مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-049-1
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٧١

وملخص القول : أنّنا لاحظنا في الآية السابقة كيف ينجو المتقون من نزغ الشيطان ووسوسته بذكر الله ، إلّاأنّ الآثمين إخوة الشياطين يبتلون بمزيد الوساوس فلا ينسلخون عنها ، كما تعبّر الآية التالية عن ذلك قائلة : (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَىّ ثُمَّ لَايُقْصِرُونَ).

«الإخوان» : كناية عن الشياطين ، والضمير «هم» يعود على المشركين والآثمين.

وجملة (ثُمَّ لَايُقْصِرُونَ) تعني أنّ الشياطين لا يألون جهداً في إضلال المشركين والآثمين.

ثم تذكر الآية التالية حال جماعة من المشركين والمذنبين البعيدين عن المنطق ، فتقول : إنّهم يكذبونك ـ يا رسول الله ـ عندما تتلو عليهم آيات القرآن ، ولكن عندما لا تأتيهم بآية ، أو يتأخر الوحي يتساءلون عن سبب ذلك : (وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بَايَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا) (١). ولكن قل لهم إنّني لا اعمل ولا أقول إلّابما يوحي الله إليّ : (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى هذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦)

وإذا قرىء القرآن فاستمعوا وانصتوا : لقد بدأت هذه السورة (سورة الأعراف) ببيان عظمة القرآن ، وتنتهي بالآيات ـ محل البحث ـ التي تتكلم عن القرآن أيضاً. في البداية تقول الآية : (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

ويستفاد من ظاهر الآية أنّ هذا الحكم عام غير مختص بحال ما ولا وقت معين ، أي ينبغي إن قرىء القرآن ـ حيثما كان وكيف كان ـ أن يستمع الآخرون وينصتوا احتراماً للقرآن ، لأنّ القرآن ليس كتاب قراءة فحسب ، بل هو كتاب فهم وإدراك ، ثم هو كتاب عمل أيضاً.

__________________

(١) «الإجتباء» : مأخوذ من الجباية ، وأصلها جمع الماء في الحوض ونحوه ، ثمّ توسعوا في الاستعمال فأطلقواعلى جمع الأشياء وانتخابها واختيار ما يراد منها اجتباءً. فجملة «لولا اجتبيتها» تعني لولا اخترتها.

٢٠١

وهذا الحكم المستحب ورد عليه التأكيد إلى درجة أنّ بعض الروايات عبّرت عنه بالوجوب.

والمورد الوحيد الذي يجب فيه السكوت أو يكون حكم السكوت فيه واجباً ، هو في صلاة الجماعة ، إذ على المأموم أن يسكت ويستمع لقراءة الإمام ، حتى أنّ جمعاً من الفقهاء قالوا : إنّ هذه الآية تدل على سقوط الحمد والسورة من قبل المأموم «عند صلاة الجماعة».

وفي الآية التالية إكمالاً للأمر السابق يخاطب القرآن النبي الكريم ـ وهذا الحكم كلي وعام أيضاً وإن كان الخطاب موجهاً للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو الحال في سائر آيات القرآن الاخرى وأحكامها ـ إذ يقول سبحانه في كتابه : (وَاذْكُرْ رَّبَّكَ فِى نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً).

ثم يضيف قائلاً : (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوّ وَالْأَصَالِ) (١).

(وَلَا تَكُن مّن الْغَافِلِينَ).

فذكر الله في كل حال وفي كل وقت ، صباحاً ومساءً ، مدعاة لإيقاظ القلوب وجلائها من الدرن ، وإبعاد الغفلة عن الإنسان. ومثله مثل مزنة الربيع ، إذا نزلت أحيت القلوب بأزهار التوجه والإحساس بالمسؤولية والبصيرة ، وكل عمل إيجابي بنّاء ....

ثم تختتم سورة الأعراف بهذه العبارة ، وهي أنّكم لستم المكلفون فقط بذكر الله بل من يذكر الله من موقع الخشية والاستكانة هم الملائكة المقربون : (إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ).

نهاية تفسير سورة الأعراف

* * *

__________________

(١) «الآصال» : جمع الأصيل ، ومعناه قبيل المغرب أو عند الغروب.

٢٠٢

٨

سورة الانفال

محتوى السورة : في بداية سورة الأنفال إشارة إلى قسم مهم من المسائل المالية من جملتها الأنفال والغنائم التي يُعدّ كل منهما دعامة لبيت المال كما تضمنت هذه السورة مباحث اخرى منها :

صفات المؤمنين الصادقين وما يمتازون به ، قصة معركة بدر ، وهي أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وأعدائهم ، وما تضمّنت من أحداث عجيبة تلهم العبر.

بعض أحكام الجهاد ووظائف المسلمين إزاء هجوم العدو المتواصل.

ماجرى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلته التاريخية «ليلة المبيت».

حال المشركين قبل الإسلام وخرافاتهم.

ضعف المسلمين وعجزهم باديء الأمر ثم زيادة قوتهم ببركة الإسلام.

حكم الخمس وكيفية تقسيمه.

مواجهة المنافقين وطريقة التعرّف عليهم. وأخيراً نجد في هذه السورة سلسلة مسائل اخرى أخلاقية واجتماعية بنّاءة.

فلا غرابة أن نقرأ بعض الروايات الواردة في شأن هذه السورة وفضيلتها ، كالرواية الواردة ـ في تفسير مجمع البيان ـ عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «من قرأ الأنفال وبراءة في كل

٢٠٣

شهر لم يدخله نفاق أبداً ، وكان من شيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام حقّاً ، ويأكل يوم القيامة من موائد الجنة معهم حتى يفرغ الناس من الحساب».

