مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

(فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ). ولكن فرعون ليس من شأنه هداية الناس إلى الحياة السعيدة أوضمان نجاتهم وتكاملهم : (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ).

ويوم الحشر حين يأتي الناس عرصات القيامة فإنّ زعماؤهم وقادتهم في الدنيا هم الذين سيقودوهم هناك حين يُرى فرعون هناك : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ) وبدلاً من أن ينقذهم ويخلصهم من حرارة المحشر وعطشه يوصلهم إلى جهنم (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ). فبدلاً من أن يسكن عطش أتباعه هناك يحرق وجودهم وبدلاً من الإرواء يزيدهم ظمأ إلى ظمأ.

ثم يقول القرآن : (وَأُتْبِعُوا فِى هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيمَةِ). فأسماؤهم الذليلة تثبت على صفحات التاريخ أبداً على أنّهم قوم ضالون وجبابرة ، فقد خسروا الدنيا والآخرة وساءت النار لهم عطاء وجزاءً (بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ).

«الرفد» : في الأصل معناه الإعانة على القيام بعمل معين ، ثمّ أطلقت هذه الكلمة على العطاء لأنّه إعانة من قِبَل المُعطي إلى المُطعى له.

(ذلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) (١٠٤)

في آيات هذه السورة تبيان لقصص سبعة أقوام من الأقوام السابقين ولمحات من تاريخ أنبيائهم ، وهنا إشارة إلى جميع تلك القصص ، فيتحدث القرآن عن صورة مستجمعة لما مرّ من الحوادث والأنباء حيث يقول : (ذلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ).

«قائم» : تشير إلى المدن والعمارات التي لا تزال باقية من الأقوام السابقين.

«حصيد» : معناها اللغوي قطع النباتات بالمنجل ، وفي هذه الكلمة إشارة إلى بعض

٤٢١

الأراضي البائرة ، كأرض قوم نوح وأرض قوم لوط ، حيث إنّ واحدة منهما دمرها الغرق والثانية امطرت بالحجارة.

(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) حيث ركنوا ولجأوا إلى الأصنام والآلهة «المزعومة» (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْءَالِهَتُهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ مِن شَىْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبّكَ) بل زادوهم ضرراً وخسراناً (وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١).

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ) فلا يدعها على حالها و (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

هذا قانون إلهي عام ومنهج دائم ، فما من قوم أو امة من الناس يتجاوزون حدود الله ويمدون أيديهم للظلم ولا يكترثون لنصائح أنبيائهم ومواعظهم ، إلّاأخذهم الله أخذاً شديداً واعتصرتهم قبضة العذاب.

وبالطبع فإنّ الظلم بمعناه الواسع يشمل جميع الذنوب ، ووصُفت القرية أو المدينةُ بأنّها «ظالمة» مع أنّ الوصف ينبغي أن يكون لساكنيها ، فكأنّما هناك مسألة دقيقة وهي أنّ أهل هذه المدينة انغمسوا في الظلم إلى درجة حتى كأنّ المدينة أصبحت مغموسة في الظلم أيضاً.

وبما إنّ هذا قانون كلي فإنّ القرآن يقول مباشرة : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْأَخِرَةِ). لأنّ الدنيا لا تعدّ شيئاً إزاء الآخرة ، وجميع ما في الدنيا حقير حتى ثوابها وعقابها ، والعالم الآخر أوسع ـ من جميع النواحي ـ من هذه الدنيا ، فالمؤمنون بيوم القيامة ينظرون بعين العبرة لدى مشاهدة هذه المُثُل والنماذج في الدنيا ، ويواصلون طريقهم.

وفي ختام الآية إشارة إلى وصفين من أوصاف يوم القيامة حيث يقول القرآن : (ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ).

هي إشارة إلى أنّ القوانين والسنن الإلهية كما هي عامّة في هذا العالم ، فإنّ اجتماع الناس في تلك المحكمة الإلهية أيضاً عام.

وبما أنّ البعض قد يتوهم أنّ الحديث عن ذلك اليوم لم يحن أجله فهو نسيئة وغير معلوم وقت حلوله ، لهذا فإنّ القرآن يقول مباشرة : (وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ).

وذلك أيضاً لمصلحة واضحة جليّة ليرى الناس ميادين الاختبار والتعلم ، وليتجلى آخر منهج للأنبياء.

__________________

(١) «التتبيب» : مشتق من مادة «تبّ» ومعناه الاستمرار في الضرر ، وقد يأتي بمعنى الهلاك أيضاً.

٤٢٢

والتعبير بكلمة «معدود» إشارة إلى قرب يوم القيامة ، لأنّ كل شيء يقع تحت العدّ والحساب فهو محدود وقريب.

(يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨)

السعادة والشقاوة : أشير في الآيات المتقدمة إلى مسألة القيامة واجتماع الناس كلهم في تلك المحكمة العظيمة ... وهذه الآيات ـ محل البحث ـ بيّنت زاوية من عواقب الناس ومصيرهم في ذلك اليوم ، إذ تقول الآيات أوّلاً : (يَوْمَ يَأْتِ لَاتَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ).

إنّ الناس يقطعون في ذلك اليوم مراحل مختلفة ... وكل مرحلة لها خصوصياتها ، ففي قسم من المراحل لا يُسألون أبداً حتى أنّ أفواههم يُختم عليها فلا يتكلمون ، وإنّما تنطق أعضاء أجسادهم التي حفظت آثار أعمالها بلغة من دون لسان ، وفي المراحل الاخرى يرفع الختم أو القفل عن أفواههم ويتكلمون بإذن الله فيعترفون بأخطائهم وذنوبهم ويلوم المخطئون بعضهم بعضاً ، بل يحاولون أن يُلقوا تبعات أوزارهم على غيرهم.

