مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

ثم يشير سبحانه إلى قسمين آخرين من الثمار عظيمي الفائدة ، جَيلي النفع في مجال التغذية البشرية إذ يقول : (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ).

إنّ اختيار هاتين بالذِكر من بين أشجار كثيرة إنّما هو لأجل أنّ هاتين الشجرتين : (شجرة الزيتون وشجرة الرمان) رغم تشابههما من حيث الظاهر والمظهر تختلفان اختلافاً شاسعاً من حيث الثمرة ، ومن حيث الخاصية الغذائية ، ولهذا عقّب على قوله ذلك بهاتين الكلمتين : (مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ).

وبعد ذكر كل هذه النعم المتنوّعة يقول سبحانه : (كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ).

ثم ينهى في نهاية المطاف عن الإسراف إذ يقول تعالى : (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَايُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ). «الإسراف» : تجاوز حدّ الاعتدال في كل فعل يفعله الإنسان. وهذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى عدم الإسراف في الأكل ، أو عدم الإسراف في الإنفاق والبذل.

(وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٤٤)

إنّ هذه الآيات ـ كما أشرنا إلى ذلك ـ بصدد إبطال أحكام خرافية جاهلية كان المشركون يدينون بها في مجال الزراعة والأنعام. ففي الآية المتقدمة جرى الحديث حول أنواع المزروعات والثمار التي أنشأها الله ، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول الحيوانات المحللة اللحم ، وما تؤدّيه من خدمات ، وما يأتي منها من منافع. يقول أوّلاً : إنّ الله هو الذي خلق لكم حيوانات كبيرة للحمل والنقل ، واخرى صغيرة : (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا).

٨١

«حمولة» : جمع وليس لها مفرد وتعني الحيوانات الكبيرة التي تستخدم للحمل والنقل كالإبل والفرس ونظائرها. و «فرش» : هو بنفس المعنى المتعارف ، ولكن فُسّر هنا بالغنم وما يشابهه من الحيوانات الصغيرة.

ثم إنّ الآية الشريفة تخلص إلى القول بأنّه لما كانت جميع هذه الانعام قد خلقها الله تعالى وحكمها بيده ، فإنّه يأمركم قائلاً : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ).

ولتأكيد هذا الكلام وإبطال أحكام المشركين الخرافية يقول : (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ). فهو الذي أعلن الحرب على آدم منذ بداية الخلق.

الآية الثانية تبيّن قسماً من الحيوانات المحلّلة اللحم ، وبعض الأنعام التي يستفاد منها في النقل ، كما يستفاد منها في تغذية البشر وطعامهم أيضاً فيقول : إنّ الله خلق لكم ثمانية أزواج من الأنعام : زوجين من الغنم (ذكر وانثى) ، وزوجين من المعز : (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ).

وبعد ذكر هذه الأزواج الأربعة يأمر تعالى نبيّه فوراً بأن يسألهم بصراحة : هل أنّ الله حرّم الذكور منها أم الاناث : (قُلْءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ). أم أنّه حرّم عليهم ما في بطون الإناث من الأغنام ، أم ما في بطون الإناث من المعز؟ : (أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ).

ثم يضيف قائلاً : إذا كنتم صادقين في أنّ الله حرّم شيئاً مما تدعونه ، وكان لديكم ما يدل على تحريم أيّ واحد من هذه الأنعام فهاتوا دليلكم على ذلك : (نَبُونِى بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

ثم في الآية اللاحقة يبين الأزواج الأربعة الاخرى من الأنعام التي خلقها الله للبشر ، إذ يقول : وخلق من الإبل ذكراً وانثى ، ومن البقر ذكراً وانثى ، فأيّ واحد من هذه الأزواج حرّم الله عليكم : الذكور منها أم الإناث؟ أم ما في بطون الإناث من الإبل والبقر : (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ).

إنّ الحكم بتحليل هذه الأنعام وتحريمها إنّما هو بيد الله ، خالقها وخالق البشر وخالق العالم كله. ولقد صرّح في الآية السابقة بأنّه لم يكن لدى المشركين أيّ دليل علمي أو عقلي على تحريم هذه الأنعام ، وحيث إنّهم لم يَدّعوا أيضاً نزول الوحي عليهم ، أو النبوة ، فعلى هذا يبقى الاحتمال الثالث فقط ، وهو أن يدّعوا أنّهم حضروا عند أنبياء الله ورسله يوم أصدروا هذه

٨٢

الأحكام ، ولهذا يقول الله لهم في مقام الإحتجاج عليهم : هل حضرتم عند الأنبياء وشهدتم أمر الله لهم بتحليل أو تحريم شيء من هذه الأنعام : (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذَا).

وحيث إنّ الجواب على هذا السؤال هو الآخر بالنفي والسَلب ، يثبت أنّهم ما كانوا يمتلكون في هذا المجال إلّاالإفتراء ، ولا يستندون إلّاإلى الكذب.

ولهذا يضيف في نهاية الآية قائلاً : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

فيستفاد من هذه الآية أنّ الإفتراء على الله من أكبر الذنوب والآثام ، إنّه ظلم لله تعالى ولمقامه الربوبيّ العظيم ، وظلم لعباد الله ، وظلم للنفس.

(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤٥)

ثم إنّه تعالى ـ بهدف تمييز المحرمات الإلهية عن البِدع التي أحدثها المشركون وأدخلوها في الدين الحق ـ أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الآية بأن يقول لهم بكل صراحة ، ومن دون إجمال أو إبهام : (لَّاأَجِدُ فِى مَا أُوحِىَ إِلَىَّ) من الشريعة أيّ شيء من الأطعمة يكون (مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) من ذكر أو انثى ، وصغير أو كبير.