إنّ فضائل سور القرآن والثواب العظيم لا يتأتّى بمجرد قراءة الألفاظ ، بل القراءة مقدمة للتفكر ، والتفكر وسيلة للفهم ، والفهم مقدمة للعمل.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١)

سبب النّزول

في تفسير مجمع البيان عن ابن عباس : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم بدر : من جاء بكذا ، فله كذا ، ومن جاء بأسير ، فله كذا ، فتسارع الشُبّان وبقي الشيوخ تحت الرايات ، فلما انقضى الحرب ، طلب الشُبّان ما كان قد نفلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله به ، فقال الشيوخ : كنا ردءاً لكم ، ولو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا ، وجرى بين أبي اليسر بن عمرو الأنصارى أخي بني سلمة ، وبين سعد بن معاذ ، كلام فنزع الله تعالى الغنائم منهم ، وجعلها لرسوله ، يفعل بها ما يشاء ، فقسمها بينهم بالسوية.

التّفسير

إنّ الآية ـ محل البحث ـ كما قرأنا في سبب النزول ، نزلت بعد معركة بدر وتتكلم عن غنائم الحرب وتبيّن حكماً إسلامياً واسعاً بشكل عام ، فتخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقول : (يَسَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).

فبناءً على ذلك : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ). أي : إنّ الإيمان ليس بالكلام فحسب ، بل هو الطاعة لله والرسول دون قيد أو شرط وفي جميع مسائل الحياة لا في غنائم الحرب وحدها.

ما هي الأنفال؟ إنّ مفهوم الأنفال لا يقتصر على غنائم الحرب فحسب ، بل يشمل جميع الأموال التي ليس لها مالك خاص (كالآجام وبطون الأودية والموات) وهذه الأموال جميعها لله وللرسول ولمن يلي أمره ويخلِفه ، وبتعبير آخر : إنّ هذه الأموال للحكومة الإسلامية ، وتصرف في منافع المسلمين العامة.

٢٠٤

كما قرأنا في شأن النّزول آنفاً ، أنّ مشاجرة وقعت بين بعض الأنصار في شأن غنائم الحرب ، وقطعاً لهذه المشاجرة فقد نفت الآية أن تكون الغنائم لغير الله والرسول ثم أمرت المسلمين بإصلاح ذات البين.

وأساساً فإنّ إصلاح ذات البين وإيجاد التفاهم وقلع عناصر الكدر والبغضاء من صدور المسلمين ، وتبديل كل ذلك بالمحبة ، يعدّ من أهم الأغراض الإسلامية.

وقد أولت التعاليم الإسلامية عناية فائقة لهذا الموضوع حتى عدّته من أفضل العبادات.

في نهج البلاغة : يقول علي عليه‌السلام في آخر وصاياه ـ لما ضربه ابن ملجم بالسيف ـ لولديه : «إنّي سمعت جدّكما صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام».

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤)

خمس صفات خاصه بالمؤمنين : كان الكلام في الآية السابقة عن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله بعد المشاجرة اللفظية بين بعض المسلمين في شأن الغنائم. وإكمالاً لهذا الموضوع يشير في هذه الآيات إلى خمس صفات بارزة في المؤمنين : ثلاث منها ذات جانب معنوي وروحاني وباطني ، واثنتين منها لها جانب عملي وخارجي ....

فالثلاث الاولى عبارة عن «الإحساس بالمسؤولية» و «الإيمان» و «التوكل» ، والإثنتان الاخريان هما الإرتباط بالله ، والإرتباط بخلق الله سبحانه.

فتقول الآيات أوّلاً : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).

«الوجل» : حالة الخوف التي تنتاب الإنسان ، وهو ناشيءٌ عن أحد أمرين : فقد ينشأ عند إدراك المسؤولية.

وقد ينشأ عند إدراك عظمة مقام الله ، والتوجه إلى وجوده المطلق الذي لا نهاية له.

ثم تبين الآية الصفة الثانية للمؤمنين فتقول : (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا).

والمؤمنون ليسوا كالموتى من الجمود وعدم التحرك ، ففي كل يوم جديد يكون لهم فكر جديد وتكون صفاتهم مشرقة جديدة.

٢٠٥

والصفة الثالثة لهؤلاء المؤمنين هي أنّهم يتّكلون على الله فقط (وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ). فهم يعيشون سعة الافق وسلامة التفكير بحيث يرون ضعف جميع المخلوقات مهما كانت في الظاهر قوية ومقتدرة ولذلك يرفضون الخضوع والاعتماد على أيّ موجود غير الله تعالى ، فمنه يقتبسون قوتهم ومنه يطلبون حاجاتهم.

ولا ينبغي الوقوع في المفهوم الخاطي للتوكل حيث تصور البعض أنّ التوكل يعني عدم الأخذ بقانون العلية والابتعاد معن السعي والعمل ، والصحيح أنّ مفهومه الحقيقي هو عدم التعلقق والاعتماد بالقوى الظاهرية والّا فان الاستفادة من عالم الاسباب المسببات في الطبيعة هو عين التوكل لأنّ كل تثير لهذه الاسباب في الواقع الخارجي إنّما يحصل باذن الله ومشيئته.

وبعد أن ذكرت الآيات الصفات الروحانية للمؤمنين الحقيقين تقول : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).

التعبير ب (يُقِيمُونَ الصَّلَوةَ) ليس إشارة الى ممارستهم الدائمة للصلاة فحسب ، بل إنّهم يتحركون في هذا الاتجاه اتقوية دعائهم الصلاة في المجتمع وفي كل مكان.

