مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

جميع مؤامراتهم وقد أحصى أعمالهم : (وَعِندَ اللهِ مَكْرُهُمْ). فلا تقلق فإنّهم لا يستطيعون بمكرهم هذا أن يصيبوك بسوء حتى (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ).

«المكر» : بمعنى الإحتيال ، فمرّةً يلازمه الفساد ومرّةً اخرى لا يلازمه ، والمراد بكون مكرهم عند الله إحاطته تعالى به بعلمه وقدرته.

ثم يتوعّد الله الظالمين والمسيئين مرّة اخرى من خلال مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) لأنّ الإخلاف يصدر من الذي ليست له قدرة واستطاعة ، ولكن : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ).

وهذه الآية مكمّلة للآية التي قبلها (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ). وتعني أنّ المهلة التي أعطيت للظالمين ليست بسبب أنّ الله غافل عنهم وعن أعمالهم ولا مخلف لوعده ، بل سينتقم منهم في اليوم المعلوم.

ثم يضيف تعالى : (يَوْم تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّموَاتُ). وسوف يتجدّد كل شيء بعد الدمار ، ويبعث الإنسان في خلق جديد وعالم جديد يختلف في كل شيء عن هذا العالم ، في سعته ، في نعيمه وعقابه وسيظهر الإنسان بكل وجوده لله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ القَهَّارِ).

معنى بروز الناس لله تعالى ، إنكشاف بواطن وظواهر جميع الناس في يوم المحشر ، فالظهور بالقياس إلى علمنا وليس إلى علم الله المطلق.

ووصفه بالقهّار دليل على تسلطه على كل الأشياء وسيطرته على ظاهرها وباطنها.

وتصوّر الآية التالية كيفية بروزهم إلى الله فتقول : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الْأَصْفَادِ).

«الأصفاد» : جمع «صفد» بمعنى الغلّ ؛ و «مقرنين» : من مادة «القرن والإقتران» بمعنى الأشخاص المتقاربين مع بعضهم البعض.

إنّ هذا الغِل هو عبارة عن تجسيد للروابط العملية والفكرية بين المجرمين في هذه الدنيا ، حيث كان يساعد بعضهم البعض على الظلم والفساد ، وتتجسّد هذه العلاقة في الآخرة بصورة سلاسل تربطهم فيما بينهم.

ثم يتطرّق القرآن الكريم إلى لباسهم والذي هو أحد أفراد المجازاة الشديدة : (سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ).

٥٤١

«سرابيل» : جمع «سربال» على وزن «مثقال» بمعنى القميص من أي قماش كان.

و «قطران» : بفتح القاف وسكون الطاء أو بكسر القاف وسكون الطاء ، وهي مادةً تؤخذ من شجرة الأبهل ثم تُغلى فتثخن وتُطلى بها الإبل عند إصابتها بمرض الجرب ، فهي مادة سوداء نتنة وقابلة للإشتغال.

وعلى هذا أنّهم يلبسون ثياباً من مادة سوداء ونتنة وقابلة للإشتعال ، حيث تمثّل أسوأ الألبسة لما كانوا يعملونه في هذه الدنيا من إرتكاب الذنوب والفواحش. وسوادها يشير إلى أنّ الذنوب تؤدّي إلى أن يكون الإنسان مسودّ الوجه أمام ربّه ، وتعفّنها يشير إلى تلوّث المجتمع بهم ومساعدتهم على إشعال نار الفساد ، وكأنّ القطران تجسيد لأعمالهم في الدنيا.

كل ذلك لأجل (لِيَجْزِىَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ). ومن الطريف أنّه لم يقل أنّ الجزاء بما كسبت أنفسهم ، بل يقول : «ما كسبت» ليكون تجسيداً حيّاً لأعمالهم ، وهذه الآية بهذا التعبير الخاص دليل آخر على تجسّم الأعمال.

وفي الختام يقول تعالى : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). وهذا واضح تماماً لأنّ كل إنسان حسابه معه.

وورد في الخبر : «إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح البصر». ولا ريب أنّ الله تعالى لا يحتاج إلى وقت لمحاسبة الأفراد ، وما جاء في الرواية أعلاه إشارة إلى أقصر الفترات.

وبما أنّ آيات هذه السورة ـ وكذلك جميع الآيات ـ لها جانب الدعوة إلى التوحيد وإبلاغ الأحكام الإلهية إلى الناس وإنذارهم ، يقول تعالى في آخر آية من هذه السورة : (هذَا بَلغٌ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْببِ).

بداية وختام سورة إبراهيم : وكما رأينا فإنّ سورة إبراهيم ابتدأت في بيان دور القرآن الكريم في إخراج الناس من الظّلمات إلى نور العلم والتوحيد ، وانتهت في بيان دور القرآن في إنذار الناس وتعليمهم التوحيد.