اللهم (إِلَّا) عدّة أشياء ، الأوّل : (أَن يَكُونَ مَيْتَةً).

أَوْ يكون (دَمًا مَّسْفُوحًا) وهو ما خرج من الذبيحة عند التذكية بالقدر المتعارف (لا الدّماء التي تبقى في جسم الذبيحة في عروقها الشعرية الدقيقة ، بعد خروج قدر كبير منها بعد الذبح).

(أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ).

لأنّ جميع هذه الأشياء رجس ومنشأ لمختلف الأضرار (فَإِنَّهُ رِجْسٌ).

ثم أشار تعالى إلى نوع رابع فقال : (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) (١). أي التي لم يذكر اسم الله

__________________

(١) «اهلّ» : أصله «الإهلال» وهو مأخوذ في الأصل من الهلال والإهلال يعني رفع الصَوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل لكل صوت رفيع ، كما أنّه يطلق على بكاء الصبي عند الولادة الإستهلال ، وحيث إنّهم كانوا يذكرون أسماء أصنامهم بصوتٍ عالٍ عند ذبح الأنعام عبِرّ عن فعلهم هذا بالإهلال.

٨٣

عليها عند ذبحها ، لأنّها ـ من الناحية الأخلاقية والمعنوية ـ تدل على الإبتعاد عن الله وعن جادة التوحيد ولهذا حرّمت أيضاً.

وعلى هذا الأساس أنّ الشروط الإسلامية المقررة في الذبح على نوعين : بعضها ـ مثل قطع الأوداج الأربعة ، وخروج القدر المتعارف من دم الذبيحة ـ لها جانب صحّي. وبعضها الآخر ـ مثل توجيه مقاديم الذبيحة نحو القبلة عند الذبح ، وذكر اسم الله عنده ، وكون الذابح مسلماً ـ لها جانب معنوي.

ثم إنّه سبحانه استثنى ـ في آخر الآية ـ من اضطر إلى تناول شيء مما ذكر من اللحوم المحرّمة ، كما لو لم يجد أيّ طعام آخر وتوقّفت حياته على تناول شيء من تلك اللحوم ، إذ قال :

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (١). يعني أنّ من اضطرّ إلى أكل شيء مما ذكرِ من المنهيات فلا إثم عليه ، بشرط أن يكون للحفاظ على حياته ، لا للذة ، ولا مستحلّاً لما حرّمه الله ، أو متجاوزاً حدّ الضرورة ، ففي هذه الصورة (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وإنّما اشترط هذان الشرطان لكي لا يتذرّع المضطرون بهذه الإباحة فيتعدّوا حدود ما قرّره الله بحجة الاضطرار.

(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١٤٧)

إنّ هاتين الآيتين تشيران إلى بعض ما حرّم على اليهود ليتبين أنّ أحكام الوثنيين الخرافية والمجهولة لا تنطبق لا على أحكام الإسلام ، ولا على دين اليهود (بل ولا على دين المسيح الذي يتبع في أكثر أحكامه الدين اليهودي). ولهذا يقول سبحانه في البداية : (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ).

يستفاد من الآية المبحوثة أنّ جميع الحيوانات التي لا تكون ذات أظلاف ـ دواباً كانت أو طيوراً ـ كانت محرّمة على اليهود.

__________________

(١) «الباغي» : من «البَغْي» وهو يعني الطلب ؛ و «العادي» : من «العَدْو» وهو يعني التجاوز.

٨٤

ثم يقول سبحانه : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا).

ثم يستثني بعد هذا ثلاثة موارد :

(أوّلها :) الشحوم الموجودة في موضع الظهر من هذين الحيوانين إذ يقول : (إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا).

وثانياً : الشحوم الموجودة على جنبيها ، أو بين أمعائها : (أَوِ الْحَوَايَا) (١).

وثالثاً : الشحوم التي امتزجت بالعظم والتصقت به (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ).

ولكنه صرّح في آخر الآية بأنّ هذه الامور لم تكن محرّمة على اليهود ولكنهم بسبب ظلمهم وبغيهم حُرمُوا ـ بحكم الله وأمره ـ من هذه اللحوم والشحوم التي كانوا يحبّونها (ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ).

ويضيف ـ لتأكيد هذه الحقيقة ـ قوله : (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) وإنّ ما نقوله هو عين الحقيقة.

ولمّا كان عناد اليهود المشركين أمراً بيّناً ، وكان من المحتمل أن يتصلّبوا ويتمادوا في تكذيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر الله تعالى نبيّه في الآية الاخرى أن يقول لهم إن كذّبوه : إنّ ربّكم ذو رحمة واسعة فهو لا يسارع إلى عقوبتكم ومجازاتكم ، بل يمهلكم لعلكم تؤوبون إليه ، وترجعون عن معصيتكم ، وتندمون من أفعالكم وتعودون إلى الله ، (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ).

ولكن إذا أساؤوا فهم أو استخدام هذا الإمهال الإلهي ، واستمروا في كيل التهم فيجب أن يعلموا أنّ عقاب الله إياهم حتمي لا مناص منه ، وسوف يصيبهم غضبه في المآل : (وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

إنّ هذه الآية تكشف عن عظمة التعاليم القرآنية ، فإنّه بعد شرح وبيان كل هذه المخالفات التي ارتكبها اليهود والمشركون لا يعمد إلى التهديد بالعذاب فوراً ، بل يترك طريق الرجعة مفتوحاً ، وذلك بذكر عبارات تفيض بالحب مثل قوله : «ربّكم» ، «ذو رحمة» ، «واسعة». حتى إذا كان هناك أدنى استعداد للرجوع والإنابة في نفوسهم شوّقتهم هذه العبارات العاطفية على العودة إلى الطريق المستقيم.