وعبارة (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) تتضمن معنى واسعاً يستوعب المواهب المادية والمعنوية كافة ، فهم ينفقون من جميع مارزقهم الله تعالى من المال والعلم والجاه والمكانة الاجتماعية وأمثال ذلك.

وتتحرك آخر آية من الآيات مورد البحث لبيان مقام هؤلاء ومكانتهم عند الله تعالى وما ينتظرهم من الثواب العظيم ، فتقول في البداية : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).

ثم تذكر الآية ثلاثة أنواع من الثواب لهؤلاء : (لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ).

وللمؤمنين إضافة لدرجاتهم رحمة من الله (وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

(كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٦)

قرأنا في الآية الاولى من هذه السورة أنّ بعض المسلمين من جديدي العهد بالإسلام ، كانوا غير راضين عن كيفية تقسيم غنائم معركة بدر (إلى حدّ ما). ففي الآيتين محل البحث يقول الله سبحانه لُاولئك : هذه ليست أوّل مرّة تكرهون شيئاً مع أنّه فيه صلاحكم كما كان

٢٠٦

الأمر في أساس غزوة بدر وكانوا غير راضين باديء الأمر ، إلّاأنّهم رأوا كيف تمت هذه المعركة لصالح الإسلام والمسلمين. تقول الآية الاولى من الآيتين محل البحث : إنّ عدم رضا بعض المسلمين في شأن تقسيم الغنائم يشبه عملية إخراجك من مكة وعدم رضى بعض المؤمنين بذلك : (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ).

والتعبير «بالحق» إشارة إلى أنّ أمر الخروج كان طبقاً لوحي إلهي ودستور سماوي ، وكانت نتيجته الوصول إلى الحق واستقرار المجتمع الإسلامي ، إلّاأنّ هؤلاء الأفراد لا يرون إلّا ظواهر الامور ، ولهذا : (يُجَادِلُونَكَ فِى الْحَقّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ).

إلّا أنّ الحوادث التالية كشفت لهم عن خطئهم في حساباتهم ، وأنّ خوفهم وقلقهم دونما أساس ، وأنّ هذه المعركة (معركة بدر) حققت للمسلمين انتصارات مشرقة ، فمع رؤية مثل هذه النتائج علام يجادلون في الحق وتمتد ألسنتهم بالإعتراض؟

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨)

أوّل مواجهة مسلحة بين الإسلام والكفر ـ لمّا كانت الآيات السابقة قد أشارت إلى معركة بدر ، فإنّ الآيتين أعلاه وما بعدهما من الآيات قد أماطت اللثام عن جوانب مهمة وحساسة في تلك المعركة ، ولإيضاح الآيتين محل البحث والآيات التالية ، من المناسب أن نلقي الضوء على ما جرى في هذه المعركة الحاسمة ، لتتجلى لنا دقائق الامور ولطائف ما أشارت إليه الآيات الكريمة في شأن معركة بدر الكبرى.

بدأت معركة بدر ـ طبقاً لما يقوله المؤرخون والمحدثون والمفسرون ـ حين كان أبو سفيان ـ كبير مكة ـ عائداً بقافلة تجارية مهمة مؤلفة من أربعون راكباً من قريش ، وتحوي على ثروة تجاربة تقدّر بخمسين ألف دينار من الشام نحو المدينة.

فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه أن يتعبأوا ويتهيأوا لمواجهة هذه القافلة الكبيرة التي تحمل جلّ رأس مال العدو معها ، وبمصادرة أموال القافلة يتمّ توجيه ضربة اقتصادية نحو العدو وتعقبها ضربة عسكرية قاصمة.

٢٠٧

إنّ أبا سفيان عرف عن طريق أتباعه وأصدقائه تصميم النبي على مواجهة قافلته ، هذا من جهة ، كما أنّ القافلة حينما كانت متجهة نحو الشام للإتيان بمال التجارة تعرضت لتحركات من هذا القبيل. لهذا فإنّ أبا سفيان أرسل من يمضي إلى مكة بسرعة ليخبر أهلها بما سيؤول إليه أمر القافلة.

فمضى رسول أبي سفيان بحالة مثيرة كما أوصاه أبو سفيان ، إذ خرم أنف بعيره وبتر أذنيه والدماء تسيل على وجه البعير لهيجانه ، وقد شقّ ثوبه ـ أو طمريه ـ وركب بعيره على خلاف ما يركب الناس «إذ ظهره كان إلى رقبة البعير ووجهه إلى عجزه» ليلفت الناس إليه من كل مكان. فلما دخل مكة أخذ يصرخ قائلاً : أيّها الناس الأعزة ، أدركوا قافلتكم ، أدركوا قافلتكم وأسرعوا وتعجلوا إليها.

ولما كان أكثر أهل مكة شركاء في هذه القافلة فقد تعبئوا بسرعة وتحركوا نحو القافلة بحوالي ٩٥٠ مقاتلاً و ٧٠٠ بعير ومئة فرس ، وكان أبو جهل يقود هذا الجيش.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قارب بدراً في نحوٍ من ثلائمائة وثلاث عشر رجلاً كانوا يمثلون رجال الإسلام آنئذ «وبدر منطقة ما بين مكة والمدينة» وقد بلغه خبر تهيؤ أبي جهل ومن معه لمواجهته.

