مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

وَطَمَعًا). فالبرق بشعاعه يبهر العيون من جانب ، ومن جانب آخر فإنّه يسبّب هطول الأمطار ويروي ظمأ الصحراء ويسقي المزروعات فيطمع فيه الناس ، وبين هذا الخوف والرجاء تمرّ عليهم لحظات حساسة

ثم تضيف الآية : (وَيُنشِئُ الْسَّحَابَ الْثّقَالَ) القادرة على إرواء ظمأ الأراضي الزراعية.

الآية الاخرى تشير إلى صوت الرعد الذي يتزامن مع البرق (وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ).

نعم ، فهذا الصوت المدوّي في عالم الطبيعة يُضرب به المثل ، فهو مع البرق في خدمة هدف واحد ، ويقومان بعملية التسبيح ، وبعبارة اخرى فالرعد لسان حال البرق يحكي عن عظمة الخالق وعن نظام التكوين.

وليس الرعد وسائر أجزاء العالم تسبّح بحمده تعالى ، بل حتى الملائكة (وَالْمَلِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ). فهم يخافون من تقصيرهم في تنفيذ الأوامر الملقاة على عاتقهم ، وبالتالي فهم يخشون العقاب الإلهي ، ونحن نعلم أنّ الخوف يُصيب اولئك الذين يحسّون بمسؤولياتهم ووظائفهم ... خوف بنّاء يحثّ الشخص على السعي والحركة.

وللتوضيح أكثر في مجال البرق والرعد تشير الآية إلى الصاعقة : (وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ). ومع كل ذلك ـ وبمشاهدة آيات العظمة الإلهية في عالم التكوين من السماء والأرض والنباتات والأشجار والبرق والرعد وأمثالها ، وفي قدرة الإنسان الحقيرة تجاه هذه الحوادث ، حتى في مقابل واحدة منها مثل شرارة البرق ـ نرى أنّ هناك جماعة جاهلة تجادل في الله (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ).

«المحال» : في الأصل «الحيلة» بمعنى التدبير السرّي وغير الظاهر ، فالذي له القدرة على هذا التدبير يمتلك العلم والحكمة العالية ، ولهذا السبب يستطيع أن ينتصر على أعدائه ولا يمكن الفرار من حكومته.

الآية الأخيرة تشير إلى مطلبين :

الأوّل : قوله تعالى : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقّ). فهو يستجيب لدعواتنا ، وهو عالم بدعاء العباد وقادر على قضاء حوائجهم ، ولهذا السبب يكون دعاؤنا إيّاه وطلبنا منه حقاً ، وليس باطلاً.

ولكن دعاء الأصنام باطل (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَايَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَىْءٍ).

ولتصوير هذا الموضوع يضرب لنا القرآن الكريم مثالاً حيّاً ورائعاً يقول : (إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ). فهل يستطيع أحد أن يجلس على بئر ويطلب الماء بإشارة يدٍ ليبلغ الماء فاه؟ هذا العمل لا يصدر إلّامن إنسان مجنون.

٥٠١

وللتأكيد على هذا الحديث يأتي في نهاية الآية قوله تعالى : (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِى ضَللٍ). وأيّ ضلال أكبر من أن يسعى الإنسان ويجتهد في السبيل الضالّ ... ولكنّه لا يصل إلى مقاصده.

الآية الأخيرة من هذه المجموعة ، ولكي تُبرهن كيف أنّ المشركين ضلّوا الطريق تقول : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِللُهُم بِالْغُدُوّ وَالْأَصَالِ).

السجدة في هذه الموارد تعني الخضوع والتسليم ، وهناك نوعان من السجود ، سجود تكويني وهو أنّ الكل خاضعون ومسلّمون للقوانين الطبيعية مثل الحياة والممات والمرض و... ، والبعض منهم له سجود تشريعي بالإضافة إلى السجود التكويني ، فهم بميلهم وإرادتهم يسجدون لله.

عبارة (طَوْعًا وَكَرْهًا) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ المؤمنين خاضعون لله بميلهم وإرادتهم ، وأمّا غير المؤمنين فهم خاضعون كذلك للقوانين الطبيعية التي تسير بأمر الله إن شاؤوا وإن أبوا.

«الظّلال» : جمع «ظِل» واستعمال هذه الكلمة في الآية يشير إلى أنّ المقصود في السجود ليس فقط السجود التشريعي ، فظِلال الكائنات ليست خاضعة لارادتهم واختيارهم ، بل هو تسليم لقانون الضوء ، وعلى هذا يكون سجودهم تكويني ، يعني التسليم للقوانين الطبيعية.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلَا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦)

لماذا عبادة الأصنام؟ كان البيان في الآيات السابقة عن معرفة الله وإثبات وجوده ، وهذه الآية تبحث عن ضلال المشركين والوثنيين وتتناوله من عدّة جهات ، حيث تخاطب ـ أوّلاً ـ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تقول : (قُلْ مَن رَّبُّ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ). ثمّ تأمر النبي أن يجيب على السؤال قبل أن ينتظر جوابهم : (قُلِ اللهُ). ثم إنّه يلومهم ويوبّخهم بهذه الجملة : (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَايَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا).