إنّ هذه البداية والنهاية تبيّن هذه الحقيقة ، وهو أنّ كل ما نحتاجه موجود في هذا القرآن ، حيث يقول الإمام علي عليه‌السلام : «هو ربيع القلوب وينابيع العلم» ... «فاستشفوه من أدوائكم»

٥٤٢

وهذا البيان دليل على خلاف ما يراه بعض المسلمين من أنّ القرآن الكريم كتاب مقدس يقتصر وجوده في ترتّب الثواب لقارئه. بل هو كتاب شامل لجميع مراحل الحياة الإنسانية.

كتاب رشد وهداية ودستور للعمل ، فهو يذكّر العالِم ويستلهم منه عموم الناس.

إنّ هجران القرآن الكريم وإتّخاذ المبادىء المنحرفة الشرقية منها والغربية ، أحد العوامل المهمة في تأخّر المسلمين.

نهاية تفسير سورة إبراهيم

٥٤٣
٥٤٤

١٥

سورة الحجر

محتوى السورة : المشهور عند جلّ المفسرين أنّ سورة الحجر مكية ، وهي السورة الثانية والخمسون من السور التي نزلت على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة المكرمة.

ويمكننا تلخيص ما حوته السورة في سبع نقاط :

١ ـ الآيات المتعلقة بمبدأ عالم الوجود ، والإيمان به من خلال التدبّر في أسرار الإيجاد.

٢ ـ الآيات المتعلقة بالمعاد وعقاب الفجرة الفسقة.

٣ ـ أهمية القرآن باعتباره كتاباً سماوياً.

٤ ـ محاولة إيقاظ وتنبيه البشر من خلال طرح قصّة خلق آدم ، وتمرّد إبليس ، وتبيان عاقبة التمرد.

٥ ـ زيادة في محاولة الإيقاظ والتنبيه من خلال عرض القصص القرآني لما جرى لأقوام لوط وصالح وشعيب عليهم‌السلام.

٦ ـ إنذار وبشارة ، مواعظ لطيفة وتهديدات عنيفة ، إضافة إلى المرغّبات المشوّقة.

٧ ـ مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لتقوية صبره وثباته قبال ما يحاك من دسائس.

وقد اختير اسم السورة من الآية الثمانين التي ذكرت قوم صالح بأصحاب الحجر ، وهي السورة الوحيدة في القرآن التي ذكرتهم بهذه التسمية.

٥٤٥

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (٤) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) (٥)

سورة اخرى تفتتح بالحروف المقطعة (الر) لتبيّن من جديد أنّ مفردات كتاب نور السماء إلى ظلام أهل الأرض ، ما هي إلّاعين تلك الأبجدية التي تلوك ألفاظها ألسن كل البشر ، صغيرهم وكبيرهم ، بين مختلف اللغات ، ومع ذلك فلا يستطيع أي مخلوق الوصول لبناء وتركيب كلام القرآن ، وهو ذروة التحدي الرباني المعجز ، وعليه فقد جاءت (تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ) مباشرة ، لأنّه يظهر الحقائق ويبيّن الحق من الباطل.

ثم يحذّر الذين يصرّون على الفساد ومخالفة آيات الله الجليّة ، ويخبر بأنّهم سوف يندمون حين ينكشف الغطاء يوم القيامة بما كسبت أيديهم من كفر وتعصب أعمى وعناد. ويقول : (رُبَّمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ).

فالمراد بكلمة «يودّ» التمني وذكر كلمة «لو» للدلالة على تمنّيهم الإسلام في وقت لا يمكنهم فيه العودة إلى ما كانوا ينكرون ، وهذه إشارة إلى أنّ تمنيهم سيكون في العالم الآخر وبعد معاينة نتائج الاعمال.

يمكن حمل الآية على ندم بعض من الكافرين في كلا العالمين (الدنيا والآخرة) ، واعتبار عدم استطاعتهم العودة إلى الإسلام في حياتهم الدنيا وفي الآخرة لجهات مختلفة.

ثم يأتي نداء السماء بلهجة لاذعة ، يا محمّد : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ). فهم كالأنعام التي لا تعرف سوى الحقل والعلف ، ولا تفهم سوى اللذات المادية ، وكل ما تريده لا يتعدى إطار ما تعرف وتفهم.

إنّهم لا يدركون فقه الحقائق ، لأنّ حجب الغرور والغفلة والأماني الزائفة ختمت على قلوبهم.

ولكن ، عندما يصفع الأجل وجوههم وترتفع تلك الحجب عن أعينهم ، وحينما يجدون

٥٤٦

أنفسهم أمام الموت أو في عرصة يوم القيامة ، هنالك سيدركون عظمة حجم غفلتهم ومدى خسرانهم ، وكيف أنّهم قد ضيّعوا أغلى ما كانوا يملكون.

الآية التالية توضّح محدودية اللذائذ الدنيوية لكي لا يظن أحد إنّها خالدة فتقول : (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ).

ثم يقول تعالى : (مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتْخِرُونَ).

فقد سرت سنّة الباري جلّ شأنه بأن يعطي المدّة الكافية لرجوع المضللين إلى بارئهم ، من خلال ابتلائهم بالشدائد الصعبة تارة ، وبفيوضات الرخاء تارة اخرى ، فمن لا تنفعه البشارة يأتيه الإنذار وهكذا ، كل ذلك إتماماً للحجة عليهم.