فتشاور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أصحابه : هل يلحقون القافلة ويصادرون أموالها ، أو أنّ عليهم أن يتهيأوا لمواجهة جيش العدو؟ فقالت طائفة من أصحابه : نقاتل عدوّنا ، وكرهت طائفة اخرى ذلك ، إلّاأنّ النبي بالرغم من كل ذلك قبل بالقول الأوّل «أي قتال العدو».

ومن جهة اخرى فإنّ طائفة من المسلمين كانت في قلق وإضطراب وكانت تصرّ على عدم مواجهة هذا الجيش اللجب ، إذ لا موازنة بين أصحاب النبي وأصحاب أبي جهل! لكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طمأنهم بوعد الله وقال : «إنّ الله عزوجل وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده ، والله لكأنّي أنظر مصرع أبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان». وأمر رسول الله بالرحيل ، وخرج إلى بدر وهو بئر.

وفي هذه الأثناء استطاع أبو سفيان أن يفرّ بقافلته من الخطر المحدق به ، واتّجه نحو مكة عن طريق ساحل البحر الأحمر غير المطروق ، وأرسل رسولاً إلى قريش : إنّ الله نجّى قافلتكم ، ولا أظن أنّ مواجهة محمّد في هذا الظرف مناسبة ، لأنّ له أعداء يكفونكم أمره ، إلّا أنّ أبا جهل لم يرض باقتراح أبي سفيان وأقسم باللات والعزى أنّه سيواجه محمّداً ، بل سيدخل المدينة لتعقيب أصحابه.

٢٠٨

وأقبلت قريش ، وبعثوا عبيدها ليستقوا من الماء ، فأخذهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا لهم : من أنتم؟ قالوا : نحن عبيد قريش. قالوا : فأين العير؟ قالوا : لا علم لنا بالعير. فأقبلوا يضربونهم وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي فانفتل من صلاته وقال : «إن صدّقوكم ضربتموهم وإن كذّبوكم تركتموهم!» فأتوه بهم ، فقال لهم : «من أنتم؟» قالوا : يا محمّد نحن عبيد قريش. قال : «كم القوم؟!» قالوا : لا علم لنا بعددهم. قال : «كم ينحرون في كل يوم من جزور؟» قالوا : تسعة إلى عشرة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «القوم تسعمائة إلى ألف رجل». وأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بهم فحبسوا.

كان الجوّ مكفهراً بالرعب والوحشة ، إذ كان جيش قريش معبّأ مدججاً بالسلاح ، ولديه المؤونة والعُدّد ، حتى النساء اللائي ينشدن الأشعار والمغنيات اللائي يثرن الحماسة ، وكان جيش أبي جهل يرى نفسه أمام طائفة صغيرة أو قليلة من الناس ، ولا يصدّق أنّهم سينزلون الميدان.

المشكلة الاخرى التي كان أصحاب النبي يواجهونها ، هي أنّ أرض بدر كانت غير صالحة للنزال لما فيها من الرمال ، فنزل المطر تلك الليلة ، فأفاد منه أصحاب النبي فاغتسلوا منه وتوضأوا وأصبحت الأرض صُلبة صالحة للنزال ، العجيب في ذلك أنّ المطر كان في جهة العدو شديداً بحيث أربكهم وأزعجهم.

والخبر الجديد الذي حصل عليه أصحاب النبي من جواسيسهم الذين تحسسوا ليلاً حالة العدو أنّ جيش قريش مع كل تلك الإمكانات العسكرية في حالة من الرعب بمكانة لا توصف ، فكأنّ الله أنزل عليها جيشاً من الرعب والوحشة.

وعند الصباح اصطفّ جيش المسلمين الصغير بمعنويات عالية ليواجهوا عدوهم ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إتماماً للحجة ولئلا يبقى مجال للتذرع بالذرائع الواهية ـ أرسل إلى قريش ممثلاً عنه ليقول لهم : إنّ النبي لا يرغب في قتالكم ولا يحبّ أن تكونوا أوّل جماعة تحاربه ، فوافق بعض قادة قريش على هذا الإقتراح ورغبوا في الصلح ، إلّاأنّ أبا جهل امتنع وأبى بشدّة.

وأخيراً اشتعلت نار الحرب ، فالتقى أبطال الإسلام بجيش الشرك والكفر ، ووقف حمزة عمّ النبي وعلي ابن عمّ النبي الذي كان أصغر المقاتلين سنّاً وجها لوجه مع صناديد قريش وقتلوا من بارزهم فإنهار ما تبقى من معنويات العدو ، فأصدر أبو جهل أمراً عاماً بالحملة ، وكان قد أمر بقتل أصحاب النبي من أهل المدينة «الأنصار» وأن يؤسر المهاجرون من أهل

٢٠٩

مكة. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : «غضّوا أبصاركم وغضوا على النواجذ ولا تستلوا سيفاً حتى آذن لكم».

ثم رفع يده إلى السماء وقال : «يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد». ثم أصابه الغشي فسرى عنه وهو يسكب العرق عن وجهه ويقول : «هذا جبرئيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين».

فهبت ريح عاصف على العدو ، وكان المسلمون يحملون على عدوّهم والرياح تهب من خلفهم بوجه العدو ، وأثبت المسلمون جدارة فائقة وصمدوا للقتال حتى قتلوا من المشركين سبعين ، وأبو جهل من القتلى ، وأسروا سبعين ، وانهزم الجمع وولّوا الدُبر ، ولم يُقتل من المسلمين إلّانفر قليل ، وكانت هذه المعركة أوّل مواجهة مسلحة بين المسلمين وعدوّهم من قريش ، وإنتهت بالنصر الساحق للمسلمين على عدوّهم.