ويشار في نهاية الآية إلى تقسيم الناس جميعاً إلى طائفتين : طائفة محظوظة ، واخرى بائسة تعيسة (فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ). وليس هذا الشقاء وتلك السعادة سوى نتيجة الأعمال والأقوال والنيّات التي سلفت من الإنسان في الدنيا.

ثم تشرح الآيات حالات السعداء والأشقياء حيث تقول : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ). وتضيف حاكية عن حالهم أيضاً : (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّموَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَّا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِى الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّموَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ).

الطريف أنّ لفظ «شقوا» في الآيات المتقدمة ورد بصيغة المبني للمعلوم ، ولفظ «سعدوا» ورد بصيغة المبني للمجهول ، ولعل في هذا الاختلاف في التعبير إشارة لطيفة إلى هذه المسألة الدقيقة ، وهي أنّ الإنسان يطوي طريق الشقاء بخطاه ، ولكن لابد لطيّ طريق السعادة من

٤٢٣

الإمداد والعون الإلهي ، وإلّا فإنّه لا يوفّق في مسيره ، ولا شك أنّ هذا الإمداد والعون يشمل اولئك الذين يخطون خطواتهم الاولى بإرادتهم واختيارهم فحسب وكانت فيهم اللياقة والجدارة لهذا الإمداد. (فلاحظوا بدقة).

بحثان

١ ـ مسألة الخلود في القرآن : معنى «الخلود» لغة البقاء الطويل ، كما جاء بمعنى الأبد أيضاً ، فكلمة «الخلود» لا تعني الأبد وحده لأنّه تشمل كل بقاء طويل. ولكن ذُكرت في كثير من آيات القرآن مع قيود يفهم منها معنى الأبد ، فمثلاً في الآية (١٠٠) من سورة التوبة ، والآية (١١) من سورة الطلاق ، والآية (٩) من سورة التغابن ، حين تذكر هذه الآيات أهل الجنّة تأتي بالتعبير عنهم (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) ومفهومها أبدية الجنة لهؤلاء ، ونقرأ في آيات القرآن الاخرى وصف أهل النار كالآية (١٦٩) من سورة النساء ، والآية (٢٣) من سورة الجن هذا التعبير أيضاً (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) وهو دليل على عذابهم الأبدي.

وتعبيرات اخرى مثل الآية (٣) من سورة الكهف (مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا) والآية (١٠٨) من سورة الكهف أيضاً : (لَايَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) وأمثالها تدل بصورة قطعية على أنّ طائفة من أهل الجنة وطائفة من أهل النار سيبقون في العذاب أو النعمة.

فالآيات ـ محل البحث ـ أيضاً تبيّن الدوام.

٢ ـ أسباب السعادة والشقاء : السعادة ضالة كل الناس ، وهي توفّر أسباب تكامل الفرد في المجتمع ، والنقطة المقابلة لها هي الشقاء وهو عبارة عن عدم مساعدة الظروف للنجاح والتقدم والتكامل. ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ أساس السعادة أو الشقاء هو إرادة الإنسان نفسه ، فهو يستطيع أن يوفر الوسائل لترشيد نفسه وحتى مجتمعه ، وهو الذي يستطيع أن يواجه عوامل الشقاء ويهزمها أو يستسلم لها.

وليس الشقاء أو السعادة في منطق الوحي ومدرسة الأنبياء شيئاً من ذات الإنسان وحتى النواقص في المحيط والعائلة والوراثة كل ذلك قابل للتغيير بتصميم الإنسان وإرادته إلّا أن ننكر أصل الإرادة في الإنسان وحريته ، ونعدّه محكوماً بالظروف الجبرية ، وكل من سعادته أو شقائه ذاتي أو هو نتيجة جبرية لمحيطه ، وما إلى ذلك.

وهذا الرأي مرفوض في نظر الأنبياء وفي نظر المذهب العقلي أيضاً.

الطريف أنّنا نجد في الرّوايات المنقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل البيت عليهم‌السلام إشارات إلى مسائل

٤٢٤

مختلفة على أنّها أسباب السعادة ، أو أسباب الشقاء ... بحيث يتعرف الإنسان خلال مطالعتها على طريقة التفكير الإسلامي في هذه المسألة المهمّة ، وسيقفُ على الواقعيات العينية وأسباب السعادة الحقيقية.

في كتاب الخصال عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن جدّه أميرالمؤمنين علي عليه‌السلام أنّه قال : «حقيقة السعادة أن يختم للرجل عمله بالسعادة ، وحقيقة الشقاوة أن يختم للمرء عمله بالشقاوة».

ويقول نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً : «أربع من السعادة وأربع من الشقاوة ، فالأربع التي من السعادة : المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والجار الصالح ، والمركب البهيّ. والأربع التي من الشقاوة : الجار السوء ، والمرأة السوء ، والمسكن الضيق ، والمركب السوء» (١).

وإذا لاحظنا أسباب السعادة والشقاوة في الأحاديث المتقدمة وحقيقتهما وأثرهما البالغ في حياة البشر ، وقارنّاهما مع الأسباب والمسائل الخرافية التي يعتقد بها جمع كثير ـ حتى في عصرنا ـ لوصلنا إلى هذا الواقع الذي يؤكّد أنّ التعاليم الإسلامية منطقية ومدروسة إلى أقصى حد.

(فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٢)

الاستقامة والثبات : هذه الآيات بمثابة تسلية لخاطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أنّها نازلة لبيان وظيفته ومسؤوليته ، وفي الواقع إنّ من أهم النتائج التي يُتوصل إليها من القصص السابقة للُامم الماضية هي أن لا يكترث النبي ومن معه من أتباعه المؤمنون حقاً من كثرة الأعداء ، ولا يخافوا منهم ، ولا يشكّوا أو يتردّدوا في هزيمة عبدة الأصنام والظالمين الذي يقفون بوجوههم ، وأن يواصلوا طريقهم ويعتمدوا على الله واثقين به. لذلك يقول القرآن الكريم في

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٣ / ١٥٤ / ٣٤.