ثم يذكر مثالين واضحين وصريحين يحدّد فيها وضع الأفراد الموحدين والمشركين ،

٥٠٢

فيقول أوّلاً : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ). فكما لا يستوي الأعمى والبصير لا يستوي المؤمن والكافر ، ولا يصحّ قياس الأصنام على الخالق جلّ وعلا.

ويقول ثانياً : (أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ). كيف يمكن أن نجعل الأصنام التي هي الظلمات المحضة إلى جنب الله الذي هو النور المطلق؟

ثم يُدلِل على بطلان عقيدة المشركين عن طريق آخر فيقول : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ). والحال ليس كذلك ، فإنّ المشركين أنفسهم لا يعتقدون بها ، فهم يعلمون أنّ الله خالق كل شيء ، وعالم الوجود مرتبط به ، ولذلك تقول الآية : (قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ).

يستفاد من الآية أعلاه أنّ الخلقة أمر مستمر ودائمي ، وإنّه تعالى يفيض بالوجود عليهم بإستمرار وكل شيء يأخذ وجوده من ذاته المقدسة ، وعلى هذا فنظام الخلقة وتدبير العالم كلها بيد الله.

(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ) (١٧)

وصف دقيق لمنظر الحق والباطل : يستند القرآن الكريم ـ الذي يعتبر كتاب هداية وتربية ـ في طريقته إلى الوقائع العينية لتقريب المفاهيم الصعبة إلى أذهان الناس من خلال ضرب الأمثال الحسية الرائعة من حياة الناس ، وهنا ـ أيضاً ـ لأجل أن يُجسّم حقائق الآيات السابقة التي كانت تدور حول التوحيد والشرك ، الإيمان والكفر ، الحق والباطل ، يضرب مثلاً واضحاً جدّاً لذلك ..

يقول أوّلاً : (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً). الماء عماد الحياة وأصل النمو والحركة ، (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدْرِهَا) تتقارب السواقي الصغيرة فيما بينها ، وتتكوّن الأنهار وتتّصل مع بعضها البعض ، فتسيل المياه من سفوح الجبال العظيمة والوديان وتجرف كل ما يقف أمامها ، وفي هذه الأثناء يظهر الزّبد وهو ما يرى على وجه الماء كرغوة الصابون من بين أمواج الماء حيث يقول القرآن الكريم : (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا).

وليس ظهور الزبد منحصراً بهطول الأمطار ، بل (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاءَ

٥٠٣

حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ). أي : الفلزات المذابة بالنار لصناعة أدوات الزينة منها أو صناعة الوسائل اللازمة في الحياة.

بعد بيان هذا المثال بشكله الواسع لظهور الزبد ليس فقط في الماء بل حتى للفلزات وللمتاع ، يستنتج القرآن الكريم : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ). ثمّ يتطرّق إلى شرحه فيقول : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ).

وفي آخر الآية ـ للمزيد من التأكيد في مطالعة هذه الأمثال ـ يقول تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ).

المثال يعمّم المفاهيم : كثير من البحوث العلمية بشكلها الأصلي يفهمها الخواص فقط ، ولا يستفيد منها عامة الناس ، ولكن عندما يصحبها المثال تكون قابلة للفهم ، ويستفيد منها الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية ، ولهذا فالمثال وسيلة لتعميم الفكر والثقافة.

(لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (١٨)

الذين استجابوا لدعوة الحق : بعد ما كشفت الآيات السابقة عن وجهي الحق والباطل من خلال مثال واضح وبليغ ، أشارت هذه الآية إلى مصير الذين إستجابوا لربهم والذين لم يستجيبوا لهذه الدعوة واتّجهوا صوب الباطل. تقول أوّلاً : (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى).

«الحسنى» : في معناها الواسع تشمل كل خير وسعادة.

ثم تضيف الآية : (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ).

لا توجد صيغة أوضح من هذه الآية في بيان شدّة عذابهم وعقابهم ، يمتلك الإنسان كل ما في الأرض وضعفه أيضاً ويفتدي به للنجاة ولا يحصل النجاة. تشير هذه الجملة في الواقع إلى آخر امنية والتي لا يمكن أن يتصور أكثر منها ، وهي أن يمتلك الإنسان كل ما في الأرض ، ولكن شدّة العذاب للظالمين ومخالفي الحق تصل بهم إلى درجة أن يفتدوا بكل هذه الامنية

٥٠٤

أو بأكثر منها لنجاتهم.

وعلى أثر هذا الشقاء (عدم قبول ما في الأرض مقابل نجاتهم) يشير القرآن الكريم إلى شقاء آخر (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ). يعني أنّ هؤلاء الأفراد يحاسبون حساباً دقيقاً ، وأثناء حسابهم يُوبّخون ويُلامون ومن ثم يستقصى منهم.

وفي نهاية الآية إشارة إلى الجزاء الثّالث أو النتيجة النهائية لجزائهم (وَمَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).