التّفسير

في الآية الاولى ـ من الآيتين محل البحث ـ إشارة إلى وعد الله بالنصر في معركة بدر إجمالاً ، إذ تقول الآية : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ).

لكنكم لخوفكم من الخسائر واخطار وبلايا الحرب لم تكونوا راغبين فيها (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ).

«شوكة» : ترمز إلى القدرة وتعني الشدّة ، وأصلها مأخوذ من الشوك ، ثم استعملت هذه الكلمة «الشوكة» في نصول الرماح ، ثم اطلق هذا الاستعمال توسعاً على كل نوع من الأسلحة. فبناء على هذا فإنّ ذات الشوكة تعني الجماعة المسلحة ، وغير ذات الشوكة تعني الجماعة غيرالمسلحة. أي إنّ فيكم من يرغب في مواجهة العدو مواجهة غير المسلحة ، وذلك بمصادرة أموال تجارته ، وذلك ابتغاء الراحة أو حبّاً منه للمنافع المادية ، في حين أن الحرب أثبتت بعد تمامها أنّ الصلاح يكمن في تحطيم قوى العدو العسكرية ، لتكون الطريق لاحبةً لإنتصارات كبيرة في المستقبل ، ولهذا فإنّ الآية تعقّب بالقول : (وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) (١).

__________________

(١) «الدابر» : بمعنى ذيل الشيء وعقبه ، فبناءً على هذا يكون معنى «ويقطع دابر الكافرين» هو استئصال جذورهم.

٢١٠

ولم يكن هذا درساً لمسلمي ذلك اليوم فحسب ، بل ينبغي لمسلمي اليوم أن يستلهموا من ذلك التعليم السماوي ، فعليهم ألّا يغضوا أبصارهم عن المبادي الأساسية بسبب المشاكل والأتعاب ويستبدلوها بمناهج غير أساسية قليلة الأتعاب.

وفي آخر آية يماط اللثام عن الأمر بصورة أجلى ، إذ تقول الآية الكريمة : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ) (١٤)

دروس مفيدة من ساحة المعركة : إنّ هذه الآيات تتحدث عن اللحظات الحساسة من واقعة بدر ، والألطاف الإلهية الكثيرة التي شملت المسلمين لتثير في نفوسهم الإحساس بالطاعة والشكر. وتشير ابتداء لإمداد الملائكة فتقول : (وَإِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ).

في تفسير مجمع البيان : قيل : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نظر إلى كثرة عدد المشركين ، وقلة عدد المسلمين ، استقبل القبلة وقال : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض». فما زال يهتف ربّه مادّاً يديه حتى سقط رداؤه من منكبيه ، فأنزل الله تعالى (وَإِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) الآية.

وعند ذلك (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلِكَةِ مُرْدِفِينَ).

«مردفين» : من «الإرداف» بمعنى اتخاذ محل خلف الشيء ، فيكون مفهومها أنّ الملائكة كانت تتابع بعضها بعضاً في النّزول لنصرة المسلمين.

٢١١

ولئلا يعتقد بعض بأنّ النصر كان بسبب نصرة الملائكة فحسب ، فإنّ الآية تقول : (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). لأنّ الله عزيز ومقتدر لا يستطيع أحد الوقوف مقابل إرادته ، وحكيم لا يُنزل نصرته إلّا للأفراد الصالحين والمستحقين لذلك.

ثم تذكر الآية النعمة الثانية التي اكتنفت المؤمنين فتقول : (إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ).

«يغشى» : من مادة «الغشيان» بمعنى تغطية الشيء وإحاطته. فكأنّ النوم كالغطاء الذي وُضع عليهم فغطّاهم.

«النعاس» : يطلق على بداية النوم ، أو النوم القليل أو الخفيف الناعم.

والرحمة الثالثه التي وصلتكم هي : (وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطنِ).

وهذا الرّجز قد يكون وساوس الشيطان ، أو رجزاً بدنياً كجنابة بعضهم ، أو الأمرين معاً.

ثم إنّ الله تعالى أراد بذلك تقوية معنويات المسلمين وكذلك تثبيت الرمال المتحركة تحت أقدامهم بواسط المطر : (وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ).

ويمكن أن يكون المراد من تثبيت الأقدام هو رفع المعنويات وزيادة الثبات والإستقامة ببركة تلك النعمة ، أو إشارة إلى هذين الأمرين.

والنعمة الاخرى التي أنعمها الله على المجاهدين في بدر ، هي الرعب الذي أصاب به الله قلوب أعدائهم ، فزلزل معنوياتهم بشدّة ، فيقول تعالى : (إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلِكَةِ أَنّى مَعَكُمْ فَثَبّتُوا الَّذِينَءَامَنُوا. سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ).

وإنّه لمن العجب والغرابة أن ينهار جيش قريش القوي أمام جيش المسلمين القليل ، وأن تذهب معنوياتهم ـ كما ينقل التاريخ ـ بصورة يخاف معها الكثير منهم من منازلة المسلمين ، وحتى أنّهم كانوا يفكرون بأنّ المسلمين ليسوا أشخاصاً مألوفين.

ثم إنّ القرآن يذكّر المسلمين بالأمر الذي أصدره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للمسلمين بأنّ عليهم اجتناب الضرب غير المؤثر في المشركين حال القتال لئلا تضيع قوتهم فيه ، بل عليهم توجيه

٢١٢

ضربات مؤثرة وقاطعة (فَأضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ).

«البنان» : جمع «البنانة» بمعنى رؤوس أصابع الأيدي أو الأرجل ، أو الأصابع نفسها ، وفي هذه الآية يمكن أن تكون كناية عن الأيدي والأرجل أو بالمعنى الأصلي نفسه.