__________________

(١) «الحوايا» : جمع «حاوية» وهي مجموعة ما يوجد في بطن الحيوان والتي تكون على هيئة كرة تتضمّن الأمعاء.

٨٥

ولكن حتى لا تبعث سعة الرحمة الإلهية هذه على التمادي في غيّهم ، وتتسبّب في تزايد جرأتهم وطغيانهم ، وحتى يكفّوا عن العناد واللجاج هدّدهم في آخر جملة من الآية بالعقوبة الحتمية.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠)

عقيب الكلام المتقدم عن المشركين في الآيات السابقة ، أشار في هذه الآيات إلى طائفة من استدلالاتهم الواهية ، مع ذكر الأجوبة عنها. فيقول أوّلاً : إنّ المشركين سيقولون في معرض الإجابة عن اعتراضاتك عليهم في مجال الإشراك بالله ، وتحريم الأطعمة الحلال : إنّ الله لو أراد أن لا نكون مشركين ، وأن لا يكون آباؤنا وثنيين ، وأن لا نحرّم ما حرّمنا ، لفعل : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَاءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَىْءٍ).

إنّ المشركين ـ مثل كثير من العصاة ـ يريدون التملّص من مسؤولية العصيان تحت ستار الجبر.

إنّهم كانوا يدّعون أنّ سكوت الله على عبادتهم للأصنام وتحريمهم لطائفة من الحيوانات دليل على رضاه ، لأنّه إذا لم يكن راضياً بها وجب أن يمنعهم عنها بنحو من الأنحاء.

ولكن القرآن تصدّى لجوابهم وناقشهم بشكل قاطع ، فهو يقول أوّلاً : ليس هؤلاء وحدهم يفترون على الله مثل هذه الأكاذيب : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) (١). ولكنهم ذاقوا جزاء افتراءاتهم : (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا).

فهؤلاء كانوا يكذبون في كلامهم هذا ، كما أنّهم يكذّبون الأنبياء ، ولو كان سبحانه راضياً

__________________

(١) «كذّب» : في اللغة تأتي بمعنيين تكذيب الغير ، وكذلك فعل الكذب.

٨٦

بهذه الامور فكيف بعث أنبياءه للدعوة إلى التوحيد؟!

إنّ دعوة الأنبياء أقوى دليل على حرية الإرادة الإنسانية ، واختيار البشر.

ثم يقول سبحانه : قل لهم يا محمّد : هل لكم برهان قاطع ومسلم على ما تدّعونه؟ هاتوه إن كان : (قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا).

ثم يضيف في النهاية : إنّ ما تتبعونه ليس سوى أَوهام وخيالات فجّة : (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ).

وفي الآية اللاحقة يذكر دليلاً آخر لإبطال ادعاء المشركين ، ويقول : قل إنّ الله أقام براهين جلية ودلائل واضحة وصحيحة على وحدانيته ، وهكذا أقام أحكام الحلال والحرام سواء بواسطة أنبيائه أو بواسطة العقل ، بحيث لم يبق أيّ عذر لمعتذر : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ).

وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يدّعي أحدٌ أبداً أنّ الله أمضى ـ بسكوته ـ عقائدهم وأعمالهم الباطلة ، وكذلك لايسعهم قط أن يدّعوا أنّهم كانوا مجبورين ، لأنّهم لو كانوا مجبورين لكان إقامة الدليل والبرهان ، وإرسال الأنبياء وتبليغهم ودعوتهم لغواً ، إنّ إقامة الدليل دليل على حرية الإرادة.

ثم يقول في ختام الآية : ولو شاء الله أن يهديكم جميعاً بالجبر لفعل : (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَيكُمْ أَجْمَعِينَ).

ولكن في مثل هذه الصورة لم يكن لمثل هذا الإيمان ولا للأعمال التي تصدر في ضوء هذا الإيمان الجبري القسري أيّة قيمة ، إنّما فضيلة الإنسان وتكامله في أن يسلك طريق الهداية والتقوى بقدميه وبإرادته وإختياره.

وفي الآية التالية ـ ولكي يتضح بطلان أقوالهم ، ومراعاة لُاسس القضاء والحكم الصحيح ـ دعا المشركين ليأتوا بشهدائهم المعتبرين لو كان لهم ، لكي يشهدوا لهم بأنّ الله هو الذي حرّم الحيوانات والزروع التي ادعوا تحريمها ، لهذا يقول : (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذَا).

ثم يضيف قائلاً : إذا كانوا لا يملكون مثل هؤلاء الشهداء المعتبرين (ولا يملكون حتماً) بل يكتفون بشهادتهم وادّعائهم أنفسهم فقط ، فلا تشهد معهم ولا تؤيّدهم في دعاويهم : (فَإِن شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ).

هذا مضافاً إلى أنّ جميع القرائن تشهد بأنّ هذه الأحكام ما هي إلّاأحكام مصطنعة

٨٧

مختلقة نابعة عن محض الهوى والتقليد الأعمى ، ولا اعتبار لها مطلقاً.

ولذلك قال في العبارة اللاحقة : (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَايَاتِنَا وَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ وَهُم بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١).

يعني أنّ وثنيتهم ، وإنكارهم للقيامة والبعث ، والخرافات ، وإتباعهم للهوى ، شواهد حيّة على أنّ أحكامهم هذه مختلقة أيضاً ، وأنّ إدعاءهم في مسألة تحريم هذه الموضوعات من جانب الله لا قيمة له ، ولا أساس له من الصحة.