٤٢٥

هذا الصدد : (فَلَا تَكُ فِى مِرْيةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُءَابَاؤُهُم مِّن قَبْلُ) (١).

ويقول بعدها مباشرة : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ).

إنّ هذه الآية تجسّم هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما قرأناه من قصص الامم السابقة لم يكن أسطورة ، كما أنّها لا تختص بالماضين ، فهي سنّة أبدية وخالدة وهي لجميع الناس ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

ويسلّي القرآن قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة اخرى ، فيحدّثه عن موسى وقومه قائلاً : (وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ). ويقول إذا ما رأيت أنّ الله لا يعجل العذاب على قومك ، فلأنّ مصلحة الهداية والتعليم والتربية لقومك توجب ذلك وإلّا فإنّ القرار الالهي المسبق يقتضي التعجيل بعملية التحكيم والقضاء وبالتالي إنزال العقاب (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مِّنْهُ مُرِيبٍ).

«مريب» : مشتقة من «الريب» ومعناه الشك المقترن بسوء الظن والنظرة السيئة والقرائن المخالفة ، وعلى هذا فيكون مفهوم هذه الكلمة أنّ عبدة الأصنام ما كانوا يترددون في مسألة حقيقة القرآن أو نزول العذاب على المفسدين فحسب ، بل كانوا يدّعون بأنّ لديهم قرائن تخالف ذلك أيضاً.

ويضيف القرآن لمزيد التأكيد : (وَإِنَّ كُلًّا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ). وهذا الأمر ليس فيه صعوبة على الله ولا حرج إذ : (إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

الطريف أنّ القرآن يقول : (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ) ليشير مرّة اخرى إلى مسألة تجسم الأعمال وأنّ الجزاء والثواب هما في الحقيقة أعمال الإنسان نفسه التي تتخذ شكلاً آخر وتصل إليه ثانية.

وبعد ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة ورمز نجاحهم ونصرهم ، وبعد تسلية قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقوية إرادته ، يبيّن القرآن ـ عن هذا الطريق ـ أهمّ دُستور امر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ).

«استقم» في طريق الإرشاد والتبليغ وأداء الوظائف الإلهية ونشر التعليمات القرآنية. ولكن هذه الإستقامة ليست لينال فلان أو فلان مستقبلاً زاهراً ، بل هي لمجرد طاعة الله

__________________

(١) «المِرية» : معناها التردد في التصميم على أمر ما ....

٤٢٦

واتّباع أمره. كما أنّ هذه الإستقامه ليست عليك وحدك ، فعليك أن تستقيم أنت (وَمَن تَابَ مَعَكَ) استقامة خالية من كل زيادة ونقصان وإفراط أو تفريط (وَلَا تَطْغَوْا) إذ (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ولا تخفى عليه حركة ولا قول ولا أي خطة اخرى ... الخ.

المسؤولية الكبيرة : في تفسير الدرّ المنثور عن ابن عباس أنّ الصحابة قالوا يا رسول الله لقد أسرع إليك الشيب؟ قال : «أجل ، شيبتني هود وأخواتها».

وفي رواية اخرى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزلت هذه الآية قال : «شمّروا شمّروا فما رُئي ضاحكاً». والدليل واضح ، لأنّ أربعة أوامر مهمة موجودة في هذه الآية يلقي كل واحد منها عبئاً ثقيلاً على الكتف.

واليوم مسؤوليتنا المهمة ـ نحن المسلمين أيضاً ، وبالخصوص قادة الإسلام ـ تتلخص في هذه الكلمات الأربعة. وهي : الاستقامة ، والإخلاص ، وقيادة المؤمنين ، وعدم الطغيان والتجاوز. ودون ربط هذه الامور بعضها إلى بعض فإنّ النصر على الأعداء الذين أحاطونا من كل جانب من الداخل والخارج ، واستفادوا من جميع الأساليب الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية ... هذا النصر لايكون سوى أوهام في مخيلة المسلمين.

(وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)(١١٣)

الركون إلى الظالمين : إنّ هذه الآية تبيّن واحداً من أقوى وأهم الاسس والبرامج الاجتماعية والسياسية والعسكرية والعقائدية ، فتخاطب عامة المسلمين ليؤدوا وظيفتهم القطعية فتقول : (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (١). والسبب واضح (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) ومعلوم عندئذ حالكم (ثُمَّ لَاتُنصَرُونَ).

في أي الامور لا ينبغي الركون إلى الظالمين؟ بديهي أنّه في الدرجة الاولى لا يصح الإشتراك معهم في الظلم أو طلب الإعانة منهم ، وبالدرجة الثانية الاعتماد عليهم فيما يكون فيه ضعف المجتمع الإسلامي وسلب استقلاله واعتماده على نفسه وتبديله إلى مجتمع تابع

__________________

(١) «الركون» : مشتق من مادة «رُكن» ومعناه العمود الضخم من الحجر أو الجدار الذي يربط البناء أو الأشياءالاخرى بعضها إلى بعض ، ثمّ اطلق هذا اللفظ على الإعتماد أو الاستناد إلى الشيء.

٤٢٧

وضعيف لا يستحق الحياة ، لأنّ هذا الركون ليس فيه نتيجة سوى الهزيمة والتبعية للمجتمع الإسلامي. وأمّا ما نلاحظه أحياناً من مسائل التبادل التجاري والروابط العلمية بين المسلمين والمجتمعات غير الإسلامية على أساس حفظ منافع المسلمين واستقلال المجتمعات الإسلامية وثباتها ، فهذا ليس داخلاً في مفهوم الركون إلى الظالمين ولم يكن شيئاً ممنوعاً من وجهة نظر الإسلام ، وفي عصر النبي نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله والأعصار التي تلته كانت هذه الامور موجودة وطبيعية أيضاً.

