كما يصدق على العباد. ومصداق المكر الإلهي في هذه الآية إشارة إلى نفس تلك العقوبات الإلهية التي يحلّ بعضها في نهاية الخفاء وبدون أية مقدمة وبأسرع ما يكون ، بل إنّه يعاقب ويعذب بعض المجرمين بأيديهم أحياناً. وبتعبير آخر فإنّ الله

٣٣٦

سبحانه في أي وقت يريد إنزال العقاب بأحد العباد أو تنبيهه ، فإنّ هذا العقاب سيتحقق مباشرة ، في حين أنّ الآخرين ليسوا كذلك.

ثم يهدد هؤلاء بأن لا تظنوا أنّ هذه المؤامرات والخطط ستُنسى ، بل إنّ رسلنا ـ أي الملائكة ـ يكتبون كل هذه المخططات التي تهدف إلى إطفاء نور الحق : (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) ولذلك يجب أن تهيئوا أنفسكم للجواب والعقاب في الحياة الاخرى.

وتغوص الآية التالية في أعماق فطرة البشر ، وتوضح لهؤلاء حقيقة التوحيد الفطري ، وكيف أنّ الإنسان عندما تلّم به المشاكل الكبيرة وفي أوقات الخطر ، ينسى كل شيء إلّاالله تبارك وتعالى ويتعلق به. تقول الآية : (هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ). في هذا الحال بالضبط تذكروا الله ودعوه بكل إخلاص وبدون أية شائبة من الشرك ، و (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ). فيرفعون أيديهم في هذا الوقت للدعاء : (لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). فلا نظلم احداً ولانشرك بعبادتك غيرك.

ورغم أنّ هذه اليقظة مؤقتة ، وليس لها أثر تربوي في الأفراد الملوّثين جدّاً ، أنّها تقيم الحجّة عليهم ، وستكون دليلاً على محكوميتهم.

أمّا الذين تلوثوا بالمعاصي قليلاً ، فإنّهم سيتنبهون في هذه الحوادث ويصلحون مسارهم.

ولكن ما أن أنجاهم الله وأوصلهم إلى شاطىء النجاة بدؤوا بالظلّم والجور : (فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ). لكن يجب أن تعلموا ـ أيّها الناس ـ إنّ نتيجة ظلمكم ستصيبكم أنتم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم). وآخر عمل تستطيعون عمله هو أن تتمتعوا قليلاً في هذه الدنيا : (مَّتَاعَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

ملاحظتان

١ ـ لقد ذكرت «الرحمة» في الآيات أعلاه مقابل «الضراء» ولم تذكر السراء ، وهي إشارة إلى أنّ أي حسن ونعمة تصل إلى الإنسان فهي من الله سبحانه ورحمته اللامتناهية ، في حين أنّ السوء والنقمات إذا لم تكن للعبرة ، فإنّها من آثار أعمال الإنسان نفسه.

٢ ـ إنّ جملة (أُحِيطَ بِهِمْ) تعني أنّ هؤلاء قد أحاطت بهم الأمواج المتلاطمة من كل

٣٣٧

جانب ، إلّاأنّها هنا كناية عن الهلاك والفناء الحتمي لهؤلاء.

(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٥)

لوحة الحياة الدنيا : مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عدم استقرار ودوام الحياة الدنيا ، ففي الآية الاولى من الآيات التي نبحثها تفصيل لهذه الحقيقة ضمن مثال لطيف وجميل لرفع حجب الغرور والغفلة من أمام نواظر الغافلين والطغاة (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنهُ مِنَ السَّمَاءِ).

إنّ قطرات المطر هذه تسقط على الأراضي التي لها قابلية الحياة. وبهذه القطرات ستنمو مختلف النباتات التي يستفيد من بعضها الإنسان ، ومن بعضها الآخر الحيوانات (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعمُ).

إنّ هذه النباتات علاوة على أنّها تحتوي على الخواص الغذائية المهمة للكائنات الحيّة الاخرى ، فإنّها تغطي سطح الأرض وتضفي عليها طابعاً من الجمال (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ). في هذه الأثناء حيث تتفتح الجنابذ وتورق أعالي الأشجار وتعطي ذلك المنظر الزاهي وتبتسم الأزهار وتتلألأ الأعشاب تحت أشعة الشمس ، وتتمايل الأغصان طرباً مع النسيم ، وتُظهر حبات الغذاء والأثمار أنفسها شيئاً فشيئاً وتجسم جانباً دائب الحركة من الحياة بكلّ معنى الكلمة ، وتملأ القلوب بالأمل ، والعيون بالسرور والفرح ، بحيث (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا). في هذه الحال وبصورة غير مرتقبة يصدر أمرنا بتدميرها ، سواء ببرد قارص ، أو ثلوج كثيرة ، أو إعصار مدمّر ، ونجعلها كأن لم تكن شيئاً مذكوراً (أَتهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ).