(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣)

بعد نفي أحكام المشركين المختلقة التي مرّت في الآيات المتقدمة ، أشارت هذه الآيات الثلاثة إلى أصول المحرمات في الإسلام ، وذكرت الذنوب الرئيسية الكبيرة في عشرة أقسام ببيان مقتضب ، عميق وفريد ، ودعت المشركين إلى أن يحضروا عند النّبي ويستمعوا إلى ما يتلى عليهم من المحرّمات الإلهية الواقعية ، ويتركوا المحرمات المختلقة جانباً. يقول : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ).

١ ـ (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيًا).

__________________

(١) «يعدلون» : مشتق من مادة «عدل» بمعنى الشريك والشبيه ، وعلى هذا الأساس فإنّ مفهوم جملة «وهم بربّهم يعدلون» هو أنّهم كانوا يعتقدون بشريك وشبيه لله سبحانه.

٨٨

٢ ـ (وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا).

٣ ـ (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلدَكُم مِّنْ إِمْلقٍ). أي بسبب الفقر والحرمان لأنّنا (نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ).

٤ ـ (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ). أي لا تقربوها فضلاً عن أن لا ترتكبوها.

٥ ـ (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقّ). فلا تسفكوا الدّماء البريئة ، ولا تقتلوا النفوس التي حرّم الله قتلها إلّاضمن قوانين العقوبات الإلهية ، فيجوز أن تقتلوا من أذن الله لكم بقتله.

ثم إنّه تعالى بعد ذكر هذه الأقسام الخمسة يقول لمزيد من التأكيد : (ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فلا ترتكبوها.

٦ ـ (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ). فلا تقربوا مال اليتيم إلّا بقصد الإصلاح حتى يبلغ أشده ويستوي.

٧ ـ (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ). فلا تطففوا ولا تبخسوا.

وحيث إنّ الإنسان ـ مهما دقق في الكيل والوزن ـ قد يزيد أو ينقص بما لا يمكن أن تضبطه الموازين والمكاييل المتعارفة لقلته وخفائه ، لهذا عقّب على ما قال بقوله : (لَانُكَلّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا).

٨ ـ (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى). فلا تنحرفوا عن جادة الحق عند الشهادة أو القضاء أو أمر آخر حتى ولو كان على القريب ، فاشهدوا بالحق ، واقضوا بالعدل.

٩ ـ (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) ولا تنقضوه.

والمراد من العهد الإلهي المذكور في هذه الآية يشمل جميع العهود الإلهية التكوينية والتشريعية والتكاليف الإلهية وكل عهد ونذر ويمين.

ثم إنّه سبحانه يقول في ختام هذه الأقسام الأربعة ـ للتأكيد ـ : (ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

١٠ ـ (وَأَنَّ هذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ). إنّ طريقي هذا هو طريق التوحيد ، طريق الحق والعدل ، طريق الطهر والتقوى فامشوا فيه ، واتّبعوه ، واسلكوه ولا تسلكوا الطرق المنحرفة والمتفرقة ، فتؤدّي بكم إلى الانحراف عن الله

٨٩

وإلى الاختلاف ، والتشرذم ، والتفرق ، وتزرع فيكم بذور الفرقة والنفاق.

ثم يختم جميع هذه الأقسام وللمرة الثالثة ـ لغرض التأكيد ـ بقوله : (ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

بحثان

١ ـ أهمية الإحسان إلى الوالدين : إنّ ذكر مسألة الإحسان للوالدين ـ بعد مكافحة الشرك مباشرة ، وقبل ذكر تعاليم مهمة مثل حرمة قتل النفس والأمر بالعدل ـ يدل على الأهمية القصوى التي يحظى بها حق الوالدين في التعاليم الإسلامية.

ويتّضح هذا الأمر أكثر عندما نرى أنّ القرآن الكريم ذكر بدل تحريم أذى الوالدين الذي يلائم سياق هذه الآية في استعراضها للمحرمات ، مسألة الإحسان إليهما ، يعني أنّه ليس إزعاج الوالدين وإيذاؤهما محرّماً فقط ، بل يجب الإحسان إليهما.

والأجمل من هذا كله أنّ كلمة «الإحسان» عُدّيت بحرف «الباء» فقال : (وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَانًا). وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الآية تؤكد أنّ موضوع الإحسان إلى الوالدين من الأهمية البالغة بحيث يجب على الإنسان أن يباشر الاحسان بنفسه إلى الوالدين.

٢ ـ قتل الأولاد من الإملاق والجوع : يستفاد من هذه الآيات أنّ العرب في العهد الجاهلي لم يقتصروا على قتل البنات ووأدهن بسبب بعض العصبيات الخاطئة فحسب ، بل كانوا يقتلون أولادهم الذين كانوا يُعدّون ثروة كبرى في المجتمع يومذاك ، وذلك بسبب الفقر وخشيتهم من الفاقة.

ولكن هذا العمل الجاهلي ـ وللأسف البالغ ـ يتكرّر الآن في عصرنا في صورة اخرى ، إذ نلاحظ كيف يعمد الناس إلى قتل الأطفال الأبرياء وهم أجنّة عن طريق الكورتاج والإجهاض بحجة النقصان الاحتمالي في المواد الغذائية.

إنّ إسقاط الجنين وإن كان يُبرّر الآن بأدلة وحجج اخرى أيضاً ، إلّاأنّ مسألة الفقر ومسألة نقصان المواد الغذائية ، هي من أدلتها الأصلية.

هذه المسألة والمسائل المشابهة الاخرى تشير إلى أنّ العهد الجاهلي يتكرر في شكل آخر ، وأنّ «جاهلية القرن العشرين» أكثر وحشية من جاهلية ما قبل الإسلام.