(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١١٥)

الصلاة والصبر : هذه الآيات تشير إلى أمرين من أهمّ الأوامر الإسلامية ، وهما في الواقع روح الإيمان وقاعدة الإسلام ، فيأتي الأمر أوّلاً بالصلاة : (وَأَقِمِ الصَّلَوةَ طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّيْلِ).

وظاهر التعبير من (طَرَفَىِ النَّهَارِ) هو بيان صلاة الصبح وصلاة المغرب اللتين يقعان طرفي النهار ؛ و «الزلف» : جمع «زلفة» التي تعني القرب ، ويشار بها إلى أوّل الليل القريب من النهار فتنطبق على صلاة العشاء.

ولأهمية الصلوات اليومية ـ خاصة ـ وجميع العبادات والطاعات والحسنات ـ عموماً ـ فإنّ القرآن يشير بهذا التعبير : (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيَاتِ ذلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ).

والآية آنفة الذكر كسائر آيات القرآن تبيّن تأثير الأعمال الصالحة في محو أثر الأعمال السيئة.

العمل الصالح الصادر من الهدف الإلهي يهب روح الإنسان لطافةً بامكانها أن تغسل آثار الذنوب وأن تبدّل ظلمات نفسه إلى أنوار.

الأهمية القصوى للصلاة : تلاحظ في الرّوايات المتعددة المنقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام تعبيرات تكشف عن الأهمية الكبرى للصلاة في نظر الإسلام. في تفسير مجمع البيان عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنّه قال : «كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد ، ننتظر الصلاة فقام رجل فقال : يا رسول الله إنّي أصبت ذنباً. فأعرض عنه ، فلمّا قضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصلاة قام الرجل فأعاد القول ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أليس قد صلّيت معنا هذه الصلاة ، وأحسنت لها الطهور؟ قال بلى. قال : فإنّها كفارة ذنبك».

٤٢٨

متى ما أدّيت الصلاة بشرائطها فإنّها تنقل الإنسان إلى عالم من المعنوية والروحانية بحيث توثق علائقه الإيمانية بالله ، وتغسل عن قلبه وروحه الأدران وآثار الذنوب.

الصلاة تجير الإنسان من الذنب ، وتجلو صدأ القلوب.

الصلاة تجذّر الملكات السامية للإنسان في أعماق الروح البشرية ، والصلاة تقوي الإرادة وتطهر القلب والروح ، وبهذا الترتيب فإن الصلاة الواعية الفاعلة هي مذهب تربوي عظيم.

وتعقيباً على تأثير الصلاة في بناء شخصية الإنسان وبيان تأثير الحسنات على محو السيئات ، يأتي الأمر بالصبر في الآية الاخرى بعدها : (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَايُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ). ومعنى ذلك أنّ العمل الصالح لا يتيسر دون صبر ومقاومة.

إنّ «الصبر» في هذه الآية يشمل كل أنواع الصبر أمام المشاكل والمخالفات والأذى والطغيان والمصائب المختلفة ، فالصمود أمام جميع هذه الحوادث يندرج تحت مفهوم الصبر.

«الصبر» أصل كلي وأساس إسلامي ، يأتي أحياناً في القرآن مقروناً بالصلاة ، ولعل ذلك آتٍ من أنّ الصلاة تبعث في الإنسان الحركة ، والأمر بالصبر يوجد المقاومة ، وهذان الأمران ، أي «الحركة والمقاومة» حين يكونان جنباً إلى جنب يثمران كل اشكال النجاح والموفقية.

(فَلَوْ لَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (١١٧)

عامل الإنحراف والفساد في المجتمعات : من أجل إكمال البحوث السابقة ذكر في هاتين الآيتين أصل أساسي اجتماعي يضمن نجاة المجتمعات من الفساد ، وهو أنّه مادام هناك في كل مجتمع طائفة من العلماء المسؤولين والملتزمين الذين يحاربون كل اشكال الفساد والانحراف ، ويأخذون على عاتقهم قيادة المجتمع فكرياً وثقافياً ودينياً ، فإنّ هذا المجتمع سيكون مصوناً من الزيغ والانحراف.

لكن متى ما سكت عن الحق أهله وحماته ، وبقي المجتمع دون مدافع أمام عوامل الفساد ، فإنّ انتشار الفساد ومن ورائه الهلاك أمر حتمي.

الآية الاولى أشارت إلى القرون والأمم المتقدمة الذين ابتلوا بأشد أنواع البلاء قائلة : (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الْأَرْضِ).

٤٢٩

إنّ أثر (أُولُوا بَقِيَّةٍ) في بقاء المجتمع حساس للغاية ، حتى يمكن القول : إنّ المجتمع من دون «اولي بقية» يُسلب حق الحياة ، ومن هنا فقد وردت الإشارة إليهم في الآية المتقدمة.

ثم تستثني جماعة فتقول : (إِلَّا قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ).

هذه الجماعة القليلة وإن كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ولكنها كحال لوط عليه‌السلام واسرته الصغيرة ، ونوح والمعدودين ممّن آمن به ، وصالح وجماعة من أتباعه ، فإنّهم كانوا قلّة لم توفق للإصلاح العام والكلي في المجتمع.