(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (٨)

طلب نزول الملائكة : تبتدىء الآيات بتبيان موقف العداء الأعمى والتعصب الأصم للقرآن الحكيم والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبل الكفار ، فتقول : (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ).

ومن خلال كلامهم يظهر بجلاء مدى وقاحتهم وسوء الأدب الذي امتازوا به حين مخاطبتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الملفت في التهم الموجهة إلى أنبياء الله تعالى أنّها تحمل بين طيّاتها تضاداً واضحاً يُلمس بأدنى تدبّر ، ففي الوقت الذي يرمون النبي بالجنون يعودون ويقولون عنه : إنّه لساحر ، فمع أنّ الساحر لابدّ له من الذكاء والنباهة ، فهل يعقل أن يكون الساحر ، مجنوناً؟!

إنّهم لم يكتفوا بنسبة الجنون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل تحججوا قائلين : (لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

فيجيبهم الباري جلّ شأنه : (مَا نُنَزّلُ الْمَلِكَةَ إِلَّا بِالْحَقّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ).

وبعبارة اخرى : فالإعجاز ليس أمراً ترفيهياً يناغي تصوّرات الأخرين بقدر ما هو حجّة إلهية لإثبات الحق وإماطة الباطل.

وقد أشبعت هذه الحقيقة بصورة وافية لمن يرى النور نوراً والظلام ظلاماً من خلال ما أوصله نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق القرآن والمعاجز الاخرى.

٥٤٧

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (٩)

حفظ القرآن من التحريف : بعد أن استعرضت الآيات السابقة تحجج الكفار واستهزاءهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن ، تأتي هذه الآية المباركة لتواسي قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ولتطمئن قلوب المؤمنين المخلصين من جهة اخرى ، من خلال طرح مسألة حيوية ذات أهمية بالغة لحياة الرسالة ، ألا وهي حفظ القرآن من التلاعب والتحريف : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). فبناء هذا القرآن مستحكم وشمس وجوده لا يغطيها غبار الضلال ، ومصباح هديه أبديّ الإنارة ، ولو اتحد أعتى جبابرة التاريخ وطغاته وحكّامه الظلمة ، محفوفين بعلماء السوء ، ومزوّدين بأقوى الجيوش عدّة وعتاداً ، على أن يخمدوا نور القرآن ، فلن يستطيعوا ، لأنّ الحكيم الجبّار سبحانه تعهد بحفظه وصيانته.

وقد اختلف المفسرون في دلالة (حفظ القرآن) في هذه الآية المباركة ، والصحيح ، وفقاً لظاهر الآية المذكورة ، أنّ الله تعالى وعد بحفظ القرآن من جميع النواحي : من التحريف ، من التلف والضياع ، ومن سفسطات الأعداء المزاجية ووساوسهم الشيطانية.

المشهور بين أوساط جلّ علماء المسلمين ، أنّ القرآن لم يتعرض لأيّ نوع من التحريف ، وأنّ الذي بين أيدينا هو عين القرآن الذي نزل على صدر الحبيب محمّد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فلا زيادة أو نقصان ، حتى بكلمة واحدة ، أو بحرف واحد.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥)

العناد والتعصب : تواسي الآيات قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقلوب المؤمنين لما كانوا يواجهونه من صعاب في طريق دعوتهم ، من خلال الإشارة إلى صراع الأنبياء السابقين مع أقوامهم الضالة والمتعصبة. فتقول أوّلاً : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الْأَوَّلِينَ).

ولكنّهم من العناد والتعصب لدرجة : (وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).

ذلك الاستهزاء وتلك السخرية لاعتبارات عدّة :

٥٤٨

 ـ مرة ، يريدون بالسخرية إسقاط شخصية النبي كي لا يؤثّر في أوساط الفئة الواعية.

 ـ واخرى ، يحاولون بالإستهزاء تغطية ضعفهم وعجزهم أمام المنطق القوي والحجج الدامغة لرسل الله عزوجل.

 ـ واخرى ، محاولة تخدير وجدانهم السارح في المتاهات كي لا يصحوا على حين غرّة فيعتنق الحق وينهض بأعباء مسؤوليته.

 ـ وأخيراً ، فقبولهم لدعوة الأنبياء عليهم‌السلام ـ حسب تصورهم ـ يستلزم تقويضاً لكل شهواتهم الدنيوية ، وتحميلهم وظائف جديدة لا يطيقونها ، فليجؤون للإستهزاء لتبرير إعراضهم وانكارهم وإراحة ضمائرهم.

ثم يقول جلّ وعلا : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ). أي : نوصل الآيات القرآنية إلى أعماق وجدانهم وعقولهم.

ومع وضوح البلاغ والتأكيد وبيان المنطق الرباني وإظهار المعجزات ، ترى المتعصبين المستهزئين (لَايُؤْمِنُونَ بِهِ) وهو ليس بجديد (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ).

ويصل أمر الغارقين في شهواتهم والمصرّين في عنادهم على الباطل إلى أنّهم لا يؤمنون حتى (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ). ومع ذلك (لَقَالُوا إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ).