٩٠

(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) (١٥٧)

في الآيات السابقة دار الحديث عن عشرة من أحكام الإسلام الأساسية التي لم تكن مختصّة بالإسلام ، بل هي موجودة ومقررة في جميع الأديان ، ثم قال عقيب ذلك في هذه الآيات : (ثُمَّءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ). فقد أتممنا نعمتنا على المحسنين والذين سلّموا لأمره واتّبعوه.

إنّ عبارة : (الَّذِى أَحْسَنَ) إشارة إلى جميع المحسنين ، والذين يستجيبون للحق ، ويقبلون بالأوامر الإلهية.

(وَتَفْصِيلاً لِّكُلّ شَىْءٍ) فإنّ فيه كل شيء مما يحتاج إليه المجتمع ، ومما له أثر في تكامل الإنسان وترشيده.

(وَهُدًى وَرَحْمَةً). أي أنّ في هذا الكتاب الذي نزل على موسى مضافاً إلى ما سبق : هدى ورحمة.

إنّ جميع هذه البرامج ما هي إلّالكي يؤمنوا بيوم القيامة ، وبلقاء الله ، ولكي يُطهّروا عن طريق الإيمان بالمعاد أفكارهم ، وأقوالهم ، وأعمالهم ويزكّوها : (لَعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ).

الآية اللاحقة تشير إلى نزول القرآن وتعليماته القيّمة ، وبذلك أكملت البحث المطروح في الآية السابقة ، يقول تعالى : (وَهذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) فهذا الكتاب الذي أنزلناه كتاب عظيم الفائدة ، عظيم البركة ، وهو المنبع لكل أنواع الخير والبركة.

ولمّا كان الأمر كذلك وَجَبَ اتّباعه بصورة كاملة ، ووجب التزوّد بالتقوى ، والتجنّب

٩١

عن مخالفته ، لتشملكم رحمة الله ولطفه (فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

وفي الآية الثالثة أبطل سبحانه جميع المعاذير والتحججات وسدّ جميع طرق التملّص والفرار في وجه المشركين ، فقال لهم أوّلاً : لقد أنزلنا هذا الكتاب مع هذه المميزات لكي لا تقولوا : لقد نزلت الكتب السماوية على الطائفتين السابقتين (اليهود والنصارى) وكنّا عن دراستها غافلين ، وليس تمرّدنا على أوامر الله إلّالكونها موجودة عند غيرنا من الامم ، ولم يبلغنا منها شيء : (أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ).

ثم إنّه سبحانه ينقل عنهم ـ في الآية اللاحقة ـ نفس ذلك التحجج ولكن بصورة أوسع ، ومقروناً هذه المرّة بنوع أشد من الغرور والصّلف وهو : أنّ القرآن الكريم لو لم ينزل عليهم لكان من الممكن أن يدّعوا أنّهم كانوا أكثر استعداداً من أيّة امة اخرى لقبول الأمر الإلهي : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ).

والآية المتقدّمة كانت تعكس هذا التحجج وهو : أنّ عدم اهتدائنا إنّما هو بسبب غفلتنا وجهلنا بالكتب السماوية ، وهذه الغفلة وهذا الجهل ناشىء عن أنّ هذه الكتب نزلت على الآخرين ، ولم تنزل علينا. أمّا هذه الآية فتعكس صفة الإحساس بالتفوّق والإدعاء الفارغ الذي كانوا يدّعونه عن تفوّق العنصر العربي على غيرهم.

فإنّ القرآن يقول في معرض الرّد على هذه الإدعاءات أنّ الله سبحانه سدّ عليكم كل سُبل التملّص والفرار ، وأبطل جميع الذرائع والمعاذير ، لأنّ الله آتاكم كل الآيات ، وأقام كل الحجج المقرونة بالهداية الإلهية وبالرحمة الربانية لكم : (فَقَدْ جَاءَكُم بَيّنَةٌ مِّن رَّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ). ومع ذلك (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بَايَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا).

«صدف» : من «الصَدْف» ويعني الإعراض الشديد ـ من دون تفكير ـ عن شيء ، وهو إشارة إلى أنّهم لم يكونوا ليعرضوا عن آيات الله فحسب ، بل كانوا يبتعدون عنها.

وفي خاتمة هذه الآية بيّن الله تعالى العقاب الأليم الذي اعدّ لهؤلاء المخاصمين المعاندين الذين يرفضون الحقائق وينكرونها من دون أن يفكّروا فيها ويدرسوها ولو قليلاً ، بل ولا يكتفون برفضها إنّما يعمدون إلى صدّ الآخرين عنها ، ويحولون بينهم وبين سماعها واستيعابها ، بيّن كل ذلك في قوله الموجز والبليغ : (سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْءَايَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ).

٩٢

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨)

في الآيات السابقة تبيّنت هذه الحقيقة وهي : أنّنا أتممنا الحجة على المشركين ، وآتيناهم الكتاب السماوي (أي القرآن) لهدايتهم جميعاً ، لكي لا يبقى لديهم أيّ عذر يبرّرون به مخالفتهم للرسالة ومعارضتهم للدعوة. وهذه الآية تقول : ولكن هؤلاء الأشخاص المخاصمين المعاندين بلغوا في لجاجهم وعنادهم حدّاً لا يؤثّر فيهم حتى هذا البرنامج الواضح البيّن ، وكأنّهم يتوقعون وينتظرون هلاكهم ، أو ذهاب آخر فرصة ، أو ينتظرون اموراً مستحيلة. فيقول أوّلاً : (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلِكَةُ) لتقبض أرواحهم.

(أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ) إليهم فيرونه ، حتى يؤمنوا به.

ويراد من هذا الكلام أنّهم ينتظرون اموراً مستحيلة.

ثم يقول : أو أنّكم تنتطرون أن تتحقق بعض الآيات الإلهية والعلامات الخاصة بيوم القيامة ونهاية العالم يوم تنسدّ كل أبواب التوبة : (أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُءَايَاتِ رَبّكَ).