«المهاد» : جمع «مهد» ، بمعنى التهيؤ ، ويستفاد منها معنى السرير الذي يستخدم لراحة الإنسان ، هذا السرير يهيّأ للاستراحة ، وقد ذكر القرآن الكريم هذه الكلمة للإشارة إلى أنّ هؤلاء الطغاة بدلاً من أن يستريحوا في مهادهم يجب أن يحرقوا بلهيب النار.

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤)

الأبواب الثمانية للجنة وصفات اولي الألباب : تتحدّث هذه الآيات عن سيرة اولي الألباب وصفاتهم الحسنة ، وفيها تكميل للبحث السابق. في الآية الاولى من هذه المجموعة إستفهام إنكاري : (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى).

وهذه إشارة لطيفة إلى أنّه من المحال أن لا يعلم أحد بهذه الحقيقة إلّاأن يكون أعمى القلب ، ولذلك يجيء في نهاية الآية قوله تعالى : (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبَابِ).

«الألباب» : جمع «لبّ» بمعنى جوهر الشيء ، ويقابل اولي الألباب اولوا الجهل والعمى.

إنّ هذه الآية تحثّ الناس على طلب العلم ومحاربة الجهل ، لأنّها تعدّ الفرد الفاقد للعلم كمن هو أعمى ، ثمّ بيّن سيرة اولي الألباب من خلال ذكر صفاتهم الحميدة ، وأوّل ما أشار القرآن إليه وفاؤهم بالعهد وعدم نقضهم له (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ).

٥٠٥

إنّ «عهد الله» له معنى واسع ، ويشمل العهود الفطرية التي عاهدوا بها ربّهم كالفطرة على التوحيد وحبّ الحقّ والعدالة ، والمواثيق العقلية التي يدركها الإنسان من خلال التفكير والتعقّل لعالم الوجود ، والمبدأ والمعاد ، وتشمل كذلك العهود الشرعية ، وهي ما عاهدوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه من الطاعة للأوامر الإلهية وترك المعاصي والذنوب.

الصفة الثانية : من صفات اولي الألباب هي : (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ).

فالإنسان له صلات وروابط كثيرة ، صلته مع ربّه ، ومع الأنبياء والقادة ، وروابطه مع الأصدقاء والجيران والأقرباء ومع كل الناس ، والآية تأمر أن تُحترم هذه الصلات.

والإنسان ليس منزوياً أو منفكّاً من عالم الوجود ، بل تحكم كل وجوده الصلات والروابط.

الصفة الثالثه والرابعة : من سيرة اولي الألباب هي قوله تعالى : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ).

الصفة الخامسة : من صفات اولي الألباب الإستقامة في مقابل جميع المشاكل التي يواجهها الإنسان في مسيرة الطاعة وترك المعصية ، وجهاد الأعداء ومحاربة الظلم والفساد ، والصبر في مرضاة الخالق ، ولذلك يقول تعالى : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِمْ) (١).

فإنّ هذه الجملة تبيّن أنّ كل صبر وعمل خير تكون له قيمة عندما يصبح لوجه الله ، وأي عمل آخر يقع تحت تأثير الرياء والغرور لا قيمة له مطلقاً.

الصفة السادسة : من صفاتهم هي : (وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ).

إنّ الإنسان يجدّد عهده وصلته بالله سبحانه وتعالى صباحاً ومساءاً ، ويتفكّر بعظمة الخالق ويدعوه ، ويُطهّر نفسه من الذنوب ، ويرتبط بالحق المطلق.

ثم يبيّن الصفة السابعة لدعاة الحق حيث يقول تعالى : (وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً).

فالصلاة تُحكم الصلة بين العبد وربّه والزكاة بين العباد.

والجملة (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) تشمل كل العطايا من الأموال والعلوم والقوة والجاه ، والإنفاق كذلك يشمل جميع هذه الأبعاد.

__________________

(١) ليس الصبر على الطاعة والمعصية والمصيبة فقط بل الصبر على النعم كذلك حتى لا يصيب الإنسان الغرور.

٥٠٦

والعبارة (سِرًّا وَعَلَانِيَةً) إشارة اخرى إلى هذه الحقيقة وهي أنّ إنفاقهم يتمّ بشكل مدروس ، فتارةً يكون سرّاً ويترتّب عليه أثر كبير ، وذلك في الحالات التي تصون الطرف المنفق من الرياء ، ومرّةً يكون الإنفاق العلني أكثر تأثيراً وذلك في الحالات التي تدعو الآخرين لكي يتأسّوا بهذا العمل الخيّر ويقتدوا به ، فيكون سبباً لكثير من أعمال الخير.

(الصفة الثامنة) والأخيرة هي قوله تعالى : (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيّئَةَ).

ومعنى هذه العبارة أنّهم لم يكتفوا بالتوبة والاستغفار فقط عند إرتكابهم الذنوب ، بل يدفعونها كذلك بالحسنات على مقدار تلك الذنوب ، حتى يطهّروا أنفسهم والمجتمع بماء الحسنات.

ويحتمل في تفسير الآية أنّهم لا يقابلون السيء بالسيء ، بل يسعون من خلال إحسانهم للمسيئين أن يجعلوهم يعيدون النظر في مواقفهم.

وبعد ما ذكر القرآن الكريم الصفات الثمانية لُاولي الألباب ، أشار في نهاية الآية إلى عاقبة أمرهم حيث يقول تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ).