وبعد كل تلك الأحاديث ، ولكيلا يقول شخص بأنّ هذه الأوامر الصادقة تخالف الرحمة والشفقة وأخلاق الرجولة ، فإنّ الآية تقول : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ).

«شاقوا» : من مادة «الشقاق» وهي في الأصل بمعنى الإنفطار والإنفصال ، وبما أنّ المخالف أو العدو ويبتعد عن الآخرين فقد سمي عمله شقاقاً : (وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

ثم يؤكّد هذا الموضوع ويقول : ذوقوا العذاب الدنيوي من القتل في ميدان الحرب والأسر والهزيمة السافرة ، وعلاوة على ذلك انتظروا عذاب الآخرة أيضاً : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) (١٨)

هذه الآيات توجّه خطابها للمؤمنين وتأمرهم أمراً عاماً بالقتال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ).

فالفرار من الحرب يعدّ في الإسلام من كبائر الذنوب ، ولذلك تذكر الآية بعدها جزاء من يفر من ميدان الحرب مع الإشارة لمن يستثنون منهم فتقول : (وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرّفًا لِّقِتَالِ أَوْ مُتَحَيّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ).

وكما نرى فقد استثنت الآية صورتين من مسألة الفرار ، ظاهرهما أنّهما من صور الفرار ، غير أنّهما في الحقيقة والواقع صورتان للقتال والجهاد.

الصورة الاولى : عُبّر عنها ب (مُتَحَرّفًا لِّقِتَالِ) و «متحرف» من مادة (التحرّف) أي

٢١٣

الإبتعاد جانباً من الوسط نحو الأطراف والجوانب ، والمقصود بهذه الجملة هو أنّ المقاتلين يقومون بتكتيك قتالي إزاء الأعداء ، فيفرون من أمامهم نحو الأطراف ليلحقهم الأعداء : ثمّ يغافلونهم في توجيه ضربة قوية إليهم واستخدام فن الهجوم والإنسحاب المتتابع وكما يقول العرب : (الحرب كرّ وفرّ).

الصورة الثانية : أن يرى المقاتل نفسه وحيداً في ساحة القتال ، فينسحب للإلتحاق بإخوانه المقاتلين وليهجم معهم من جديد على الأعداء.

وتختتم الآية محل البحث بالقول : إنّ جزاء من يفرّ مضافاً إلى استحقاقه لغضب الله فإنّ مصيره إلى النار : (وَمَأْوَيهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

ومن ضمن الإمتيازات الكثيرة التي كانت عند الإمام علي عليه‌السلام وربّما يشير إلى نفسه أحياناً ليكون نبراساً للآخرين قوله : «إنّي لم أفر من الزحف قطّ ، ولم يبارزني أحد إلّاسقيت الأرض من دمه» (١).

ولئلا يصاب المسلمون بالغرور في انتصارهم ، ولئلا يعتمدوا على قواهم الجسمية فحسب ، وليذكروا الله في قلوبهم دائماً ، وليتعلقوا به طلباً لألطافه ، فإنّ الآية التالية تقول : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى).

وتشير الآية في ختامها إلى لطيفة مهمة اخرى ، وهي أنّ ساحة بدر كانت ساحة امتحان واختبار ، إذ تقول : (وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا).

لهذا فإنّ الآية تختتم بهذه الجملة : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). أي إنّ الله سمعَ صوت استغاثة النبي والمؤمنين ، واطلع على صدق نيّاتهم ، فأنزل ألطافه عليهم جميعاً ونصرهم على عدوّهم ، وأنّ الله يعامل عباده بهذه المعاملة حتى في المستقبل ، فيطلع على ميزان صدق نياتهم وإخلاصهم واستقامتهم.

وفي الآية التالية يقول سبحانه تعميماً لهذا الموضوع وأنّ مصير المؤمنين والكفار هو ما سمعتم ، فيقول : (ذلِكُمْ). ثمّ يعقب القرآن مبيناً العلة : (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ).

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٩)

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ٢ / ١٣٩.

٢١٤

لقد جرى بحث كثير بين المفسرين حول الذين توجهت إليهم الآية بالحديث ، فبعضهم يعتقد بأنّهم المؤمنون ، وأحسن صورة لتفسير الآية على هذا الوجه هي :

لقد حصل بين بعض المؤمنين جدال حول تقسيم الغنائم بعد واقعة بدر ونزلت آيات توبخهم وتضع الغنائم تحت تصرف الرسول بشكل كامل فقام بتقسيمها بينهم بالتساوي ، بغية تربيتهم وتعليمهم ، ثم ذكّرهم بحوادث بدر وكيف نصرهم الله على عدوّهم القوي.

وهذه الآية تتابع الحديث عن الموضوع نفسه فتخاطب المسلمين وتقول لهم : إنّكم إذا سألتم الله الفتح والنصر فسوف يستجيب لكم وينصركم ، وإذا تركتم الإعتراض والجدال عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فبذلك مصلحتكم ، وإذا عدتم لنفس الاسلوب من الإعتراض فسنعود نحن أيضاً ، ونترككم وحيدين في قبضة الأعداء وحتى إذا كان عددكم كثيراً فبدون نصرة الله لن تقدروا أن تعملوا أي شيء ، وإنّ الله مع المؤمنين المخلصين والطائعين لأوامره وأوامر نبيّه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣)

الذين قالوا سمعنا وهم لا يَسمعون : تتابع هذه الآيات البحوث السابقة ، فتدعو المسلمين إلى الطاعة التامة لأوامر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله واسلوب الآيات فيه دلالة على تقصير بعض المؤمنين في التنفيذ والطاعة ، فتبدأ بالقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ).