ثم يضيف عقيب ذلك قائلاً : (يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُءَايَاتِ رَبّكَ لَايَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا) فأبواب التوبة حينذاك مغلقة في وجوه الذين لم يؤمنوا إلى تلك الساعة ، لأنّ التوبة ساعتئذ تكون ذات صبغة اضطرارية إجبارية ، وفاقدة لمعطيات الإيمان الاختياري وقيمة التوبة النصوح.

ثم إنّه في المقطع الأخير من الآية يوجّه تهديداً شديداً إلى هؤلاء الأشخاص المعاندين ، إذ يقول بنبرة شديدة : (قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ).

إنّ من النقاط الهامة التي نستفيدها من الآية الحاضرة هو أنّ الآية تعتبر طريق النجاة منحصرة في الإيمان ، ذلك الإيمان الذي يكتسب المرء فيه خيراً ويعمل في ظلّه عملاً صالحاً.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (١٦٠)

٩٣

تعقيباً على التعاليم والأوامر العشر التي مرّت في الآيات السابقة ، والتي امر في آخرها بإتباع الصراط الإلهي المستقيم ، وبمكافحة أي نوع من أنواع النفاق والتفرقة ، جاءت هذه الآية تتضمّن تأكيداً على هذه الحقيقة ، وتفسيراً وشرحاً لها. فيقول تعالى أوّلاً : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ) (١). أي أنّ الذين اختلفوا في الدين وتفرّقوا فرقاً وطوائف لا يمتّون إليك بصلة أبداً ، كما لا يرتبطون بالدين أبداً ، لأنّ دينك هو دين التوحيد ، ودين الصراط المستقيم ، والصراط المستقيم ما هو إلّاواحد لا أكثر.

ثم قال تعالى ـ مُهدّداً مُوبّخاً اولئك المفرّقين ـ : (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). أي أنّ الله هو الذي سيؤاخذهم بأعمالهم وهو عليم بها ، لا يغيب شيء منها.

محتوى هذه الآية يمثّل حكماً عامّاً يشمل كل من يفرّق الصفوف ، وكل من يبذر بذور النفاق والاختلاف بين عباد الله بابتداع البدع ، من دون فرق بين من كان يفعل هذا في الامم السابقة أو في هذه الامة.

هذه الآية تكرّر مرّة اخرى ـ وبمزيد من التأكيد ـ هذه الحقيقة وهي أنّ الإسلام دين الوحدة والإتحاد وأنّه يرفض كل لون من ألوان التفرقة وإلقاء الاختلاف في صفوف الامة.

في الآية اللاحقة إشارة إلى الرحمة الإلهيّة الواسعة ، وإلى الثواب الإلهي الواسع الذي ينتظر الأفراد الصالحين المحسنين وقد عقّبت التهديدات المذكورة في الآية بهذه التشجيعات : (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا).

ثم قال : (وَمَن جَاءَ بِالسَّيّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا).

وللتأكيد يضيف هذه الجملة أيضاً فيقول : (وَهُمْ لَايُظْلَمُونَ) وإنّما يعاقبون بمقدار أعمالهم.

و «الحسنة» و «السيئة» في الآية الحاضرة يشمل كل عمل صالح وفكر صالح وعقيدة صالحة أو سيئة.

__________________

(١) «الشِيَع» : من حيث اللغة تعني الفرق والطوائف المختلفة وأتباع الأشخاص المختلفين ، وعلى هذا فإنّ مفردهذه الكلمة يعني من يتّبع مدرسة أو شخصاً معيّناً ، هذا هو المعنى اللغوي لكلمة الشيعة. ولكن للفظة الشيعة معنى آخر في الإصطلاح ، فهو يُطلق على من يتبع أميرالمؤمنين علياً عليه‌السلام ويشايعه ، ولا يصح أن نخلط بين المعنيين اللغوي والإصطلاحي.

٩٤

(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١٦٣)

هذه الآية والآيات الاخر التي سنقرؤها فيما بعد والتي ختمت بها سورة الأنعام ، تعتبر خلاصة الأبحاث المطروحة في هذه السورة التي بدأت وانتهت بمكافحة الشرك والوثنية ، وتركّزت أحاديثها على توضيح هذا الأمر. ففي البداية أمرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقول في مواجهة معتقدات المشركين والوثنيين ومزاعمهم الجوفاء والعارية عن المنطق السليم : (قُلْ إِنَّنِى هَدَينِى رَبّى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ). أي طريق التوحيد ، ورفض كل أشكال الشرك والوثنية.

ذكر كلمة «قل» في هذه الآيات وأمثالها في نص القرآن ، إنّما هو لحفظ أصالة القرآن ، وللدلالة على أنّ ما يأتي بعدها هو عين الكلمات التي اوحيت إلى رسول الله.

ثم إنّه تعالى يوضّح «الصراط المستقيم» في هذه الآية والآيتين اللاحقتين. فهو يقول أوّلاً : إنّه الدين المستقيم الذي هو في نهاية الصحة والاستقامة ، وهو الأبدي الخالد القائم المتكفل لُامور الدين والدنيا والجسد والروح : (دِينًا قِيَمًا).

وحيث إنّ العرب كانوا يكنّون لإبراهيم عليه‌السلام محبة خاصة ، بل كانوا يصفون عقيدتهم ودينهم بأنّه دين إبراهيم ، فهذا هو الذي أدعو أنا إليه لا ماتزعمونه : (مّلَّةَ إِبْرهِيمَ).