الآية الاخرى توضّح هذه العاقبة (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ).

والشيء الذي يكمل هذه النعم الكبيرة واللامتناهية (وَالْمَلِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مّن كُلّ بَابٍ * سَلمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ). فهذه السلامة جاءت بعد ما صبرتم على الشدائد وتحمّلتم المسؤوليات الجسام والمصائب ، ولكم هنا كامل الطمأنينة والأمان ، فلا حرب ولا نزاع ، وكل شيء يبتسم لكم ، والراحة الخالية من المتاعب ـ هنا ـ معدّة لكم.

يستفاد من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة أنّ للجنة عدّة أبواب ، ولكن هذا التعدد للأبواب بسبب الأعمال المختلفة للأفراد.

ومن الظريف أنّ القرآن الكريم ـ في الآية (٤٤) من سورة الحجر ـ يذكر لجهنم سبعة أبواب (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ). وهذه إشارة إلى أنّ طرق الوصول إلى السعادة وجنّة الخلد أكثر من طرق الوصول إلى الشقاء والجحيم ، ورحمة الله سبقت غضبه.

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) (٢٦)

٥٠٧

للمفسدين في الأرض : بعد ما ذكرت الآیات السابقئ صفات أولى الألباب ودعاة الحق ، أشارت هذه الآیات إلى قسم من الصفات الأصلية للمفسدين الذين فقدوا حظّهم من العلم والمعرفة حيث يقول جلّ وعلا : (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (١).

في الحقيقة يتلخص فساد عقيدتهم في الجمل الثلاث الآتية :

١ ـ نقض العهود الإلهية : وتشمل المواثيق الفطرية والعقلية والتشريعية.

٢ ـ قطع الصلات : وتشمل الصلة مع الله والرسل والناس ومع أنفسهم.

٣ ـ الإفساد في الأرض : وهو نتيجة حتمية لنقض العهود وقطع الصلات.

قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ). وهذه إشارة لُاولئك الذين يسعون للحصول على دخل أكثر فهم يفسدون في الأرض وينقضون عهد الله ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل لكي يزيدوا من دخلهم المادي ، وهم غافلون عن هذه الحقيقة وهي أنّ الرزق ـ في زيادته ونقصه ـ بيد الله سبحانه وتعالى.

ثم تضيف الآية : (وَفَرِحُوا بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فِى الْأَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢٩)

ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب : في سورة الرعد بحوث كثيرة حول التوحيد والمعاد والنبوة ، فالآية الاولى من هذه المجموعة تبحث مرّةً اخرى في دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وتبيّن واحداً من أعذار المشركين المعاندين حيث يقول تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنِزلَ عَلَيْهِءَايَةٌ مّن رَّبّهِ).

إنّ هؤلاء يتوقّعون من النبي أن يجلس في زاوية الدار ويُظهر لكل واحد منهم المعجزة التي يقترحها ، فإن لم تعجبهم لم يؤمنوا بها.

ويجيبهم القرآن الكريم حيث يقول : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ).

وهذه إشارة إلى أنّ العيب ليس من ناحية الإعجاز ، لأنّ الأنبياء قد أظهروا كثيراً من

__________________

(١) «اللعن» : بمعنى الطرد مع الغضب ، واللعن في الآخرة تشير إلى العقوبة وفي الدنيا الإبتعاد من رحمة الله.

٥٠٨

المعاجز ، ولكن النقص من داخل أنفسهم. وهو العناد والتعصب والجهل والذنوب التي تصدّ عن الإيمان.

تُشير الآية الثانية بشكل رائع إلى تفسير (مَنْ أَنَابَ) حيث يقول تعالى : (الَّذِينَءَامَنُوا وَتَطْمِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ). ثم يذكر القاعدة العامة والأصل الثابت حيث يقول تعالى : (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمِنُّ الْقُلُوبُ).

وتبحث الآية الأخيرة مصير الذين آمنوا حيث تقول : (الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَابٍ).

ما هو ذكر الله ، وكيف يتمّ؟ إنّ الذكر نوعين «ذكر القلب» و «ذكر اللسان» وكل واحد منها على نوعين : بعد النسيان أو بدونه.

وعلى أيّة حال ليس المقصود من الذكر ـ في الآية أعلاه ـ هو ذكره باللسان فقط فنقوم بتسبيحه وتهليله وتكبيره ، بل المقصود هو التوجه القلبي له وإ دراك علمه وبأنّه الحاضر والناظر ، وهذا التوجّه هو مبدأ الحركة والعمل والجهاد والسعي نحو الخير ، وهو سدّ منيع عن الذنوب ، فهذا هو الذكر الذي له كل هذه الآثار والبركات كما أشارت إليه عدة من الروايات.

فمن وصايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام علي عليه‌السلام يقول له : «يا علي ، ثلاث لا تطيقها هذه الامّة : المواساة للأخ في ماله ، وإنصاف الناس من نفسه ، وذكر الله على كل حال ، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّاالله والله أكبر ، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف الله عزوجل عنده وتركه» (١).

(كَذلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (٣٠) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) (٣٢)

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٤ / ٤٥.