وتضيف لتؤكّد الأمر من جديد : (وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ).

ولما كان القول بلا عمل ، والإستماع بلا تأثر ، أحد الأمراض التي تصاب بها المجتمعات ، وأساس الكثير من التخلفات ، فقد جاءت الآية الاخرى لتؤكّد على هذه المسألة باسلوب آخر ، فقالت : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَايَعْقِلُونَ).

ولما كان القرآن كتاب عمل فإنّه ينظر إلى النتائج دائماً.

وتقول الآية بعدها إنّ الله لايمتنع من دعوة هؤلاء إن كانوا صادقين في طلبهم وعلى

٢١٥

استعداد لتقبل الحق : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيرًا لَّأَسْمَعَهُمْ).

وفي تفسير مجمع البيان قيل معناه : لأسمعهم قول قصي بن كلاب فإنّهم قالوا : أحي لنا قصي ، إنّ كلاب ليشهد بنبوتك.

ويقول تعالى : (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ).

فالذين سمعوا دعوة الحق كثيراً ، وبلغت آذانهم آيات القرآن ، وفهموا مضامينها العالية ، لكنهم أنكروها بسبب عتوهم وعصبيّتهم.

كما أنّ هذه الآية تعد جواباً قاطعاً للقائلين بمدرسة الجبر ، لأنّها تقرر بأنّ الخير يكمن في الإنسان نفسه.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٦)

دعوة للحياة : تتابع هذه الآيات دعوة المسلمين المتقدمة للعلم والعمل والطاعة والتسليم لكنها تتابع الهدف ذاته عن طريق آخر ، فتقول ابتداءاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).

فهذه الآية تقول بصراحة : إنّ دعوة الإسلام هي دعوة للعيش والحياة على جميع الأصعدة والناس في الجاهلية كانوا يعيشون الحياة الحيوانية والمادية ، فجاء القرآن ليدعوهم إلى الحياة.

ثم يقول تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

إنّ الله عزوجل حاضر وناظر ومهيمن على كل المخلوقات. فإنّ الموت والحياة والعلم والقدرة والأمن والسكينة والتوفيق والسعادة ، كلها بيديه وتحت قدرته ، فلا يمكن للإنسان كتمان أمر ما عنه ، أو أن يعمل أمراً بدون توفيقه ، وليس من اللائق التوجه لغيره وسؤال من سواه. لأنّه مالك كل شيء والمحيط بجميع وجود الإنسان.

٢١٦

ثم تشير الآية إلى عاقبة السوء لمن يرفض دعوة الله ورسوله إلى الحياة فتقول : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً).

وكلمة «فتنة» : بمعنى البلاء والمصائب الاجتماعية التي يصاب بها الجميع.

ومفهوم الآية هنا هو أنّ أفراد المجتمع مسؤولون عن أداء وظائفهم ، وكذلك فهم مسؤولون عن حثّ الآخرين لأداء وظائفهم أيضاً ، لأنّ الاختلاف والتشتت في قضايا المجتمع يؤدّي إلى إنهياره ، ويتضرر بذلك الجميع.

وتُختتم الآية بلغة التهديد فتقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).

ويأخذ القرآن الكريم مرّة اخرى بأيدي المسلمين ليعيدهم نحو تاريخهم ، فكم كانوا في بداية الأمر ضعفاء وكيف صاروا ، لعلّهم يدركون الدرس البليغ الذي علّمهم إيّاه في الآيات السابقة فيقول : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ).

وهذه عبارة تشير إلى الضعف وقلّة عدد المسلمين في مكّة قبل الهجرة قبال المشركين الأقوياء. أو في المدينة بعد الهجرة في مقابل القوى الكبرى كالفرس والروم : (فَاوَيكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٨)

سبب النّزول

روى في تفسير مجمع البيان عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات ، وأريحاء من أرض الشام ، فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّاأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحاً لهم لأنّ عياله وماله وولده كانت عندهم ، فبعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأتاهم ، قالوا : ما ترى يا أبا لبابة أتنزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه : إنّه الذبح فلا تفعلوا. فأتاه جبرائيل عليه‌السلام فأخبره بذلك. قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت إنّي قد خنت الله

٢١٧

ورسوله ، فنزلت الآية فيه ، فلما نزلت شدّ نفسه على سارية من سوارى المسجد. وقال : والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ! فمكث سبعة أيّام ، لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خرّ مغشياً عليه ، ثم تاب الله عليه ، فقيل له : يا أبا لبابة قد تيب عليك. فقال : لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي يحلّني. فجاءه فحلّه بيده ، ثم قال أبو لبابة : إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأن أنخلع من مالي. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يجزئك الثلث أن تصدّق به».

التّفسير

الخيانة وأساسها : يوجه الله سبحانه في الآية الاولى من الآيتين محل البحث الخطاب إلى المؤمنين فيقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَاتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ).

إنّ الخيانة لله ورسوله ، هي وضع الأسرار العسكرية للمسلمين في تصرف أعدائهم ، أو تقوية الأعداء أثناء محاربتهم.

ثم تقول الآية : (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ).

«الخيانة» : في الأصل معناها : الإمتناع عن دفع حق أحد مع التعهد به ، وهي ضد «الأمانة» والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية غالباً ، لكنها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشمل شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة.

ويقول القرآن في آخر الآية : (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ). أي إنّه قد يصدر منكم على نحو الخطأ ما هو خيانة ، ولكن الاقدام على الخيانة مع العلم.