إبراهيم عليه‌السلام الذي أعرض عن العقائد الخرافية التي كانت سائدة في عصره وبيئته ، وأقبل على التوحيد (حَنِيفًا). و «الحنيف» : يعني الشخص أو الشيء الذي يميل إلى جهة ما ، وأمّا في المصطلح القرآني فيطلق هذا الوصف على من يعرض عن عقيدة عصره الباطلة ويولّي وجهه نحو الدين الحق والعقيدة الحقة.

وكأنّ هذا التعبير جواب وردّ على مقالة المشركين الذين كانوا يعيبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مخالفته للعقيدة الوثنية التي كانت دين أسلافهم من العرب ، فقال النبي في معرض الردّ على مقالتهم هذه ، بأنّ نقض السنن الجاهلية والإعراض عن العقائد الخرافية السائدة في البيئة ليس هو من فعلي فقط ، بل كان إبراهيم ـ الذي نحترمه جميعاً ـ كذلك أيضاً.

٩٥

ثم يضيف للتأكيد قائلاً : (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بل هو بطل الكفاح ضد الوثنية ، وحامل الحرب ضد الشرك ، الذي لم يفتأ لحظة واحدة عن محاربته وكفاحه.

الآية اللاحقة تشير إلى أنّه على النّبي أن يقول : إنّي لست موحّداً من حيث العقيدة فحسب ، بل إنّي أعمل كل عمل صالح : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ) فأنا أحيى لله ، وله أموت ، وأفدي بكلّ شيء لأجله ، وكل هدفي وكل حبّي بل كل وجودي له.

و «النُسُك» : يعني في الأصل العبادة ، ولذا يقال للعابد : ناسك ، ولكن هذه الكلمة تطلق في الأغلب على أعمال الحج فيقال : مناسك الحج.

ثم في الآية الثالثة يضيف للتأكيد وإبطالاً لأيّ نوع من أنواع الشرك والوثنية قائلاً : (لَا شَرِيكَ لَهُ).

ثم يقول في ختام الآية : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).

فإنّ كون رسول الإسلام أوّل المسلمين ، إمّا من جهة كيفية إسلامه وأهميته ، لأنّ درجة إسلامه وتسليمه أعلى وأفضل من الجميع ، وإمّا لأنّه كان أوّل فرد من هذه الامة التي قبلت بالإسلام والقرآن.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١٦٤)

هذه الآية شجبت منطق المشركين من طريق آخر ، حيث قال سبحانه لنبيه : قل لهم واسألهم : هل من الصحيح أن أطلب رباً غير الله الواحد في حين أنّه هو المالك والمربي ، وهو رب كل شيء وبيده أزمة جميع الكائنات ، وحكمه جار في جميع ذرات الوجود بلا استثناء : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْءٍ).

ثم إنّه يردّ على جماعة من المشركين المتحجرين ممن قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اتّبعنا وعلينا وزرك إن كان خطأً. قائلاً : (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فلا يعمل أحد إلّالنفسه ، ولا يحمل أحد وزر أحد.

(ثُمَّ إِلَى رَبّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فمآلكم إليه وهو يخبركم عن جميع ما اختلفتم فيه.

٩٦

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥)

في هذه الآية التي هي آخر الآيات من سورة الأنعام إشارة إلى أهمية مقام الإنسان ومكانته في عالم الوجود لتكميل الأبحاث الماضية في مجال تقوية دعائم التوحيد ، ومكافحة الشرك. لهذا قال تعالى في مطلع كلامه : (هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلئِفَ الْأَرْضِ).

إنّ الإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه ، والذي سُخّرت له كل منابع هذا العالم وصدر الأمر بحكومته على جميع الموجودات من جانب الله تعالى ، لا يجوز أن يسمح لنفسه بالسقوط إلى درجة السجود للجمادات.

ثم أشار سبحانه إلى اختلاف المواهب والاستعدادات في المواهب البدنية والروحية لدى البشر ، والهدف من هذا الاختلاف والتفاوت ، فيقول : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَاءَاتَاكُمْ) من المواهب المتنوعة والمتفاوتة ويختبركم بها.

ثم تشير في خاتمة الآية الحاضرة إلى حرية الإنسان في اختيار طريق السعادة وطريق الشقاء نتيجة هذه الاختبارات والإبتلاءات ، إذ يقول : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ). فإنّ ربك سريع العقاب مع الذين يفشلون في هذا الاختبار ، وغفور رحيم للذين ينجحون فيه ويسعون لإصلاح أخطائهم.

بحثان

١ ـ التفاوت بين أفراد البشر ومبدأ العدالة : لا شك أنّ بين أفراد البشر طائفة من الاختلافات والفوارق المصطنعة ، التي هي نتيجة المظالم التي يمارسها بعض أفراد البشر ضد الآخرين ، فهناك مثلاً جماعة يمتلكون ثروات هائلة ، وجماعات اخرى تعاني من الفقر المدقع.

جماعة يعانون من المرض والعلة بسبب سوء التغذية وندرة الوسائل الصحية ، في حين يحظى أفراد معدودون بقدر كبير من السلامة والعافية ، بسبب توفّر جميع الإمكانيات.

إنّ مثل هذه الفوارق والاختلافات : الثروة والفقر ، والعلم والجهل ، والسلامة والمرض ، هي في الأغلب وليدة الاستعمار والاستثمار ، وهي مظاهر مختلفة للعبودية والمظالم الظاهرة والخفية.

٩٧

إنّ من المسلم أنّه لا يمكن أن تعتبر هذه الامور من فعل المشيئة الإلهية وليس من الصحيح مطلقاً الدفاع عن مثل هذه الاختلافات غير المبرّرة أساساً.

إنّ أفراد البشر يشكلون من حيث المجموع شجرة كبيرة واحدة يقوم كل فرد برسالة خاصة في هذا الصرح العظيم ، وله بنيان مخصوص يتلاءم مع وظائفه.