٥٠٩

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان : نزلت الآية الاولى في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اسجدوا للرحمن». قالوا : وما الرحمن؟

وفي سبب نزول الآية الثانية : إنّها نزلت في نفر من مشركي مكة ، منهم أبو جهل بن هشام ، وعبد الله بن أمية المخزومي جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاهم ، فقال له عبد الله بن أمية : إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن ، فأذهبها عنا ، حتى تنفسخ فإنّها أرض ضيقة ، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت أهون على ربّك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليها مسيرتنا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا فقد كان سليمان سخرت له الريح فكما زعمت لنا فلست أهون على ربّك من سليمان. وأحي لنا جدك قصياً ، أو من شئت من موتانا لنسأله : أحق ما تقول أم باطل؟ فإنّ عيسى عليه‌السلام كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه فأنزل الله سبحانه (وَلَوْ أَنَّ قُرءَانًا) الآية.

التّفسير

لا أمل في إيمان أهل العناد : تبحث هذه الآيات مرّةً ثانية مسألة النبوّة ، والآيات أعلاه تكشف عن قسم آخر من جدال المشركين في النبوّة وجواب القرآن عليهم فتقول الآية : كما أنّنا أرسلنا رسلاً إلى الأقوام السالفة لهدايتهم : (كَذلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ). والهدف من ذلك (لِّتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلِيْكَ). في الوقت الذي (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ). يكفرون بالله الذي عمّت رحمته كل مكان ، وشمل فيضه المؤمن والكافر.

ثم قل لهم : إنّ الرحمن الذي عمّ فضله هو ربّي (قُلْ هُوَ رَبّى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ).

ثم يجيب اولئك الذين يتشبّثون دائماً بالحجج الواهية فيقول : لو أنّ الجبال تحرّكت من مكانها بواسطة القرآن : (وَلَوْ أَنَّ قُرءَانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى). فمع ذلك لا يؤمنون به.

ولكن كل هذه الأفعال بيد الله ويفعل ما يريد متى يشاء (بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا). ولكنكم لا تطلبون الحق ، وإذا كنتم تطلبونه فهذا المقدار من المعجزة التي صدرت من

٥١٠

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كاف لإيمانكم.

ثم يضيف القرآن الكريم : (أَفَلَمْ يَايَسِ الَّذِينَءَامَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا). ولكنّه لا يفعل ذلك أبداً ، لأنّ هذا الإيمان الإجباري لا قيمة له وهو فاقد للمعنى والتكامل الذي يحتاجه الإنسان في حياته.

ثم تضيف الآية : (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ). وهذه مصائب تنزل عليهم بشكل إبتلاءات مختلفة أو على شكل هجوم المسلمين عليهم. وهذه المصائب إن لم تنزل في دارهم فهي (أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ) لكي يعتبروا بها ويرجعوا إلى الله جلّ وعلا.

وهذا الإنذار مستمر (حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللهِ).

وهذا الوعد الأخير قد يشير إلى الموت ، أو إلى يوم القيامة ، أو على قول البعض إلى فتح مكة التي سحقت آخر معقل للعدو.

وعلى أيّة حال فالوعد الإلهي أكيد : (إِنَّ اللهَ لَايُخْلِفُ الْمِيعَادَ).

الآية الأخيرة من هذه المجموعة تخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول له : لست الوحيد من بين الأنبياء تعرّض لطلب المعاجز الإقتراحية والإستهزاء من الكفار ، بل (وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ). ولكن لم نعاقب هؤلاء الكفّار فوراً ، بل (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لكي يستيقظوا ويعودوا إلى طريق الحق ، أو نلقي عليهم الحجة الكافية على الأقل ، لأنّ هؤلاء إذا كانوا مذنبين فإنّ لطف الله وكرمه وحكمته لا تتأثّر بأفعال هؤلاء.

وعلى أيّة حال فهذا التأخير ليس بمعنى نسيان العقاب ، بل (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) وهذا المصير ينتظر قومك المعاندين أيضاً.

(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ) (٣٤)

كيف تجعلون الأصنام شركاء مع الله؟! نعود مرّةً اخرى في هذه الآيات إلى البحث حول

٥١١

التوحيد والشرك ، وهي تخاطب الناس من خلال دليل واضح حيث يقول تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ).

ولإتمام البحث السابق ، ومقدمة للبحث الآتي. يقول تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ).

ثم يجيبهم بلا فاصلة وبعدّة طرق :

يقول أوّلاً : (قُلْ سَمُّوهُمْ). فكيف تجعلون هذه الموجودات التي لا تستحق حتى الأسماء والتي لا قيمة ولا أثر لها ، في عداد الخالق القادر المتعال؟

ويقول ثانياً : (أَمْ تُنَبُونَهُ بِمَا لَايَعْلَمُ فِى الْأَرْضِ).

ثالثاً : حتى أنتم لا تؤمنون بذلك في قرارة أنفسكم ، بل (أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القَوْلِ). ولهذا السبب نرى المشركين عندما تضيق بهم المشاكل الحياتية يلوذون بالله ، لأنّهم يعلمون في قلوبهم أنّ الأصنام لا يمكن أن تعمل لهم شيئاً.