والآية بعدها تحذر المسلمين ليجتنبوا الماديات والمنافع العابرة ، لئلا يلقي على عيونهم وآذاتهم غشاء فيرتكبون خيانة تعرّض المجتمع إلى الخطر فتقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلدُكُمْ فِتْنَةٌ).

فإذا زلت لنا قدم يوماً ، فيجب علينا الإسراع في تصحيح المسير ك «أبي لبابة» وإذا كان المال هو السبب في الإنحراف ، فعلينا بذله وإنفاقه في سبيل الله.

وفي نهاية الآية بشارة كبرى لمن يخرج من هذين الامتحانين منتصراً ، فتقول : (وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

فمهما كان حبّ الأبناء كبيراً ، ومهما كانت الأموال محبوبة وكثيرة ، فإنّ جزاء الله وثوابه أعلى وأعظم من كل ذلك.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

٢١٨

 الإيمان ووضوح الرّؤية : تناولت الآيات السابقة أوامر حياتية تتضمّن السعادة المادية والمعنوية للإنسان ، لكن العمل بها غير ممكن إلّافي ظلال التقوى ، لذلك بيّنت الآية أربعة ثمار ونتائج للتقوى. فقالت ابتداءاً : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا).

إنّنا نرى على مدى التاريخ بعض النساء والرجال المتّقين يملكون وضوحاً من الرؤية لا يمكن بلوغه بوسائل العلم والمعرفة أبداً ، فهم يرون الأسباب الخفيّة للكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع ، ويرون عناصر الشر وأعداء الحق وإن حجبتهم آلاف الستائر الخادعة.

ومن جانب آخر أنّ إهدار القوى والطاقات في الذنوب يتسبب في بقاء الناس على مستوىً دانٍ من البصيرة والمعرفة ويعيشون التخلّف الثقافي والانحطاط في التفكير حتى وإن كانوا متقدمين في الصناعة والحياة المادية.

ثم يقول : إنّه إضافة إلى معرفة الحق من الباطل فإنّ من آثار التقوى أن يغطي على ذنوبكم ويمحوا آثارها من وجودكم (وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيَاتِكُمْ).

مضافاً إلى ذلك ، فإنّه تعالى سيشملكم بمغفرته (وَيَغْفِرْ لَكُمْ).

وثمار كثيرة اخرى تنتظركم لا يعلمها إلّاالله : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). فهذه الآثار الأربعة هي ثمرات في شجرة التقوى ، ووجود روابط طبيعية بين التقوى وقسم من هذه الآثار لا يمنع من نسبة كل ذلك إلى الله تبارك وتعالى.

والفرق بين (تكفير السيئات) و (الغفران) هو أنّ (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والاجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى ، ولكن (الغفران) إشارة إلى مسألة العفو الإلهي والخلاص من الجزاء ....

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (٣٠)

سبب النّزول

ذكر المفسرون والمحدثون أنّ الآية ـ محل البحث ـ تشير إلى الحوادث التي أدّت إلى هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من مكة إلى المدينة.

٢١٩

في تفسير مجمع البيان : قال المفسرون : إنّها نزلت في قصة دار الندوة وذلك أنّ نفراً من قريش اجتمعوا فيها ، وهي دار قصي بن كلاب ، وتآمروا في أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال عروة بن هشام : نتربّص به ريب المنون ، وقال أبو البختري : أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه ، وقال أبو جهل : ما هذا برأي ، ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيرضى حينئذ بنو هاشم بالدية ، فصوّب إبليس هذا الرأي ، وكان قد جاءهم في صورة شيخ كبير من أهل نجد ، وخطّأ الأوّلين.

فاتفقوا على هذا الرأي وأعدّو الرجال والسلاح وجاء جبرائيل عليه‌السلام فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج إلى الغار وأمر عليّاً فبات على فراشه ، فلمّا أصبحوا وفتشوا عن الفراش ، وجدوا عليّاً. وقد ردّ الله مكرهم فقالوا : أين محمّد؟ فقال : لا أدري. فاقتصّوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلمّا بلغوا الجبل ومرّوا بالغار ، رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاثاً ثم قدم المدينة.

التّفسير

هذه الآية وخمس آيات تليها ، نزلت في مكة لأنّها تشير إلى هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول في بدايتها : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ).

ثم تضيف الآية قائلة : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمكِرِينَ).

إنّ المشركين قد بذلوا كل ما في وسعهم وجهدهم من طاقاتٍ فكرية وجسدية للقضاء على نبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أنّهم أعدّوا جائزة لهذا الغرض وهي مئة ناقة ، ولكن الله سبحانه أذهب بأتعابهم أدراج الرياح بواسطة نسيج العنكبوت!

ونظراً إلى أنّ هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تمثل مرحلة جديدة في التاريخ الإسلامي ، بل التاريخ الإنساني ، فإنّنا نستنتج أنّ الله قد غير مسيرة التاريخ البشري بما نسجته العنكبوت من خيوط ....

وهذا الأمر لا ينحصر بهجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل في جميع تأريخ الأنبياء ، فإنّ الله سبحانه أذل أعداءهم ودمرهم وأباد قوى الضلال بأسباب هيّنة كالريح ـ مثلاً ـ أو كثرة البعوض ، أو الطير الصغيرة التي تُسمّى بالأبابيل ، ليبين حالة الضعف البشري والعجز إزاء قدرته اللامتناهية وليردع الإنسان عن التفكير بالطغيان والعناد.

٢٢٠