عجباً ، أن يصل الإنسان لهذا الدرك من العناد والتعصب.

إنّ الذنوب والجهل ومعاداة الحق تؤثّر على الروح الطاهرة والفطرة السليمة ، فتحجبهما عن رؤية وجه الحقيقة الناصع ، وتمنعهما من إدراك الحقائق ، وإذا لم يتمكن الإنسان من رفع تلك الحجب وإزالة الموانع ، فإنّ صورة الحق ستتلوّث في نظره فينكر كل ما هو معقول ومحسوس معاً ، ومن الممكن تطهير الفطرة في المراحل الاولى ، ولكن إذا رسخت في قلبه هذه الحالة وتجذّرت وأمست «ملكة» وصفة أخلاقية ، فلا يمكن ازالتها بسهولة ، وعندها سوف لا تترك أقوى الأدلة العقلية ولا أوضح الأدلة الحسية أيّ تأثير في قلبه.

(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) (١٨)

تشير الآيات إلى جانب من عالم المخلوقات لتعميق معرفة وتوحيد الله ، وبسياقها

٥٤٩

جاءت تكملةً لبحثي القرآن والنبوة المذكورين في الآيات السابقة. قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا).

«البروج» : جمع «برج» ويعني «الظهور» ولهذا يطلق على البيت الذي يبنى في سور المدينة أو على سور الحصن الذي يعتصم به المقاتلون ، وذلك لما له من بروز وارتفاع خاص. ويقال كذلك (تبرجت) للمرأة التي تظهر زينتها.

والبروج السماوية : هي منازل الشمس والقمر. وبعبارة أقرب إلى الذهن : لو نظرنا إلى الشمس والقمر بإمعان فسنراها في كل فصل من فصول السنة ولفترة زمنية معينة يقابلان أحد الصور الفلكية (الصور الفلكية : مجموعة نجوم على هيئة خاصة) فنقول : إنّ الشمس في برج الحمل (١) ـ مثلاً ـ أو الثور أو الميزان أو العقرب أو القوس.

ويعتبر وجود الأبراج السماوية ، وكذلك النظام الدقيق في حركة منازل الشمس والقمر ضمن هذه البروج (وهو التقويم المجسّم لعالم وجودنا) ، من الأدلة الواضحة على علم وقدرة الخالق جلّ وعلا.

ثم يضيف : (وَزَيَّنَاهَا لِلنَّاظِرِينَ).

ويضيف في الآية التالية : (وَحَفِظْنهَا مِن كُلّ شَيْطنٍ رَّجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ).

إنّ المقصود من السماء هو سماء الحق والحقيقة ، وأنّ الشياطين ذوي الوساوس يحاولون أن يجدوا سبيلاً لاختراق السماء واستراق السمع ، ليتمكنوا من إغواء الناس بذلك ، ولكن النجوم والشهب (وهم القادة الربانيون من الأنبياء والأئمة والعلماء) يبعدونهم ويطردونهم بالعلم والتقوى.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢١)

وإتماماً لما سبق يتناول القرآن بعض آيات الخلق ، ومظاهر عظمة الباري على وجه البسيطة ، ويبدأ بنفس الأرض (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا).

__________________

(١) «الحمل» : مجموع منظومات شمسية تظهر في السماء على هيئة الحمل تقريباً. وكذلك الثور والميزان وغيرها.

٥٥٠

«المد» : في الأصل بمعنى التوسعة والبسط ، ومن المحتمل أن يراد به إخراج القسم اليابس من الأرض من تحت الماء.

ثم يتطرق إلى خلق الجبال بما تحمله من منافع جمّة كآية من آيات التوحيد : (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ).

عبّر سبحانه عن خلق الجبال بالإلقاء ، ولعلّ المراد ب «إلقاء» هنا بمعنى (إيجاد).

ومن بديع خلق الجبال إضافةً إلى كونها أوتاداً لتثبيت الأرض وحفظها من التزلزل نتيجة الضغط الداخلي ، فإنّها تقف كالدرع الحصين في مواجهة قوّة العواصف ، بل وتعمل على تنظيم حركة الهواء وتعيين اتجاهه ، ومع ذلك فهي المحل الأنسب لتخزين المياه على صورة ثلوج وعيون.

ثم ينتقل إلى العامل الحيوي الفعال في وجود الحياة البشرية والحيوانية ، ألا وهو النبات : (وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ).

يتنوع على وجه البسيطة مئات الآلاف من النباتات ، وكل تحمل خواصاً معينة ولها من الآثار ما يميّزها عن غيرها ، وهي باب لمعرفة الباريء المصوّر جلّ شأنه ، وكل ورقة منها كتاب ينطق بمعرفة الخالق.

وبما أنّ وسائل وعوامل حياة الإنسان غير منحصرة بالنبات والمعادن فقط ، ففي الآية التالية يشير القرآن الكريم إلى جميع المواهب بقوله : (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ).

ليس لكم فقط ، بل لجميع الكائنات الحيّة حتى الخارجة عن مسؤوليتكم (وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ).