رابعاً : إنّ المشركين ليس لهم إدراك صحيح ، وبما أنّهم تابعين لأهوائهم وتقليدهم الأعمى ، فإنّهم غير قادرين على أن يقضوا بالحقّ وبشكل صحيح ، ولهذا السبب ضلّوا الطريق ، يقول تعالى : (بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).

الإضلال الإلهي إنعكاس لما يقوم به الإنسان من الأعمال السيّئة التي تجرّه إلى الضياع ، وبما أنّ هذه الخاصية قد جعلها الله سبحانه وتعالى لمثل هذه الأعمال فلذلك نسب هذا العمل إليه.

ويشير القرآن الكريم في الآية الأخيرة من هذه المجموعة إلى العقاب الأليم الذي يشملهم في الدنيا والآخرة ، الشقاء والهزيمة والحرمان وغيرها ، حيث تقول : (لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْأَخِرَةِ أَشَقُّ). لأنّها دائمة ومستمرة ، جسدية وروحية ، وفيها أنواع الآلام.

وإذا إعتقدوا بأنّ لهم طريقاً للفرار أو سبيلاً للدفاع في مقابل ذلك ، فإنّهم في إشتباهٍ كبير ، لأنّ (وَمَا لَهُمْ مِّنَ اللهِ مِن وَاقٍ).

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ) (٣٥)

بالنظر إلى تناوب آيات هذه السورة في بيان التوحيد والمعاد وسائر المعارف الإسلامية

٥١٢

الاخرى ، تحدّثت هذه الآية مرّةً اخرى حول المعاد وخصوصاً نِعَم الجنة وعذاب الجحيم. يقول تعالى : (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهْرُ).

قد يكون التعبير ب «مثل» إشارة إلى هذه النكتة ، وهي أنّ الجنّة وسائر النعم الاخروية غير قابلة للوصف بالنسبة إلى الساكنين في هذا العالم المحدود الذي هو في مقابل عالم بعد الموت يعتبر صغيراً جدّاً ، ولذلك نستطيع أن نضرب لهم مثلاً أو صورة عن ذلك.

الوصف الثاني للجنة هو (أُكُلُهَا دَائِمٌ) فهي ليست كفاكهة الدنيا فصلية وتظهر في وقت معين من السنة ، بل في بعض الأحيان وبسبب الآفات الزراعية تنقطع تماماً.

وكذلك (وَظِلُّهَا) كبقية النعم الاخرى خالدة ودائمة ، ومن هذا يتّضح أن ليس في الجنة فصل لتساقط الأوراق ، ونعلم من ذلك ـ أيضاً ـ أنّ شعاع الشمس موجود في الجنة ، وإلّا كان التعبير بالظل هناك بدون شعاع الشمس ليس له أي مفهوم.

وبعد بيان هذه الصفات الثلاث قال تعالى في آخر الآية : (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ).

لقد بيّن وفصّل في هذه العبارة نعم الجنة ، ولكن بالنسبة إلى أصحاب النار ذكر جملة قصيرة وبعنف حيث ذكر أنّ عاقبة أمرهم إلى النار.

(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ) (٣٦)

المؤمنون والأحزاب : أشارت هذه الآية إلى ردّ الفعل المتفاوت للناس في مقابل نزول الآيات القرآنية ، فالأفراد الذين يبحثون عن الحقيقة يفرحون بما انزل على الرسول ، بينما المعاندون يخالفون ذلك. يقول تعالى : (وَالَّذِينَءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ). أي : أنّ الطالبون للحق من اليهود والنصارى وأمثالهم يفرحون عند نزول الآيات على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّهم كانوا من جهة يرونها مطابقة لما في أيديهم من العلامات ، ومن جهة اخرى كان سبباً لحريتهم ونجاتهم من شرّ الخرافات ومن علماء اليهود والمسيحية الذين كانوا يستعبدونهم ، وكانوا محرومين من حرية الفكر والتكامل الإنساني.

ثم تضيف الآية : (وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ). المقصود من هذه المجموعة هي نفس جماعة اليهود والنصارى الذين غلبهم التعصّب الطائفي وأمثاله ، ولذلك لم يعبّر القرآن الكريم

٥١٣

عنهم بأهل الكتاب ، لأنّهم لم يتّبعوا كتبهم السماوية ، بل كانوا أحزاباً وكتلاً تابعين لخطّهم الحزبي. أو أنّ كلمة «الأحزاب» إشارة إلى المشركين ، لأنّ سورة الأحزاب ذكرتهم بهذا التعبير ، وهؤلاء ليس لهم دين ولا مذهب بل كانوا على شكل أحزاب وكتل متفرقة اتّحدوا في مخالفتهم للقرآن والإسلام.

ونقل العلامة الطبرسي عن ابن عباس ، أنّ هذه الآية إشارة إلى المشركين الذين كانوا يخالفون وصف الله بالرحمن ، وأهل الكتاب ـ خصوصاً اليهود ـ يفرحون بهذا الوصف «الرحمان» في الآيات القرآنية ، ومشركي مكة كانوا يسخرون منه بسبب عدم معرفتهم به.