إنّ الظالمين الذين كانوا يشكلون القسم الأكبر من المجتمع اتبعوا لذاتهم وتنعمهم ، وكما تقول الآية : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ). يعنى متى كان المجتمع ظالماً ولكنه مقبل على اصلاح نفسه ، فهذا المجتمع يبقى ، ولكن إذا كان المجتمع ظالماً ولم يُقبل على نفسه فيصلحها أو يطهرها فإنّ مصيره إلى الفناء والهلاك.

فهذا التنعم والتلذذ غير المقيد وغير المشروط أساس الانحرافات في المجتمعات المرفهة ، لأنّ سكرها من شهواتها يصدها عن إعطاء القيم الإنسانية الأصيلة حقها ودرك الواقعيات الاجتماعية ، ويغرقها في العصيان والآثام.

وللتأكيد على هذه الحقيقة ، تأتي الآية الثانية لتقول : إنّ هذا الذي ترون من إهلاك الله للُامم ، إنّما كان لعدم وجود المصلحين فيهم (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).

(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(١١٩)

في الآية الاولى محل البحث إشارة إلى واحدة من سنن الخلق والوجود والتي تمثّل اللبنات التحتية لسائر المسائل المرتبطة بالإنسان ... وهي مسألة الاختلاف والتفاوت في بناء الإنسان روحاً وفكراً وجسماً وذوقاً وعشقاً ، ومسألة حرية الإرادة والاختيار. تقول الآية : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ). لئلا يتصور أحد من الناس أنّ تأكيد الله وإصراره على طاعة أمره دليل على عدم قدرته على أن يجعلهم في سير واحد ومنهج واحد.

لكن مثل هذا الإيمان لا تكون فيه فائدة ولا في مثل هذا الاتحاد ... فالإيمان القسري

٤٣٠

الذي ينبع من هدف غير إرادي لا يكون علامة على شخصية الفرد ولا وسيلة للتكامل ، ولا يوجب الثواب.

إلّا أنّ قيمة الإنسان وامتيازه وأهم ما يتفاوت فيه عن سائر الموجودات هي هذه الموهبة ، وهي حرية الإرادة والاختيار ، وكذلك امتلاك الأذواق والأطباع والأفكار المتفاوتة التي يصنع كل واحد منها قسماً من المجتمع ويؤمّن بُعداً من أبعاده.

ومن طرف آخر فإنّ الاختلاف في انتخاب العقيدة والمذهب أمر طبيعي.

ولهذا يقول القرآن الكريم في الآية الاخرى : (إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ). ولكن هذه الرحمة الإلهية ليست خاصه بجماعة معينة ، فالجميع يستطيعون «شريطة رغبتهم» أن يستفيدوا منها (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ).

الأشخاص الذين يريدون أن يستظلوا برحمة الله فإنّ الطريق مفتوح لهم ... الرحمة التي أفاضها الله لجميع عباده عن طريق تشخيص العقل وهداية الأنبياء.

ومتى ما استفادوا من هذه الرحمة والموهبة ، فإنّ أبواب الجنة والسعادة الدائمة تفتح بوجوههم ، وإلّا فلا : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

إنّ هذا الأمر المحتوم فيه شرط واحد وهو الخروج من دائرة رحمة الله ، والتقهقر عن هداية الرسل والادلّاء من قِبَله ، وبهذا الترتيب.

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣)

أربع معطيات لقصص الماضين : بانتهاء هذه الآيات تنتهي سورة هود ، وفي هذه الآيات استنتاج كلي لمجموع بحوث هذه السورة ، وبما أنّ القسم الأهم من هذه السورة يتناول القصص التي تحمل العبر من سيرة الأنبياء والامم السابقة ، فإنّ هذه القصص تعطي نتائج قيّمة ملخّصة في أربعة مواضيع. تقول هذه الآيات أوّلاً : (وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ). وكلمة «كُلًّا» إشارة إلى تنوع هذه القصص.

٤٣١

ثم تشير الآية إلى النتيجة الكبرى الثانية فتقول الآيات : (وَجَآءَكَ فِى هذِهِ الْحَقُّ).

أمّا ثالث الآثار ورابعها اللذان يستلفتان النظر هما : (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).

إنّ هذه الآية تؤكّد مرّة اخرى أنّه لا ينبغي أن نعدّ قصص القرآن ملهاة أو يستفاد منها لإشغال السامعين ، بل هي مجموعة من أحسن الدروس الحياتية في جميع المجالات ، وطريق رحب لجميع الناس في الحاضر والمستقبل.

ثم تخاطب الآيات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يواجه أعداءه الذين يؤذونه ويظهرون اللجاجة والعناد إن واصل الطريق : (وَقُل لّلَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ).

فستعلمون من الذي سينتصر ، انتظروا هزيمتنا كما تزعمون انتظاراً غير مُجد ، ونحن ننتظر العذاب من الله عليكم ، وهو ما ستذقونه من قِبَلنا أو من قِبَل الله مباشرةً.

وآخر آية من هذه السورة تتحدث عن التوحيد كما تحدثت الآيات الاولى من هذه السورة عن التوحيد أيضاً.

هذه الآية تشير إلى ثلاث شعب من التوحيد : توحيد علم الله أوّلاً ، فغيب السماوات والأرض خاص بالله وهو المطلع عليها جميعاً (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ). أمّا سواه فعلمه محدود ، وفي الوقت ذاته فإنّ هذا العلم ناشيء من التعليم الإلهي ، فعلى هذا فإنّ العلم غير المحدود ، والعلم الذاتي بالنسبة لجميع ما في السماوات والأرض مخصوص بذات الله المقدسة.

ومن جهة ثانية فإنّ أزمّة جميع الأفعال مرهونة بقدرته (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ). وهذه مرحلة توحيد الأفعال.

ثم تستنتج الآية أنّه إذا علمت أنّ الإحاطة والعلم غير المحدود والقدرة التي لا تنتهي ... جميعها مخصوص بذات الله المقدّسة (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) وهذه مرحلة توحيد العبادة.