نعم ، لقد كفينا الجميع احتياجاتهم.

«معايش» : جمع «معيشة» وهي الوسائل والمستلزمات التي تتطلبها حياة الإنسان ، والتي يحصل عليها بالسعي تارة ، وتأتيه بنفسها تارة اخرى.

أمّا آخر آية من الآيات المبحوثة ، فتحوي جواباً لسؤال طالما تردد على أذهان كثير من الناس ، وهو : لماذا لم تهيّأ النعم والأرزاق بما لا يحتاج إلى سعي وكدح؟! فتنطق الحكمة الإلهية جواباً : (وَإِن مّن شَىْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ). فليست قدرتنا محدودة حتى نخاف نفاد ما نملك ، وإنّما منبع ومخزن وأصل كل شيء تحت أيدينا ، وليس من الصعب علينا خلق أيّ شيء وبأيّ وقت يكون ، ولكن الحكمة إقتضت أن يكون كل شيء في هذا

٥٥١

الوجود خاضعاً لحساب دقيق ، حتى الأرزاق إنّما تنزل إليكم بقدر.

ونقرأ في الآية (٢٧) من سورة الشورى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِى الْأَرْضِ وَلكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ).

إنّ السعي والكدح في صراع الحياة يضفي على حركة الإنسان ، الحيوية والنشاط ، وهو بقدر ما يعتبر وسيلة سليمة ومشروعة لتشغيل العقول وتحريك الأبدان ، فإنّه يطرد الكسل ويمنع العجز ويحيي القلب للتحرك والتفاعل مع الآخرين. وإذا ما جعلت الأرزاق تحت اختيار الإنسان بما يرغب هو لا حسب التقدير الرباني ، فهل يستطيع أحد أن يتكهن بما سيؤول إليه مصير البشرية؟

والفقر والغنى من البلاء الذي يدخل ضمن مخطط التمحيص والإمتحان ، فكما أنّ الفقر والعوز قد يجرّان الإنسان نحو هاوية السقوط في مهالك الانحراف ، فكذلك الغنى في كثير من حالاته يكون منشأً للفساد والطغيان.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٢٥)

دور الرياح والأمطار : بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة قسماً من أسرار الخليقة والنعم الإلهية كخلق الأرض والجبال والنباتات وما تحتاجه الحياة من مستلزمات ، يشير في أولى الآيات المبحوثة إلى حركة الرياح وما لها من آثار في عملية نزول المطر ، فيقول : (وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ). «لواقح» : جمع «لاقح» .. وهي تشير هنا إلى دور الرياح في تجميع قطع السحاب مع بعضها لتهيئة عملية سقوطالأمطار.

ويمكن حمل (مَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) على أنّها إشارة لخزن ماء المطر في السحب قبل نزوله ، أي : إنّكم لا تستطيعون استملاك السحب التي هي المصدر الأصلي للأمطار.

ويمكن حملها على أنّها إشارة إلى جمع وخزن الأمطار بعد نزولها ، أي إنّكم لا تقدرون

٥٥٢

على جمع مياه الأمطار بمقادير كبيرة حتى بعد نزوله ، وأنّ الله عزوجل هو الذي يحفظها ويخزنها على قمم الجبال بهيئة ثلوج ، أو ينزلها في أعماق الأرض لتكون بعد ذلك عيوناً وآباراً.

ثم ينتقل من مظاهر توحيد الله إلى المعاد ومقدماته : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ). فيذكر مسألة الحياة والموت التي تعتبر من أهمّ المقدمات لبحث موضوع المعاد ، إضافة لكون هذه المسألة من مكمّلات موضوع التوحيد ، بالإضافة إلى أنّ وجود الحياة والموت بحد ذاته دليل على أنّ موجودات هذا العالم لا تملك زمام أنفسها ناهيك عمّا هو بأيديها ، وأنّ الوارث الحقيقي لكل شيء هو الله تعالى.

ثم يضيف : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتْخِرِينَ). أي : نحن على علم بهم وبما يعملون ، وإنّ أمر محاسبتهم وجزائهم في المعاد علينا سهل يسير.

ولهذا نرى الآية التي تليها : (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). مرتبطة تماماً مع ما قبلها ومتمّمة من خلال طرحها مسألة ما سيكون بعد الموت ... فحكمة الباري أوجبت أن لا يكون الموت نهاية لكل شيء.

فلو أنّ الحياة انحصرت بهذه الفترة الزمنية المحدودة وينتهي كل شيء بالموت لكانت عملية الخلق عبثاً ، وهذا غير معقول ، لأنّه تعالى منزّه عن العبث.

فالحكمة الإلهية اقتضت من «حياة الدنيا أن تكون مرحلة إستعداد لمسيرة دائمة نحو المطلق». وأمّا كونه سبحانه عليماً فهو عليم بصحائف أعمال الجميع المثبتة في قلب هذا العالم الطبيعي من جهة ، وكذلك في اعماق وجود الانسان من جهة اخرى ، ولا تخفى عليه خافية يوم يقوم الحساب.