وفي آخر الآية يأمر الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَابِ). وتلك دعوة للموحدين الصادقين والمؤمنين الرساليين أن يسلّموا أمام الأوامر الإلهية.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (٣٨) يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (٤٠)

الحوادث الثابتة والمتغيرة : تتابع هذه الآيات المسائل المتعلقة بالنبوّة ، ففي الآية الاولى يقول تعالى : (وَكَذلِكَ أَنزَلْنهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا).

«العربي» : كما يقول الراغب في مفرداته «الفصيح البيّن من الكلام» وعلى هذا فوصف القرآن بالعربي لأنّ أحكامه واضحة وبيّنة.

ثم يخاطب القرآن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلحن التهديد وبشكل قاطع حيث يقول : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِىّ وَلَا وَاقٍ). وبما أنّ احتمال الانحراف غير موجود إطلاقاً في شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لما يتميّز به من مقام العصمة والمعرفة ، فهذا التعبير ـ أوّلاً : ـ يُوضّح أنّ الله سبحانه وتعالى ليس له إرتباط خاص مع أي أحد حتى لو كان نبيّاً ، فمقام الأنبياء الشامخ إنّما هو بسبب عبوديتهم وتسليمهم وإستقامتهم.

٥١٤

وثانياً : تأكيد وإنذار للآخرين ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا لم يكن مصوناً من العقوبات الإلهية في حالة انحرافه عن مسيرة الحق وإتّجاهه صوب الباطل ، فما بال الآخرين؟

الآية الاخرى جواب لما كان يستشكله أعداء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. ومن جملة هذه الإشكالات :

أوّلاً : كان البعض يقول : هل من الممكن أن يكون الرسول من جنس البشر ، يتزوج وتكون له ذرّية؟ فالآية تجيبهم وتقول ليس هذا بالأمر الغريب : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً).

ثانياً : كان ينتظر هؤلاء من الرسول أن يجيبهم على كل معجزة يقترحونها عليه بما تقتضيه أهواؤهم ، سواء آمنوا أو لم يؤمنوا ، ولكن يجب أن يعلم هؤلاء أنّ (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بَايَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ).

ثالثاً : لماذا جاء نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيّر أحكام التوراة والإنجيل؟ وتجيب الجملة الأخيرة من الآية فتقول : (لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ) كيما تبلغ البشرية المرحلة النهائية من الرشد والتكامل فليس من العجيب أن ينزّل يوماً التوراة ، ويوماً آخر الإنجيل ، ثم القرآن ، لأنّ البشرية في تحوّلها وتكاملها بحاجة إلى البرامج المتغيرة والمتفاوتة.

الآية الاخرى بمنزلة التأكيد والاستدلال لما ورد في ذيل الآية السابقة ، وهو أنّ لكل حدث وحكم زمن معين كما يقال : إنّ الامور مرهونة بأوقاتها ، وإذا رأيت أنّ بعض الكتب السماوية تأخذ مكان البعض الآخر فذلك بسبب (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) فيحذف بعض الامور بمقتضى حكمته وإرادته ويثبت اموراً اخرى ، ولكن الكتاب الأصل عنده.

وفي النهاية وللتأكيد أكثر بالنسبة للعقوبات التي كان يوعدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بها وكانوا ينتظرونها حتى أنّهم يقولون : لماذا لا تصبح هذه الوعود عملية؟ يقول تعالى : (وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُم) (من إنتصارك عليهم وهزيمتهم وتحرير أتباعك وأسر أتباعهم في حياتك) (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).

إنّ جملة (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ) تبيّن قانوناً عامّاً وشاملاً وقد اشير إليه في مختلف المصادر الإسلامية ، وهو أنّ تحقّق وصيرورة الحوادث المختلفة للعالم لها مرحلتين : الاولى المرحلة القطعيّة أو الثابتة ، ولا سبيل للتغيير فيها (والتي أشارت إليها الآية أعلاه بام الكتاب) والاخرى المرحلة المتغيرة أو بعبارة اخرى «المشروطة» والتي يجد التغيير سبيلاً

٥١٥

إليها ، وقد عبّر عنها بالمحو والإثبات ، وأحياناً يقال عن المرحلتين : «اللوح المحفوظ» و «لوح المحو والإثبات» كأنّ ما كُتب في اللوح الأوّل محفوظ لا يتغيّر ، أمّا الثاني فمن الممكن محو ما كتب فيه وتغييره.

في تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «من الامور امور محتومة كائنة لا محالة ، ومن الامور امور موقوفة عند الله يقدّم فيها ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت منها ما يشاء ، لم يطلع على ذلك أحداً يعني الموقوفة فأمّا ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيّه ولا ملائكته».

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) (٤٣)

البشرية فانية ووجه الله باق : بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث مع منكري رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد تابعت هذه الآيات كذلك نفس البحث. يقول تعالى أوّلاً : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا). من الواضح أنّ المقصود من «الأرض» هنا هم أهل الأرض ، يعني أنّ هؤلاء لا ينظرون إلى هذا الواقع من أنّ الأقوام والحضارات والحكومات في حال الزوال والإبادة ، وإنذار لكل الناس ، الصالح منهم والطالح ، حتى العلماء الذين يشكّلون أركان المجتمع البشري يكون موت أحدهم أحياناً نقصاناً للدنيا.