فينبغي اجتناب العصيان والعناد والطغيان (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

بحثان

١ ـ علم الغيب خاص بالله : إنّ الإطلاع على الأسرار الخفية أو الأسرار الماضية والآتية كله خاص بالله ... والآيات المختلفة من القرآن تؤكّد هذه الحقيقة وتؤيدها أيضاً.

وإذا وجدنا في قسم من آيات القرآن بيان أنّ الأنبياء قد يعلمون بعض الامور الغيبية ،

٤٣٢

أو قرأنا في بعض الآيات أو الروايات الكثيرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليّاً والأئمة المعصومين عليهم‌السلام قد يخبرون عمّا يجري في المستقبل من حوادث ويبيّنون أسراراً خفية منها ، فينبغي أن نعرف أنّ كل ذلك بتعليم الله سبحانه. فهو سبحانه حيث يجد المصلحة يطلع عباده وأولياءه على قسم من أسرار الغيب ، ولكن هذا العلم لا هو علم ذاتي ولا غير محدود ، بل هو من تعليم الله وهو محدود بمقدار ما يريده الله.

وليس الإطلاع على علم الغيب من قبل الله خاصاً بالأنبياء أو الأئمة فقد يطلع الله غير النبي والأئمة على غيبه أيضاً ... فنحن نقرأ في قصة ام موسى في الآية (٧) من سورة القصص أنّ الله قال لها : (وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكَ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

وقد يطلع الله لضرورة الحياة ـ أحياناً ـ الطيور والحيوانات على الأسرار الخفية وحتى على المستقبل البعيد نسبياً مما يصعب علينا تصوره وبهذا الترتيب قد تكون بعض المسائل التي نحسبها غيباً ، هذه المسائل نفسها بالنسبة للطيور أو الحيوانات لا تعد من الغيب.

٢ ـ العبادة لله وحده : في الآية المتقدمة دليل لطيف على أنّ العبادة لله وحده ، وهو أنّه لو كانت العبادة من أجل العظمة وصفات الجمال ، والجلال فهذه الصفات قبل كل شيء موجودة في الله ، وأمّا الآخرون فلا شيء بالنسبة إليه ، وأكبر دليل على عظمة الله علمه الواسع غير المحدود وقدرته اللامتناهية ، وقد أشارت الآية الآنفة إلى أنّهما مختصان بالله.

وإذا كانت العبادة لأجل الإلتجاء ـ في حل المشاكل ـ إلى المعبود ... فإنّ مثل هذا العمل جدير بمن هو عليم بجميع حاجات العباد وأسرارهم الخفية. وما يغيب عليهم ، وهو قادر على إجابة دعوتهم ، وبالنتيجة فإنّ توحيد الصفات يكون سبباً لتوحيد العبادة (لاحظوا بدقة).

نهاية تفسير سورة هود

* * *

٤٣٣
٤٣٤

١٢

سورة يوسف

بداية سورة يوسف : قبل الدخول في تفسير آيات هذه السورة ينبغي ذكر عدّة أمور :

١ ـ جميع آيات هذه السورة سوى الآيات القليلة التي تقع في نهاية السورة تبيّن قصة نبي الله يوسف عليه‌السلام. القصة الطريفة والجميلة والتي تحمل بين طيّاتها العِبَر ، ولذلك سمّيت هذه السورة باسم «يوسف» وبهذه المناسبة ـ أيضاً ـ ورد ذكر يوسف ـ من مجموع (٢٧) مرة في القرآن ـ (٢٥) مرّة في هذه السورة ومرة واحدة في سورة غافر الآية (٣٤) ومرة اخرى في سورة الأنعام الآية (٨٤).

ومحتوى هذه السورة ـ على خلاف سور القرآن الاخرى ـ مرتبط بعضه ببعض ويبيّن جوانب مختلفة من قصة واحدة وردت في أكثر من عشرة فصول ، مع بيان أخاذ موجز ، عميق ، وطريف ومثير.

وبالرغم من أنّ القصّاصين غير الهادفين ، أو من لهم اغراض رخيصة سعوا إلى أن يحوّلوا هذه القصة المهذبة إلى قصة عشق يحرك أهل الهوى والشهوة! وأن يمسخوا الوجه الواقعي ليوسف عليه‌السلام بحيث بلغت الحال أن يصوروا «فيلماً سينمائياً» وينشروه بصورة مبتذلة ... إلّا أنّ القرآن ـ وكل ما فيه أسوة وعبرة ـ عكس في ثنايا هذه القصة أسمى دروس العفة وضبط النفس والتقوى والإيمان ، حتى لو أنّ إنساناً قرأها عدة مرات فإنّه يتأثر ـ بدون اختيار ـ بأسلوبها الجذاب في كل مرة.

٤٣٥

ولذا فقد عبّر القرآن عنها ب (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وجعل فيها العبر للمعتبرين (أُولِى الْأَلْبَابِ).

٢ ـ التدقيق في آيات هذه السورة يكشف هذه الحقيقة للإنسان ، وهي أنّ القرآن معجز في جميع أبعاده ، لأنّ الأبطال الذين يقدمهم في قصصه أبطال حقيقيّون لا خياليّون ، وكل واحد في نفسه منهم منعدم النظير :

فإبراهيم عليه‌السلام : البطل الذي حطّم الأصنام بروحه العالية التي لا تقبل المساومة مع الطغاة.

وموسى عليه‌السلام : البطل المربّي لقومه اللجوجين ، والذي وقف بوجه فرعون المتكبر الطاغي.

ويوسف عليه‌السلام : بطل الورع والتقوى والطهارة ... أمام امرأة محتالة جميلة عاشقة.