إنّ جملة (لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) تعني أنّها لم تكن بالأمس هنا ، وهذا كناية عن فناء الشيء بالكلية بصورة كأنّه لم يكن له وجود مطلقاً.

٣٣٨

وللتأكيد تقول الآية في النهاية : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْأَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

إنّ الآية التالية أشارت بجملة قصيرة إلى الحياة المقابلة لهذه الحياة ، وقالت : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلمِ).

فلا خبر هناك عن مطاحنات واعتداءات المتكالبين على الحياة المادية ، ولا حرب ولا إراقة دماء ولا استعمار ولا استثمار.

ثم تضيف الآية : إنّ الله سبحانه يهدي من يشاء ـ إذا كان لائقاً لهذه الهداية ـ إلى صراطه المستقيم ، ذلك الصراط التي ينتهي إلى دار السلام ومركز الأمن والأمان (وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٢٧)

بيض الوجوه وسود الوجوه : مرّت الإشارة في الآيات السابقة إلى عالم الآخرة ويوم القيامة ، ولهذه المناسبة فإنّ هذه الآيات تبيّن مصير الصالحين وعاقبة المذنبين فتقول في البداية : (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ). والمقصود من الزيادة في هذه الجملة ، هو الثواب المضاعف الكثير ، الذي يتضاعف أحياناً عشر مرات ، واخرى آلاف المرات حسب نسبة الإخلاص والطهارة والتقوى وقيمة العمل.

ثم تضيف الآية : (وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ). «يرهق» : مأخوذة من مادة «رهق» وهي بمعني التغطية القهرية والجبرية ، و «القتر» : بمعنى «الغبار» والدخان.

وفي النهاية تقول : (أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). التعبير بالأصحاب إشارة إلى التناسب الموجود بين روحية هذه المجموعة ومحيط الجنة.

ثم يأتي الحديث في الآية التالية عن أصحاب النار الذين يشكلون الطرف المقابل للمجموعة الاولى ، فتقول : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيَاتِ جَزَاءُ سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا). وهنا لا يوجد كلام عن الزيادة ، لأنّ الزيادة في الثواب فضل ورحمة ، أمّا في العقاب فإنّ العدالة توجب أن

٣٣٩

يكون بقدر الذنب ولا يزيد ذرة واحدة. إلّاأنّ هؤلاء عكس الفريق الأوّل مسودة وجوههم (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ).

وهذه هي خاصية وأثر العمل الذي ينعكس من داخل روح الإنسان إلى الخارج.

فقد يظن المسيئون أنّهم سوف يكون لهم طريق للهرب أو النجاة ، أو أنّ الأصنام وأمثالها تستطيع أن تشفع لهم ، إلّاأنّ الجملة التالية تقول بصراحة : (مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ).

إنّ وجوه هؤلاء مظلمة ومسودة إلى الحد الذي (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِمًا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)(٣٠)

مشهد من قيامة عبدة الأوثان : تتابع هذه الآيات أيضاً البحوث السابقة حول المبدأ والمعاد ووضع المشركين ، فتقول أوّلاً : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ).

ثم تضيف : أنّنا سوف نعزل هاتين الفئتين ـ أي العابدون والمعبودون ـ عن بعضهم البعض ، ونسأل كلاً منهما على انفراد ، تماماً كما هو المتداول في كل المحاكم حيث يسأل كل واحد على انفراد ، فنسأل العابدين : بأي دليل جعلتم هذه الأصنام شريكة لله وعبدتموها؟ ونسأل المعبودين : لماذا أصبحتم معبودين؟ أو لماذا رضيتم بهذا العمل؟ (فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ).

في هذه الأثناء ينطق الشركاء الذين صنعتهم أوهام هؤلاء : (وَقَالَ شُرَكَاؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) فأنتم كنتم تعبدون أهواءكم وميولكم وأوهامكم.

ثمّ ، ومن أجل التأكيد الأشد ، يقولون : (فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ).

والمراد من الأصنام والشركاء في هذه الآية أنّها تشمل كل المعبودات ، غاية ما في الأمر أنّ المعبودات التي لها عقل وشعور تعيد الحقائق وتذكرها بلسانها ، أمّا المعبودات التي لا

٣٤٠