ثم يضيف : (وَاللهُ يَحْكُمُ لَامُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). ولذلك فإنّ قانون الفناء مكتوب على جبين كل الأفراد والامم من جهة ، ومن جهة اخرى لا يستطيع أحد أن يغيّر هذا الحكم ولا الأحكام الاخرى ، ومن جهة ثالثة أنّ حساب العباد سريع جدّاً ، وبهذا الترتيب يكون جزاؤه قاطعاً.

ثم يستمر البحث في الآية الثانية ويقول : ليست هذه الفئة فقط نهضت بمكرها ومحاربتها لك ، بل (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ). لكن خططهم كُشفت ، واجهضت مؤامرتهم بأمر من الله ، لأنّه أعلم الموجودات بهذه المسائل (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا) ذاك هو العالم بكل شيء

٥١٦

و (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ). ثم يحذرهم بصيغة التهديد من عاقبة عملهم ويقول : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ).

الآية الأخيرة من هذا البحث (كما بدأت هذه السورة بكتاب الله والقرآن) تُنهي سورة الرعد في التأكيد أكثر على معجزة القرآن. يقول تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً). فهم يصطنعون كل يوم عذراً ، ويطلبون في كل وقت المعاجز ، ثم آخر الأمر يقولون : لست بنبي! قل في جوابهم : (قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ). فالله سبحانه وتعالى يعلم بأنّي رسوله ، وكذلك هؤلاء لهم المعرفة الكافية بأنّ القرآن هو كتاب سماوي ، وهذا تأكيد جديد على إعجاز القرآن بمختلف جوانبه.

نهاية تفسير سورة الرعد

* * *

٥١٧

٥١٨

١٤

سورة ابراهيم

هذه السورة مكية بإستثناء الآيات (٢٨) و (٢٩) طبقاً لما قاله كثير من المفسرين أنّها نزلت بالمدينة في قتلى المشركين في بدر.

محتوى السورة : المعلوم من اسم السورة أنّ قسماً منها نازل بشأن بطل التوحيد ومحطّم الأصنام سيّدنا إبراهيم عليه‌السلام (قسم من أدعيته).

والقسم الآخر من هذه السورة يشير إلى تاريخ الأنبياء السابقين أمثال نوح وموسى ، وقوم عاد وثمود ، وما تحتوي من دروس وعبر فيها.

وتكمل هذه المجموعة من البحوث في السورة آيات الموعظة والنصيحة والبشارة والإنذار.

إنّ قسماً كبيراً منها أيضاً يبحث مواضيع «المبدأ» و «المعاد».

وخلاصة هذه السورة أنّها تبيّن عقائد ونصائح ومواعظ سيرة الأقوام الماضية ، والهدف من رسالة الأنبياء ونزول الكتب السماوية.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من قرأ سورة إبراهيم والحجر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها».

٥١٩

وكما أسلفنا مراراً فإنّ ما ورد من الثواب حول قراءة السور القرآنية يلازمه التفكر ومن ثم العمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) (٣)

الخروج من الظلمات إلى النور : شرعت هذه السورة ـ كبعض السور القرآنية الاخرى ـ بالحروف المقطعة ، والنقطة التي يجب ملاحظتها هنا أنّ من بين ٢٩ مورداً لسور القرآن التي ابتدأت بالحروف المقطعة هناك ٢٤ مورد ذكر بعدها مباشرةً القرآن الكريم ، والتي تُبيّن أنّ هناك علاقة بين الاثنين ، أي بين الحروف المقطعة والقرآن ، ولعل هذه العلاقة هي نفسها التي ذكرناها في بداية سورة البقرة ، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يوضّح من خلال هذا البيان أنّ هذا الكتاب السماوي العظيم المتعهد لقيادة الإنسانية يتكوّن من مواد بسيطة تسمّى بحروف الألفباء ، وهذه تشير إلى أهمية هذا الإعجاز ، حيث يوجد أصدق بيان من أبسط بيان.

وعلى أيّة حال فبعد ذكر الحروف (الر) يقول تعالى : (كِتَابٌ أَنزَلْنهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ).

إنّ جميع الأهداف التربوية والإنسانية ، المعنوية والمادية من نزول القرآن قد جُمعت في هذه الجملة (الخروج من الظلمات إلى النور) أي الخروج من ظلام الجهل إلى نور المعرفة ، ومن ظلام الكفر إلى نور الإيمان ، من ظلم الظالمين إلى نور العدالة ، ومن الفساد إلى الصلاح ، ومن الذنوب إلى الطهارة والتقوى ، ومن التفرقة والنفاق إلى نور الوحدة.

ومن الطريف أنّ «الظلمات» هنا جاءت بصيغة الجمع و «النور» بصيغة المفرد ، وهذه إشارة إلى أنّ كل الحسنات والطيبات والإيمان والتقوى لها حالة واحدة في ظلّ التوحيد

٥٢٠