بعد هذا كلّه تتجلّى القدرة البيانية للوحي القرآني بصورةٍ تحيّر الإنسان ، لأنّ هذه القصّة ـ كما نعرف ـ تنتهي في بعض مواردها إلى مسائل العشق ودون أن يمسخها القرآن أو يتجاوزها يتعرض إلى الأحداث في مسرحها بدقة بحيث لا يحس السامع شيء غير مطلوب فيها ، ويذكر القضايا بأجمعها في المتن ، ولكن تحفّها أشعة قوية من التقوى والطهارة.

٣ ـ قصة يوسف قبل الإسلام وبعده : لا شك أنّ قصة يوسف كانت مشهورة ومعروفة بين الناس قبل الإسلام ، لأنّها مذكورة في (١٤) فصلاً من (سفر التكوين) في التوراة بين (الفصل ٣٧ ـ ٥٠) ذكراً مفصلاً.

وبطبيعة الحال فإنّ المطالعة الدقيقة في هذه الفصول الأربعة عشر تكشف مدى الاختلاف بين ما جاء في التوراة وما جاء في القرآن.

وبالمقارنة بين نصّ التوراة ونصّ القرآن نجد أنّ نصّ القصة في القرآن في غاية الصدق وتخلو من أي خرافة.

وما يقوله القرآن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَإِن كُنتَ مِن قَبلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) يشير إلى قصة يوسف التي عبّر عنها بأحسن القصص ، حيث لم يكن النبي مطّلعاً على حقيقتها الخالصة.

وعلى كل حال فإنّ هذه القصة ـ بعد الإسلام ـ تناقلتها أقلام مؤرخي الشرق والغرب ... وأحياناً مع أغصان وأوراق إضافية.

٤ ـ لِمَ ذكرت قصة يوسف في مكان واحد بخلاف قصص سائر الأنبياء؟ إنّ من خصائص قصة يوسف البارزة أنّ هذه القصة ذكرت في مكان واحد من القرآن ، على خلاف قصص الأنبياء التي ذكرت على شكل فصول مستقلة في سور متعددة من القرآن.

٤٣٦

والحكمة في ذلك تعود إلى أنّ تفكيك فصول هذه القصة مع ملاحظة وضعها الخاص يفقدها ترابطها وانسجامها ، فلهذا ينبغي أن تذكر كاملة في مكان واحد للحصول على النتيجة المتوخاة.

والخصيصة الاخرى من خصائص هذه السورة هي أنّ قصص الأنبياء التي وردت في السور الاخرى من القرآن تبيّن عادة مواجهة الأنبياء لقومهم المعاندين والطغاة.

أمّا في قصة يوسف فلا كلام عن هذا الموضوع ، بل أكثر ما فيها بيان حياة يوسف نفسه ونجاته من المزالق الخطيرة التي تنتهي أخيراً إلى استلامه سدّة الحكم ، وهي في حدّ ذاتها «أنموذج» خاص.

٥ ـ فضيلة تلاوة سورة يوسف : في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة يوسف في كل يوم أو في كل ليلة ، بعثه الله يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف ، ولا يصيبه فزع يوم القيامة ، وكان من خيار عباد الله الصالحين».

إنّ الروايات التي وردت في فضائل سور القرآن ـ كما قلنا مراراً ـ ليس معناها القراءة السطحية دون تفكر وعمل ، بل تلاوة تكون مقدمة للتفكر ....

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (٣)

أحسن القصص بين يديك : تبدأ هذه السورة بالحروف المقطعة (الر) وهي دلالة على عظمة القرآن ، وإنّ تركيب هذه الآيات ذات المحتوى العميق متكوّن من أبسط الأجزاء ، وهي حروف الهجاء «ألف ـ باء ... الخ».

وربّما كان لهذا السبب أن تأتي الإشارة ـ بعد هذه الحروف المقطعة مباشرةً ـ إلى بيان عظمة القرآن في هذه السورة ، فتقول : (تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ).

ثم يأتي البيان عن الهدف من نزول الآيات فيقول : (إِنَّا أَنزَلْنهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). فالهدف إذن ليس القراءة أو التلاوة أو التيمّن أو التبرك بتلاوة هذه الآيات فحسب ، بل الهدف الأساسي هو الإدراك ... الإدراك القوي الذي يدعو الإنسان إلى العمل بجميع وجوده.

٤٣٧

فالتعبير بكون القرآن عربياً ـ الذي تكرر في عشرة موارد من القرآن ـ جواب لأولئك الذين يتهمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه تعلم القرآن من أعجمي ، وأنّ محتوى القرآن مستورد وليس وحياً إلهياً.

وهذه التعبيرات المتتابعة تحتم ضمناً وظيفةً مفروضة على جميع المسلمين ، وهي أن يسعوا جميعاً إلى معرفة اللغة العربية وأن تكون اللغة الثانية إلى جانب لغتهم ، لأنّها لغة الوحي ومفتاح فهم حقائق الإسلام.

ثم يقول سبحانه : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ).

يعتقد بعض المفسرين أنّ (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) إشارة إلى مجموع القرآن.

إنّ الله سبحانه عبّر ب (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) عن مجموع هذا القرآن الذي جاء في أجمل البيان والشرح ، وأفصح الألفاظ وأبلغها ، مقرونةً بأسمى المعاني وأدقّها ، بحيث يبدو ظاهره عذباً جميلاً ، ومن حيث الباطن فمحتواها عظيم.

ولكن إرتباط الآيات المقبلة التي تبيّن قصة يوسف عليه‌السلام مع هذه الآية ـ محل البحث ـ بشكل يشدّ ذهن الإنسان إلى هذا المعنى ، وهو أنّ الله عبر عن قصة يوسف ب (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وقلنا مراراً أنّه لا مانع من أن تكون مثل هذه الآيات للمعنيين جميعاً ... فالقرآن هو أحسن القصص بصورة عامة ، وقصة يوسف هي أحسن القصص بصورة خاصة.