ولهذا يقول القرآن الكريم : إنّ هذه الفوارق وهذا التفاوت وسيلة لاختباركم وامتحانكم ، لأنّ الاختبار والامتحان الإلهي ـ كما قلنا سابقاً ـ يعني «التربية».

٢ ـ خلافة الإنسان في الأرض : إنّ النقطة الاخرى الجديرة بالاهتمام ، هي أنّ القرآن الكريم وصف الإنسان مراراً بأنّه خليفة الله في أرضه ، إنّ هذا الوصف ، وهذا التعبير ضمن بيانه لمكانة الإنسان يبيّن هذه الحقيقة أيضاً ، وهي : أنّ الله تبارك وتعالى هو المالك الأصلي والحقيقي للأموال والثروات والقابليات ، وجميع المواهب الإلهية الممنوحة للإنسان ، وما الإنسان ـ في الحقيقة ـ إلّاخليفة الله ووكيل من جانبه ، ومأذون من قبله.

ومن البديهي أنّ الوكيل ـ مهما كان ـ فهو غير مستقل في تصرفاته ، بل يجب أن تخضع تصرفاته لإذن صاحبها الأصلي ، وتقع ضمن إجازته.

ومن هنا يتضح أنّ الإسلام ـ مثلاً ـ يختلف عن النظام الشيوعي ، وكذا عن النظام الرأسمالي في مسألة المالكية ، لأنّ الفريق الأوّل يخصص الملكية بالجماعة ، والفريق الثاني يخصصها بالفرد ، بينما يقول الإسلام : الملكية لا هي للفرد ولا هي للمجتمع ، بل هي في الحقيقة لله تعالى ، والناس وكلاء الله ، وخلفاؤه.

وبهذا الدليل نفسه يراقب الإسلام طريقة تصرف الأفراد في الأموال كسباً وصرفاً ، ويضع لكل ذلك قيوداً وشروطاً تجعل الاقتصاد الإسلامي نظاماً متميزاً في مقابل الأنظمة الاخرى.

نهاية تفسير سورة الأنعام

* * *

٩٨

٧

سورة الاعراف

هذه السورة من السور المكية إلّاقوله تعالى : (وَاسَلْهُم عَنِ الْقَرْيَةِ) إلى (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) الذي نزل في المدينة.

محتوى السورة : يشير في البدء إلى مسألة المبدأ والمعاد.

ثم بهدف إحياء شخصية الإنسان شرحت ـ باهتمام وعناية كبيرة ـ قصة خلق آدم.

ثم عدّدت ـ بعد ذلك ـ المواثيق التي أخذها الله تعالى من أبناء آدم في مسير الهداية والصلاح ، واحداً واحداً.

ثم للتدليل على هزيمة وخسران الجماعات التي تحيد عن سبيل التوحيد والعدالة والتقوى ، وكذا للتدليل على نجاح المؤمنين الصادقين وإنتصارهم ، ذكرت قصص كثير من الاقوام الغابرة والأنبياء السابقين مثل «نوح» و «لوط» و «شعيب» وختمت ذلك ببيان قصة بني إسرائيل ، وجهاد «موسى» ضدّ فرعون ، بصورة مفصلة.

وفي آخر السورة عادت مرّة اخرى إلى مسألة المبدأ والمعاد ، بهذا تتناغم البداية والخاتمة.

فضيلة تلاوة هذه السورة : في تفسير العياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة الأعراف في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فإن قرأها

٩٩

في كل جمعة كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة». ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أما إنّ فيها آياً محكمة فلا تدعوا قراءتها وتلاوتها والقيام بها فإنّها تشهد يوم القيامة لمن قرأها عند ربّه».

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(المص (١) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (٣)

في مطلع هذه السورة نواجه مرّة اخرى «الحروف المقطعة» ، ويمكن أن يكون أحد الأهداف لهذه الحروف هو جلب إنتباه المستمعين ، ودعوتهم إلى السكوت والإصغاء ، لأنّ وجود هذه الحروف في مطلع الكلام موضوع عجيب لم يسبق له مثيل في نظر العرب ، ومن شأنها أن تثير في العربي حبّ الاستطلاع ، وتدعوه إلى متابعة الكلام إلى نهايته.

ثمّ يقول تعالى في الآية اللاحقة : (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ).

«الحرج» : في اللغة يعني الشعور بالضيق وأيّ نوع من أنواع المعاناة.

إنّ العبارة الحاضرة تسلّي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتطمئن خاطره بأنّ هذه الآيات نازلة من جانب الله تعالى فيجب أن لا يشعر صلى‌الله‌عليه‌وآله بأيّ ضيق وحرج ، لا من ناحية ثقل الرسالة الملقاة على عاتقه ، ولا من ناحية ردود فعل المعارضين والأعداء الألدّاء تجاه دعوته ، ولا من ناحية النتيجة المتوقّعة من تبليغه ودعوته.

ثم يضيف تعالى في الجملة اللاحقة أنّ الهدف من نزول هذا الكتاب العزيز هو إنذار الناس وتحذيرهم من عواقب نواياهم وأعمالهم الشريرة ، وتذكير المؤمنين الصادقين ، إذ يقول : (لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).

ثم إنّه سبحانه يوجّه خطابه إلى عامة الناس ويقول : (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ). وبهذا الطريق يكون قد بدأ الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومهمته ورسالته ، وانتهى بوظيفة الناس وواجبهم تجاه الرسالة.

وللتأكيد يضيف سبحانه قائلاً : (وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) فلا تتبعوا غير أوامر الله ، ولا تختاروا وليّاً غير الله.

١٠٠