وكونه سبحانه الحكيم العليم في هذا المورد دليل قوي وعميق الغور على مسألة الحشر والمعاد.

إنّ كلمة «المستقدمين» و «المستأخرين» لهما معنيان واسعان يشملان المتقدمين والمتأخرين من حيث الزمان ، وكذلك من حيث أعمال الخير والجهاد وحتى الحضور في الصفوف المتقدمة لصلاة الجماعة وما شابهها.

٥٥٣

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَنْ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قَالَ هذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤)

خلق الإنسان : بعد ذكر خلق نماذج من مخلوقات الله في الآيات السابقة ، تأتي هذه الآيات لتبيّن أنّ الهدف الأساسي من إيجاد كل الخليقة إنّما هو خلق الإنسان ، وتتطرق الآيات إلى جزئيات عديدة في شأن الخلق ، زاخرةً بالمعاني. يقول تعالى في البداية : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ). «الصلصال» : هو التراب اليابس الذي لو اصطدم به شيء أحدث صوتاً ... و «الحمأ المسنون» : هو طين متعفن.

(وَالْجَانَّ خَلَقْنهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ). «السّموم» لغة : الهواء الخارق ، وسمي بالسموم لأنّه يخترق جميع مسامات بدن الإنسان.

ثم يعود القرآن الكريم إلى خلق الإنسان مرّة اخرى فيتعرض إلى كلام الله تعالى مع الملائكة قبل خلق الإنسان : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلِكَةِ إِنّى خلِقٌ بَشَرًا مّن صَلْصلٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى). وهي روح شريفة طاهرة جليلة : (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ).

٥٥٤

وبعد أن تمّ خلق الإنسان من الجسم والروح المناسبين (فَسَجَدَ الْمَلِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ).

ولم يعص هذا الأمر إلّا إبليس : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ).

وهنا سأل الله إبليس : (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ).

فأجاب إبليس بعد أن كان غارقاً في بحر الغرور المظلم ، وتائهاً في حبّ النفس المقتم ، وبعد أن غطّى حجاب الخسران عقله ... أجاب بوقاحة : (قَالَ لَمْ أَكُن لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ).

ونتيجة للغرور وحبّ النفس ، فقد جهل أسرار الخليقة ، وكنتيجة طبيعية لهذا السلوك المنحرف فقد هوى من ذلك المقام المرموق بعد أن أصبح غير لائق لأن يكون في درجة الملائكة وبين صفوفهم ، فجاء الأمر الإلهي مقرعاً : (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ). أي : اخرج من الجنة ، أو من السماوات أو اخرج من بين صفوف الملائكة.

واعلم يا إبليس بأنّ غرورك أصبح سبباً لكفرك ، وكفرك قد أوجب طردك الأبدي (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدّينِ). أي : إلى يوم القيامة.

وهنا ... حينما وجد إبليس نفسه مطروداً من الساحة الإلهية ، ساوره إحساس بأنّ خلق الإنسان هو سبب شقائه فاشتعلت نار الحقد والضغينة في قلبه لينتقم لنفسه من أولاد آدم عليه‌السلام.

فبالرغم من أنّ السبب الحقيقي يرجع إلى إبليس نفسه وليس لآدم دخل في ذلك ، إلّاأنّ غروره وحبّه لنفسه وعناده المستحكم لم يعطياه الفرصة لدرك حقيقة شقاءه ، ولهذا (قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، ليركّز عناده وعداءه!

وقبل الله تعالى طلبه : (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ).

ولكن ليس إلى يوم يبعثون كما أراد ، بل (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ). وهو : نهاية هذا العالم وانتهاء التكليف ، لأنّ بعد ذلك (كما يفهم من ظاهر الآيات القرآنية) تحلّ نهاية حياة جميع الكائنات ، ولا يبقى حيّ إلّاالذات الإلهية المقدسة ، ومن هذا نفهم حصول الموافقة على بعض طلب إبليس.

وهنا أظهر إبليس نيّته الباطنية : (قَالَ رَبّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى). وكان هذا الإنسان سبباً لشقائي (لَأُزَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الْأَرْضِ) نعمها المادية (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) بإلهائهم بتلك النعم.

٥٥٥

إلّا أنّه يعلم جيّداً بأنّ وساوسه سوف لن تؤثّر في قلوب عباد الله المخلصين ، وأنّهم متحصنون من الوقوع في شباكه ، لأنّ قوة الإيمان ودرجة الإخلاص عندهم بمكان يكفي لدرء الخطر عنهم بتحطيم قيود الشيطان عن أنفسهم ... ولهذا نراه قد استثنى في طلبه (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).

«المخلصين» : جمع مخلَص (بفتح اللام) المؤمن الذي وصل إلى مرحلة عالية من الإيمان والعمل بعد تعلّم وتربية ومجاهدة مع النفس ، فيكون ممتنعاً من نفوذ وساوس الشيطان وأيّ وسواس آخر.