أثر القصة في حياة الناس : مع ملاحظة أنّ القسم المهم من القرآن قد جاء على صورة تأريخ للُامم السابقة وقصص الماضين ، فقد يتساءل البعض : لِم يحمل هذا الكتاب التربوي كل هذا «التاريخ» والقصص؟!

وتتضح العلة الحقيقية للموضوع بملاحظة عدّة نقاط :

١ ـ إنّ التاريخ مختبر لنشاطات البشرية المختلفة ، وما رسمه الإنسان في ذهنه من الأفكار والتصورات يجده بصورة عينية على صفحات التاريخ.

٢ ـ ثم بعد هذا فإنّ للتاريخ والقصة جاذبية خاصة ، والإنسان واقع تحت هذا التأثير الخارق للعادة في جميع أدوار حياته من سنّ الطفولة حتى الشيخوخة.

والعلة في ذلك قد تكون أنّ الإنسان حسي بالطبع قبل أن يكون عقلياً ويتخبط في المسائل المادية قبل أن يتعمق في المسائل الفكرية.

٤٣٨

وكلما ابتعد الانسان عن ميدان الحسّ ، باتجاه المسائل العقلية كانت هذه المسائل أثقل على الذهن وأبطأ هضماً.

ومن هنا نلاحظ أنّه لأجل بيان الاستدلال العقلي يستمدّ المفكرون في المسائل الاجتماعية والحياتية المختلفة من الأمثلة الحسية ، وأحياناً يكون للمثال المناسب والمؤثر في الاستدلال قيمة مضاعفة ، ولذلك فإنّ العلماء الناجحين هم اولئك الذين لهم هيمنة على انتخاب أحسن الأمثلة.

٣ ـ القصة والتاريخ مفهومان عند كل أحد ، وعلى هذا فإنّ الكتاب الشامل الذي يريد أن يستفيد منه البدوي الامّي والمتوحش ... إلى الفيلسوف والمفكر الكبير ، يجب أن يكون معتمداً على التاريخ والقصص والأمثلة.

ومجموعة هذه الجهات تبيّن أنّ القرآن خطا أحسن الخطوات في بيان التواريخ والقصص في سبيل التعليم والتربية.

(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

بارقة الأمل وبداية المشاكل : بدأ القرآن بذكر قصة يوسف من رؤياه العجيبة ذات المعنى الكبير ، لأنّ هذه الرؤيا في الواقع تعدّ أوّل فصل من فصول حياة يوسف المتلاطمة.

جاء يوسف في أحد الأيام صباحاً إلى أبيه وهو في غاية الشوق ليحدثه عن رؤياه ، وليكشف ستاراً عن حادثة جديدة لم تكن ذات أهمية في الظاهر ، ولكنها كانت إرهاصاً لبداية فصل جديد من حياته : (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ).

يقول ابن عباس : إنّ يوسف رأى رؤياه ليلة الجمعة التي صادفت ليلة القدر (ليلة تعيين الأقدار والآجال).

٤٣٩

والمقصود من السجود هنا هو الخضوع والتواضع ، وإلّا فإنّ السجود المعروف عند الناس لا مفهوم له بالنسبة للكواكب والشمس والقمر.

إنّ هذه الرؤيا المثيرة ذات المغزى تركت يعقوب النبي غارقاً في التفكير ... فالقمر والشمس والكواكب ، وأي الكواكب! إنّها أحد عشر يسجدون جميعاً لولدي يوسف ، كم هي رؤيا ذات مغزى! لا شك أنّ الشمس والقمر «أنا وامه أو خالته» والكواكب الأحد عشر إخوته ، هكذا يرتفع قدر ولدي حتى تسجد له الشمس والقمر وكواكب السماء.

إنّ ولدي «يوسف» عزيز عند الله إذا رأى هذه الرؤيا المثيرة! لذلك توجه إلى يوسف بلهجة يشوبها الإضطراب والخوف المقرون «بالفَرحة» و (قَالَ يَا بُنَىَّ لَاتَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا) وأنا أعرف (إِنَّ الشَّيْطنَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) وهو منتظر الفرصة ليوسوس لهم ويثير نار الفتنة والحسد وليجعل الإخوة يقتتلون فيما بينهم.

ولكن هذه الرؤيا لم تكن دليلاً على عظمة يوسف في المستقبل من الوجهة الظاهرية والمادية فحسب ، بل تدل على مقام النبوة التي سيصل إليها يوسف في المستقبل.

ولذلك فقد أضاف يعقوب ـ لولده يوسف ـ قائلاً : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرهِيمَ وَإِسْحقَ) (١).

أجل فإنّ الله على كل شيء قدير و (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

الرؤيا والحُلم : إنّ الرؤيا والأحلام على أقسام :

١ ـ الرؤيا المرتبطة بماضي الحياة حيث تشكل الرغبات والأمنيات قسماً مهماً من هذه الأحلام.

٢ ـ الرؤيا غير المفهومة والمضطربة وأضغاث الأحلام التي تنشأ من التوهم والخيال وإن كان من المحتمل أن يكون لها دافع نفسي.

٣ ـ الرؤيا المرتبطة بالمستقبل والتي تخبر عنه.

__________________

(١) «التأويل» : في الأصل إرجاع الشيء ، وكل عمل أو كل حديث يصل إلى الهدف النهائي يطلق عليه «تأويل» وتحقق الرؤيا في الخارج مصداق للتأويل ... و «الأحاديث» : جمع الحديث ، وهو نقل ما يجري ، والحديث هنا كناية عن الرؤيا لأنّ الإنسان ينقلها للمعبرين.

٤٤٠