ثم قال تعالى تحقيراً للشيطان وتقوية لقلوب العباد المؤمنين السالكين درب التوحيد الخالص : (قَالَ هذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطنٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ). يعني : يا إبليس ليس لك القدرة على إضلال الناس ، لكن الذين يتبعونك إن هم إلّا المنحرفين عن الصراط المستقيم والمستجيبين لدواعي رغباتهم وميولهم.

ثم يهدد الله بشدة أتباع الشيطان : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) وأن ليس هناك وسيلة للفرار ، والكل سيحاسب في مكان واحد.

(لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ). هي أبواب للذنوب التي يدخلون جهنم بسببها ، وكل يحاسب بذنبه ... كما هو الحال في أبواب الجنة التي هي عبارة عن طاعات وأعمال صالحة ومجاهدة للنفس يدخل بها المؤمنون الجنة.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٧) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (٥٠)

نِعم الجنة الثمان : رأينا في الآيات السابقة كيف وصف الله تعالى عاقبة أمر الشيطان وأنصاره وأتباعه ، وأنّ جهنم بأبوابها السبعة مفتحة لهم. وجرياً على أسلوب القرآن في التربية والتعليم جاءت هذه الآيات المباركات (ومن باب المقارنة) لترفع الستار عن حال الجنة وأهلها وما ترفل به من نعم مادية ومعنوية ، جسدية وروحية.

٥٥٦

وقد عرضت الآيات ثمانية نعم كبيرة (مادية ومعنوية) بما يساوي عدد أبواب الجنة.

١ ـ أشارت في البدء إلى نعمة جسمانية مهمة : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ). ويلاحظ أنّ هذه الآية قد اتخذت من صفة (التقوى) أساساً لها ، وهي الخوف من الله والورع والالتزام ، فهي إذن ... جامعة لكافّة صفات الكمال الإنساني.

إنّ ذكر الجنات والعيون بصيغة الجمع إشارة إلى تنوّع رياض الجنة وكثرة عيونها ، والتي لكل منها لذّة مميزة وطعم خاص.

٢ و ٣ ـ ثم تشير الآيات إلى نعمتين معنويتين مهمتين أخريتين (السلامة) و (الأمن) .. السلامة من أيّ أذىً وألم ، والأمن من كل خطر ، فتقول ـ على لسان الملائكة مرحّبة بهم ـ : (ادْخُلُوهَا بِسَلمٍءَامِنِينَ).

وفي الآية التالية بيان لثلاث نعم معنوية اخرى :

٤ ـ (وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ). أي : الحسد والحقد والعداوة والخيانة.

٥ ـ (إِخوانًا) تربطهم أقوى صلات المحبة.

٦ ـ (عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ).

إنّ جلساتهم الاجتماعية خالية من القيود المتعبة التي يُعاني منها عالمنا الدنيوي ، فلا طبقية ولا ترجيح بدون مرجّح والكلّ إخوان ، يجلسون متقابلين في صف واحد ومستوى واحد.

٧ ـ ثم تأتي الإشارة إلى النعمة المادية والمعنوية السابعة : (لَايَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ) إنّه ليس كيوم استراحة بهذه الدنيا يقع بين تعب ونصب قبله وبعده ، ولا يدع الإنسان يجد طعم الراحة والاستقرار.

٨ ـ ولا يشغلهم همّ فناء أو انتهاء نِعم (وَمَا هُم مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ).

بعد أن عرض القرآن الكريم النعم الجليلة التي ينالها المتقون في الجنة بذلك الرونق المؤثّر الذي يوقع المذنبين والعاصين في بحار لجّية من الغمّ والحسرة ويجعلهم يقولون : يا ليتنا نصيب بعض هذه المواهب ، فهناك ، يفتح الله الرحمن الرحيم أبواب الجنة لهم ولكن بشرط ، فيقول لهم بلهجة ملؤها المحبة والعطف والرحمة وعلى لسان نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (نَبّئْ عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

وكما هو معهود من الأسلوب القرآني ، تأتي العبارات العنيفة حين تتحدث عن الغضب والعذاب الإلهي لتمنع من سوء الاستفادة من الرحمة الإلهية ، ولتوجد التعادل بين مسألتي

٥٥٧

الخوف والرجاء ، الذي يعتبر رمز التكامل والتربية فيقول وبدون فاصلة : (وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ).

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (٥٥) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (٥٦) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ) (٦٠)

الضيوف الغرباء : تتحدث هذه الآيات المباركات وما بعدها عن الجنبة التربوية في تاريخ حياة الأنبياء عليهم‌السلام وما جرى لهم مع العصاة من أقوامهم ، وتطرح الآيات نماذج حيّة للاعتبار ، لكلا الطرفين (عباد الله المخلصين من طرف وأتباع الشيطان من طرف آخر).

ومن لطيف البيان القرآني شروع الآيات بذكر قصة ضيف إبراهيم. فتقول أوّلاً : (وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرهِيمَ).

وهؤلاء الضيوف هم الملائكة الذين دخلوا على إبراهيم عليه‌السلام بوجوه خالية من الإبتسامة ، فابتدأوه بالسلام (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلمًا).

فقام إبراهيم عليه‌السلام بوظيفته (إكرام الضيف) ، فهيّأ لهم طعاماً ووضعه أمامهم ، إلّاأنّهم لم يدنوا إليه ، فاستغرب من موقف الضيوف الغرباء ، فعبّر عمّا جال في خاطره (قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ). وكان مصدر خوف إبراهيم عليه‌السلام مما كان عليه متعارفاً في مسألة ردّ الطعام أو عدم التقرب منه ، فهو عندهم إشارة إلى وجود نيّة سوء أو علامة عداء.

ولكن الملائكة لم يتركوا ابراهيم في هذا الحال حتى : (قَالُوا لَاتَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلمٍ عَلِيمٍ). والغلام العليم : هو (إسحاق) ، حيث نقرأ في سورة هود الآية (٧١) أنّ امرأة إبراهيم كانت واقفة بقربه عندما بشّرته الملائكة.

٥٥٨

كان إبراهيم يعلم جيّداً أنّه من المستبعد أن يحصل له ولد ضمن الموازين الطبيعية ، (ومع أنّ كل شيء مقدور لله عزوجل) ، ولهذا أجابهم بصيغة التعجب : (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشّرُونَ). هل البشارة منكم أم من الله عزوجل وبأمره ، أجيبوني كي أزداد اطمئناناً؟

وعلى أية حال ... لم يدع الملائكة مجالاً لشك وتعجب إبراهيم حيث (قَالُوا بَشَّرْنكَ بِالْحَقّ). فهي بشارة من الله وبأمره ، فهي حق مسلّم به.

وتأكيداً للأمر ودفعاً لأي احتمال من غلبة اليأس على إبراهيم ، قالت الملائكة : (فَلَا تَكُن مّنَ الْقَانِطِينَ).

لكن إبراهيم عليه‌السلام طمأنهم بعدم دخول اليأس إلى قلبه ، لأنّه مطمئن من أنّ أمر القدرة الإلهية نافذ في جميع أرجاء الكون حتى مع خرق النواميس الطبيعية وبدون الخلل في الموازنة ، (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ).

إنّ الضالين هم الذين لا يعرفون الله وقدرته المطلقة ، الله الذي خلق الانسان ببناءه العجيب المحيّر من ذرّة تراب ومن نطفة حقيرة ليخرجه ولداً سويّاً ، الله الذي حوّل نخلة يابسة إلى حاملة للثمر بإذنه ، الله الذي جعل النار برداً وسلاماً .. هل من شك بأنّه سبحانه قادر على كل شيء ، بل وهل يصح ممن آمن به وعرفه حق معرفته أن ييأس من رحمته؟!

وراود إبراهيم عليه‌السلام ـ بعد سماعه البشارة ـ أنّ الملائكة قد تنزلت لأمر ما غير البشارة ، وما البشارة إلّامهمة عرضية ضمن مهمتهم الرئيسية ، ولهذا (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ).

ومع علم الملائكة بإحساس إبراهيم عليه‌السلام المرهف وأنّه دقيق في كل شيء ولا يقنع بالعموميات ، فبيّنوا له أمر نزول العذاب على قوم لوط المجرمين باستثناء أهله (إِلَّاءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ).

إنّ ظاهر تعبير «آل لوط» وما ورد من تأكيد بكلمة «أجمعين» سيشمل امرأة لوط الضّالة التي وقفت في صف المشركين ، ولعلّ إبراهيم كان مطلعاً على ذلك ، ولذا أضافوا قائلين : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ).

٥٥٩

(فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قَالَ إِنَّ هؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلَا تُخْزُونِ (٦٩) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (٧٠) قَالَ هؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧)

عاقبة مذنبي قوم لوط : طالعتنا الآيات السابقة بقصة اللقاء بين ملائكة العذاب هؤلاء وبين إبراهيم عليه‌السلام وهذه الآيات تكمل لنا سير أحدث القصة فتبتدأ من خروجهم من عند إبراهيم حتى لقائهم بلوط عليه‌السلام. فنقرأ أوّلاً : (فَلَمَّا جَاءَءَالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ).

فالتفت إليهم لوط (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ).

يقول المفسرون : قال لهم ذلك لما كانوا عليه من جمال الصورة ريعان الشباب ، وهو يعلم ما كان متفشياً بين قومه من الانحراف الجنسي .. فمن جهة ، هم ضيوفه ومقدمهم مبارك ولابد من إكرامهم واحترامهم ، ولكن المحيط الذي يعيشه لوط عليه‌السلام مريض وملوّث.

ولكن الملائكة لم يتركوه وهذه الهواجس طويلاً حتى سارعوا إلى القول : (قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ). أي : إنّنا جئنا بالعذاب الذي واعدتهم به كثيراً ، وذلك لأنّهم لم يعتنوا ولم يصدّقوا بما ذكرته لهم.

ثم أكّدوا له قائلين : (وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقّ). أي : العذاب الحتمي والجزاء الحاسم لقومك الضالين.

ثم أضافوا لزيادة التأكيد : (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ).

فهؤلاء القوم قد قطعوا كل جسور العودة ولم يبق في شأنهم محلّاً للشفاعة والمناقشة ، كي

٥٦٠